فما زالَ منهم ذامرٌ ومُطاعِنٌ ... على حالةٍ أو ضارِبٌ ومُطاعِنُ
وقال أعشى عُكْل:
وَقَفْنا بها حتى مضَتْ سَورَةُ الضُحى ... نُقَضّي لُباناتٍ ونَبكي تَصابِيا
ونُهْدي تَحَياتٍ ونُبدي صَبابةً ... ونُخفي من الوجْدِ الذي ليسَ خافيا
أما البيت الأول فلا شاهِد فيه ولكنْ أثبَتْناهُ لوضوحِ البيت الثاني، ويجوز فيه التقديم والتأخير. وأما البيتُ الثاني فوجْهُ المتابعةِ فيه أنّ التحياتِ هي التي يُبدأ بها، ثمّ تبدو الصّبابةُ ويختفي بعضُه، وإنْ كان لا يَخفى كما ذكر. وقال زيادٌ الأعجم:
يالَ لُكَيْزٍ دعوةً غيْرَ ندِمْ ... أعَنَزيٌّ سبّني ثمَّتَ لمْ
يُلْطَمْ ولمْ يفجْدَعْ ولم يُخْضَبْ بدَمْ
وقال عمرو بن الحارث:
فقد يعتَري قِدري وأغْرِفُ لحْمَها ... فأصبحُ ندْماني فأكْسَبُ محمدي
الاعتراء يكون أولًا ثم الغرْف، ثم السّقي وبعد ذلك يُكتسب الحمد. وقال الجَوْنُ النَّمري:
مَنْ مُبلغٌ شيبانَ أن ... ني لم يكُنْ أمري خفِيّا
رامَيْتُه حتى إذا ... ما كان نَبلانًا نفِيّا
طاعَنْتُه حتى إذا ... ما كان رُمحانا شَظيّا
ضاربتُه حتى إذا ... ما كان سَيْفانا حنِيّا
أثْخَنتُه غلَبًا وكا ... نَ مُمَنَّعًا قِدْمًا أبِيّا
أعطيتُه رَحْلي ورا ... حلتي وكُورًا حِمْيرِيّا
أرأيتَ لو لدَغَتْ أخا ... كُم حيّةٌ في الأرضِ قَيّا
أو نالَهُ مرضُ المنو ... نِ فما عليَّ وما لدَيّا
ولهذه الأبيات حكايةٌ يطولُ شرحُها، وإنما نذكرُ اليسيرَ منه: وذاك أنه لما كان يومُ أوارَة، أسرَ الجَوْنُ النَمَريّ حارثةَ بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، فغلب الملكُ المنذر على الجَوْن، وأخذ منه حارثةَ فقتله وادّعَتْ بنو شيبان أنّ الجَوْنَ قتلَه، فقال هذا الشِعرَ يصف حالَه معه، فابتدأ بذكرِ الرِّماءِ الذي هو أوّلُ الحرب، وثنّى بذكرِ الطِّعان، ثم بذكرِ الضّربِ، ثم الغلَبَة لأحدِ الفريقَيْن تكون؛ فإمّا مَنٌّ أو قتلٌ، فلما استوفى ذلك، أتْبَعَهُ بعتابٍ كالمعتذِر إليهم، وفي هذا المثال كفاية. ومنها:
باب المَخْلَص المليح إلى الهجاء والمديح
قال عليٌ بن المنجم: سألت أبي، وكان من فرسانِ العِلم بالشعر، عن أحسن مَخْلَص تخلّصَ به شاعر الى مدح أو هجو فقال: يا بُنيّ، هذا مذهبٌ تفرّد به المُحدَثون، فقلّما يتّفق الإحسان فيه لمتقدم. فأما ما وجدتُ أهلَنا ومجمعين عليه منذلك فقول محمد بن وُهَيب:
ما زاليُلْثِمُني مَراشِفَهُ ... ويعلُّني الإبريقُ والقدَحُ
حتى استردّ الليلُ خِلْعتَهُ ... وبدا خِلالَ سوادِهِ وضَحُ
وبدا الصّباحُ كأنّ غُرّتَه ... وجْهُ الخليفةِ حينَ يُمتدَحُ
وإنما نظر من هذا المعنى الى قول الأعرابي:
أقولُ والنّجْمُ قد مالَتْ مياسِرُهُ ... الى الغُروبِ تأمَّلْ نظْرةً حارِ
ألَمْحَةً من سَنا برْقٍ رأى بصَري ... أم وجْهُ نُعْمٍ بدا لي أم سَنا نارِ
بلْ وجهُ نُعْمٍ بدا والليلُ مُعتكِرٌ ... فلاحَ من بيْنِ حُجّابٍ وأستارِ
وقال حسّان في الهجاء:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدّثْتِني ... فنَجَوْتِ منْجَى الحارث بن هِشامِ
تركَ الأحبّةَ أن يقاتِلَ دونَهم ... ونَجا برأسِ طِمِرّةٍ ولِجامِ
وللمُحدَثين في هذا الباب أشعارٌ حسنةٌ كثيرة لا حاجةَ بنا الى الإطالة بذكرها ففيما أوردناهُ كفاية، واللهُ الموفِّقُ للصّواب. ومنها:
باب التضمين
ويُسمّى التسميطُ والتوشيحُ، وهذا في شعار العرب قليلٌ جدًا، وقد استعملَ المُحدَثون من ذلك ما لا يأتي عليه الإحصاءُ كثرةً وعدًّا، واليسيرُ منه دليلٌ على الكثير. قال الأخطل:
ولقدْ سَما للخُرَّميِّ فلمْ يَقُلْ ... بعدَ الوَنى لكنْ تضايَقَ مُقْدَمي
ضمّنَ قول عنترة:
إذْ يتّقونَ بيَ الأسنّةَ لم أخِمْ ... عنها ولكنّي تضايَقَ مُقْدَمي
وقال آخر من أبيات:
1 / 32