نفحہ زکیہ
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
اصناف
في فتوح الرومانيين لمصر وحكمهم بها
لا زال نفوذ الرومانيين يزداد بمصر، ولا زالت ملوك مصر تتقرب من هذه الأمة لكثرة عصيان المصريين عليهم، حتى كانت أيام بطليموس الحادي عشر الملقب أوليطيس، أي الزامر، فأوصى قبل موته بملك مصر لأكبر أولاده وكبرى بناته بشرط عقد الزواج بينهما وأن يكون الوصي عليهما الأمة الرومانية، فلما مات خلفته قليوبطرة، وحكمت بالاشتراك مع أخيها بطليموس الثاني عشر الملقب بطليموس دنيس، أي الخمار، حسب وصية أبيهما، وكانت إذ ذاك الدولة الرومانية بين يدي أميرين من أمرائها مشتركين في حكومتها؛ وهما يوليوس قيصر وبمبيوس، وكانت قد ظهرت بينهما العداوة وحصل بينهما الفشل بعد موت شريكهما الثالث أقراسوس، فوقعت بينهما الحروب، وهرب بمبيوس من رومة إلى بلاد اليونان، فتبعه فيها يوليوس قيصر وهزمه، فهرب بمبيوس إلى مصر ملتجئا إلى بطليموس دنيس ظنا منه أنه يجيره؛ حيث كان هو الذي أجلسه على كرسي المملكة، وكان بطليموس المذكور منفردا بملك مصر إذا ذاك؛ فإن أهالي الإسكندرية كانوا قد ثاروا على أخته قليوبطرة، فهربت منهم إلى بلاد الشام، فلما قدم بمبيوس مصر أرى لبطليموس وزراؤه أن لا يوقع نفسه في ورطة الاشتراك معه، فأرسل له بطليموس جماعة لاستقباله وأمرهم بقتله، فقتلوه عند حضوره إلى شاطئ مصر.
ولما حضر يوليوس قيصر إلى الإسكندرية مقتفيا أثر خصمه قدم له وزراء بطليموس رأس بمبيوس، فغضب يوليوس من هذا الفعل الشنيع ولم يستحسنه، فلما رأى منه ذلك وزراء بطليموس تجاسروا بمحاصرته في السراي الملوكية بالإسكندرية لقلة عساكره، فبقي محصورا بها حتى أتته الإمدادات، ثم هزم المصريين وغرق بطليموس في النيل، فأرجع قليوبطرة إلى الملك حيث كان أحضرها معه من الشام ليصلح بينها وبين أخيها، وأشرك معها في الحكم أخاها الثاني بطليموس الثالث عشر الملقب بطليموس الشاب، حسب وصية بطليموس الزامر، إلا أنها قتلته مسموما بعد سفر قيصر من الإسكندرية، وانفردت بملك مصر.
وأما يوليوس قيصر فقد رجع إلى رومة بعد أن قهر أحزاب خصمه وعليه من العظمة والكبرياء ما خوف منه أعضاء المجلس الروماني، وصارت في يده أزمة الحكومة الرومانية، فرام قلب الجمهورية واستعاضتها بالملوكية ليكون ملكا، وكان الرومانيون يكرهون ذلك، فتآمر عليه أعضاء مجلس رومة وقتلوه، فوقعت الحكومة الرومانية بعده في أيدي ثلاثة أمراء أخر بالاشتراك بينهم؛ وهم أقطاوس ابن بنت أخته، الذي كان قد تبناه لعدم خلفه، وأنطنيوس وليبيدس من قواد جيوشه، فاقتسموا ممالك الدولة الرومانية، وكانت مصر من قسم أنطنيوس. غير أن أقطاوس لم يلبث أن جرد ليبيدس من ولايته، ثم التفت إلى أنطنيوس، فتظلم منه لمجلس رومة بأنه أطال المكث مع قليوبطرة وترك مصالح رومة، وتحصل من المجلس على إعلان الحرب لملكة مصر، فانتشبت الحرب بحرا بين أقطاوس وبين قليوبطرة وأنطنيوس على شواطئ بلاد اليونان، فهربت قليوبطرة بما معها من المراكب المصرية إلى الإسكندرية، فتبعها أنطنيوس، ولما وصلا إلى الإسكندرية شرعا في الاستعدادات الحربية. غير أن قليوبطرة رأت من مصلحتها أن تنضم إلى الأقوى، فأرسلت إلى أقطاوس تتحبب إليه، وسلمت إليه مدينة الفرما التي هي مفتاح الديار المصرية أملا في أن تفتنه كما فتنت من قبله قيصر ثم أنطنيوس، فلما خاب ظنها في ذلك وأيست منه بالكلية قتلت نفسها سنة 652ق.ه، حتى لا تقع أسيرة في يد عدوها، وكان أنطنيوس قد قتل نفسه قبلها حتى لا يعيش بعدها، فدخلت مصر حينئذ في حوزة الرومانيين، وصارت إيالة رومانية، فصاروا يرسلون إليها عمالا من قبلهم يعينهم مجلس رومة، وكان العامل منهم بيده جميع السلطة الإدارية والعسكرية وتابعا مباشرة لمجلس رومة؛ أي ليس فوقه في الدرجة إلا مجلس رومة أو قيصر الرومانيين، وليس تابعا لحكمدار عموم المشرق.
وقد أتى على مصر في تلك المدة بعض أيام سعيدة، إلا أنها كانت في غالب أوقاتها لم تتمتع براحة ما، ولم يستمر فيها إلا الاختلال وعدم النظام، فكانت دائما مخضبة بدماء أهلها بسبب ما يقع فيها من المجادلات الدينية والاضطهادات ضد النصارى، حتى إنه لكثرة ما وقع بمصر من المآثم والمظالم في أيام دقلطيانوس أرخ المصريون بحكمه على الرومانيين، وهو التاريخ الذي يسمونه تاريخ الشهداء، وتؤرخ به القبط إلى الآن، وهو يبتدئ من 13 يونيو سنة 284ب.م، ويوافق سنة 339ق.ه وتسعة وثلاثين يوما.
وما زال النواب الرومانيون على مصر متصرفين تصرف القيصر؛ أي إن الواحد منهم كان فاعلا مختارا مرخصا في الملكية والعسكرية إلى أيام قسطنطين الذي نقل تخت مملكة الرومانيين إلى القسطنطينية، فغير حالة مصر الإدارية بأن فصل الإدارة الملكية عن الإدارة العسكرية، فعهد برئاسة الجيوش إلى قائد عسكري يعينه القيصر، وقصر المتصرف السياسي على إدارة الأقاليم والاشتغال بأعمال الري، ونقل الغلال إلى القسطنطينية، غير أنه لم تزل البلاد مضطربة لما يقع فيها من الفتن الدينية إلى سنة 241ق.ه؛ ففي تلك السنة أصدر القيصر طيودوسيس الذي كان حاكما بالقسطنطينية أمرا بمحو الديانة المصرية القديمة والتمسك بالديانة النصرانية، وأمر بهدم الهياكل المصرية والمعابد الأهلية، وكلف الأسقف تيوفيل بطريرق الإسكندرية بتنفيذه، فحمله التعصب على أن يفعل من العنف والجبروت ما لم يسمع بعمله في وقت آخر لمحو آثار ديانة صابئة؛ فقد أعدم ما صنع من الفنون المصرية، وكسر الأصنام وأبواب المعابد، وشتت كتب الكتبخانة التي كانت من أنفس الكنوز العلمية القديمة حتى سبب ذلك دمار ما كان يمكن أن يبقى إلى الآن من العلوم المصرية، فانتهت حينئذ المدة الوثنية وابتدأت مدة النصرانية، وهي مدة حكم مصر بالدولة الرومانية الشرقية؛ أي الدولة السفلى.
الفصل الثاني
في ذكر مصر مدة حكم الدولة السفلى، وهي مدة النصرانية
قد انقسمت دولة الرومانيين بعد موت طيودوسيس إلى دولة رومانية غربية بمدينة رومة تحت حكم ابنه هونوريوس، وإلى دولة رومانية شرقية بمدينة القسطنطينية تحت حكم ابنه أرقاديوس، وصارت مصر تابعة للدولة الرومانية الشرقية المسماة أيضا بالدولة السفلى، ولم تزل تحت حكمها إلى أن فتحها المسلمون سنة 18 هجرية في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانتهت حينئذ مدة النصرانية وابتدأ مدة الإسلام.
الجزء الثاني
نامعلوم صفحہ