نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة
نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة
لكنِ الأيَّامَ أشكوها لكُم ... جوْرُها قد أورَثَ الجِسمَ الضَّنى
وكان هو أحد الشُّهود بالمحكمة الكبرى، فنظر يومًا إلى قضاتها وشهودها وهو منهم، ثم قال:
قالت لنا الكُبرى أمَا ... آنَ لكُم ما توعدونْ
قضاتُنا أربعةٌ ... لكنَّهم لا يعلمونْ
شهودُنا عِدَّتهمْ ... تسعةُ رهطٍ يُفسِدونْ
والكتخُدا والتَّرجُمَا ... نُ في الجَّحيمِ خالِدونْ
وله يهجو عنَّه ولي الدين:
إذا رأيتَ وليَّ الدِّينِ مفتكِرًا ... منكِّسًا رأسهُ إنسانُه ساهِي
فذاكَ من أجلِ دُنيا لا لآخرةٍ ... خوفًا من الفقرِ لا خوفًا من اللهِ
عبد الكريم الطاراني كاتب قسمة، ومن اتخذ المعيشة من الموت قسمه.
وما بالك بمن يجوب فناء كلِّ حي، ويتمنى فناء كلِّ حي.
فهو طير الشُّوم، والتطير به فرخ التَّطير بالبوم.
وله نزعاتٌ في الخُلق والخَلق، هي قذًى في العين، وشجًا في الحلق.
ينعجن بطينة الإساءة، وتعمُّ في العالم منه المساءة.
فمه ممزوجٌ بصابْ، وقلمه ساطورٌ في يد قصَّاب.
فلهذا رُميَ برفضه، ومقِتَ باعتزاله ونقضه.
وهو شيخٌ من بقايا أول الزَّمان، يعدُّ فرخًا عنده نثر لقمان.
أكل الدَّهر عليه وشرب، لكن وعاه من الآداب غير سرِبْ.
وله شعرٌ ليس له في الكثرة منتَهى، إلا أنَّه أبردُ من أمردٍ لا يُشتهى.
فممَّا وصلني من مرغوبه، قوله:
أشكو إلى اللهِ من زمانٍ ... قدْ ماتَ فيهِ ذوو الصِّلاتِ
وكلُّ من كانَ ذا وفاءٍ ... مضَى إلى اللهِ بالوفاةِ
وقوله، في تضمين مثل مشهور:
هذه الدُّنيا بلاءٌ وعنَا ... وهمومٌ تُسقِمُ الجِسمَ الصَّحيحْ
أيُّ شيءٍ يبتغي منها الفَتَى ... وهي دارٌ ما عليها مُسْتريحْ
ومثله لبعضهم:
كلَّما أشكو صباباتِ الهَوَى ... لم أصادِف غيرَ ذي قلبٍ جريحْ
يشتكِي لي مثلَما أشكو لهُ ... يا لعُمرِي ما عليها مُسْتريحْ
قلت: طابُ الرَّاحة في الدُّنيا محال، وتلك دعوى دليلها على جميع الورى محال.
وقد أعي على الأخباريِّين والنَّقلة، أن يجدوا مستريحًا إلا من لا عقل له.
قال رشيد الدين الوطواط، في أمثاله: أنا أقول: من لا عقل له في المستراح موضع النَّجاسة.
ونظمه الشِّهاب في قوله:
ما يبتَغي من دهرِهِ عاقلٌ ... وما يرجِّي منهُ أهلُ الصَّلاحْ
ورزقُ دُنيانا لجهَّالِها ... وجنَّةُ الخُلدِ لبلهٍ مِراحْ
من لا لهُ عقلٌ ولا فطنةٌ ... في المثلِ المشهورِ قالوا اسْتراحْ
وإنَّما الدُّنيا لهُم منزِلٌ ... من لا لهُ عقلٌ بهِ مسْتراحْ
وقوله: وجنَّة الخلد لبلهٍ مِراح إشارة إلى الحديث، " أكثر أهل الجنَّة البُلُهْ " يريد: الأكياس في أمر الآخرة، البله في أمر الدنيا.
ويقولون في بقر الجنة: البله؛ لأنَّها لا ترمح ولا تنطح، ولضدِّهِ: بقر سقر.
وللطبراني، ويخرج منه اسم عمر بطريق التَّعمية:
أفدِي غزالًا بقلبِي ... ما زال يرشُق نبلا
وعنه ما مالَ يومًا ... للغيرِ حاشَا وكلاَّ
وعزَّ صبرِيَ لمَّا ... بالعينِ مرَّ محلَّى
وقعد إلى جانبه غلامٌ، والقمر في ليل التَّمام، فقال له: انظر البدر أمامك. فقال له: أمامِي على أيِّ حالة. فخجل لما قاله.
فأنشده بديهًا:
وذي قوامٍ رشيقٍ ... دنَا لبدرِ التَّمامِ
فقالَ والثَّغرُ منهُ ... حالٍ بحسنِ ابْتِسامِ
غدا أمامَكَ بدرٌ ... فقلتَ بدرِي أمامِي
وكتب إلى الإمام يوسف الفتحي، وقد وعده بعود:
مولايَ كمالَ بهجةِ الأيَّامِ ... قدْ أخجلَ جودُكَ الرَّبابَ الهامِي
أنعُمْ لمُحِبِّكَ الكريمِ عجلًا ... بالعودِ تفُزْ بِبَثِّ شكرِي النَّامِي
فبعث إليه بحصَّة منه، وراجعه بقوله:
يا جوهرةً يتيمةً بالشَّام ... سفَّهَتْ بها مقالةُ النَّظَّامِ
1 / 102