ومن أهم ألغاز التاريخ الكبرى، والأحجية التي حيرت ذوي الحجا، ولم تزل تلك القبور الهرمية والهضبية الهائلة في «عمان»، وفي واحة «يبرين»، وفي «ساحل الحسا»، وفي جزيرة «البحرين»، وبلغ عددها في جزيرة البحرين وحدها حوالي 15000 قبر (وذلك حسب تقدير الآثاري إبراهيم معاوية)، أو حوالي 172093 (وذلك حسب تقدير الآثاري لارسن)، تضم ما يزيد على 516279 قبرا إفراديا.
واللغز هنا يكمن في أن هذا العدد الهائل من القبور، لا يتناسب مع عدد سكان البحرين، الذي لم يزد وقت ازدهارها على 9618 نسمة في أعلى التقديرات. لذلك كان أهم افتراضات حل اللغز، أن تلك القبور قد أعدت كمكان للدفن المقدس، لسكان وادي الرافدين، لكن أخطر اعتراض يواجه هذا الفرض هو أنه لم يعثر في النصوص الرافدية ذاتها حتى الآن، على ما يشير إلى اعتقاد الرافديين القدماء، في حياة سعيدة في عالم خالد من بعد الموت، بل إنهم لم يعتقدوا في البعث أصلا، حتى نتصورهم يعيرون الموت كل هذا الاهتمام ببناء مقابر هضبية، ومصاطب هرمية هائلة.
ويزيد الأمر بعدا عن الإقناع، هو أن تلك المقابر قد بنيت خارج حدود الرافدين، مما يدفع إلى التساؤل عن وجاهة السبب الذي يدفع لكل هذا العناء، في نقل رفات الموتى من بقاع شتى في الرافدين ليدفنوا على سواحل الخليج العربي وعلى مبعدة أكثر من ثلاثمائة ميل أو يزيد! ومن هنا ظلت هذه القبور التي تنوف على نصف مليون قبر، وتعد أكبر مقبرة في الشرق القديم، لغزا غير قابل للحل، مما دفع آخر من بحث هذا الأمر (كارلوفسكي)، إلى أن يرفع صوته متسائلا مستنكرا: «إنها ظاهرة تتطلب تفسيرا، إلا أن الجميع قد تجاهلوا ذلك.»
9
والحقيقة أن طرحنا لم يتركنا في موضع واحد مع المتجاهلين، ووفق خطنا المنهجي لا نرى في الأمر ألغازا ولا أحاجي تطلب تفسيرا؛ لأن الشعب الوحيد في الشرق القديم الذي اهتم بتسخير جميع أنشطته الدنيوية من أجل حياته الأخروية، واعتقد جازما في عالم سعيد آخر، هو الشعب المصري بلا منازع، وهو الشعب الذي تميز بكثافة سكانية هائلة، تسمح أن تكون هجرة القليل منه كما كبيرا، قياسا على جيران من الأمم، ناهياك عن أن هؤلاء المهاجرين كانوا يشملون العدد الأكبر من العارفين بأصول الدين.
وعند بحثي عن كل ما يهم موضوعي في الكتب التي تناولت تاريخ اليمن، وجدت عند المؤرخ اليمني «أحمد حسين شرف الدين» معلومة خطيرة؛ إذ يجزم بيقين أن الأمة التي عاشت هناك أو آنذاك كانت لا تقل عن أربعين مليون نسمة،
10
وهو ما لا يمكن تصوره إذا قصرنا النظر على مجموعة البدو الخيمويين المستقرين هناك، لكن يمكن قبوله في ضوء ما سبق وطرحناه.
وعندما كنت على وشك إغلاق هذا الجزء من الدراسة، فاجأني دليل مهم وخطير، يصادق تماما على أطروحاتنا، ولوجه الحق إننا لم نتوقع مثل هذه القرينة المبينة في الظروف الراهنة على الأقل، وقد جاءنا الدليل في شكل خبر بالنشرة الإخبارية للصحافة بالتلفاز المصري، والتي تذاع حوالي الحادية عشرة صباحا يوم 22 / 2 / 1988م، ويقول الخبر: إنه قد اكتشف في مقابر جزيرة البحرين عدد من الجعارين الفرعونية، إضافة إلى تمثالين صغيرين لأبي الهول المصري، وقد تأكدت مصرية هذه القطع النادرة من الكتابة الهيروغليفية المنقوشة أسفل التماثيل، وفي ذات اليوم بحثت في الصحف المصرية عن مزيد، فوجدت الخبر ينزوي في ركن صغير من الصفحة الأخيرة بصحيفة الأهرام، ويقول: «أبو الهول صغير، اكتشافه في البحرين: عثر في البحرين على نماذج صغيرة لتمثال أبي الهول، وقد نقشت أسفله بعض الكتابات الهيروغليفية في أحد مدافن قرية سادة شمالي البحرين، وصرح عبد العزيز صويلح مراقب الآثار بإدارة السياحة والآثار بدولة البحرين، بأنه قد عثر على تمثال أبي الهول الصغير الذي يعتقد أنه يستخدم كنوع من الأختام، وذلك ضمن مدفن خاص بامرأة.»
إلى هنا ينتهي الخبر الصغير عن أبي الهول الصغير، الذي انزوى في الصحيفة، ربما عن استهانة بشأنه، لكن غاية ما نرجوه في ضوء ما قدمناه من شواهد في هذا البحث أن يعيد الباحثون إليه قيمته وقدره، ولربما أفرد لأبي الهول الصغير بعد ذلك صفحات، تليق بدلالات سفره الطويل إلى الساحل الشرقي لجزيرة العرب منذ ألوف السنين، ثم نجد أكثر من رواية إخبارية تشير إلى وقوع بعض الناس على مقابر آثارية، أيام الجاهلية والإسلام يمكن بالتدقيق فيها، أن تجد العين الفاحصة أكثر من علامة مصرية قديمة، رغم ما شاب هذه الروايات من مزاعم تلفيقية ومبالغات، وتخريجات ناتجة عن عدم إمكان التفسير الصادق، فاتجهت إلى تفاسير مزعومة تلتئم وواقع الفكر هناك وحينذاك، فيقول برهان الدين الحلبي في السيرة: إنه «في زمن عمر بن الخطاب، فتحت تستر المدينة المعروفة، فوجدوا تابوتا، أو في لفظ سريرا، عليه دانيال عليه السلام، ووجدوا طول أنفه شبرا، وقيل ذراعا، ووجدوا عند رأسه مصحفا، فيه ما يحدث إلى يوم القيامة.»
نامعلوم صفحہ