ومن ثم عدنا إلى تاريخ «أورسيوس» للعالم، وبخاصة للجزء الذي يتحدث فيه عن جغرافية العالم القديم وحدود البلدان، فوقفنا على أمر غاية في الأهمية، فبعد أن يذكر أورسيوس حدود ما يطلق عليه اسم «مصر الأدنى» يبدأ الحديث عما يسميه «مصر الأقصى»، وقد ذهب الباحثون بما فيهم محقق تاريخ أورسيوس نفسه «د. عبد الرحمن بدوي» إلى أن مقصد أورسيوس بمصر الأدنى هو منطقة الدلتا والوجه البحري من مصر، أو ما اصطلح على تسميته بمصر السفلى، وأن مقصده بمصر الأقصى هو الجنوب المصري أو صعيد مصر، أو ما اصطلح على تسميته «مصر العليا».
ولكن لو تابعنا أورسيوس سنجده يقول: «وأما مصر الأقصى فإنها بلد ممتد إلى «ناحية المشرق»، وحده في الجوف هو خليج العرب، وفي القبلة البحر المحيط، وفي الغرب مبتدأ من مصر الأدنى وفي الشرق بحر القلزم.»
6
وما يجب التنبيه إليه هنا، هو أن أورسيوس يتحدث عن مصر الأقصى، بالنسبة الإحداثية لمصر الأدنى، فيقول: إنها بلد ممتدة إلى ناحية المشرق، وعليه فلا يمكن أن يكون الصعيد هو المقصود؛ لأنه يقع جنوب مصر وليس شرقها، والمشرق بالنسبة لمصر ليس شيئا آخر سوى جزيرة العرب، ثم إنه يضع أول حدود مصر الأقصى وأعلمها «خليج العرب»، وخليج العرب ليس حدا من حدود مصر عليا أو سفلى، صعيدا أو دلتا، ثم إنه يضع الحد القبلي «القبلة» أو الجنوبي «البحر المحيط». وجنوب مصر هو عمق أفريقيا وليس في جنوبها بحار، فما بالنا والحد «بحر محيط»؟! أما جزيرة العرب، فحدها القبلي أو الجنوبي هو فعلا بحر محيط، وهو الذي نعرفه بمصطلحات اليوم باسم «المحيط الهندي».
وفي موضع آخر يتحدث «أورسيوس» عن الزمان الذي مات فيه يعقوب النبي حفيد إبراهيم النبي، فيقول: «وفي ذلك الزمان مات شرايس أمير مصر، الذي زعموا أنه صار من الأوثان»!
7
وأول عجب هنا أن «أورسيوس» أو غيره من المؤرخين قد اصطلحوا في حال حديثهم عن ملوك مصر الكبرى سيدة بلاد الشرق القديم، باسم «الفراعنة»، ولم يذكر التاريخ حالة واحدة أشارت لملك مصري بغير اصطلاح فرعون، وعندما خرج القرآن الكريم على مألوفة في نعت ملك مصر بفرعون، وأطلق على ملك مصر زمن النبي يوسف اسم «العزيز»، كان ذلك مدعاة للشك في هوية الجالس على عرش مصر آنذاك، وذهبت طائفة محترمة من الباحثين - لهذا السبب - إلى حسبان حكام مصر في ذلك العهد لم يكونوا مصريين، بينما ذهب بعضهم إلى افتراض أن يوسف وأهله دخلوا مصر وقت احتلالها من الهكسوس، لذلك أطلق القرآن الكريم على الملك المصري في عهد يوسف اسم أو لقب «العزيز»، فما بال «أورسيوس» يتحدث عن «شرايس أمير مصر»؟ أما مصر نفسها فلم تعرف نصوصها كلمة أمير، إلا للدلالة على ولاتها المنوبين عنها في ولاية البلدان التابعة لها، ونواب الفرعون على الأمصار الخاضعة للإمبراطورية، إضافة إلى أننا قد بحثنا في قوائم ملوك مصر، وعلى مختلف القراءات، فلم نجد ملكا حكم مصر باسم «شرايس»، أو «شرا» بعد حذف التصريف الاسمي «الياء والسين»، لكن ما نعرفه يقينا أن بلاد اليمن قد عبدت معبودا باسم «ذي الشرى»، وأنه قد انتشرت عبادته من اليمن إلى مختلف بقاع الجزيرة، حتى زمن الدعوة الإسلامية، واحتفظ بأصله اليمني محفوظا في اللازمة «ذي»، على غرار «ذي يزن، ذي نواس» ... إلخ،
8
ولدينا افتراض إضافي هو أن المصريين القاطنين بلاد اليمن، ربما تمثلوا الأم الكبرى مصر في معبود «ذي الشري»؛ لأن «ذو شريت» كان اسما من أسماء مصر وبالتحديد الهضبتين.
نحن هنا إذن مع «مصر الأقصى» مع مصر أخرى غير التي نعرفها، مصر تقع في طريقها مدينة «شور»، وأنشر حدودها خليج العرب وبحر محيط، وعبدت «ذي الشري» إضافة إلى حدها الغربي وهو مصر الأدنى، والذي لا شك قصد به «أورسيوس» مصر الكبرى التي نعرفها التي امتدت يدها الإمبراطورية؛ لتطوي حدود بلدان ذلك الزمان، فطوت السودان، ونالت من الحبشة، ووصلت حملاتها إلى بلاد «بونت» الصومال، وفرضت على ملكتها الحماية المصرية، لذلك يكون طبيعيا تماما أن تكون حدود مصر الجنوبية، فيما وصل أورسيوس من علوم القدماء، تقع إلى الغرب من مصر الأقصى، أو ما افترضناه بلاد اليمن، ولا يفصلهما سوى مضيق باب المندب الذي لم يمنع الاتصال بين البلدين طوال عصورهما (الحبشة واليمن)، لذلك كان تعبير أورسيوس الذي يغرب على بال أهل زماننا، لكنه كان مفهوما تماما لأهل زمانه، «وفي الغرب مبتدأ من مصر الأدنى»!
نامعلوم صفحہ