بعد الدفنة وانصراف المشيعين والمعزين، رجعت من الطريق الغربي المؤدي إلى الترعة والمنتزه ومزلقان السكة الحديدية. رحت أطوف بالسكك البعيدة على غير هدى، أمر على الناس والبيوت والأشجار والحيوانات الراجعة من الحقول كأني في حلم كاذب . أفكر طول الوقت في معاقبة نفسي على ذنب لا حيلة لي فيه، ورؤيا مشئومة كأنها تهمة موجهة إلي. وداهمني الليل وأنا أتقلب في جحيم السؤال والندم والذهول والاحتجاج والبكاء الأخرس. وعندما رجعت إلى البيت تركت جسدي يسقط متهالكا على العتبة. كانت المصابيح تتلألأ في الصوان الكبير، وتلاوة القرآن تملأ الأرجاء بالرهبة والحزن والخشوع والصبر الصامت الكظيم. رفعت رأسي إلى السماء، فوجدت نجما يرتعش بضوء أحمر، يترجرج كبقعة من الدم. تطلعت إليه وقلبي يهتف به: أنت يا كوكب النحس المتربص بي، يكفيك ما فعلت بها وبي. أستحلفك بالله وملائكته أن لا تطاردني على طريقي. أستحلفك أن تبتعد عن رأسي ورءوس أحبابي وأهلي وبلادي.
أحمس ...
ذات يوم في إجازة منتصف العام، أحاول أن أدفئ نفسي من البرد، فأقطع غرفتي الضيقة ذهابا وجيئة، وأرفع عقيرتي بالكلام الحماسي الذي كلفت بحفظه عن ظهر قلب. رحت أتقمص الدور الذي سأقوم به بعد انتهاء الإجازة، بينما تشاركني في التعبير تقلصات وجهي وإشارات يدي وذراعي في الجهات الأربع. يا له من دور عظيم لإنسان عظيم. وهل من شيء أسمى من تمثيل دور أحمس الخالد في التاريخ، هل من بطل أخطر من بطل الاستقلال والتحرر من ربقة الاستعباد والاحتلال وطرد الهكسوس الغزاة المغتصبين، الذين استقروا في شمال البلاد؟
انطلق صوتي يردد الخطاب الطويل، الذي ألقاه أحمس في البهو الكبير على مسمع من الأعيان والأمراء والقواد والضباط: «سننتصر عليهم ما في ذلك شك. لقد انتصروا علينا وأخضعونا وأذلونا قبل قرنين من الزمان؛ لأنهم وجدوا أمامهم ملوكا منقسمين متنازعين. أما اليوم فأمامهم شعب متحد الكلمة، متماسك البنيان. انتصروا أول مرة؛ لأنهم جلبوا معهم خيولهم وعرباتهم وسيوفهم التي لم يكن لنا عهد بها من قبل، أما الآن فسنحاربهم بأسلحتهم، وسنبرهن لهم أننا أصبحنا أكفأ منهم في استعمالها. لا، لن يهدأ لي بال حتى أطرد آخر هكسوسي من أرض الوطن ...»
ضقت ببرد الحجرة، فخرجت ألتمس شيئا من دفء الشمس على السطح. كانت أمي تنشر الغسيل وتتحرك كالنحلة بين الحبال والطشوت وحجرة الفرن ، وكنت منغمسا في الدور وصوتي يردد الكلام، ويرن كجرس إنذار أو بوق صغير يحث جيشا من المحاربين على التقدم والزحف: «لقد أعلن الأمير سكنن رع الحرب عليهم، وسقط صريعا في ميدان الجهاد والشرف، وقام والدي كاموس بتهيئة الشعب في الجنوب للجهاد، ولكن المنية عاجلته قبل أن يطرد أولئك المغتصبين القذرين، لكنني سأحقق أمنيته لو أطال آمون في أجلي ...»
قالت أمي، وهي تتوقف وسط السطوح وتنظر إلي متوجسة: مالك يا ابني؟ كفى الله الشر ... - لا بد أن أحفظ الدور يا أمي قبل أن تبدأ المدرسة ... - دور؟ يعني تمثل وتقف على المرسح؟ - اسمه المسرح يا أمي. الأستاذ علام أسند إلي دور أحمس بطل الاستقلال، ومحرر شمال الوادي من الهكسوس.
قالت يائسة، وهي تنفض الغسيل: والله ما أنا فاهمة يا ابني.
قلت ضاحكا، وأنا أتابع القراءة والإشارة بيدي وذراعي وكل جوارحي: المهم تدعي لي ...
قالت، وهي تتجه إلى الفرن بدلا من تضييع الوقت فيما لا يفيد: داعية لك يا ابني من قلبي، ربنا ينجح مقاصدك أنت وزملاءك.
كان الأستاذ علام مدرس اللغة العربية قد استدعاني إلى حجرته، وقال لي: أنا يا ابني واثق منك؛ فأنت تحب الشعر وتنطق الخطب نطقا سليما، كما أني أتوسم فيك حب الفن. سألته أي فن يا أستاذي؟ أجاب بحماس شديد: فن المسرح الذي يجمع كل الفنون. لقد أعددت مسرحية قصيرة من منظرين عن رواية صدرت عن أحمس بطل الاستقلال لأحد أدبائنا الكبار، اختزلت المشاهد واختصرت الحوار بقدر الإمكان ليستطيع التلاميذ أن يحفظوه ويرددوه. أنت الذي سيقوم بدور أحمس، وسنبدأ البروفات بعد الإجازة مباشرة ... خذ ... هذه الورقة فيها القطعتان اللتان سترفع بهما صوتك في المنظرين ... احفظ النص جيدا حتى لا تتلجلج أمام الجمهور. سألته عما يقصد بالجمهور، فقال ضاحكا: زملاؤك ومعلموك وأولياء الأمور. المهم تشد حيلك أنت وبقية الممثلين لترفعوا رقبتنا أمام الناس.
نامعلوم صفحہ