أمسكت بالخيط، وقلت ضاحكا: نعم، في الجنينة الكبيرة والأخيرة. دعيني أنام حتى أستقبلهم وأسمع همسهم ورفيف أجنحتهم ...
قالت أمي يائسة: والنبي أنت بتخرف وكلامك عجيب. تأكل لك لقمة يا ابني؟
قلت، وأنا أتجه إلى حجرتي: سآكل وأشرب معهم. اتركيني الآن لأستريح من المشوار ...
قالت بنفس النبرة اليائسة الحائرة: - ربنا يريح قلبك يا ابني، ويشفي لك عقلك.
قلت، وأنا أفتح باب حجرتي: - ما داموا معي فلا تخافي علي ...
ثم لنفسي، وأنا أستعد للنوم وللزيارة الموعودة: ليتك تعرفين أن الموتى لا يموتون. إنهم يغيبون عنا، ولا يصح أن نغيب عنهم. وأنتما يا شقيقي العزيزين، كونا معي من اليوم وسأكون معكما على الدوام ...
تحت الخيمة
كأني رأيته من بعيد، أبعد من كل ما قدرت وتصورت ...
قال لي الصوت الذي يوجهني من الداخل والخارج: ستجده هناك، تحت الخيمة الزرقاء التي يعلوها الديك والهلال، هنيئا له مع المباركين والصالحين ... دخلت ساحة واسعة لا تحدها أبواب ولا جدران ولا أسوار. حديقة مترامية لم تشهد عيني حديقة تدانيها في الجمال والنضارة والتنسيق البديع. ومشيت على بساط أخضر لم تحس قدمي، ولم يقع بصري على أرق وأنعم منه، كأنما الأرض المفروشة بالعشب الندي الطازج قد تحولت إلى سماء خضراء لا تطؤها إلا أقدام الملائكة والعصافير. بدت الخيمة أشبه بتلك الخيام التي كانت تعد للملوك والأمراء وكبار القادة أثناء الحروب أو رحلة الحجيج. وحين اقتربت منها عجبت من السكينة والصفاء اللذين ينبعثان منها، والوهج المشع من الخيوط الفضية والذهبية التي نسجت منها الستائر المنسدلة عليها، والغناء العذب الذي لا ترسله آلاف الطيور الزرقاء والخضراء والصفراء التي تتقافز على سقفها وأركانها، والأشجار المختلفة التي تظللها وترف فروعها في سلام حولها ... تقدمت في ورع وبطء شديد حتى اقتربت من الأريكة التي يجلس عليها. وكم كان عجبي من الأريكة التي يجلس عليها، وكم كان عجبي من أنه يجلس تحت الخيمة في نفس المندرة التي في بيتنا القديم، وعلى نفس الكنبة التي كان يتربع عليها ملتفا في عباءته وفي حجره مصحف يقرأ آياته في خشوع.
تجرأت وجرحت الصمت الشامل بعد أن طالعت الوجه الأبيض المستدير الذي يشرق بنوره الداخلي، وتبرز على جبهته علامة الصلاة، كأنها حفر في الجلد أو كي قديم، بينهما شفتاه تتحركان بالترتيل الصامت وعيناه مطرقتان ومثبتتان على الصفحة التي بدت صفراء، وعليها سطور بحبر عميق السواد: - أبي ... اشتقت إليك فجئت.
نامعلوم صفحہ