رجعت الأخت الكبيرة وانشغلت بالطفلين طول الوقت: تهدهد أحدهما، أو تقرب الآخر من ثدي الأم، أو تهتم بتنظيفهما وغسلهما بالماء والصابون. كانت في ذلك الوقت لا تزال عروسا تجري الاستعدادات لفرحها ودخلتها، ولا بد أن الاهتمام بشقيقيها قد أعجبها وأيقظ فيها حنان الأمومة الكامنة. لم تغادر حجرة الوالدة إلا بعد أن أذن الفجر، وجرت على السلم واندفعت لفتح الباب المواجه لباب جارتنا الداية. لم تتبرم الست نجية ولم تقل كلمة واحدة، جاءت معها وصعدا السلم، وهيأتا كل شيء للمولود الجديد الذي أعلن عن قدومه بدفعات الطلق الشديدة وصيحات الأم المكتومة. وقبل أن يشرق نور النهار، كان الصغير الثالث قد استقبل العالم بصراخ هائل لا يناسب حجمه الضئيل الهزيل. نزلت الأقدام مسرعة على السلالم لتبشر الأب بالخبر. كان مستغرقا في الدعاء بعد الانتهاء من صلاة الفجر. وانتظرت الأخت الكبيرة حتى ختم الدعاء، وصاحت: - الثالث وصل يا آبه. وصل ... - الثالث! ربنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه. هل قلت ولد؟! - نعم يا آبه، ولكنه ضعيف ونحيل كالفار الصغير. ستي نجية قالت ... - اللهم لا اعتراض ... ماذا قالت؟ - قالت، أول ما خرج صرخ بأعلى صوته: لا ... لا ... لا. - يا عبيطة ... وهل المسكين يعرف النعم من اللا ... - هي أكدت وحلفت بالله العظيم أنه صاح لا ... لا ... لا ... ومصيرها تنشر الخبر في الشارع والبلد كلها تعرف ... - وماله يا بنتي، صحيح ثلاثة في بطن واحدة شيء نادر في البلد، معجزة من عند الله! لكن هو القادر على كل شيء، ربنا يقوينا يا بنتي ويكتب لهم طول العمر ...
لم يبق الثلاثة على حالهم، إذ لم يكد يمضي الشهران حتى مات الشقيقان الأولان الواحد بعد الآخر. لحكمة لا يعلمها إلا الله، رجعا إلى حضن الأرض بفرق أسبوع واحد بينهما. وفي كل مرة كان أبي يذهب مع جارنا الشيخ أحمد المقرئ والتربي حاملين النعش الصغير، وراجعين في صمت وهدوء بعد تسوية التراب فوق كل منهما. وفي صباح يوم دخل الشيخ من باب البيت بعد أن استأذن وصفق بيديه، ونادى يا أهل الله. ردت عليه أمي من فوق السلم، وسألته عما يريد. أبلغها أن الولد الثالث حظه من السما، وله مكان بجوار أخويه. استعاذت أمي من الشيطان الرجيم، وصاحت الشر بره وبعيد. ضحك الشيخ العاجز وهو يتحسس طريقه إلى الباب، وقال: أنا قلت أطمئنك يا أم محمد ... المهم أن الولد «لا» يشد حيله ولا يقول لا ...
كان الجميع قد عرفوا أن الولد «لا» هو الوحيد الذي بقي حيا من التوائم الثلاثة، وأن بقاءه - برغم هزاله وضعفه وشدة نحوله كفأر صغير - لا يقل معجزة عن صرخته ساعة ميلاده باللا، كأنه - فيما قال الجيران - لم تعجبه الدنيا ولا العيشة، أو كأنه صمم على الثورة منذ ولادته إلى يوم مماته.
وقد مرت الأيام والأعوام وذهب الشقيقان، ولم تنفعهما قوتهما، وتورد وجهيهما بالصحة والعافية. ورحل الأب والأم والأخت الكبيرة والتربي، وبقي الصارخ باللا حيا يعاني ويكابد، ويعلم ويقرأ ويكتب ولا يكف عن ترديد صرخته ليل نهار. ربما تسللت اللا إلى كلماته وعباراته واختبأت في قصصه ومسرحياته وسائر كتاباته، لكنها كانت على الدوام صرخة هامسة وحيية وعاجزة. لهذا بقيت بغير صدى، ولم تترك أي أثر.
عندما بحثت عنهما
الجبانة الكبيرة تغمرها الوحشة والسكينة، وتغرقها في بحر من السلام الصافي الحزين. لا أدري كيف واتتني الجرأة على دخولها بالرغم من تحذيرات أبي وأمي المستمرة بعدم المشي فيها ولا الاقتراب منها بالليل ولا بالنهار. كنت كلما مررت بسورها الطيني الكئيب بعد جولتي في منتزه شجرة الدر المجاور لها، أو على السكة الزراعية المؤدية إلى مدخل البلد، كنت أحس برعشة تنفض أطرافي وتزيد في نبضي وترفع الطنين إلى أذني. لكنني في هذه السن الصغيرة - بعد حصولي على الشهادة الابتدائية بقليل - عانيت من وسواس يلح علي بزيارة شقيقي اللذين رحلا عن الدنيا بعد مولدي معهما بشهرين أو ثلاثة. وكانت أختي الكبيرة قد أخبرتني بأن الصغيرين يرقدان في قبرين صغيرين أمام مدفن العائلة. وقد سبق أن زرت هذا المدفن وأنا أمسك بيد شقيقي الأكبر عندما كان يفتح في مناسبة عيد، أو عند دفن ميت جديد يمت لنا بصلة القرابة، أو أحد الغرباء على سبيل الصدقة. لم أكن قد سمعت من أختي الكبيرة عن مكانهما، ومنعتني الرهبة من سؤال أخي عنهما، على الرغم من أن لهيب الشوق لزيارتهما والوقوف على قبريهما لم تنطفئ جذوته أبدا، منذ أن عرفت قصة رحيلهما، واختنقت بالإحساس بالذنب وبالندم الممض على فقدهما في كل لحظة من لحظات حياتي، التي صور لي الذنب والندم أنها جاءت واستمرت على حساب حياتهما، أو بفضل تضحيتهما ...
نفخت صدري بالهواء، وتشجعت على ولوج المدينة الصامتة بعد عصر يوم من أيام شتاء قارص البرد. وتجاهلت تحذيرات الأب والأم وكل الكبار من المغامرة الخطرة، ومن الذئاب أو الثعالب أو القطط والجرذان الوحشية، التي ربما تجوس فيها. شغلني شيء واحد لا شيء سواه، هو أن أجد قبري الشقيقين الذاهبين، وأرتل بعض الآيات الكريمة، وأسألهما الصفح والغفران عن بقائي حيا دونهما. كنت أعرف الدرب الجانبي الضيق المؤدي إلى المدفن العائلي، الذي سأقوم بالبحث عنهما في المساحة الواقعة أمامه. ورحت أتأمل الأضرحة الفخمة للأغنياء والأعيان والأشراف، وألمس بيدي قبورا بائسة توشك أن تكون متهدمة ومخربة لمئات الفقراء المجهولين، بينما يفكر عقلي الصغير في التفاوت بين النمطين، وفي الظلم الذي يلاحق الضعفاء والمساكين في حياتهم وموتهم. وكم عز علي أثناء التجوال أن أجد معظم القبور المتداعية بلا اسم مكتوب عليها، ولا لوح حجري أو رخامي يسجل الأسماء وتواريخ الميلاد والوفاة، بل هي مقفرة حتى من سعفة نخيل فوقها أو فرع صبار بجوارها ...
وصلت أخيرا إلى مدفننا العتيق ذي الباب الحديدي الضخم، الذي لم يكن يعرف طريق مفتاحه سوى أبي وشقيقي الأكبر. وأخذت أتلفت حولي وأفتش في المساحة الخالية أمامه وبجواره عن أي أثر للقبرين الصغيرين دون فائدة. فوجئت بشبح أبيض طويل يخرج من وراء الصف المواجه وفي يده فأس صغيرة. ولما اقترب مني عرفت فيه عم إبراهيم حارس الجبانة والمنادي في البلد فوق حماره على كل الراحلين. قال وهو يضع الفأس جانبا ويجفف عرقه: الله يرحم الجميع، من أنت يا ابن الكرام؟ هل جئت لزيارة الميت الذي دفناه صباح اليوم؟ هل أنت قريبه؟
عرفته بنفسي، فهتف صائحا: صحيح ابن الطيبين الكرام. هذا هو مدفن العائلة، هل معك المفتاح وأنا أساعدك؟
نفيت وجود المفتاح معي، وتلجلج لساني وأنا أسأله: هل تعرف القبرين الصغيرين اللذين أقيما أمام المدفن منذ عشر سنوات أو يزيد؟
نامعلوم صفحہ