مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن، باسم الله يكون الابتداء. وبعونه تتم الأشياء. وبمشيئته تتصرف الدهور. وعلى إرادته تتقلب الأمور. ومنه التوفيق والتأييد. وبيده الإعانة والتسديد. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وبتوفيقه إرشاده.
قال أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى الوشاء المؤلف لهذا الكتاب، وهو الكتاب الموشى نقول ونستعين بالله على السداد ونستهديه، ونستفتح له استفتاح اللاجئ إليه ونستكفيه: يجب على المتأدب اللبيب. والمتظرف الأريب. المتخلق بأخلاق الأدباء. والمتحلي بحلية الظرفاء. أن يعرف قبل هجومه على ما لا يعلمه. وقبل تعاطيه ما لا يفهمه. تبين الظرف وشرائع المروءة وحدود الأدب، فإنه لا أدب لمن لا مروءة له، ولا مروءة لمن لا ظرف له، ولا ظرف لمن لا أدب له.
وقد وصفنا في كتابنا هذا على قدر ما بلغه علمنا. واحتوى عليه فكرنا وجعلناه حدودًا محدودة. ومعالم مقصورة. وشرائع بينّة. وأبوابًا نيّرة. وشريطتنا على قارئ كتابنا الإقصار عن طلب عيوب أخطائنا. والصفح عن ما يقف عليه من إغفالنا. والتجاوز عن ما ينتهي إليه من إهمالنا. وإن أداه التصفح إلى صواب نشره. أو إلى خطأ ستره. لأنه قد تقدمنا بالإقرار. ولا بد للإنسان من زلل وعثار. وليس كل الأدب عرفناه. ولا كل
1 / 1
العلم دريناه. وعلينا في ذلك الاجتهاد. وإلى الله الإرشاد. وقلَّ ما نجا مؤلف لكتاب من راصد بمكيدة. أو باحث عن خطيئة. وقد كان يقال من ألف كتابًا فقد استشرف. وإذا أصاب فقد استهدف. وإذا أخطأ فقد استقذف. وكان يقال لا يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يقل شعرًا أو يضع كتابًا. وقال الشاعر في ذلك:
لا تعرضن للشعر ما لم يكن ... علمك في أبحره جسرا
فلن يزال المرء في فسحة ... من عقله ما لم يقل شعرا
وأنشد في ذلك:
الشعر عقل المرء يعرضه ... والقول مثل مواقع النَّبل
منها المُقصِّر عن رميته ... ونوافذ يذهبن بالخصل
وكان يقال: اختيار الرجل وافد عقله، فقال: لا بل مبلغ عقله، وقيل: دلّ على عاقل اختياره؛ وقيل لبعض العلماء: اختيار الرجل قطعة من عقله؛ وقال الخليل بن أحمد: لا يحسن الاختيار إلا من يعلم ما لا يحتاج إليه من الكلام؛ وقال الشعبي: العلم كثير، والعمر قصير، فخذوا من العلم أرواحه ودعوا ظروفه؛ وقال ابن عباس: العلم أكثر من أن يُحصى، فخذوا من كل شيء أحسنه.
1 / 2
ونحن نستعين الله ونودع كتابنا هذا جملة من حدود الأدب والمروءة والظرف، ونجعل ذلك أبوابًا مختصرة وفصولًا محبرة، على غير نقص منا لما في كل باب، لا يطول به تأليف الكتاب، ولأن غرضنا في الاختصار، لما عليه النفوس من ملل الإكثار، ولننجو من مقالة حاسد، أو اعتراض معاند، على أنه لا بد للحاسد وإن لم يجد سبيلًا إلى وهن. ولا سببًا إلى طعن. أن يحتال لذلك بحسب ما ركب عليه طبعه. وتضمنّه صدره. حتى يخلص إلى غفلة. أو يصل إلى زلة. فيتشبث بالمعنى الحقير. ويتسبب بالحرف الصغير. إلى ذكر المثالب. وتغطية المناقب. إذ من طبع أهل الحسد. وأرباب المعاندة والنكد. تغطية محاسن من حسدوه. وإظهار مساوئ من عاندوه. وقد أخبرني أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح، وبشر بن موسى بن صالح الأسدي قالا: حدثنا الأصمعي قال: حدثني العلاء بن أسلم قال: حدثنا رؤبة بن العجاج قال: قال لي فلان قصرت وعرفت، ثم قال لي: يا رؤبة عساك مثل أقوام إن سكت لم يسألوني. وإن تكلمت لم يعوا عني. قلت: أرجو أن لا أكون كذلك. قال: فما أعداء المروءة؟ قلت: تخبرني. قال: بنو عمّ السوء، إن رأوا خيرًا ستروه، وإن رأوا شرًا أذاعوه. أنشدني أبو العباس محمد بن يزيد المبرد:
1 / 3
عين الحسود عليك، الدهر، حارسة ... تبدي المساوئ، والإحسان تخفيه
يلقاك بالبشر يبديه مكاشرة ... والقلب مضطغن فيه الذي فيه
إن الحسود بلا جرم عداوته ... فليس يقبل عذرًا في تجنيه
وأنشدني أبو جعفر في مثل ذلك:
إن يعلموا الخير يخفوه، وإن علموا ... شرًا أُذيع، وإن لم يعلموا كذبوا
وأنشدني محمد بن إبراهيم القارئ:
وترى اللبيب مُحسدًا لم يجترم ... شتم الرجال وعرضه مشتوم
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدًا وبغيًا إنه لدميم
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
ما ضرني حسد اللئام، ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو النقصان
يا بؤس قوم ليس جرم عدوهم ... إلا تظاهر نعمة الرحمان
وخبرت أن المنصور قال لبعض ولد المهلب بن أبي صفرة: ما أسرع الناس إلى قومك! فقال: يا أمير المؤمنين
إن العرانين تلقاها محسدَّة، ... ولا ترى للئام الناس حسادا
كم حاسد لهم قد رام سعيهم، ... ما نال مثل مساعيهم، ولا كادا
ويروى أن عمر بن الخطاب، رحمة الله عليه، كان يتمثل بهذين البيتين:
قوم سنان أبوهم حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
محسودون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
وأنشدنا أحمد بن عبيد قال: أنشدنا العتبي عن أبيه:
1 / 4
إني نشأت، وحسادي ذوو عدد ... يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا
ما زلت أقدم أفراسي مكلَّمةً ... حتى اتخذت على حسادهن يدا
وأنشدت:
كلُّ العداوة قد ترجى إماتتها، ... إلا عداوة من عاداك من حسد
وبلغ محمد بن عبد الله بن طاهر أن قومًا من الموالي يحسدونه، فقال:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم، ... ومات أكثرهم غيظًا بما يجد
أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صُعدًا منها ولا أرد
وقال أردشير بن بابك: كل خصلة رديئة، فهي دون الحسد، لأن الحسود يسعى على من أحسن إليه، ويبغي الغوائل لمن أنعم عليه. وقال الأصمعي: سمعت أعرابيًا ذكر بعض الحساد فقال: ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم ونفس دائم وعقل هائم؛ وقال حاتم طيء:
يا كعب ما إن ترى من بيت مكرمة ... إلا له، من بيوت الشر؛ حسادا
والتحرز من الحساد ما لا سبيل لنا إليه، والتحفظ من ألسنتهم ما لا نقدر عليه، لكن أقول كما قال الشاعر:
ما يضرُّ البحر، أمسى زاخرًا، ... أن رمى فيه غلام بحجر
وأُصدّر كتابي هذا مستعينًا بالله راغبًا إليه، بذكر الأدب وصفته. وما يحتاج الأدباء إلى معرفته. وأشفعه بأشياء يستحسنها الأديب. ويرغب في دراستها الأريب، وبالله التوفيق.
1 / 5
البيان عن حدود الأدب
ما يجب على الأدباء من الفحص والطلب
اعلم أن أول ما يجب على العاقل المنفصل بصفته عن الجاهل أن يتبعه ويميل إليه، ويستعمله ويحرص عليه، مجالسة الرجال ذوي الألباب، والنظر في أفانين الآداب، وقراءة الكتب والآثار، ورواية الأخبار والأشعار، وأن يحسن في السؤال، ويتثبت في المقال، ولا يكثر الكلام والخطاب، إن سئل عمّا يعلمه أجاب، وإن لم يسأل صمت للاستماع، ولم يتعرض لمكروه الانقطاع. فقد روي في الخبر المأثور أن النبي، ﷺ، قال: أغد عالمًا، أو متعلمًا، أو مستمعًا، ولا تكن الرابع فتهلك. والصمت أحسن بالرجل من الهذر في منطقه، والكلام فيما لا يعنيه، والتسرع إلى ما يكون على وجل منه. وقد قال بعض الشعراء:
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرجل تبرا على مهل
وقال أبو العتاهية:
إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزًا ... فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز
يخوض أناس في المقال ليوجزوا ... وللصمت عن بعض المقالات أوجز
وقال أيضًا:
1 / 6
قد أفلح الساكت الصموت ... كلام راعي الكلام قوت
ما كل نطق له جواب ... جواب ما تكره السكوت
وقال النبي، ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليسكت، وقال: من صمت نجا.
وكان أعرابي يجالس الشعبي يطيل الصمت، فقال له يومًا: لم لا تتكلم؟ فقال: أسمع لأعلم وأسكت فأسلم.
وقال أبو هريرة: ثمرة القلب اللسان. وقيل لعيسى بن مريم، ﵇: ما مبدى علم القلب وجهله؟ قال: اللسان. قال: فأين يلزم الصمت؟ قال: عند من هو أعلم منكم، وعند الجاهل إذا جالسكم.
وقال بعض الشعراء:
تعاهد لسانك إن اللسا ... ن سريع إلى المرء في قتله
وهذا اللسان بريد الفؤا ... د يدل الرجال على عقله
وقال آخر:
أستر النفس ما استطعت بصمت، ... إن في الصمت راحة للصموت
واجعل الصمت إن عييت جوابًا ... رب قول جوابه في السكوت
وقال أبو العتاهية:
لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيونه
والصمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه
وقال لقمان لابنه: يا بني إن غلبت على الكلام، فلا تغلب على الصمت،
1 / 7
فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول. إني ندمت على الكلام مرارًا ولم أندم على الصمت مرة واحدة. وقال إبراهيم بن المهدي في هذا المعنى فأحسن:
إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيارا
ولئن ندمت على سكوتك مرة ... فلقد ندمت على الكلام مرارا
إن السكوت سلامة ولربما ... زرع الكلام عداوة وضرارا
فحقيق على الأديب أن يخزن لسانه عن نطقه، ولا يرسله في غير حقه، وأن ينطق بعلم، وينصت بحلم، ولا يعجل في الجواب، ولا يهجم على الخطاب. وإن رأى أحدًا هو أعلم منه، نصت لاستماع الفائدة عنه، وتحذر من الزلل والسقط، وتحفظ من العيوب والغلط، ولم يتكلم فيما لا يعلم، ولم يناظر فيما لا يفهم، فإنه ربما أخرجه ذلك إلى الانقطاع والاضطراب، وكان فيه نقصه عند ذوي الألباب. وقد قال الأعور الشني فأجاد:
ألم ترَ مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ومثله قول الأخطل أيضًا:
إن الكلام من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وأخبرني أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان بكر بن عبد الله المزني يقل الكلام، فقيل له في ذلك، فقال: لساني سبعٌ، إن تركته أكلني، وأنشد:
لسان الفتى سبع عليه شذاته ... فإلا يزع من غربه فهو آكله
وما العيّ إلا منطق متبرع ... سواء عليه حق أمر وباطله
1 / 8
قال أبو الطيب قوله: شذاته، أي حده، وقال بعض الحكماء: الزم الصمت تعد حكيمًا كنت أم عليمًا؛ وقال الهيثم بن الأسود النخعي:
من يستعن بالصمت يومًا فإنه ... يقال له لبُّ نهاه أصيل
وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة، على عوراته، لدليل
وكان يقال: الصمت صون اللسان وستر العي. أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب للخطفى بن بدر:
عجبت لإزراء العييّ بنفسه، ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي، وإنما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما
والعرب تقول: عَيٌّ صامت خير من عَيٌّ ناطق. وكان ربيعة الرأي كثير الكلام، فتكلم يومًا، وأكثر ثم قال لأعرابي عنده: أتعرف ما العي؟ قال: نعم، ما أنت فيه منذ اليوم. وقال أكثم بن صيفي: حتف الرجل بين لحييه؛ وأنشدني أحمد بن عبيد لأبي محمد اليزيدي:
حتف امرئ لسانه ... في جده، أو لعبه
بين اللَّها مقتله، ... ركب في مركبه
ورب ذي مزح أُمي ... تت نفسه في سببه
ليس الفتى كل الفتى ... إلا الفتى في أدبه
وبعض أخلاق الفتى ... أولى به من نسبه
1 / 9
وكان يقال: لسانك عبدك، فإذا تكلمت صرت عبده. وقال بعض الحكماء: أنا بالخيار ما لم أتكلم، فإذا تكلمت صار الكلام علي بالخيار. وقال آخر: لساني في حبس بدني ما لم أطلقه على نفسي، فإذا أطلقته صار بدني في حبس لساني. وقال آخر: الكلمة أسيرة في وثاق الرجل، فإذا تكلم بها صار في وثاقها. وقال الشعبي: أنا على اتباع ما لم أوقع أقدر مني على ردّ ما أوقعت. وتكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات، خرجن كلهن بمعنى. فقال كسرى: أنا على قول ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال قيصر: لا أندم على ما لم أقل، فإنما أندم على ما قلت. وقال ملك الصين: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، ولم أملكها. وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة إن حكيت عنه ضرته، وإن لم تذكر لم تنفعه. وقال امرؤ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه، ... فليس على شيء سواه بخزان
وقالت الفلاسفة: اللسان خادم القلب. وقالت العلماء: اللسان كاتب القلب، إذا أملى عليه شيئًا أتى به. وأنشدني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
رأيت لسان المرء راعي نفسه، ... وعاذره إن ليم، أو زل سائره
فمن لزمته حجة من لسانه، ... فقد مات راعيه وأفحم عاذره
ولئن كان السكوت جميلًا، لقد جعل الكلام جليلًا، ما لم يتعد المتكلم في
1 / 10
كلامه، ويتجاوز في الكلام حدّ نظامه. وقد أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب:
ما في الكلام على الأنام أثام، ... بل فيه عندي النقض والإبرام
لولا الكلام لما تبينا الهدى، ... وتعطلت في ديننا الأحكام
فزن الكلام، إذا أردت تكلما، ... ودع الفضول، ففي الفضول ملام
إن أنت لم ترشد أخاك، إذا أتى، ... فعليك منه هجنة وأثام
والنطق أفضل من صمات متهم، ... جاء الكتاب بذاك، والإسلام
هذا البيان، فلا تكن متماريًا، ... فالصمت عيٌّ، والكلام نظام
وليس بعيب على الأديب، وإن كان مستقلًا بما لديه، استخذاؤه للمتقدم في العلم عليه، ولا في سؤاله فيما غُيبت معرفته عنه، من هو أعلى درجة في العلم منه. وأنشدني أحمد بن يحيى ثعلب:
تمام العمى طول السكوت، وإنما ... شفاء العمى يومًا سؤالك من يدري
وروى أن أعرابيًا أتى النبي ﷺ فقال: يا ابن عبد المطلب! ماذا يزيد في العلم؟ قال: التعلم. قال: فماذا يدل على العلم؟ قال: السؤال.
أنشدني أحمد بن عبيد قال: أنشدني ابن الأعرابي لبشامة بن عمرو المرّي:
إذا ما يهتدي لبي هداني، ... وأسأل ذا البيان، إذا عميت
وأجتنب المقاذع حيث كانت، ... وأترك ما هويت لما خشيت
1 / 11
وكان يقال: من رق وجهه عن السؤال دق علمه، ومن أحسن السؤال علم. وقال الشاعر:
إذا كنت في بلدة جاهلًا، ... وللعلم ملتمسًا، فاسأل
فإن السؤال شفاء العمى، ... كما قيل في الزمن الأول
وروينا عن يونس عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: لا يتعلم من استحيا وتكبر. وقال رجل من بني العباس للمأمون: أيحسن بمثلي العلم اليوم؟ فقال: نعم والله لأن تموت طالبًا للعلم أزين بك من أن تموت قانعًا بالجهل. فقال: إلى متى يحسن بي، وقد جاوزت الستين! قال: ما حسنت بك الحياة. وقال الخليل: ذاكر بعلمك فتذكر ما عندك وتستفيد ما ليس عندك. وقال الخليل أيضًا: كنت إذا لقيت عالمًا أخذت منه وأعطيته. وأخبرني أحمد بن عبيد قال: أخبرني ابن الأعرابي قال: أخبرنا أزهر السمان قال: قال الزهري: الأخبار ذكران لا يحبها إلا ذكران الرجال، ولا يكرهها إلا مؤنثوهم. وقال الطرماح:
ولا أدع السؤال، إذا تعيت ... عليّ، من الأمور، المشكلات
وينفعني، إذا استفتيت علمي، وأقوى الشك عندي البينات
فهذه جملة تحث الأدباء على الطلب، وصدر يقنع به العقلاء من حدود الأدب. ومنه أيضًا ترك ممازحة الإخوان، إذ كان مما يوغر صدور الخلان، وقد اختصرت لك من ذلك جملة مقنعة، وألفاظها ممتعة، فيها لك كفاية، ولذوي الألباب نهاية، إن شاء الله تعالى.
1 / 12
النهي عن ممازحة الأخلاء
والنهي عن مفاكهة الأوداء
اعلم أن من زي الأدباء، وأهل المعرفة والعقلاء، وذوي المروءة والظرفاء، قلة الكلام في غير أرب، والتجاهل عن المداعبة واللعب، وترك التبذل بالسخافة والصياح بالفكاهة والمزاح، لأن كثرة المزاح يذل المرء، ويضع القدر، ويزيل المروءة، ويفسد الأخوة، ويجرئ على الشريف الحر، أهل الدناءة والشر. وقد أخبرني أحمد بن عبيد قال: أخبرني الأصمعي عن رجل من العرب قال: خرجت في بعض ليالي الظلم، فإذا أنا بجارية كأنها صنم، فراودتها عن نفسها، فقالت: يا هذا أما لك زاجر من عقل، إذا لم يكن لك واعظ من دين؟ قلت: والله ما يرانا إلا الكواكب. قالت: يا هذا فأين مكوكبها؟ فقلت: إنما كنت أمزح. فقالت:
فإياك، إياك المزاح، فإنه ... يجري عليك الطفل والدنس النذلا
ويذهب ماء الوجه بعد وضاته، ... ويورث بعد العز صاحبه ذلا
وقال سليمان بن داود، ﵉: المزاح يستخف فؤاد الحليم، ويذهب ببهاء ذي القدرة.
وقال عمر بن الخطاب ﵁: من أكثر من شيء عرف به، ومن مازح استخف به، ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته. وكان يقال: لكل شيء بذر وبذر العداوة المزاح.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: امنعوا الناس من المزاح، فإنه
1 / 13
يذهب المروءة، ويوغر الصدر.
وقال بعض الشعراء:
مازح أخاك إذا أردت مزاحًا، ... وتوق منه المزاح جماحا
فلربما مزح الصديق بمزحة ... كانت لباب عداوة مفتاحا
وقال عمر بن عبد العزيز: امتنعوا من المزاح تسلم لكم الأعراض. قال خلف بن صفوان: المزاح سباب النوكى.
وقال محمود الوراق:
تلقى الفتى أخاه وخدنه ... في لحن منطقه بما لا يغفر
ويقول: كنت ممازحًا وملاعبًا ... هيهات نارك في الحشا تستسعر
ألهبتها وطفقت تضحك لاهيًا، ... عما به، وفؤاده يتفطر
أو ما علمت، ومثل جهلك غالب، ... أن المزاح هو السباب الأصغر؟
وقال بعض الحكماء: الخصومة تمرض القلوب وتثّبت فيها النفاق. والمزاح يذهب ببهاء العز.
وحدثني الباغندي قال: حدثنا الحميدي عن سفيان عن ابن المنكدر قال: قالت لي أمي: يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عليهم. وقد كانت أدركت النبي، ﷺ.
وأوصى يعلى بن منبه بنيه فقال: يا بني، إياكم والمزاح فإنه يذهب بالبهاء، ويعقب الندامة، ويزري بالمروءة.
1 / 14
وقال مسعر بن كدام الهلالي لابنه:
ولقد منحتك، يا كدام، نصيحتي، ... فاسمع لقول أب عليك شفيق
أما المزاحة والمراء فدعهما، ... خلقان لا أرضاهما لصديق
إني بلوتهما، فلم أحمدهما ... لمجاور جاورته، ورفيق
وكان سعيد بن العاص يقول: لا تمازحن الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك.
وقد تواترت بالنهي عن ذلك الأخبار، وتكاثفت فيه الأشعار، ولعمري إن ترك ما نهى عنه ذوو الأدب، من المداعبة واللعب، أولى بذي النهية والأرب. وقد يجب على العاقل الأديب أن ينتقي إخوانه، ويتخير أخدانه، ويفتش عن الأصحاب، ويجالس ذوي الألباب، ويستخلص أهل الفضل، وأهل المروءات والعقل، فإنها محنة الأدباء، وفراسة العلماء، وإنما يعرف الرجل بأشكاله، ويقاس بأمثاله، ويوسم بأخدانه، وينسب إلى أقرانه. وقد شرحت في ذلك جملة من الآثار، وما روي فيه من النتف والأخبار، فقف عليه يبن لك ما فيه، إن شاء الله تعالى.
الأمر باختيار الإخوان
وانتخاب الأقران والأخدان
روي عن النبي، ﷺ، قال: اختبروا الناس بإخوانهم، فإن الرجل يخادن من يعجبه نحوه. وقال مجاهد: إني لأنتقي الإخوان كما أنتقي أطايب الثمر. وقال بعض الشعراء:
1 / 15
امحض مودتك الكريم، فإنما ... يرعى ذوي الأحساب كل كريم
وإخاء أشراف الرجال مروءة، ... والموت خير من إخاء لئيم
وقال يحيى بن أكثم:
وقارن، إذا قارنت، حرًّا، فإنما ... يزين ويزري بالفتى قرناؤه
إذا المرء لم يختر صديقًا لنفسه، ... فناد به في الناس: هذا جزاؤه
وروي أن سليمان بن داود، ﵉، قال: لا تحكموا للرجل بشيء حتى تنظروا من يخادن.
وقال عدي بن زيد العبادي:
عن المرء لا تسال، وأبصر قرينه، ... فإن القرين بالمقارن مقتد
إذا ما رأيت الشر يبعث أهله، ... وقام جناة الشر للشر، فاقعد
وقال عتبة بن هبيرة الأسدي:
إن كنت تبغي العلم، أو أهله، ... أو شاهدًا يخبر عن غائب
فاختبر الأرض بأسمائها، ... واختبر الصاحب بالصاحب
وقال أبو العتاهية:
من ذا الذي يخفى علي ... ك، إذا نظرت إلى قرينه
وعلى الفتى بطباعه ... سمة تلوح على جبينه
وأنشدني أحمد بن عبيد لأبي محمد اليزيدي:
ومن يصاحب صاحبًا، ... ينسب إلى مستصحبه
بزائنات رشده، ... أو شائنات ريبه
1 / 16
ورأس أمر لامرئ ... خير له من ذنبه
وذو النهى ليست تبا ... عات الهوى من أربه
وقال آخر:
ولا تصحب أخا الجهل، ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليمًا، حين آخاه
وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه
يقاس المرء بالمرء، ... إذا ما المرء ماشاه
والقلب على القلب ... دليلٌ، حين يلقاه
وأنشدني أبو العباس الشيباني لأبي آمنة جد النبي، ﷺ:
وإذا أتيت جماعة في مجلس، ... فاحذر مجالسهم، ولما تقعد
وذر الغواة الجاهلين وجهلهم، ... وإلى الذين يذكرونك فاقعد
فليؤاخ الأديب أكفاءه، وليصحب نظراءه، ومن يأمن من غدره، وغب أمره، وبوائق شره. وأنى يكون ذلك ولن يجتمع إلا في أهل الحياء. فمنهم كرم الوفاء، وإذا اجتمع الحياء والوفاء، صح الإخاء.
وقد أخبرني مخبر عن عبد الله بن طاهر أنه قال: لا دواء لمن لا حياء له، ولا حياء لمن لا وفاء له، ولا وفاء لمن لا إخاء له، ولا إخاء لمن أراد أن يجمع بين أهواء أخلائه حتى يحبوا ما أحب ويكرهوا ما كره، وحتى لا يرى من أحد ختلًا، ولا زللًا، ولا تفريطًا، ثم أنشد:
طلبت امرأً حرًا صحيحًا مسلمًا، ... نقيًا من الآفات في كل موسم
1 / 17
لأمنحه ودي، فلم أدرك الذي ... طلبت، ومن لي بالصحيح المسلم
صبرت ومن يصبر يجد غب صبره ... ألذ وأشهى من جنى النحل في الفم
ومن لا يطب نفسًا ويستبق صاحبًا ... ويغفر لأهل الود يصرم ويصرم
وقال محمود الوراق:
البس أخاك على تصنُّعه، ... فلرب مفتضح على النص
ما كدت أفحص عن أخي ثقة، ... إلا ذممت عواقب الفحص
وليصحب نظراءه ومن يأمن غدره وغب أمره وبوائق شره.
وأنشدني محمد بن يزيد المبرد للمطيع بن إياس:
ولئن كنت لا تصاحب إلا ... صاحبًا لا تزل، ما عاش، نعله
لا تجده، ولو حرصت، وأنى ... لك بالخل ليس يوجد مثله
وقال يونس بن عبيد: أعياني شيئان، أخ في الله ودرهم حلال.
وقيل لبعض الحكماء: من أبعد الناس سفرًا؟ فقال: من كان في طلب صديق يرضاه.
وقال رجل للفضل بن عياض: أبغني رجلًا أحدثه سري، وآمنه على أمري! فقال: تلك ضالة لا توجد.
وأنشدني المهلبي لنفسه:
البس أخاك على ما كان من خلق، ... واحفظ مودته بالغيب ما وصلا
فأطول الناس غمًا من يريد أخًا ... ذا خلة لا يرى في وده خللا
وأنشدني أيضًا:
أقسمت بالله لا ينفك مغتفرًا ... ذنب الصديق، وإن عق، وإن صرما
1 / 18
والعمر يقصر عن هجر، وعن صلة، ... وعن تَجَنٍّ، وعتبٍ يورث السَّقما
فترك مصارمة الخلان، والتجاوز عن هفوات الإخوان، والاستكثار من الأخلاء، ورفض معاندة الأعداء، أولى بأهل الأدب، وذوي المروءة والأرب، وأهل الفضل والحسب.
وقد حكى الأصمعي قال: سمعت أعرابيًا يقول لأخ له: أي أخي إن الصديق يحول بالجفاء، وإني أراك رطب اللسان من عيوب أصدقائك، فلا تزدهم في أعدائك.
وقال عبد الله بن الحسن بن علي لابنه، ﵁: إياك وعداوة الرجال، فإنها لن تعدمك مكر حليم، أو مفاجأة لئيم.
وروي أن سليمان بن داود قال لابنه: يا بني لا تستكثر أن يكون لك ألف صديق، ولا تستقل أن يكون لك عدو واحد.
وروي أن علي بن أبي طالب ﵇ قال:
وأكثر من الإخوان ما اسطعت إنهم ... عماد، إذا استنجدتهم، وظهور
وليس كثيرًا ألف خلٍّ وصاحب، ... وإن عدوًا واحدًا لكثير
وليس شيء أسر إلى ذي اللب، ولا أحسن موقعًا في القلب، من محادثة العقلاء، ومجالسة الأدباء. فإن ذلك مما تفتق به الأذهان، وينفسح به الجنان، ويزيد في اللب، ويحيا به القلب، كما قال بعض الشعراء:
وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال ذوي العقول
وقد كنا نعدهم قليلًا، ... فقد صاروا أقل من القليل
وقيل للحرقة ابنة النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ فقالت: إدمان الشراب، ومجالسة الرجال.
1 / 19
وقال عمرو بن مرة الجهني، صاحب رسول الله ﷺ:
وصحوت إلا من لقاء محدث، ... حسن الحديث، يزيدني تعليما
وقال معاوية بن أبي سفيان لعمرو بن العاص: ما بقي مما تستلذه؟ فقال: مجالسة الرجال.
وقد روي عن النبي، ﷺ، وعن عدة من الصحابة، ﵃، من الأحاديث في
الحث على صحبة الإخوان، والرغبة في الخلان، ما إن ذكرناه طال به الكتاب، وكثر به الخطاب. وسنذكر بعض ذلك ونختصره، ونأخذ من أحسنه ما يكون فيه بلاغ، إن شاء الله تعالى.
الحث على صحبة الإخوان
والإغراء على مودة الخلان والرغبة في أهل الصلاح والإيمان
روي عن أبي هريرة: أن النبي، ﷺ، قال: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل.
وروي عن أبي عمرو العوفي قال: كان يقال اصحب من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك خصاصة مانك، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سقطة سترها، ومن إن قلت صدق قولك، وإن أصبت سدد صوابك، ومن لا يأتيك بالبوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق.
وقال الفضل بن غسان البصري: كان يقال اصحب من ينسى معروفه عندك.
وروي عن معاوية بن قرة قال: نظرت في المودة والإخاء فلم أجد أثبت مودة من ذي أصل.
1 / 20