79

قالت روز بنبرة ابتهاج: «هل تودين تناول الآيس كريم؟ أنا أود!» وفي خضم أفكار الابتزاز والمساومات التي دارت في عقلها، جال بخاطرها أن آنا سوف تجتر تلك الذكرى السيئة لطبيبها النفسي بعد عشرين عاما من الآن؛ فقد جعلتها هذه الحادثة مهزوزة وسقيمة وتساءلت إن كانت قد أثرت على حب كليفورد لها، لقد حدث ذلك بالفعل، ولكن لفترة مؤقتة فقط. •••

بمجرد بزوغ أول خيط من خيوط الضوء، نهضت من فراشها لمشاهدة النهار لترى إن كان اليوم مناسبا للسفر جوا. كانت السماء صافية، دون أي أثر للضباب الذي يتسبب غالبا في الهبوط الاضطراري للطائرات في هذا الوقت من العام. لم يعلم أحد سوى كليفورد بذهابها إلى باول ريفر؛ فقد ظلا يخططان للأمر على مدى ستة أسابيع منذ أن علما بأنه سيسافر في جولة. كان باتريك يعتقد أنها ستذهب إلى فيكتوريا، حيث كان لها صديقة تعرفت عليها في الكلية، وظلت على مدار الأسابيع القليلة الماضية تدعي بأنها عادت مجددا للتواصل مع هذه الصديقة. وقد قالت إنها ستعود ليلة الغد. كان اليوم هو السبت ما يعني أن باتريك كان بالمنزل للاعتناء بآنا.

دخلت إلى غرفة الطعام لمراجعة النقود التي ادخرتها من شيكات الإعانات الأسرية التي تحصل عليها من الدولة. كانت تحتفظ بها في قاع طبق المافن الفضي. ثلاثة عشر دولارا. كانت تنوي إضافتها لما أعطاها إياه باتريك للسفر إلى فيكتوريا. طالما كان باتريك يعطيها نقودا حين تطلب، ولكنه كان يرغب في معرفة المبلغ الذي تحتاج إليه وفيما ستنفقه. ذات مرة بينما كانا يسيران معا بالخارج، أرادت الدخول إلى الصيدلية، وطلبت منه نقودا، فقال باتريك بجدية لم تتجاوز الحد المعتاد منه: «لماذا؟» وبدأت روز في البكاء؛ لأنها كانت ستشتري هلاما مهبليا. أما الآن، فربما تكون قد ضحكت. وقد تضحك إذا ما حدث معها هذا الموقف الآن، فمنذ أن وقعت في حب كليفورد، لم تتشاجر قط مع باتريك.

قامت مرة أخرى بحساب النقود التي ستحتاج إليها: تذكرة الطائرة، نقود من أجل حافلة المطار التي ستستقلها من فانكوفر، ومن أجل الحافلة، أو ربما سينبغي عليها أن تستقل سيارة أجرة للذهاب إلى باول ريفر، مع فائض من أجل الطعام والقهوة. وكان كليفورد سيتكفل بنفقات الفندق. ملأتها الفكرة بإحساس من الراحة الجنسية والاستسلام، على الرغم من علمها بأن جيروم كان بحاجة إلى نظارة جديدة، وأن آدم بحاجة إلى حذاء عال من المطاط. راحت تفكر في ذلك الفراش المحايد الناعم الوثير الموجود بالفعل في انتظار قدومهما. منذ زمن طويل حين كانت فتاة صغيرة (هي الآن في الثالثة والعشرين)، كثيرا ما كانت تذهب بخيالها إلى الأسرة المؤجرة المملة ذات الألوان الحادة والأبواب المغلقة، بما يتضمنه ذلك من الأمنيات المترفة، وها هي الآن تعاود الكرة مجددا، على الرغم من أن التفكير في أي شيء يتعلق بالجنس ظل لفترة - فيما بين قبل الزواج وبعده - يثير حنقها، مثلما كان الفن الحديث يثير سخط باتريك.

راحت روز تجول عبر أرجاء المنزل بهدوء تخطط ليومها في سلسلة من الإجراءات. سوف تأخذ حماما، ثم تضع الزيت والبودرة، وتضع مانع الحمل والهلام المهبلي في حقيبتها. ولم تنس النقود، والماسكرا، وكريم الوجه، وأحمر الشفاه. اعتلت درجتي السلم المؤديتين إلى غرفة المعيشة. كانت جدران غرفة المعيشة خضراء طحلبية، وكانت المدفأة بيضاء، فيما كانت الستائر وأغطية المقاعد مزينة بنقوش حريرية من أوراق الشجر بألوان الرمادي والأخضر والأصفر على خلفية بيضاء. وعلى رف المدفأة كانت هناك مزهريتان من ماركة ويدجوود بلون أبيض وحلقة من أوراق الشجر الخضراء. وكان باتريك مغرما بشدة بهاتين المزهريتين، حتى إنه في بعض الأحيان بمجرد عودته من العمل يتوجه مباشرة إلى غرفة المعيشة ويعدل وضعهما قليلا على رف المدفأة؛ ظنا منه بوجود خلل في التناسق الذي وضعتا به. «هل عبث أحد بهاتين المزهريتين؟» «بالطبع. بمجرد أن غادرت إلى العمل هرعت نحوهما وبدلت موضعهما.» «لقد كنت أقصد آنا. فأنت لا تدعيها تلمسهما، أليس كذلك؟»

لم يكن باتريك يحب أن يسمعها تشير إلى المزهريتين بأي طريقة تهكمية؛ فقد كان يعتقد أنها لم تكن تقدر قيمة المنزل. لم يكن يعلم، ولكنه ربما استطاع أن يخمن ما قالته لجوسلين في أول مرة جاءت فيها هنا، وكانتا تقفان حيثما كانت روز تقف الآن تجولان بناظريهما في غرفة المعيشة. «إنه حلم الأناقة لوريث المتجر الكبير.»

حتى جوسلين بدت خجولة من ذلك الغش؛ فلم يكن ذلك صحيحا تماما. لقد كان باتريك يحلم بالمزيد والمزيد من الأناقة. ولم يكن صحيحا فيما تضمنه ذلك من إشارات إلى أن المنزل كان من اختيار باتريك بمفرده، وأن روز لطالما كانت غير آبهة به. لقد كان اختيار باتريك بالفعل، ولكن في وقت من الأوقات كان هناك الكثير من الأشياء تعجبها؛ فقد اعتادت أن تتسلق وتلمع الكريستالات الزجاجية المتدلية من ثريا غرفة الطعام، مستخدمة قطعة من القماش مغموسة في محلول من الماء وصودا الخبيز. لقد كانت تحب تلك الثريا؛ إذ كان لكريستالاتها المتدلية ضوء أزرق أرجواني فاتح. ولكن الناس الذين كانوا يحوزون إعجابها لم يكن لديهم نجف في غرف الطعام خاصتهم. وكان من غير المحتمل أن يكون لديهم غرف طعام من الأساس. وإذا كان لديهم، فكانوا يكتفون بشموع بيضاء رفيعة مثبتة في حامل للشموع من المعدن الأسود المصنوع في إحدى الدول الإسكندنافية. أو ربما كانوا ليستعينون بشموع سميكة موضوعة في زجاجات النبيذ محملة بقطرات من الشمع الملون. لقد كان الناس الذين تكن لهم الإعجاب أفقر منها لا محالة؛ لذا بدا من قبيل السخرية غير المقبولة منها - بعد أن قضت طيلة حياتها في مكان يخجل فيه الجميع من فقرهم - أن تكون مضطرة الآن أن تشعر بالأسف والحرج من كونها في الحالة المضادة، في ظل وجود شخص مثل جوسلين، على سبيل المثال، يمكن أن تقول عبارة مثل «رفاهية الطبقة المتوسطة» بنبرة غاية في القسوة والازدراء.

ولكنها لو لم تكن قد احتكت بالآخرين، ولو لم تكن قد تعلمت من جوسلين، ترى هل كانت ستظل على حبها للمنزل؟ كلا. كانت حتما ستشعر بالسخط والبغض تجاهه على أية حال. فحين كان الناس يأتون لزيارتهما لأول مرة، كان باتريك دائما ما يصطحبهم في جولة عبر المنزل، مشيرا إلى النجفة، ومرحاض الضيوف ذي الإضاءة المخفية، بجوار الباب الأمامي، وخزانات الملابس والأبواب المزودة بفتحات تهوية والمفتوحة على الفناء. لقد كان فخورا بهذا المنزل وكله لهفة لجذب الأنظار للسمات الصغيرة التي تمنحه التميز، وكأن هو من نشأ فقيرا وليس روز. كانت روز تنزعج من هذه الجولات منذ البداية، وكانت تتبعه في صمت أو تصدر تعليقات استنكارية لم تكن تعجب باتريك. وبعد فترة تمكث في المطبخ، ولكن يظل بإمكانها سماع صوت باتريك، وكانت تعرف مسبقا كل شيء سوف يقوله. كانت تعرف أنه سيزيح ستائر غرفة الطعام ويشير إلى النافورة الصغيرة المضيئة - التي تتخذ شكل نافورة نبتون مزينة بورقة التين - التي كان يضعها في الحديقة، ثم يقول: «والآن ها هو الحل الذي ابتكرناه لهوس الضواحي بحمامات السباحة.» •••

بعد أن انتهت من حمامها أخذت زجاجة اعتقدت أنها زجاجة زيت الأطفال لتسكبها على جسدها. سال السائل الشفاف على صدرها وبطنها مصيبا إياها بحرقة ولسعة، فنظرت إلى الملصق على الزجاجة لتكتشف أنه لم يكن زيت الأطفال، وإنما مزيل طلاء الأظافر؛ فجعلت تزيله وتغمر نفسها بالماء البارد وتجفف باستماتة وهي تفكر في بشرتها وما لحق بها من دمار، والمستشفى؛ راحت تفكر في ترقيع الجلد، في الندوب، في العقاب.

كانت آنا تخربش على باب المرحاض في نعاس ولكن بإلحاح؛ فقد أغلقته روز من أجل هذه الاستعدادات، على الرغم من أنها كانت عادة ما لا تغلقه حين تأخذ حماما. وسمحت لآنا بالدخول.

نامعلوم صفحہ