قال: اذهب وأنا أنتظرك فإنك قد تعود، ولكن اسمع هذه النصيحة قبل انصرافك واعلم أن قاضي التحقيق سيراقبك؛ لأنك أثرت فيه الظنون، فاحذر حين تأتي إلي، إذا أردت ألا تخونني، وقد أعذر من أنذر، فإذا حدث لي شيء بسببك ولو كان خطأ أعتقد أنه كان منويا، والآن فاذهب إلى أمك وسلها عن داغير دي مورتفال.
فخرج وهو شبه المجانين من اضطرابه حتى وصل إلى شارع منزله، فرآه المعاون الذي عهد إليه القاضي أن يراقبه ولم يخف عليه ذلك الاضطراب.
وصل جيرار إلى المنزل وهو يقول في نفسه: ماذا أقول لها وكيف أخبرها أني أعرف كل شيء؟
غير أن أمه عرفت من اضطرابه أنه جاءها بأمر خطير.
فقال لها: إني أريد أن أجتمع بك يا أماه وحدنا.
قالت: ما الذي يمكن أن تقوله ولا يجوز أن تسمعه مودست؟ - أرجوك يا أماه أن تقبلي رجائي.
فدخلت معه إلى مخدعها وقالت له: يظهر أنك مضطرب جدا يا بني، فماذا حدث؟
فلم يجبها واستخرط في البكاء، فجزعت أمه لبكائه جزعا شديدا، وجعلت تعانقه وتسأله أن يتكلم فقال: إني أعالج الآن الموسيو جان داغير دي مورتفال شريك الموسيو بوفور. - أهو مريض؟ - نعم. - وبعد ذلك؟ - إنه أخبرني بكل شيء.
فانقض هذا النبأ عليها انقضاض الصاعقة، واصفر وجهها وشفتاها وسقطت على الأرض وهي لا تعي، فأسرع إلى معالجتها حتى استفاقت، فقال لها: أماه؛ إن هذا لا يمنعني عن أن أحبك حب عبادة.
قالت: لا أعلم لماذا تأثرت هذا التأثر في حين أنه لا بد لك أن تقف يوما من الأيام على سر مولدك، فأرجو أن تسامحني. - على ماذا أسامحك يا أمي؟ فإن تأثرك هذا لم يحدث إلا لفرط حبك إياي. - هو ذاك يا بني؛ فإني لم أكتم عنك اسم أبيك إلا لأني أضطر إلى الاعتراف بزلتي، وليس هذا بسهل على النساء، والآن قل لي كل ما سمعته من هذا الرجل؟ - خلاصة ما قاله لي أنك ابنة الكونت دي مونتكور، وأنك أحببته ولك ثمانية عشر عاما من العمر، وأنك ولدت مولودا من هذا الحب وهو أنا، وأن أباك أبى أن يوافق على زواجكما ... فلما قلت له إنك كاذب قال سل أمك فهي تخبرك أني لم أكذب، والآن فإني مصغ إليك. - أهذا كل ما قاله لك؟ - نعم. - أتقسم لي؟ - دون شك. - ألم يكلمك عن بوفور؟ - كلا، ولماذا يكلمني عنه؟ والآن أخبريني هل صدق فيما قاله هذا الشقي؟ وهل هو حقيقة أبي؟ - نعم؛ فإن هذا الرجل لم يصدق إلا بقوله إنه أبوك، وقد كذب في سائر ما أخبرك. - بماذا كذب؟ - فقد كذب حين قال إني أحببته. - هذا الذي كنت واثقا منه. - وأنه أراد المتاجرة بي، وكان فقيرا طماعا خلوا من كل مبدأ شريف، وكنت أنا غنية فأغواني لحداثتي على رجاء أن يكره أبي على تزويجي به. - إذن لقد صدق فيما قاله عن أبيك، وهو أنه أبى المصادقة على الزواج. - بل كان أكذب الكاذبين؛ فإن أبي كان يأبى في البدء أن يصاهره مما كان يعلمه من فساد أخلاقه، وأنه لا يطمع إلا بثروتي، إلى أن خسر أبي ثروته في البورصة وعلم داغير بالخسارة فهجرني بعد أن وصمني بالعار، ولما أخبرت أبي بما كان قابله وتوسل إليه أن يكشف عنا هذا العار بالزواج فأبى وتوعده بالفضيحة إذا ألح. - عجبا كيف لم يقتله؟ - لأنه هرب في اليوم نفسه، ولكن أبي تبعه ولقيه في باريس فصفعه كي لا يبقى مانع من المبارزة، وفي اليوم التالي تبارزا، فلما عاد أبي قال لي: لقد انتقمت لك منه، فهو الآن من الأموات. ولكن أبي كان واهما فإن داغير شفي من جرحه. - أهذا كل شيء يا أماه؟ - نعم، يا بني فهذا كل ما يتعلق بهذا الرجل أبيك. - نعم، إنه أبي وإني مدين له بالحياة، ولكني لا أطيق أن أدعوه أبي، وهذا أمر يتعلق بي وبضميري. - وأنا واثقة بما يوحيه إليك ضميرك، فهو لا يوحي إليك غير الحق والواجب. - إنك أخبرتني بكل ما يتعلق بهذا الرجل، ولكن بقي لك سر تكتمينه عني. - أتريد بهذا السر مولد مودست؟ - هو ذاك. - فقامت إلى درج فأخرجت منه ورقة رسمية، وقالت له: اقرأ، فهذه تذكرة مولد مودست، ومنها تعلم حقيقة أمرها.
نامعلوم صفحہ