فحك أذنه وقال: يعز علي يا سيدي أني لا أستطيع إفادتك بشيء. - لماذا؟ - لأني لا أعرف الذي أعطاني إياها. - هذا محال. - بل هو الحقيقة يا سيدي؛ فإني بينما كنت أجول في الشوارع حسب عادتي دنا مني رجل لا أعرفه فأعطاني الرسالة التي تسألني عنها. - أهو رجل؟ - نعم، وهو يكاد يكون من عمري؛ أي بين الخمسين والستين. - ماذا كان يلبس؟ - كما يلبس كالناس، فلم يكن في لباسه شيء من المميزات. - أليس من الغريب أن يبحث عنك هذا الرجل حتى يجدك، ثم يأتمنك على هذه الرسالة وأنت لا تعرفه؟ - كلا يا سيدي؛ فإني لا أشتغل بالغناء وحده، بل إن أكثر مرتزقي من إرسالي في مثل هذه المهمات، وفي كل يوم يرسلونني بمثل هذه الرسالة وأنا لا أعرفهم. - وماذا قال لك هذا الرجل حين أعطاك الرسالة؟ - قال لي: هل تعرف الموسيو بوفور؟ قلت: نعم. قال: خذ هذين الفرنكين واذهب إليه بهذه الرسالة. وهذا كل ما كان بيننا.
فأخذ بوفور يسير ذهابا وإيابا في الغرفة، ويقول في نفسه: إنه لا يريد أن يتكلم، ومع ذلك يجب أن يتكلم. ثم قال له: ألست تكذب يا كلوكلو؟
قال: كلا يا سيدي، فما قلت غير الحقيقة. - أما هي المرأة التي أعطتك الرسالة وأوصتك بالكتمان، أم تحسب أنه يجب عليك كتمان السر، إن جميع الناس يعرفونك بالإخلاص ويثنون عليك وإني لاجئ إلى إخلاصك. - أي معنى للإخلاص في هذا الموقف؟ فإن كل ما في الأمر أنك تسألني عما أجهله. - أما أنا فإني واثق بأنك لا تقول الحقيقة، فأصغ إلي. - كلي أذان للسمع. - إنك منذ خمسة وعشرين عاما حين سألك قاضي التحقيق عن المرأة التي كانت تصحبك لم تقل الحقيقة.
وإني واثق أن الذي أعطاك الرسالة اليوم لتوصلها إلي إنما هو امرأة لا رجل، وأنك تعرفها حق العرفان.
فجعل يضحك ضحكا مغتصبا دون أن يجيب، وحاول بوفور أن يتوعده؛ فرأى أنه ليس من الذين يخافون الوعيد، فأراد أن يستجلبه بالوعود الخلابة فقال له: إني لا أعيد عليك حكايتي؛ فإنك تعلم كيف كان اختفاؤها، وإني أفرغ مجهودي منذ ربع قرن فلم يتيسر لي كشف الحجاب عن هذا السر، ولم أعلم كيف لم أجن، بل كيف أني باق في قيد الحياة، على أني إذا لم أمت فإني شبه الأموات، وهيهات أن أشفى من هذا الجرح الذي أصابني في قلبي.
وكنت أحسب بالأمس أن ساعتي قد دنت، فكنت أستقبل الموت بملء الارتياح، إلى أن جاءني هذا الكتاب، فكان بارق رجاء أنار حياتي حتى لقد يقال إن التي أرسلته كانت عارفة بعلتي وعلاجها، فأرسلت لي الدواء لتنقذني بالرغم عني؛ ولهذا قلت لك يا كلوكلو إنك تعرف فوق ما تقول، قل الحقيقة، بل أتوسل إليك أن تقولها. - يسوءني جدا يا سيدي أن تكون واهما، وألا أكون قادرا على خدمتك في شيء. - تمعن يا كلوكلو فإن حياتي بين يديك، وإنك قادر على قتلي أو إحيائي بكلمة تخرج من شفتيك. - إنك تبالغ كثيرا يا سيدي. - إني عظيم الثروة، فما عليك إلا أن تريد فتصبح من الأغنياء فماذا تريد؟ - لا أريد شيئا؛ فإن أشتغل وأعيش مع أمي. - إن أمك عجوز فإذا كنت ميسورا زدت في راحتها، فإذا رفضت مساعدتي تكون قد أسأت إليها وإني أعطيك عشرين ألف فرنك الآن مقابل هذه الكلمة. - ولكن كيف أستطيع أن أقول هذه الكلمة وأنا لا أعرفها؟ - أعطيك خمسين ألف فرنك. - إنك لو أعطيتني يا سيدي مليونا لما استطعت أن أفيدك بشيء. - بل إنك رجل شرير. - أأكون شريرا لأني أرفض ثروة وأنا لا أملك درهما. - اعلم يا كلوكلو أني لا أعيش الآن إلا على رجاء أن أرى مرسلين، فإذا فقدت هذا الرجاء فقدت الحياة فانظر ما أنت فاعل. - أواه لو كنت أستطيع. - من الذي يمنعك عن إنقاذ حياتي؟
فأطرق برأسه دون أن يجيب، وأيقن بوفور أنه لا يبوح بما يعلمه مهما بالغ بالعطاء والدعوى، فخطر له أن يعمد إلى الحيلة، وقال له: افعل ما تشاء ولكنك ستندم الندم الشديد، وسيقتلك تقريع الضمير؛ لأنك رأيت رجلا يتعذب وأنت قادر على إنقاذه، فما فعلت. اذهب فلم يبق لك عندي غير الكره والاحتقار.
فخرج وهو على أسوأ حالات الاضطراب، ونادى بوفور خادمه وقال له: اصحبه وسر به إلى إحدى الحانات ومل عليه بالشراب، حتى إذا سكر عد إلي وأخبرني.
فامتثل الخادم مسرعا وأدركه قبل أن يخرج من المنزل وسار وإياه، وبعد ساعة بلغ الخادم الغاية منه فتركه يغني من سكره، وعاد إلى مولاه فأخبره بما فعل.
كان روبير فولون قد توله بحب مودست فلم يخفف رفض أمها غرامه، بل زاده هياما.
نامعلوم صفحہ