وكم كانت مرسلين تتعذب حين خرج جيرار من دور الطفولية، وجعل يسألها عن أبيه فيقول لها: لماذا لا تخبرينني عن أبي، أليس لي أب كجميع الأولاد؟ فتقول له: كان لك أب ولكنه مات.
ثم أصبح الطفل فتى فلم يبق بد من التصريح، ولكنها قالت له يوما: لا تسألني بعد الآن عن أبيك؛ فإنك تحبني أليس كذلك؟
قال: بل أحبك وأحترمك، وهل تشكين بذلك يا أماه؟
وكان جيرار وأخته يعتقدان أنهما من أب واحد؛ فإن أمهما لم تذكر لهما شيئا عن حقيقة أمرهما، فكان الحب الصحيح يؤلف بين أعضاء هذه العائلة.
وقد اتفق أن جيرار عاد يوما إلى المنزل وهو مقطب الجبين فسألته أمه عما به، فقال: إن مهنتنا صعبة شاقة، وهي هائلة في بعض الأحيان؛ فقد جيء اليوم إلى المستشفى بامرأة عجوز من الضواحي كان يحملها ولدها، وهي مصابة بسرطان يحتاج إلى عملية جراحية لاستئصاله، ولكن رئيس الأطباء في المستشفى يرى أن العملية يعقبها الموت لا محالة، فأبى إجراءها، والمنكودة تتألم آلاما لا تطاق.
قالت: وأنت ماذا ترى يا بني؟
قال: إني لا أرى ما يراه الرئيس، وفي اعتقادي أن العملية قد تنجح وتنجو المسكينة من آلامها. - إذن لماذا لا تعملها؟ - لأن الرئيس يمنعني. - ماذا تدعى هذه العجوز؟ - لا أذكر اسمها، ولكني أذكر اسم ولدها لغرابته، فهو يدعى كلوكلو. فاصفر وجه مرسلين وقالت: ماذا تقول؟ كلوكلو! - نعم، فهل تذكرين هذا الرجل؟ - كلا، ولكن ما زلت واثقا من نجاح العملية، فلماذا لا تجريها هنا؟ فإنه يوجد عندنا غرفة لا نحتاج إليها فتقيم فيها، ويقيم ولدها معها. - لقد خطر لي ذلك يا أماه، ولكني خشيت أن تحزنك آلام تلك المسكينة ويأس ولدها، بل إني أخاف أن يؤلمك موتها إذا لم أنجح. - بل إني واثقة بك، فجئ بها إلى هنا غدا وسأعد الغرفة.
وفي اليوم التالي جيء بالعجوز محمولة على محمل يصحبها ابنها كلوكلو، وكانت مرسلين قد تغيرت كثيرا كما تقدم، فلم يعرفها كلوكلو حين شكرها، فسارت به إلى قرب النافذة وقالت له: انظر إلي بإمعان لعلك تعرفني.
فتفرس في وجهها مليا وقال: كلا يا سيدتي فإني لم أرك قبل الآن، فهل تذكرين أني تشرفت بالمثول أمامك؟ - نعم، ولكن مضى على ذلك عهد بعيد لا يقل عن ربع قرن، وقد تغيرت كثيرا كما يظهر حتى بات كلوكلو لا يعرفني، فافترض أنه ليس في وجهي تجاعيد وأن شعري لا يزال أسود و... - اصبري اصبري يا سيدتي، فأنت ... ولكني أخاف أن أذكر اسمك. - قل يا كلوكلو فليس يسمعنا أحد. - أما أنت يا سيدتي مدموازيل مرسلين دي مونتكور؟ - نعم أنا هي، ولكن احذر أن تذكر اسمي أمام أحد. - لله! ما أسعدني بلقائك! فإني اليوم أسعد البشر؛ فقد كنت يئست من لقائك، ولو تعلمين يا سيدتي ما أصاب الموسيو بوفور بعدما توهم أنك من المائتين؛ فقد كان في حالة تدعو إلى الإشفاق، ولكني مخطئ في إعادة هذه الذكرى المؤلمة فاعذريني. - لا بأس، ولكن اعلم أني أدعى أمام الناس وأمام ولدي وابنتي مرسلين لنجون، فاحذر أن تغلط وتنادي بغير هذا الاسم؟
فدهش مما سمع! وقال في نفسه: ألها أولاد؟! ولكنه خشي أن يسألها وعاد إلى أمه.
نامعلوم صفحہ