مطالعات فی اللغہ والادب
مطالعات في اللغة والأدب
اصناف
ومن جملة تكراراته التي يعيبها على الناس ويقع فيها قوله في رده الأخير: «ليس الإطناب إكثارا، كما أنه ليس الإيجاز اختصارا، قد توجز مع الإكثار، وقد تطنب مع الاختصار، فلا دخل للإطناب والإيجاز في إكثارك، وإنما الإكثار أن تضاعف معانيك، وتتبسط فيها ما شئت وشاء المقام»، ما بالك تزري على الناس تكرار الجمل للتأكيد ثم تقول: «ليس الإطناب إكثارا كما أنه ليس الإيجاز اختصارا؟» فعلى مذهبك قد انتهى هذا المعنى هنا، وصار من الحشو أن تقول فيما بعده: «قد توجز مع الإكثار وقد تطنب مع الاختصار»، فأي معنى جديد أتيتنا به في هذه الجملة التالية؟! وأي تبسط تبسطته في المعاني هنا؟! فأنت الذي بعد هذا ينتقد قولي: «المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة» ويهزأ بعبارتي: «إن اللغة الفرنساوية التي هي أفصح لغات أوروبا لها أسلوب خاص ونمط قائم بها»، ثم يعيب قولي: «كل دور من أدوار اللغة العربية؛ سواء دور الجاهليين أو المخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي أو القرون التي بعده»، ثم يقول: «فالدور والعهد والعصر والقرون مترادفات، أجمل بقوله: كل دور من أدوار اللغة، ثم فصل بقوله: سواء دور كذا أو عهد كذا أو عصر كذا، ثم عاد فأجمل بقوله: والقرون التي بعده، لا لأنه يريد الإجمال ولكن ليأتي بمترادفاته.»
ثم أجملت بقولي: «كل دور من أدوار اللغة العربية» ثم لزم أن أفصل هذه الأدوار وأعينها ليعرف أي الأدوار التي كانت لها ديباجة تعرف بها. فقلت: «دور الجاهليين أو المخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي» فما فهمت وجه الاعترض هنا أترى عنده دور الجاهليين هو نفس دور المخضرمين، والعهد الأموي هو العصر العباسي، فلا يكون ازداد المعنى بهذا التفصيل أم ماذا؟! كما أني لم أفهم كيف أني بقولي: «والقرون التي بعده» لم أقصد إلا الإتيان بمترادفاتي، أراه ينكر فائدة هذه الجملة ويرى القرون التي بعد العصر العباسي وهي نحو ستمائة سنة هي نفس العصر العباسي؛ فلذلك يرى أن ليس من معنى جديد في ذكرها، أعترف أنني عجزت هنا عن حل معمى انتقاده، وأنا أستنجد القراء الكرام أن يفيدوني محل التكرار بدون فائدة في عباراتي هذه. كما أني أستنهض هممهم أن يشرحوا لي ما زاد الأستاذ من معاني في قوله: «قد توجز مع الإكثار وقد تطنب مع الاختصار» بعد قوله: «ليس الإطناب إكثارا كما أنه ليس الإيجاز اختصارا.»
ثم زعم أني قلت: «فللأندلس منزع ولليمن مذهب ولمصر لهجة وللشام أسلوب وللعراق نمط.»
والحال أن عبارتي هي هذه: «فللأندلس منزع يعرفه من ألف مطالعة كتب ذلك القطر، ولليمن مذهب لا يشبه مذهب المنشئين في العربية من فارس في كثير من الأمور، ولمصر لهجة خاصة يعرف الناقد البصير منها نسبة مؤلف الكتاب ولو لم يكن اسمه عليه كما ترى ذلك من ألف ليلة وليلة، وللشام أسلوب يختلف شيئا عن أسلوب أهل مصر في الكتابة وكثيرا في الحديث، كما أن للعراق نمطا غير نمط أهل الشام ومصر وهلم جرا.»
أنا أعرض هذه الجمل على كل من شم رائحة العربية وأرجو منه أن يخبرني أين التكرار الممل والحشو الزائد هنا؟ هل يا ترى إذا قلنا: «فللأقطار العربية منازع مختلفة في الكتابة» نكون وفينا كل المعنى الذي يستفاد من هذا التفصيل ولا يكون ذلك إيجازا مخلا بما نريد بيانه؟
فإن كان مثل هذا حشوا، فماذا يكون قوله هو: «وانتقل من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة» أم تكون البربرية بلا جهل، ويكون الأنس بدون معرفة؟ أو هناك فروق ودقائق لا توجد في المترادفات التي وقعت في كلامنا، وما هو المعنى الجديد المتبسط في قوله: «على غير حاجة إليها ولا فائدة منها»؛ إذ ما الفائدة مما لا حاجة إليه؟ لقد أعجبته جدا كلمته هذه حتى كررها مرارا في رده الأخير.
قال في العمود الأول من رده: «يكيلونها كيلا على غير حاجة إليها ولا فائدة منها»، ثم بعد أسطر معدودات من موضعها الأول قال: «ما من كلمة إلا ومرادفاتها معها على غير حاجة إليها ولا فائدة منها» ثم بعد أسطر من هذا المكان عاد فكررها قائلا: «دليلا جديدا على أن الأمير من أصحاب المذهب القديم وأنه لا يزال مولعا بالمترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم جاء في العمود الثاني من مقالته فقال: «أعرف كثيرين من أدباء عصر الأمير وخريجي مدرسته وأستاذه ينحون نحوه في الإكثار من المترادفات يكيلونها جزافا من غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم قال في العمود الثالث من مقالته: «انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم قال بعد ذلك بقليل في نفس العمود: «انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها فقال منشوري للعامة.» ثم قال بعد ذلك بنحو عشرة أسطر: «لا أن تضاعف ألفاظك على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم قال بعد هذه الجملة بسطرين لا غير أي حين لم يحن له أن يشتاق إلى هذه الجملة: «انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها فأحالني على صبح الأعشى.»
وبالاختصار فإنه أورد جملة هي في الحقيقة: «لا حاجة إليها ولا فائدة منها» ثماني مرات في مقالة هي ثلاثة أعمدة، ولم يكثر عليه أن يرميني بالمترادف لغير فائدة وأن ينكر أسلوب العرب الأولين أهل اللسان، وأن ينصب نفسه إماما يجب على الناس أن يصلوا خلفه، وبهذا القدر كفاية. •••
بعد تحرير هذه المقالة اطلعت على صحيفة الأدب من «السياسة» الغراء المؤرخة في 21 نوفمبر فوجدت فيها مقالتين ممتعتين إحداهما بإمضاء «صدقي» والثانية بإمضاء «علي أدهم»، كل منهما ممن يتحدى الأسلوب الغربي ويحاكي مذهب كتاب الإفرنجة على شرط المحافظة على ديباجة العربية وإفراغ المعاني الجديدة والمنازع الأوروبية في القالب المتين مما هو نكتة المحيا والغاية القصوى.
فقد تصفحت هاتين المقالتين فوجدت في أولاهما ما يأتي في ذكر رسالة الغفران:
نامعلوم صفحہ