مطالعات فی اللغہ والادب
مطالعات في اللغة والأدب
اصناف
جمل المنطق بالنحو فمن
يحرم الإعراب بالنطق اختبل
أي إن فائدته ليست في نفسه؛ بل في تجميل المنطق والتحرز من الخطأ، وبعبارة أخرى في إقامة الملكة العربية. ولكنهم تدرجوا فيه من العناية به إلى الإخصاء فيه إلى اعتباره غاية يطلب لنفسه، فخصصوا له مدارس لا يعلم فيها غيره، منها المدرسة النحوية في جوار المسجد الأقصى في القدس؛ بل كان هو الغاية من كل دروس اللغة والأدب، وما من كتاب أو شعر أو قول أو مثل أو حديث شرحوه إلا عنوا بإعرابه وتطبيقه على قوانين النحو؛ بل ما من كتاب في اللغة أو الشعر أو الأدب أو الأخبار أو التفسير أو غير ذلك حتى مما لا علاقة له باللغة إلا وفيه نحو؛ بل قد تجد من دقائق النحو في غير كتب النحو ما لا تجده في أمهات كتبه. وما من علم شاعت اصطلاحاته وأمثاله ولغته على ألسنة الناس حتى الأميين منهم مثل علم النحو، من ذلك أنهم إذا أرادوا أن يقولوا: «ليس إلى هذا الشيء حاجة» قالوا: «لا محل له من الإعراب»، وإذا أرادوا أن يقولوا: «فات الشيء» قالوا: «أصبح في خبر كان»، وإذا أرادوا أن يقولوا: «وغير ذلك»، قالوا: «وهلم جرا» أو «وقس عليه ما ورد».
وقوانين النحو كانت في أصلها قليلة على قدر ما دعت إليه الحاجة لأول عهد الملكة بالفساد، ثم توسعوا في الاستنباط إلى ما تقتضيه الصناعة لا الحاجة، ثم خرجوا بها إلى مماحكات لا طائل تحتها، مما أوشك به علم النحو بعد نضجه أن يحترق.
إذن كان النحو آلة فأصبح غاية، وكانت قوانينه على قدر ما تقتضيه الحاجة فتوسعوا فيها إلى ما لا تقتضيه، وقد كان الغرض منه على اعتباره آلة، وعلى الوقوف به عند حد الحاجة - إقامة الملكة كما تقدم، وكان ذلك لأن اللغة بملكتها تبقى ببقائها وتفسد بفسادها وتذهب بذهابها، ولا يغني اللغة إذا ذهبت ملكتها أن يكون لها ألفاظ ومعاجم ألفاظ؛ فإن الألفاظ تقل وتكثر وتتطور، يندثر منها ما يندثر، ويتولد فيها ما تقتضيه الحاجة ويتحول عن معناه منها ما يتحول، فإذا بقيت الملكة فاللغة باقية قلت ألفاظها أم كثرت، وتحولت عن معانيها أم لم تتحول. ألا ترى أن ملكة الطفل في اللغة العامية مثل ملكة الرجل فيها على اختلاف في مقدار ألفاظهما؟! ولما كان العرب حريصين على ملكتهم - وحقهم أن يكونوا حريصين عليها - استنبطوا قوانينها ومقاييسها ووضعوا حدودها إلى ما لم يجارهم فيه أحد، حتى إذا تحيفتها الركاكة وطغت عليها العجمة توصلوا بتلك القوانين إلى إصلاح ما فسد منها وإرجاعها إلى أصلها.
ولكن ما هو أثر هذه القوانين في تلك الملكة؟ هذا ما يجب أن نستدعي الانتباه إليه.
قال ابن خلدون: «إن العلم بقواعد الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل؛ ولذلك نجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته، أو شكوى ظلامة، أو قصد من قصوده، أخطأ فيها عن الصواب، وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد من يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين في المنظوم والمنثور وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئا من قوانين صناعة العربية، فمن هذا تعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة. وقد تجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيرا بحال هذه الملكة وهو قليل واتفاقي.»
هذا ما قاله ابن خلدون، فالأنواع ثلاثة: من يحسن الملكة ولا يحسن الصناعة، ومن يحسن الصناعة ولا يحسن الملكة، ومن يحسن الملكة والصناعة معا. وفي الحقيقة أن النوع الثالث - على كونه قليلا واتفاقيا - هو من النوع الأول في إحسان الملكة، ومن النوع الثاني في إحسان الصناعة، لا نوع قائم بنفسه ولا أثر لإحسانه الواحدة في إحسانه الأخرى، وإلا فلماذا لا يحسن الملكة من يحسن الصناعة؟! ولا يحسن الصناعة من يحسن الملكة؟! وقد بين ابن خلدون سبب إحسان القليلين الملكة والصناعة معا بقوله:
أكثر ما يقع ذلك للمخالطين لكتاب سيبويه، فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط؛ بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعلم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه والمحصل له قد حصل على حظ من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعلمها فكان أبلغ في الإفادة.
أي إنه تعلم الملكة على حدة من مخالطته لما جاء في الكتاب من كلام العرب، وتعلم الصناعة على حدة مما جاء في الكتاب من قوانين الإعراب، فلو خلا الكتاب من قوانين الإعراب لما أثر ذلك على الملكة شيئا، فالملكة إذن مستغنية عن الصناعة، ولا أثر للصناعة فيها. •••
نامعلوم صفحہ