ثم قامت مظهرة أنها قد سئمت الجلوس، وتود أن تتمشى قليلا، ودنت من الفتاة، وقالت لها: ألست فلانة ابنة ذلك الرجل الغني، قالت: بلى أنا هي، قالت: ما فعل بك الدهر، قالت: فعل ما ترين، فقد غدر بي فلم يترك لي أهلا ولا مالا، قالت: هكذا الدهر يخفض ويرفع، ولطالما نصحتك فلم تسمعي نصيحتي، وكنت تسخرين مني ومن اجتهادي في العلوم، وطالما أكرهت النفس على ما لا تحب حتى بلغت الآن ما أهوى، أما أنت فقد تبعت هوى النفس حتى وقعت فيما تكرهين، قالت الفقيرة: إنك تشمتين بي على أني وإن كنت في تلك الحال فقد علم الناس أني أرفع منك بيتا، ولي من الفخر بأجدادي ما ليس لك.
قالت الغنية وقد انحنت عليها ورقت لها: لم أقصد بك شماتة أيتها الصديقة، ولكني أردت أن أنصحك، أما قولك إنك أفضل مني عنصرا، فلا فخر لك في ذلك؛ لأن المرء أقرب إلى نفسه منه إلى أجداده، فإن فخرت علي بما أسسه أجدادك من المجد فلي أن أفخر بما أسسته أنا، ولتعلمي، أنك هدمت ما بناه جدودك، أما أنا فقد بنيت لي من المجد والشرف ما عجز أبي عن الوصول إليه، وهناك بون بعيد بين الهادم والباني، فمن أحق منا بالفخر؟!
فأطرقت الفتاة إلى الأرض ساعة، ثم قالت: نعم، قد هدمت بجهلي ما بناه أبي وجدي، فبئس الخلف أنا، وقد جازاني الدهر على سوء فعلي، وكفى بفعله تأديبا، فاتركيني ونفسي يا رعاك الله، وانصرفت عنها وقد اغرورقت عيناها بالدموع، فاستوقفتها الغنية قائلة لها: لم لا تحبين البقاء معي، لعلك تظنين أن سينالك مني ما نالني منك أيام فقري من الإهانة والسخرية، وحاشا لله أن أفعل ذلك بعدما شرفني به الله - سبحانه وتعالى - من العلم، وستجدين في صديقة حميمة تساعدك على مصائب الدهر؛ لأريك الفرق بين الجاهل والمتعلم، وربما قدرت أن أعيد إليك بعض مجدك السالف، فدهشت الفتاة لذلك، وقالت: أوفاعلة أنت ما تقولين، فقد والله سئمت الخدمة ولم أعتد ذلك من قبل؟ قالت: نعم سآخذك معي ترأسين منزلي إن شئت، فشكرت الفتاة لتلك المحسنة عظيم إحسانها، وقبلت منها ذلك، وأنشدت تقول في مدحها:
لك الفخر فاجني في سرور وغبطة
ثمار اجتهاد آن وقت جناها
حملت على النفس الأبية ضيمها
فنالت على بعد المرام مناها
سلكت سبيل المكرمات وأومأت
يمينك تهدي من أراد هداها
وقدت زمام الغانيات إلى العلا
نامعلوم صفحہ