مصطفى النحاس

عباس حافظ d. 1378 AH
66

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

اصناف

وكان الجيش المصري يومئذ في أيدي رؤساء وقواد من الجركس والأتراك والأروام، يظفرون هم بأكبر المراتب فيه، ولا ينال المصريون من ذلك غير يسير، وكان أحمد عرابي الذي وجد عنتا واضطهادا من أول عهده بالحياة العسكرية ؛ بسبب نقمة هؤلاء عليه وكراهيتهم له لما ظهر من أنفته وبغضائه للظلم، قد أصاب في زملائه والجنود المصريين من أبناء قومه محبة ومكانا بارزا، فراح يمثل الجماعة في المطالبة بالمساواة والمناداة بالمعدلة والإهابة بالوالي إلى الإنصاف.

فما لبث أن نشأ في البلاد روح ثائر مضطرب خليط بين حركة سياسية تريد أن يكون الأمر لحكم الجماعة، وحركة عسكرية في الجيش ترمي إلى المساواة وإقرار العدالة.

وجاء اليوم الرهيب الذي يبدو فيه ذلك الروح ماثلا متجليا، جاء اليوم الذي شهدت فيه ساحة عابدين كتائب الجيش وحشود الشعب من خلفه وقد ملئوا رحابها، وعلى رأسهم الزعيم عرابي على صهوة جواده؛ ليعرضوا مطالب الأمة على واليها، ويستحثوه قضاءها باسم العدل والحق والقانون.

كان ذلك هو اليوم التاسع من شهر سبتمبر سنة 1881، بل كان ذلك اليوم الخالد هو الذي أولد الدستور وأقام الحكم النيابي، وبرز فيه انتصار الجماعة، وارتفع فيه صوت الشعب يملأ الفضاء ويقتضي الاحترام، ويوجب الاستماع إليه والإذعان.

وقد تألف عقب ذلك فعلا مجلس نيابي، ووضع دستور نظم الحدود بين الحاكم والمحكوم، ولو أن الأمر يومئذ ظل متروكا للنظام النيابي، لتغير تاريخ مصر في العصر الحديث.

ولكن الدسيسة بدأت تعمل نقمة من الدستور، كما نقمت منه بعد ذلك أكثر من مرة؛ لأنه سياج الاستقلال وسور الحرية، والحصن المنيع لوقاية كيان الجماعة. واختارت الدسيسة الاستعمارية لقضاء غاياتها فكرة خطيرة وأداة رهيبة وحيلة ماكرة، وهي أن العرش في خطر وأن الحاكم يوشك أن يحاط به، وأن حياة الأجانب في البلاد يخشى عليها السوء والغوائل والعدوان.

وهكذا رأت إنجلترا التي كانت راصدة لمصر منذ فجر القرن التاسع عشر أن الفرصة قد سنحت لها بعد سنين طوال وأدوار متعاقبة، حاولت في غير مرة أن تتملكها فلم تنل منها حين كان لها جيش قوي يحمي الذمار، ويصون الكيان، وأن الظروف قد واتتها لتحقيق ذلك الحلم الطويل والأمنية الصبور المتئدة المترقبة، فلم تتردد في الاستعانة بالدسيسة على معاودة الكرة والرجوع إلى المحاولة، وهي أكبر أملا وأيقن بالنجاح.

وبدأت دسيستها بتأليب الدول على مصر وإثارة سخط الرأي العام في أوروبا عليها بتصويرها في صورة الثائرة على الأجانب، الهامة بهم، الموشكة الانقضاض عليهم، ولم تكتف بذلك التأليب المحرش المخيف، بل راحت تدبر في الإسكندرية مذبحة رهيبة، فكانت حوادث 11 يونيو سنة 1882 التي سفكت فيها دماء عدة مئات من الأجانب والوطنيين.

وانثنت إنجلترا عقب تلك المذبحة تنادي الدول إلى وجوب التدخل لكبح جماح الثورة، والدفاع عن العرش، وحماية أرواح الأجانب، وكان غرضها الخفي من هذه الدعوة أن تعود فتحتال حيلتها لكي تستأثر هي بالتدخل وحدها إذا حان الحين وتواتت اللحظة المناسبة.

وتوافت الدول يومئذ إلى مؤتمر الأستانة لتقرير خطتها إزاء مسألة مصر؛ ولكن إنجلترا الداعية إلى عقده كانت تخدع به لتخفي نيتها، وتحجب مقاصدها خلف هذا الستار الذي أقامته.

نامعلوم صفحہ