مصطفى النحاس

عباس حافظ d. 1378 AH
52

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

اصناف

وفي الحق ما أحوج الرجل العظيم إلى المرأة العظيمة، فهي بلسم جراحه من سهام الأعداء، وسلواه الآسية في الوعكة والداء، وعزاؤه إذا شح أو عز عليه العزاء! ويوم تجيء السيدة العظيمة للرجل العظيم نعمة من السماء؛ يركب الطريق إلى النجاح، ولا يبالي أن يعود من المعارك مثخنا بالجراح؛ لأن هناك روحا بجانبه تمسح عن نفسه، وتفيض على إحساسه، بل إن هناك لعاطفة متلاشية فيه، وشخصية يحتويها وتحتويه، وفهما سريعا يفطن إلى معانيه، وحبا يغمره، وبرا يشمله، ووفاء يغذيه، ونصيرا غالبا حافزا أبدا إذا احتاج إلى النصير.

وفي تاريخ العظمة والنبوغ والزعامة رجال هوت بهم نساؤهم، ورجال كانت نساؤهم كواكب سعودهم، وكان نصيب سعد هذا النجم السائر بسعده، والكوكب الهادي إلى مجده، والقرين الحافز إلى مضاعفة جهده، وكأنهما على موعد من الأقدار تلاقيا، ووحي من السماء تدانيا؛ ليكون هو عميد أسرة من الملايين، ولتكون هي فيهم الأم الرءوف الحنون، وهما نعم الوالدان لشعب من البررة الأبناء المخلصين.

وكذلك هيأ القدر الحارس لسعد الزعيم القرينة الصالحة لمثله، والزوج الخليقة به، والشريكة المعوان له، إن طلب الصبر عندها وجده، وإن اقتحم المخاطر، لم تمنعه ولم تصده، شجاعتها كشجاعته، ووطنيتها من وطنيته، وبسالتها قرينة بسالته، وفطنتها شعاع سني يجاوب تيار فطنته، ومواهبها جميعا عند مشيئته، وهي زوجه وابنته وصديقه وشريكته، وهو عندها الزوج والوالد والصديق والشريك والولي الأمين ...

وقد خاضت هذه السيدة الفاضلة مع سعد مكاره وخطوبا، واحتملت الآلام معه حضورا ومنأى وغيابا، حتى أكرهت خصوم زوجها على احترامها، وأخبرتهم بشهامتها، وقوة صبرها، وعزتها وإبائها، على أن ينظروا إليها بعين الإجلال والتقدير.

وأشد ما تكون أم المصريين بروزا في الطليعة، واستباقا في صدر الجماعة، واجتماع بسالة وصبر وشجاعة، في عهود المحن العامة، وفترات الحكومات الغاشمة، والشدائد الكارثة الطامة، فإن أولئك جميعا أكبر مجال لوطنيتها، وأفسح الميادين لصولة حميتها، وظهور عظمتها وبسالتها، وإنها لتتقدم إلى المخاطر وتتجلى في المكاره، وتصمد للشدائد والعواصف، وإنها لتحنو على الضعفاء في المحن، وتأسو جراح المنكوبين ساخرة من الحتوف، هازئة بالمصاعب، مستخفة بالمشاق، لا تبالي مقاومة، ولا تعبأ مناواة، ولا تعرف الرجوع إذا ما أهاب بها الوطن أن تقدمي، ولا تحفل أساليب الغاشمين.

وقد احتملت في العهود الغابرة نصيبها الكبير من مساويها، وشطرها من مناكرها، وأرصدت الأشراط على دارها، وأقيمت القوات في طريق مسيرها، فلم يصدها ما منعت السياسة الغاشمة عن عمل وطني تؤديه، وإقدام رائع تبديه، وعزاء مرفه للجرحى تقدمه، وبر بالأرامل والأيامى والمعوزين تزجيه، وإحسان تقوم به في مقدمة المحسنين.

ومنذ رحل سعد إلى جوار الله، وهي كما علمت مصر وعرف العالم كله السيدة الراجحة الرأي، الكبيرة الفؤاد، المعروفة بالأصالة والسداد، أخذت من العلم بأوفى الأنصبة، واشتركت في النهضة بالنبوغ والموهبة، وأسهمت في الجهاد مع خليفة سعد ومتمم رسالته وصاحب بيعته، ورجحت بعشرات الألوف من الرجال، وأظهرت في الملمات شجاعة الأبطال، وكانت أبدا حربا على الظلام والمتجبرين.

ولا يزال فضلها بارزا على الحركة الوطنية بما ظلت على السنين تبثه في النفوس من روح الإيمان، وتتعهد به النهضة من المثل العالية، والوطنية السامية، وما تمحضه الزعامة من حكيم الرأي، وصادق الفكرة، وسديد الإلهام، ومتواصل التأييد.

واليوم في ثوب هذه السيدة الجليلة ذكريات سعد كلها، ورائحة سعد بأنفاس عطرها، وعظمة سعد بروعتها وجلالها، وأفق سعد الذي كان يعيش فيه، وملاذه الذي كان يحتويه، فلا عجب إذا كان المصريون جميعا لشخصها مكبرين، ولمكانتها العالية حافظين، ولا غرو إذا أكبروها مرتين، مرة في سعد لها، ومرة في ذاتها لفضلها، واجتمعوا على الولاء لها شيوخا وشبابا وعذارى وبنين.

وأمام هذه السيدة العظيمة تقف الإنسانية وقفة الاحترام؛ لأنها مثال رفيع لنبالة المرأة، ووطنية المجاهدة، وشجاعة السيدة، وسمو عاطفة الوفاء، وحنان غريزة النساء، ومعنى جديد في الشرف، وظاهرة جليلة في حياة المجاهدين. •••

نامعلوم صفحہ