ولكي نبين كيف تفعل المخاوف والصدمات القديمة في هدم النفوس، وكيف تحدث حالات الرعب والفزع التي وقعت للناس في الطفولة، ثم مع الزمن والتقدم في العمر ذهبت نسيا منسيا، من سوء الأثر في الحياة العملية وعهود الرجولة أو الشباب - نقص الآن عليك قصة رجل اعتاد في الاجتماعات الكبيرة الجلوس قريبا من محل الخروج وباب الانصراف، حتى لقد غلبت عليه هذه العادة فلم يكن يخالفها في أي اجتماع، أو يشذ عنها في أية حفلة من الحفلات، ثم حدث يوما أن طلب إليه عند إعداد برنامج احتفال ما أن يلقي خطابا باسم الجماعة التي يمثلها فيه، وكان الحفل سيقام في بعض المسارح الأهلية، فلما نهض ليخطب القوم لم يلبث أن تولاه رعب شديد، وشعر كأنه قد وقع في فخ، وراح يدور بعينيه حوله ملتمسا سبيلا إلى الخروج، وقد بلغ منه الروع كل مبلغ حتى لقد جرى تاركا المسرح لا يلوي على شيء إلى الشارع في فزعة الهارب الباحث عن النجاة.
ولما ثاب إلى نفسه تبين له أن هذا الذي كان منه لا يمكن أن يكون مجرد فزع من وقفة المسرح، وذهب يستشير أحد الأطباء النفسيين، فلم يلبث هذا أن كشف سر هذا التوهم العجيب، فقد حمله الطبيب على أن يتذكر حادثا معينا وقع له في طفولته، فتذكر أنه حبس ذات مرة وهو في البيت صغير في غرفة مظلمة عقابا له على هفوة اقترفها، ففيما كان جالسا وسط الظلام في جوف ذلك المحبس الصغير، هاجمته فأرة كبيرة فروعته وأخافته أشد الخوف، وقد ظل أثر هذه الصدمة أو الهزة المروعة باقيا دهرا طوالا مع زوال الحادث ونسيانه، حتى اتخذ خوفه من الاحتجاز في مكان محصور حالة باثولوجية عنده ؛ أي أصبح «مرضا» متأصلا فيه، متمكنا منه، ولكنه وقد انكشف سر الحادث الذي وقع له في الطفولة، وفهمه هو حق الفهم، واقتنع بصحته تمام الاقتناع، لم يلبث أن كف عن خوفه، وعدل عما كان ملازما له.
وكثيرا ما يعتري بعض الزعماء والموكلين بالرياسات أو المشرفين على مجاميع من العمال أو الموظفين حالات توهم غريب يخيل لهم أنهم مطاردون أو مضطهدون أو غرض أعداء مستخفين وخصوم يسخرون منهم، وهي حالات نفسية مرضية، ناشئة من اضطراب ذهني كلما حاول المرء الخلاص منه أو تهدئة ثائرته وإزالة أعراضه، جنح إلى تفكير خاص أو تعليل ما للموقف الذي يشاهده، أو الحالة الراهنة التي تحيط به.
ومثل المصاب بهذا ونحوه قد يرى مثلا رجلين قد وقفا في ناحية يتحدثان أو يتخافتان بقول، فيقر في خاطره أنهما لا بد من أن يكون حديثهما عنه، وأنهما بلا شك يتساران بشأنه، ويتهامسان عليه أو يكيدان له كيدا.
وقد يحيي أحدا من الناس فلا يسمع هذا تحيته، أو يكون منشغلا في تلك اللحظة بالذات فلا يردها بمثلها أو أحسن منها؛ فيتبادر في ذهنه حالا أن ذلك الشخص يكرهه أو ينقم عليه، وقد يرى في أشياء أخرى من هذا القبيل أو من محض المصادفة ومجرد الاتفاق ما يبعثه على الظن بأن القوم يدبرون له مؤامرة أو يبتغون به ضرا أو يكنون له العداوة والبغضاء.
والعلة هنا أكثر ما تكون في حالة الشخص ذاته، ومن ثم ينبغي تشخيصها، ويجب فحصها والعناية بعلاجها، وقلما تكون في الحوادث والوقائع والملابسات التي يتوهمها، ويرجع بواعثها إلى ذلك الذي يدور في خلده ويضطرب به وجدانه.
وهذا ما يحدو بكثير إلى الاعتقاد بأن هذه الخوالج والتوهمات راجعة إلى بعض عيوب أو مناقص في الأشخاص لا يريدون الاعتراف بها، ولا ينزعون إلى التصديق بأنهم متأثرون بها؛ فلا يسعهم إلا محاولة الاعتذار عنها أو التعليل لها بأمثال هذه الأوهام الكاذبة، وبرد اللائمة على غيرهم فيما يعانون منها؛ مع أن الواقع أن العلة فيهم، وأنهم مرضى بمخاوف تصورية ليس لها من حقيقة ولا أساس.
ويروى عن أستاذ في بعض الكليات أن رئيس الجامعة تحدث إليه يوما في أمر توليه مقاليد منصب العميد فترة قصيرة من الزمن في غيبة عميدها الأصلي، ولم يكن الأستاذ قد جرب ولا اختبر من قبل أعمال الإدارة، فلم يكد يتلقى هذه الفكرة حتى أحس فعلا وسواسا شديدا يوحي إليه الريب في مقدرته على الاضطلاع بذلك الواجب، والقيام بذلك العبء؛ فلبث مترددا غير مستقر على رأي قاطع في قبول المنصب أو رفضه، وأخيرا انثنى رئيس الجامعة يقول له: «استمع لي أيها الأستاذ ... كلنا يخطئ، وما من أحد سلم من الغلط، وأنا أخطئ وأنت بلا ريب سوف تخطئ، ولكني واثق أنك ستؤدي عملا حسنا في هذا السبيل، وستجد مني كل معونة وتأييد.» فلم ين الأستاذ أن وجد في هذه الكلمات الطمأنينة إلى القبول؛ لأنها قوت إيمانه بنفسه، وأزكت ثقته بذاته، فأحسن كعميد غاية الإحسان.
وهكذا لا تخلو هيئة من الهيئات الكبار من أناس خلقاء بالقيادة، أحرياء بالرياسة، ولكنهم يخشون المحاولة، ويخافون العمل، ويقوى في نفوسهم الشعور بالعجز، والإحساس بالقصور، فلا يملكون الفرار منه، والتخلص من تأثيره، وقد يكون سبب هذا الشعور فيهم عاملا نفسيا، ولكن هذا العامل يمكن أحيانا التخلص منه بالمحاولة والرياضة وغلبة الإرادة.
ويصح للزعيم إذا هو رأى رجالا يتوسم فيهم المقدرة على حمل المسئوليات الجسام والبروز إلى مواضع القادة في الصفوف، ولكنهم يتراجعون دون المحاولة، ويتأبون الرياضة على الاضطلاع بها - أن يعينهم ويأخذ بأيديهم ويساعدهم على قفز الحواجز، والوثوب فوق الحوائل، واقتحام العقبة، إذ من السهل للغاية المرور على رجل من هؤلاء يقول إنه لا يريد تقدما، ولا يحب استعلاء؛ ولكن من الخير، بل كل الخير، في محاولة اكتشاف الباعث الذي يبعثه على رفض احتمال المسئوليات الكبار، حتى يتبين تماما أنه في رفضه ذاك غير متلمس معاذير عن قصور لا أصل له، وعجز متوهم متخيل لا يستند إلى حقيقة.
نامعلوم صفحہ