وقد وصف الكاتب الإنكليزي الكبير «ليتون استراشي» في كتابه عن ترجمة حياتها، مظهرها الرائع على أثر نعي الملك الراحل وارتقائها العرش خلفا له، فقال: إن جموع الأشراف والأعيان والأساقفة والقواد والوزراء كانوا حاشدين في انتظار قدومها، فلم يلبثوا أن شهدوا الأبواب قد فتحت، وإذا بفتاة قصيرة القامة ناحلة البدن متشحة بالسواد قد دخلت عليهم وحدها، فمشت إلى مقعدها بجلال غير مألوف ومهابة نادرة، فرأوا حيالهم طلعة ليست جميلة ولكن أخاذة، وجدائل شقراء كالذهب، وعينين زرقاوين نجلاوين، وأنفا دقيقا أقنى، وفما مفتوحا تبدو منه نواجذه العليا، وذقنا دقيقة، بل رأوا فوق ذلك جميعا أبلغ أمارات النقاء والوقار والجلال والصبا، وفي أتم الهدوء ورباطة الجأش سمعوا صوتا عاليا ساكن النبرات لا يضطرب ولا يتلجلج وهي تقرأ بأتم الوضوح وأجلى البيان، ثم لم يكد الاحتفال ينتهي حتى رأوا ذلك القوام الصغير ينهض من مجلسه، وبذلك الجلال ذاته والمهابة نفسها، ينثني منصرفا من المجلس كما دخله أول مرة ...
ولعل أقرب شبه إلى هذا المثال البديع على الاتزان في الحداثة والوقار والجلال في موقف من هذه المواقف الرهيبة، ما كان من ملكنا المحبوب، وصاحب عرش بلادنا المفدى، الملك الشاب الجميل الجليل فاروق، الذي أحبته أمته وهو أمير، وتطلعت بأبصارها وقلوبها إليه وهو في المهد صبي، وفي الطفولة عزيز، وفي الحداثة مليك منتظر، تتلهف على سماع أخباره، ويشوقها علم حركاته وسكناته، وملاعبه ودراسته، فلما قضى أبوه الملك الكبير الرهيب، أحست البلاد حنانا بالغا على ملكها الشاب، وشعرت برفق متناه به، مخافة أن يكون الموقف أكبر من سنه، والحادث العظيم أشق عليه، فإذا هي تحس مع الأسى له، الإعجاب الرائع به، وتشعر مع الحزن لحزنه بالإجلال لجلاله ورهبه، فقد تلقى الحادث وهو عن البلاد مغترب، بكل الرزانة الملكية الخليقة به، وسلك في تلك المناسبة أروع مسلك، وزان الإمارة باتزانه، وجلت الملكية بهدوئه السامي ورباطة جأشه العجيبة وقوة جنانه، ورفعة وجدانه، حتى تضاعف حب الشعب له، وازدادت الأمة تفانيا فيه وولاء.
جلالة الملك فاروق عند حضوره من إنجلترا يوم 6 مايو سنة 1936، في طريقه إلى ضريح المغفور له والده لزيارته.
ولا غناء للزعامة عن الحلم والتغلب على الانفعال وقهر سورات الغضب؛ لأن من يحتد ويغضب يفقد حجته ويضيع قضيته، وقد حدث يوما أن الكاتب الأمريكي العظيم رالف والدو إيمرسون وقف خطيبا في جمع من الناس وراح يلقي عليهم كلاما يسوءهم، وقولا لا يروقهم، فما لبثوا أن قابلوه بالهتاف الساخر والضجيج المتعالي، والاحتجاج الثائر، حتى أكرهوه على النزول من فوق المنبر، فنزل غاضبا متهيجا، وانصرف إلى داره منفعلا ثائر الإحساس، ولكنه ما لبث إذ بلغ البيت أن شهد الكواكب الساطعة تطل عليه من خلال أغصان الشجر وأفنان الدوح كأنما تقول له: ما بالك هكذا أيها الإنسان الصغير متهيجا ثائرا لهذا الأمر التافه؟ فما عتم أن هدأ وسكن.
وقد وصف أحد الزعماء بأنه قد أوتي المقدرة العجيبة على ضبط حركات وجهه وخوالج سحنته، حتى إنه إذا أراد أن يخفي مشاعره لم تبدر منه مطلقا بادرة من هزة أو اختلاج تنم عما في نفسه، وتكشف عما يضطرب في خاطره ويجري في خلده. كما قيل عن الرئيس هوفر إنه قد ظل أبدا الحريص على ضبط النفس، فما شوهد مرة منفعلا ولا رؤي ذات يوم غاضبا أو خارجا عن طوره، وما تكلم يوما كلمة لم يتدبرها مليا قبل أن يدعها تخرج من بين شفتيه.
ومما يذكر عن أخلاق فورد صاحب مصانع السيارات المشهورة أنه لم يشاهد يوما طائر الفرح بعظمة عمل أداه، ولا رؤي مطلقا العنان لسرور بالغ أو فخار ظاهر أو خيلاء متناهية إذا سمع يوما مديحا لعمله أو ثناء بالخير عليه.
ومن أدلة السمو الخلقي والحلم الرفيع أن يظل الرجل منا باسما بسمة السخرية حيال من يحاول إغضابه ويستثير غيظه، إذا كان هذا الشخص دونه قدرا ومكانة، فقد قيل عن بوكر واشنطون زعيم زنوج أمريكا ومحررهم العظيم من رق البيض: «لقد كان أبدا الباسم الرفيق المتلطف، لا يجادل ولا يماري ولا يشتجر.»
هنري فورد - ملك السيارات.
ولا ننسى أن مراعاة شعور الغير والأناة والتؤدة في الحكم على الرأي العام صفة من صفات الزعامة، كما أن الامتناع عن إظهار الرأي أو المصارحة بحقيقة الإحساس والشعور حتى تحين المناسبة وتسنح الفرصة الملائمة يقتضيان درجة خاصة من ضبط النفس، وفي ذلك يقول بوكر واشنطون: لقد طلب إلي كثيرون أن أقول كلمة في الصحف بسبيل إهدار دماء الزنوج في بعض الولايات، ولكني ظللت معتصما بالصمت في ذلك الحين؛ أي بينما كانت هذه الجرائم تقترف جهرة وعلانية؛ لأنني كنت أعتقد أن الرأي العام لم يكن في حالة تدعه يستمع إلى رأي في هذا الشأن، ولا يرتضي مناقشة فيه، وإنما يحسن الانتظار حتى تهدأ المشاعر، ويزول الهياج، ويعاود الناس الحكمة والسكينة.
ومن الزعماء من يفسد أمره بكثرة الكلام، ولا يعرف كيف يحتفظ برأيه في ذات صدره، ومنهم من لا يبلغ مكانا طيبا؛ لأنه قد ألف أن يقول للناس عن آرائه فيهم ويتحدث عن شئون الغير في غيابهم، ولا يقدر على إخفاء أمر أو كتمان شيء، ومن ثم لا يحس الناس له ذلك الجلال الذي يغمر الزعيم المتئد الوقور الذي يتحدث بميزان، ويتكلم متحفظا غير متهافت على الإعلان والبيان.
نامعلوم صفحہ