146

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

اصناف

ولكن مصطفى النحاس لم يكن يسعه غير أن يرفض في تلك الظروف الرهيبة، وسط ائتلاف لا شك في أن بعض أضلاعه تختلج لثروت ومشروعه، وتميل إلى الانتهاء من القضية، على أي لون يكون الانتهاء، ولكن لم يكن هذا كله في الاعتبار والميزان ليرجح عنده فوق اعتزامه الرفض؛ لأن القبول في اعتقاده، خطوة مودية، وعمل أثيم.

كان الموقف جليلا رهيبا، موقف زعيم لأول عهده بالزعامة، أمام إغراء عظيم يهز أكبر القلوب، ويوسوس لأقوى العزمات، ويخيف الإرادة ويزعزع الشعور؛ لأنه يتعلق بمصير أمة، ومستقبل شعب، ومصالح ملايين!

وقد كان لذلك الحوار أثر بليغ في نفس لورد لويد؛ لأنه أثبت جوهره في كتابه، وإن جعل يهون من مسئولية مصطفى النحاس بسبيل موقفه، قائلا إنه لم يكن على النحاس باشا أية مسئولية، إذ كان واثقا من تأييد الرأي العام له، مهما كان الموقف الذي يحتمل أن يقفه منافيا للحكمة والسداد!

وراح ثروت باشا يعرض وثائق المحادثات على زملائه الوزراء في جلسة رسمية، على أن يدعوهم لجلسة أخرى لإبداء رأيهم فيها؛ وذهب مصطفى النحاس باشا من جانبه يعرض الأمر على الوفد في عدة جلسات طويلة، فرأى الوفد بالإجماع رفض المشروع المعروض، للأسباب ذاتها التي بسطها مصطفى وشرحها لهم؛ فلقيت المعاهدة الثروتية بذلك قضاءها المحتوم، وحلت عليها الخاتمة القاضية.

وبقي أمر الوزارة القائمة في الحكم ومصيرها، فرأى الوفد أن يسعى بكل قواه للاحتفاظ بوحدتها، والحرص على استمرارها، والسير بالسفينة في طريقها؛ فتحدث إلى ثروت باشا أحاديث كثيرة يريد بها أن يجعل رفض المشروع بالإجماع لتخرج الوزارة من الأزمة سليمة ناجية لمتابعة أعمالها ومواصلة حكمها، كأن المحادثات لم تغن بالأمس ولم يكن لها أدنى وجود؛ كما أن الوزراء أنفسهم اتفقوا فيما بينهم على صيغة للرفض يحسبونها أقرب إلى قبول ثروت باشا من غيرها، ولكنه رفض بتاتا أن يتعرض الرد لقواعد المشروع وجوهره، وأصر على أن يكون إبلاغه وزارة الخارجية البريطانية منحصرا في رد الوزارة على حدتها، وأن يلحقه هو بكتاب استقالته.

وتقدم رد الوزارة على المشروع إلى الحكومة البريطانية على يد ممثلها في مصر في الرابع من شهر مارس، وهو اليوم ذاته الذي رفع فيه ثروت باشا إلى القصر كتاب الاستقالة، وكانت البلاد يومئذ في حماسة الغضب من المشروع، وغضبة استنكاره والاحتجاج عليه. واشتد القلق بالنفوس، واستولت على الأذهان أسوأ الظنون، وراح الناس يتساءلون: هل من خطر على الدستور ومصيره؟ فقد ألفوا أن يروا كل تجربة فاشلة في باب المفاوضات تنتهي للدستور بسوء، وتجد شفاء حقد أصحابها في النيل من الحياة النيابية أي منال.

ولم يكن ثم شيء يومئذ يحمي الدستور غير قيام الائتلاف، على ما كان يسري تحته من تيارات خفية، وما كان يجري خلف جبهته من ألاعيب. ولكن الأمة كانت عن استمراره راضية، وفي قيامه ومواصلته متشددة؛ فلم يجد أحد من الذين ينتسبون إليه من أشخاص الأحزاب الجرأة الكافية ليكون أول المنشقين عليه، والضاربي المعاول في بنائه؛ فثبت هؤلاء في مواضعهم من الائتلاف يرقبون تطورات الحوادث، ويرصدون الأفق السياسي على الأيام.

ومضت فترة قصيرة عقب تقديم الاستقالة، والجو غامض، والأفق مكفهر، والظنون مساورة، وحمية الطلاب والشباب قد غلبت إرادتهم، فلم يستطيعوا لها كبحا. وكان مصطفى النحاس إزاء المظاهرات التي كانت تقوم يومئذ منهم ينصح لهم بالتزام السكينة، في لغة الأبوة الناصحة، وحكمة السياسة المتزنة الحصيفة؛ وكانت الوزارة قد كفت عن تصريف الأمور، فراح الإنكليز المشرفون على البوليس يتناولون الأمر في أيديهم، ويحاولون الاحتكاك بمشاعر الشباب ليثيروا في الأفق غبارا متعاليا، فيزداد الأمر سوءا، وتستحكم الأزمة حلقات، ويستنفر الغضب الشباب كل مستنفر!

ولكن الوفد كان حكيما كدأبه، فأمسك زعيمه الشباب إلى جانبه، وباعد بينهم وبين تهور الحماسة، في موقف خطير يقتضي التدبر والتأمل والسكون.

وما كاد رد الوزارة المصرية يتقدم إلى دار المندوب السامي، حتى بعثت هذه إليها بمذكرة رسمية في اليوم ذاته (4 مارس)، مبدية خلالها قلقها من جهة «مشروعات قوانين معينة» تتعلق بحفظ الأمن العام وحماية الأرواح والممتلكات! وهي بلا ريب إشارة إلى «قانون الاجتماعات»، وهو مشروع قانون كان البرلمان يوشك أن يفرغ من إقراره في نهاية السنة السابقة (1927)، وقد جاء هذا القانون تعديلا لمواد القانون رقم 14 الصادر في سنة 1923 عقب إلغاء قانون سنة 1914، وكان المراد منه الحد من اختصاص السلطة التنفيذية بسبيل منع الاجتماعات والمظاهرات وتقييد مصادرتها كل التقييد، وقد نبه الإنكليز في 18 ديسمبر السابق إلى استيائهم من مضي البرلمان في هذا التشريع وهو في المرحلة الأولى منه، ولكنهم ما لبثوا أن أمسكوا عن توجيه النظر إليه لقيام مناسبة المفاوضات، وارتقابا لما تفضي إليه من النتائج.

نامعلوم صفحہ