128

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

اصناف

وحين اعتقل أعضاء الوفد الثاني في سلسلة القيادة المنظمة، حل محله وفد ثالث، متلقيا علم الجهاد منه، وهو عليم بالأخطار التي تحدق به، مقبل عليه بشجاعة يغذيها اليقين، ويمدها الإيمان؛ فكانت تلك الشجاعة موضع إعجاب الأمة، ونبع حماستها المستفيضة بغير انقطاع.

وخلال ذلك أعلن تصريح 28 فبراير، فأزعجت الأمة تحفظاته، وتلقته بفتور غير منخدعة بالمظاهر والزخارف التي أحيط بها، والتغييرات الشكلية التي أدى إليها، وظلت في موضعها من الجهاد تواصل الكفاح غير مذعنة ولا قانعة ولا متوانية.

وتحت وزارة ثروت باشا ألفت يومئذ لجنة لتحضير الدستور، فكان أعضاؤها جميعا من غير رجال الوفد والمنتسبين إليه، فرضوا أن يضعوا الدستور في غياب الرجل المكافح المغوار الذي كان السبب فيه، وصاحب الفضل به، في غياب سعد ومصطفى وصحبهما وهم في المنفى القصي والمعتقل البعيد، الذين كانوا في صدر المطالبين به والعاملين عليه والمنادين مع الاستقلال التام إليه، فكان ذلك على أقل تقدير له، جحودا ونكرانا لحق الغائبين.

وترامت عند ذلك الأنباء بمرض سعد في سيشل، فقلقت الخواطر، وهاجت النفوس؛ فما زالت الأمة تحتج وتطالب برد سعد ورفقائه حتى رأت السلطات إزاء هذه المطالبة الملحة نقله إلى جبل طارق، دون رفقائه الذين لازموه، وصحبه الذين واسوه، ورفقائه الكرماء عليه. وفي ذلك يقول سعد: «ولقد مكثنا ممنوعين من الكلام عن الصحة، وكنا نحتار حيرة شديدة حين نسأل بالتلغراف من مصر عن الصحة والطقس، إلى أن كتب إلينا الحاكم العام للجزيرة بأن حكومة جلالة الملك قررت أن يسافر زغلول مع خادمه سفرا يستغرق ثلاثة أسابيع سويا على سفينة قادمة في غداة اليوم التالي إلى سيشل لتحمله إلى تلك الجهة؛ فغضب إخواني لهذا التقسيم وحزنوا وطلبوا أن يسافروا معي، مع أن الجواب يقول إنه لصحة زغلول تقرر نقله إلى جهة أخرى، كأن صحة إخواني لم تكن تقتضي ذلك، والحقيقة أنها كانت تقتضيه، ولكنهم لم يريدوا أن يقروا بهذا الاقتضاء.

أما إخواني فقد حزنوا واستاءوا واحتجوا؛ لأنهم شعروا بألم شديد لانفصالي عنهم، وكانت نتيجة ذلك أن منعوهم من السفر معي، ولم يريدوا أن أنزل في السفينة نهارا خشية احتشاد سكان الجزيرة، فأنزلت في زورق ومنع إخواني أن يصحبوني إلى السفينة الحربية، فسرت بهذا الزورق إلى السفينة ... وقد سألت عن الجهة التي نحن متوجهون أو مسوقون إليها، فقالوا: «لا يمكننا أن نقول لك ذلك»، فمكثت وحدي بين السماء والماء، لا جليس ولا أنيس لي مطلقا، وكان فكري محصورا فيما هي الجهة التي أنا مسوق إليها؛ وكنت قد سمعت قبل السفر إشاعة بأنها «جبل طارق»، التي سمعت عنها من بعض أصحابي أنها صخرة جرداء شديدة الحر، بها حصن، وعلى كثب منه قرية صغيرة لبيع الدجاج والبيض. مكثت حائرا في أمر الجهة التي أنا مسوق إليها، وكلما تصورت أنها جبل طارق، اشتد كربي ... مكثت ستة عشر يوما حائرا أتصور جبل طارق، ولم يحدث لي في حياتي قبل هذه أن تألمت أكثر مما تألمت في هذه المدة ...»

وكان نقل سعد إلى جبل طارق في الحادي عشر من أغسطس سنة 1922؛ وكان أخذه من بين مصطفى وصحبه أليما لنفوسهم، ممضا محزنا لهم، شديد اللوعة، يغالبونها، ويحاولون إخفاءها، حتى كانت لحظات الوداع، فتلاقى بصر سعد بأبصارهم، فعرف في الحال مبالغ آلامهم، وأعماق حزنهم، ففاضت من عينه عبرة ساخنة، وكان صمت ذلك الفراق أبلغ من كل قول، وأروع وأصدق من كل كلام.

وقد نزل سعد ببيت أعد له في جبل طارق، ذي حديقة، ولم يكن أسيرا في مقامه بها ولا سجينا، ولكنه مع ذلك كان متألما متبرما، حتى لقد قال يصف منزله يومئذ بتلك الصخرة: «لقد كانت هذه أسوأ مدة مرت بي في السجن، وأما المدة التي تلتها فإني كنت متألما جدا لانفصالي عن إخواني حتى اضطررت إلى رجاء حرمي أن تلحق بي، فلما حضرت خف عني الألم. ولقد أقمت في جبل طارق من الثالث من سبتمبر سنة 1922 إلى 30 مارس سنة 1922، ثم أفرج عني في ذلك التاريخ ...»

وتعاقبت يومئذ الوزارات، ولم تنطفئ حماسة الأمة ولا هدأت ثائرتها ولا فتر جهادها، بل تبين فشل الأساليب التي اتخذت حيالها لتوهين قواها وصرفها عن زعمائها؛ فأفرجت السلطات عن بعض أعضاء الوفد المعتقلين، وأعلنت إطلاق سراح سعد من منفاه الأخير، وصدر الدستور في التاسع عشر من أبريل سنة 1923، وأفرج عن مصطفى ورفقائه المبعدين في سيشل، فوصلوا إلى أرض الوطن في السادس والعشرين من شهر يونيو من ذلك العام، كما أفرج عن سائر السجناء في ألماظة، فاكتملت بخروجهم، وتوافدهم هيئة من الوفد، وراحت تتولى قيادة الأمة إلى غايتها السامية حتى عاد سعد في السابع من شهر سبتمبر من تلك السنة، فخرجت مصر جميعا إلى لقائه وتحيته واستقباله، فكان ذلك يوما خالدا في التاريخ.

لقد وصلت الثورة يومئذ إلى حد حاسم، ومرحلة فاصلة، وظفرت الأمة بنصر عزيز، وتمكنت من التغلب على كل ما كان يعترض سبيلها، ويراد به توهين قواها، والقضاء على آمالها. وكان من الخير لو أن السياسة البريطانية كفت يومئذ عن التبييت للحركة الوطنية، والتزمت مواجهة الحقائق الماثلة، وانصرفت إلى التحبب إلى مصر وأهلها، والتعاهد معها على ميثاق من الحلف والمودة والتعاون الوثيق، ولكن السياسة البريطانية لم تقنع بالخسر الذي أصابها، والنجاح الذي ظفر به خصومها؛ فهادنتهم أو سكتت قليلا عنهم، ريثما تجد سانحة أخرى للبطش، وناهزة جديدة لمواصلة التجربة.

وفي حياة سعد ومصطفى كان قد انتهى دور من أدوار الألم، واستكمل فصل من فصول الكفاح العنيف؛ فما من خطب ألم بسعد إلا كان مصطفى فيه شريكا مساهما، ولا من محنة أصابت سعدا إلا كان صاحبه العزيز مكتويا معه بلفحها. وقد جعلت منهما هذه الرفقة في الألم والعذاب شركة نفسية غريبة، حتى لو أن أحدهما هو المطلوب بمفرده لهما، لما رضي الآخر أن يحرم من نصيبه منهما؛ فإن الحب الوطني قد ألف بين قلبيهما قبل أية صلة من الفكر، أو شركة في العقيدة. وقد وصف الساحر الخلاب مكرم عبيد هذا الحب في بعض سحره العجب، فقال:

نامعلوم صفحہ