وأثار ذلك غضب السلطة العسكرية، فبعثت بإنذار إلى سعد في الثامن والعشرين من ديسمبر تقول فيه إنه يحظر على سعد زغلول باشا بموجب الحكم العرفي أن يخطب في الناس، أو أن يشهد اجتماعا عموميا، أو أن يستقبل الوفود، أو أن يكتب إلى الصحف، أو يقوم بعمل من الأعمال السياسية، وعليه أن يغادر القاهرة بلا إبطاء ويقيم في منزله في الريف تحت مراقبة المديرية.
لقد كان ذلك كتابا من الكتب النادرة في العالم، كتابا قلما يوجد مثله في التاريخ الإنساني كله، كتابا تستحيي الإنسانية أن يحتفظ به في قيد حياتها، ومستودع ماضيها، وسجلات حضارتها؛ لأنه يمنع رجلا من الاتصال مطلقا بالعالم، ويصادر فيه كل الحريات التي أباحتها الطبيعة له، ولا يسمح له بغير أن يأكل ويشرب، وكتابا ينزل الإنسانية التي شرفتها الطبيعة منزل «الحيوانية» الدنيا التي لا تعقل ولا تفكر، كتابا مهينا للقوة المادية التي بعثت به، قبل أن يكون مؤلما للرجل الذي تلقاه منها؛ لأنه معيب شنيع في حقها، وشرف كبير له؛ إذ أعلن في تضاعيفه مبلغ خوفها، وعندها الأساطيل والمدافع والأسلحة على اختلافها، من رجل أعزل من هذه جميعا وضروبها وصنوفها، ليس عنده غير الكلمة المرسلة، والفكرة الماثلة، والحق المبين.
وغضب سعد من هذا الكتاب، وكبر عليه أن يتلقى أمرا كهذا وهو وكيل الأمة وزعيم الشعب؛ فأجاب عليه في كتاب خالد، من تلك الكتب الرائعة في تاريخ الشجاعة الإنسانية، والاستهانة بالأمر الظالم مهما كان شأن مصدره، يقول فيه: «إن هذا الأمر ظالم أحتج عليه بكل قوتي، إذ ليس هناك ما يبرره. وبما أنني موكل من قبل الأمة للسعي في استقلالها، فليس لغيرها سلطة تحيلني من القيام بهذا الواجب المقدس؛ ولهذا سأبقى في مركزي، مخلصا لواجبي؛ وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء، أفرادا وجماعات، فإننا جميعا مستعدون للقاء ما تأتي به، بجنان ثابت، وضمير هادئ، علما بأن كل عنف تستعمله ضد مساعينا، إنما يساعد البلاد على تحقيق أمانيها في الاستقلال التام ...»
فهل رأيت مبلغ قوة سعد الروحية إزاء نذير القوة المادية الرهيبة؟! لقد كان هذا الرد من رجل أعزل على بريطانيا ربة القوات العديدة في البر والبحر والهواء، أسمى ما تبلغ الشجاعة الأدبية إليه في القلب المطمئن، والخاطر الهادئ، والضمير الساكن، والثبات العجيب.
رفض سعد الخضوع لذلك الأمر، وهو يعلم ماذا سيكون من ورائه، كما رفض مصطفى وبقية أصحابه، إذ جاءتهم كتب مثله تحمل نذرا كنذيره. وقد أشفق سعد عليهم، فطلب إليهم ألا يتأسوا بأسوته، مخافة على أولادهم، وحنانا على ذويهم، ورثاء لأهليهم وعشيرتهم الأقربين. وطال الموقف بينه وبينهم: هو يرجو ألا يتابعوه، ويسألهم ألا يتأثروه؛ وهم متشبثون بالرفض، مصرون على الإباء. بل لقد راح أخيرا يقول لهم: «أنتم شبان لا يأخذكم الضعف الذي قد يأخذ الشيوخ في ملاقاة الخطوب، فالرأي لكم وأنا عند ما تتفقون عليه، ولكن اعلموا أنني لا يمسني ضعف، ولا تميل نفسي إلى أن أستبقي بقية من التضحية الواجبة.»
وكان صوت مصطفى صارخا قاطعا في أن يكون الجواب رفضا محضا، وعلى اللورد اللنبي أن ينفذ أمره بالقوة إذا شاء. وقد تحدث أحد الذين شاهدوا ذلك اليوم الخالد في بيت الأمة، حين وصلت تلك الكتب المنذرة، عن نفسية مصطفى يومئذ فقال: «لقد أقبل باسما وعيناه تلتمعان وفي يده كتب . ويعرف كل الذين عاشروه أن له ساعات هي ساعات الحوادث الجسام، تظهر فيها على وجهه، وفي عينيه، وفي كل حركات جسمه، أدلة الحماسة بالغة، حتى ليظن مشاهده أن الإحساس الذي يسير في صدره أقرب إلى أن يكون فرحا بمصارعة الحوادث منه توجسا منها واغتماما بها؛ لأنه ألف الصراع إيلاف الشباب ركوب الأخطار.
لقد دخل في تلك اللحظة وفي يده تلك الكتب، ثم وقف وجعل يلقيها لأصحابها إلقاء وهو يقول باسما: «أوامر من السلطة العسكرية»! وهو غير مكترث ولا حافل، وقد عرف من قبل ما حدث، فما زاده علمه بها إلا استخفافا وسخرية واستهزاء.»
واعتقل سعد في صباح الثالث والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1921، فكان مسلكه ساعة معتقله مشهدا من مشاهد البطولة الجليلة التي يحدثنا عنها التاريخ في سير العظماء الذين ضربوا أروع الأمثال على رباطة الجأش وشجاعة القلب وسكون الأعصاب في أرهب المواطن وأكبر الأخطار.
لقد جاءوه صبحا فأيقظوه من نومه، وساروا به إلى سيارة مغطاة فاحتملوه فيها وهو لا يدري إلى أين المساق، وقد نزل من حجرته يمشي هادئا مشرق الجبين متزن الخطو، جليل السمت، مهيب الطلعة، لا أثر في حركاته لجزع أو اضطراب، وقد دس يسراه في جيب معطفه، وفي يمناه عصاه يحركها بانتظام، غير حائم النظر، ولا زائغ البصر، ولا مترنح اللمحات.
سعد وصحبه وهم في المنفى.
نامعلوم صفحہ