111

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

اصناف

وفي الوقت الذي كان فيه سعد يتأهب للخروج من عزلته، ويتحفز للوثوب من عرينه، على دوي صوت ويلسون في مؤتمر السلام عقب الهدنة، وهو الشيخ الحكيم المجرب - كان مصطفى، ممثل عنصر الشباب، تحت تأثير العامل ذاته، وفي الحماسة نفسها للفكرة في مثل أهبة الشيخ وتحفزه، على بعد ما بينهما، وفي غير تكاشف بما يختلج فيهما، وكأنما مهدت الطبيعة يومئذ لقيادة البلاد في الثورة زعامتين: زعامة الرجولة في سعد، وزعامة الشباب في مصطفى، ثم راحت تقدم زعامة الشيخ؛ لأن معها الحكمة والروية والأناة والتدبير، وأخرت زعامة الشباب حتى تكتسب أولئك جميعا من المستبقة المتقدمة؛ لتكون أنفع وأفضل وأزكى وهي الخالفة الآتية من بعدها في دورها الطبعي عبر السنين، وبينما كان الشيوخ يجتمعون عند سعد ليتشاوروا في أمر بلادهم، كان الشباب يتلاقون في طنطا عند الشاب مصطفى النحاس القاضي، وكل جمع يفكر في أي المسالك يسلك للنهوض لحق بلاده، والبروز للإهابة بوطنه، وإعلان الدنيا عن حقوق مصر الطبيعية في الحرية والاستقلال.

فيا له من اتفاق غريب، ومصادفة عجيبة، كأن قلب سعد النابض الخفاق، قد لقي على بعد المزار قلبا يلتقط نبضاته، ويهتز بصدى خفقاته، أو كأن الطبيعة أعدت العدة اللازمة واحتياطيها، والقوة ورديفها، والزعامة وخلافتها من أول تصميم، ومن بداية التجهيز والتهيئة والاستعداد؛ إذ ما كادت مبادئ ويلسون تذيع في العالم وتشتهر، حتى فكر مصطفى النحاس بك قاضي طنطا مع بعض صحب له وجملة من أصدقائه في القيام بعمل يسمع العالم كله صوت مصر عاليا، وصرختها المستغيثة في جنبات الأرض داوية.

وبعد أن تشاوروا فيما بينهم وعجموا عيدانهم وأجمعوا نيتهم، راحوا يفكرون في نوع العمل وأحسن وسائله وأكفلها بتحقيق النتيجة المنشودة، فما لبثوا أن رأوا أن أي عمل قد يقومون به هم وحدهم، قد لا يجدي نفعا، ولا يؤدي نتيجة؛ لأنهم شباب لا يعرفهم الشعب، ومحدثون غير مسموعي الكلمة في الناس.

واجتمع يومئذ رأيهم على أن ليس لهذا العمل العظيم والمهمة الخطيرة غير رجال كبار، ومراجيح ذوي أخطار، وشخصيات بارزة ملء الأسماع وقبلة الأبصار، فيكون لحركتهم تأثيرها المطلوب في أوروبا ووقعها المرغوب في البلاد.

لقد كان ذلك أول مظاهر الإخلاص للفكرة، وصدق الإحساس للوطن، إذ كان شعورا رفيعا نقيا، متجردا من الأنانية، بعيدا من حب الذات، خليا من دوافع الغرور ومغريات الزهو، لا ينظر إلى العمل وحده، ولا يبالي الفكرة بمفردها، ولكن ينظر كذلك إلى موجبات نجاحها، ويتعرض وسائل فوزها، ويدرس ما لها وما عليها؛ ليستوثق من قيمتها وما يحتمل من خطرها، ويتثبت من الطريق قبل المسير فيه.

كان ذلك وطنية حازمة، بقدر ما هي وطنية صادقة، بل كان تفكيرا سديدا، وبحثا مدققا، ووزنا للأمور صحيحا راجحا، خلص من النزق، وتجنب وساوس الأنانية وهمسات الأثرة، وخدع الاعتداد غير الناضج، والثقة العجلى المتهورة. ولم يكن ذلك كله عجيبا من أولئك الشباب الذين اجتمعوا لبحث الفكرة ودراستها؛ لأنهم كانوا جميعا بين قاض ومحام وموظف كبير، ممن عرفوا في محيطهم بالاتزان والنضوج وحسن الرأي وسلامة التقدير.

ورأى مصطفى النحاس بك يومئذ هو وأصحابه الذين اجتمعوا على تلك الفكرة أن السلطات العسكرية لن تسكت عن أولئك الذين سوف يتولون تنفيذها، ولن تخلي بينهم وبين القيام بها، بل هي حتما مطاردتهم، عاملة على قمعهم وتعقب آثارهم، وقد تعمد إلى اعتقالهم في المحابس، أو تنفيهم من الأرض، وتشردهم كل مشرد، ولا تتركهم حتى تدرك ثأرها منهم، وتنتقم شر انتقام.

مصطفى النحاس.

في هذا كله فكر مصطفى وأصحابه، وعرضوه على أخيلتهم، وتصوروه في أخلادهم، لا من خوف ولا من رهبة، ولا تقديرا لمعاني الانزواء، وتبريرا لنية الإحجام؛ ولكن عن حزم الشجاعة، وفي أروع مظهر من مظاهر الشجاعة الحازمة.

لقد فكروا في ذلك كله لتجتمع نيتهم على أمر خطير؛ هو مهمة الشباب، وبطولة الوطنية الحكيمة، ومظهر الإيثار المتفاني في المجموع، وهو أن ينزلوا يومئذ إلى الحومة، فيحتلوا مكان الغائبين، ويتولوا العمل عنهم، وينهجوا النهج ذاته، وينشروا الرسالة الجديدة في كل مكان.

نامعلوم صفحہ