لقد لزم مصطفى من نشأته الحق والعدل والواجب، واجتمع له في نفسه اتحاد العقل والقلب؛ فكان ذا العزم القوي والخلق، وأخا الإرادة الثابتة التي تبلغ بصاحبها غايته فوق الأحداث ورغم المخاطر والمشاق والصعاب، لا يحول دون عزمه حائل، ولا يقع جاثيا على ركبتيه أمام أكبر الخطر، وإنما يواجهه غير متراجع ولا متردد.
إن احتقار الخوف هو مبدأ القوة الأدبية في النفوس العظيمة والشخصيات القوية، وإذا لم يصل احترام الحق والعدل في النفس إلى هذا الحد، وكان الخوف مالكا لها مستوليا عليها، فلا أمل في بلوغ العظائم، ولا رجاء في الصعود إلى قمة الحياة.
نشأ مصطفى قويا، والقوة هي الشجاعة أو عظمة النفس، وهي فضيلة اجتياز العقبات التي تحول دون تحقيق الخير وتأييد النظام واحترام القانون. وليس الانحراف عن الحق والعدل، والخروج عن النظام والقانون إلا سقوطا وضعفا، وإنما أدلة القوة هي العمل في دائرة القانون، وملازمة الحق، واحترام الواجب، والاستماع أبدا لإملائه.
ومن استسلم لغضبه زل، ومن ملك نفسه كان قويا معتدلا، والاعتدال قوة وشجاعة، بل قوة منظمة مرتبة، على حين يروح التهور ضعفا وعجزا؛ لأنه قوة غير منظمة، لا ضابط لها، ولا حسيب عليها ولا رقيب.
وقد نشأ مصطفى يحس في أعماقه بقوة ضابطه لنفسه، تشتد لاجتياز العقاب والتغلب على الصعاب في غير عنف؛ لأنه قوة تندفع بغير رشد، وتنطلق مجاوزة الحد، وتحتد فيدركها الوهن والضعف، وما النشاط إلا القوة بمعناها الصحيح، ولكن العنف هو الذي يوهم أصحابه أنهم في أنفسهم أقوياء وما هم في الحق كذلك، وإنما هم يخلطون فلا يميزون بين المبادئ لدقتها على أفهامهم، وبعدها من مداركهم، فهم أناس ينقصهم ذوق الحياة ...
إن المبادئ هي التي تملأ القلب قوة فيعمل مستضيئا بنورها، سائرا على هداها. وهذا هو أمر مصطفى النحاس من بدايته: نشأ أخا مبادئ، فاستضاء بمصباحها في طريقه المصعد إلى الذروة، غير ضارب في بيداء مترامية، ولا مستمع لوساوس مخافتة منادية، ولا مستجيب إلى إغراء يتبعه أذى، وضلال يبعده عن الحق والعدل والواجب.
مصطفى النحاس.
كان مصطفى النحاس من البداية قويا، وكانت قوته حيث لا تفريط ولا إفراط، بل حيث يقوم الاعتدال زينة للنفس، وحلية معنوية تأخذ بالأبصار، وحيث العدل والحق هما المسيطران على تلك القوة، وفي ذلك يقول أحد الفلاسفة: «إذا كان في يدي مطرقة مثلا وأمامي طفل نائم وسنان، فلا شك في أنني مستطيع إذا نمت إرادتي أن أهشم رأس ذلك الطفل بضربة واحدة، ولكني لا أفعل ذلك مهما بلغت قوتي؛ لأن أمام عيني خيالا يردني ويحبسني عن إتيان ذلك أو محاولته، ولا قبل لي بدفعه؛ لأن قوته فوق قوتي، وسلطانه أعلى من سلطاني، فهو قادر على أن يجردني مما أشعر به من قوة وبطش. وما هذا السلطان القاهر الذي لا يعلمه الطفل نفسه، إلا حق ذلك المخلوق الذي هو من نوعي في الحياة، والعدل الذي يقر له بالوجود.»
ومن صفات الحق أن يكون عاما؛ أي أن يكون الناس جميعا حياله سواء؛ يستوي في ذلك الغني والفقير، والعالم والجاهل، والرفيع والوضيع، وأن يكون مقدسا كقدس القانون نفسه؛ لأنه ضرورة مفروضة مطلقة، تبقى ولو جحدها جاحد أو اعتدى عليها المعتدون.
على هذه المبادئ نشأ مصطفى النحاس، وبقوة الاستمساك بها نجح في المحاماة، وإن لم يطل مكثا عليها، ولم تتراخ السنون عليه فيها، وكأن شأنه السريع في مضمارها، كشأن سعد في دخولها، وهي يومئذ صناعة صغيرة فكبرت به، خاملة فأنقذها من خمولها، قبيحة السمعة فأضفى عليها من جمال سمعته.
نامعلوم صفحہ