Muslims in the Diaspora
المسلمون في بلاد الغربة
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٨ هـ - ٢٠١٧ م
اصناف
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد.
فإن إخواننا المسلمين الذين يعيشون في دول الكفر سواء أكانوا من أهلها الأصليين أم من الوافدين عليها في أشد الحاجة إلى معرفة الأحكام الفقهية في النوازل التي تمر بهم ليعلموا ما هو أرضى لله وأحب إليه، ويعملون بما يستطيعون من ذلك والتوجيه إلى الأخذ بالحلول الممكنة لمواجهة المشكلات، ولأن غالب تلك المسائل هي من النوازل، فإن معرفة الحق فيها وأقرب الأقوال إليه يتطلب - بعد الإلمام بالنصوص الشرعية المتعلقة بتلك المسائل- معرفة القواعد الشرعية، وتصور الوقائع المراد التطبيق عليها تصورًا دقيقًا لشدة التشابه، ودقة الفوارق بين تلك المسائل، واختلاف الحال بين شخص وآخر، وتغير الفتوى بتغير الحال في المسألة الواحدة والشخص الواحد، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ومن علم الله من نيته الحرص على مرضاة الله، ألهمه الصواب ووفقه له، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ ... [البقرة:٢٨٢].
1 / 5
وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال:٢٩]، وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)﴾ [الحديد]، وقال النبي ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنيَّاتِ» (^١).
وإن مما يعين على معرفة فقه النوازل التي يعانيها إخواننا المسلمون في بلاد الغربة الرجوع إلى سيرة النبي ﷺ وأصحابه في مكة إذ كانوا يعيشون غرباء قليلين وسط مجتمع كافر، ناصبهم العداء، وحاربهم في كل شيء، قال النبي ﷺ: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء» (^٢).
ومن القواعد الشرعية التي يُستعان بها في هذا الباب:
١ - درء المفاسد مقدم على جلب المصالح: ومثال ذلك: أن الله أمر الولد ببر والديه وإن كانا كافرين، فإذا كان برهما يفضي إلى فتنة الولد في دينه، فهذه مفسدة كبيرة مراعاتها مقدم على برهما عند التعارض.
٢ - جاءت الشريعة الإسلامية بتكثير المصالح وتقليل المفاسد، وترجيح أعظم المصلحتين: مثال ذلك: أن المسلم الذي يعيش في بلاد الكفر وله بلد إسلامي، فإنه يجب عليه الرجوع إلى بلده، فإن كانت مصلحة بقائه في
_________
(^١) صحيح البخاري برقم (١)، وصحيح مسلم برقم (١٩٠٧).
(^٢) صحيح مسلم برقم (١٤٥).
1 / 6
تلك الدولة الكافرة أعظم، كان بقاؤه أولى ما دامت تلك المصلحة راجحة.
٣ - من أصول الإسلام وقواعده بغض الكافر، وإظهار العداوة له: وقد استثنى من هذه القاعدة الكفار الذين لا يظهرون العداوة للمسلمين، ولا يقاتلونهم ولا يظاهرون عليهم، بل ربما كانوا عونًا لهم في بعض الأحوال، وذلك بالبر والقسط كما قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)﴾ [الممتحنة].
وفي السيرة النبوية أن قبيلة خزاعة كانت عبية نصح لرسول الله ﷺ مسلمهم وكافرهم، وأذن النبي ﷺ لأصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة، وهي دار كفر، قائلًا: «إِنَّ فِيهَا مَلكًَا لَا يُظْلَم أَحَدٌ عِنْدَهُ» (^١).
ولما طرد أهل الطائف رسول الله ﷺ لم يستطع دخول مكة إلا بدخوله في إجارة المطعم بن عدي وكان كافرًا، وقد عرف له النبي ﷺ هذه النعمة، فقال في غزوة بدر حين جمع له الأسرى «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» (^٢).
_________
(^١) سيرة ابن هشام (١/ ٣٤٥) وقال د. أكرم العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة (١/ ١٧١) إسناده حسن.
(^٢) صحيح البخاري برقم (٤٠٢٤).
1 / 7
٤ - أن جميع أوامر الشرع إنما تجب على العبد بالاستطاعة لها والقدرة على فعلها، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]. وقال النبي ﷺ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (^١). ونتج عن هذه القاعدة قاعدة أخرى عظيمة المنافع هي:
٥ - المشقة تجلب التيسير، قال النبي ﷺ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» (^٢). وقال تعالى فيمن يشق عليه الصيام: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤].
٦ - من المفيد جدًا أن تعلم فروض العين وفروض الكفاية، حتى إذا تعارضت قُدِّم فرض العين على فرض الكفاية.
مثال ذلك: امرأة تريد أن تدرس نوعًا من العلم لتخدم به أخواتها المسلمات، ولكن لا تتمكن من هذا التخصص إلا بالاختلاط والسفور، وهنا يقال إن المحافظة على العفاف والحشمة فرض عين، وتلك الدراسة فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية، والنتيجة المنع من دراسة ذلك التخصص .. وغير ذلك من القواعد الشرعية التي تعين على فهم مقاصد الشرع.
٧ - من المعلوم بالاستقراء - من قواعد الشريعة- وأصولها
_________
(^١) صحيح البخاري برقم (٧٢٨٨).
(^٢) صحيح البخاري برقم (١١١٧).
1 / 8
أن الأحرى بالمسلم الأخذ بالاحتياط في المسائل المختلف فيها الذي يكون الخلاف فيها سائغًا، وذلك حين يكون للخلاف حظٌ من النظر، بمعنى أن لكل قولٍ من الأدلة الشرعية ما يؤيده، وسيأتي لذلك أمثلة في فتاوى أهل العلم المرفقة.
٨ - من القواعد الشرعية التي تفيد المسلم في المسائل المشكوك فيها الأخذ بما غلب على ظنه ولا تبرأ ذمته إلا بذلك؛ فالصائم مثلًا إذا شك في غروب الشمس ولم يتيقن ذلك، وغلب على ظنه أنها لم تغرب فلا يحل له الفطر حتى يغلب على ظنه أنها غربت، ومثل ذلك دخول وقت الصلاة وغيرها من المسائل الكثيرة، وسيأتي لها أمثلة في الفتاوى المرفقة.
وقد اقتصرت في بعض المسائل على الفتاوى ثقةً في أصحابها، وأشرت إلى المراجع لمن يريد التوسع والمزيد من التفاصيل، وقد كُتبت في الموضوع رسائل مطولة ومفصلة، أحببت كتابة هذه الرسالة المختصرة كنموذج للدخول منها إلى الكتب المطولة .. هذا وإن من أهم الكتب التي اطلعت عليها في هذا الباب رسالة الدكتوراه لأخينا د. محمد يسري. وقد امتازت هذه الرسالة بالتأصيل والسير على آثار السلف مع قوة في العبارة، ووضوح في التعبير، نقلت منها بعض المواضع، وأحلت القارئ عليها للاستزادة، فجزاه الله عن الإسلام
1 / 9
والمسلمين خير الجزاء.
وبعد التأمل في المسائل التي يحتاجها إخواننا المسلمون الذين يعيشون في دول الكفر وجدت أنها ترجع إلى ثلاثة أصول (^١):
الأول: الجنسية والإقامة.
الثاني: التحاكم واستيفاء الحقوق.
الثالث: الولاء والبراء.
وقد اقتصرت في هذا الكتاب على ما يقارب خمسين مسألة على أمل العون من الله تعالى على جمع المسائل التي لم تذكر في طبعات قادمة.
وأفضل ما أختم به الصلاة والسلام على نبي الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد بن عبدالله ﷺ.
المؤلف
الرياض: ١٨/ ٠٥/١٤٣٦ هـ
_________
(^١) وقد وزعت المسائل على هذه الأصول الثلاثة وجعلت تحت كل أصل أقرب المسائل إليه، مع تداخل بعض المسائل في هذه الأصول الثلاثة.
1 / 10
الأصل الأول
الجنسية والإقامة
1 / 11
ومن المسائل التي تتعلق بهذا الأصل ما يلي:
أولًا: الجنسية.
ثانيًا: الإقامة.
ثالثًا: إسلام الكافر.
رابعًا: حجاب المرأة المسلمة.
خامسًا: الاختلاط.
سادسًا: القروض.
سابعًا: التأمين.
ثامنًا: البطاقات الائتمانية.
تاسعًا: تربية الأسرة.
عاشرًا: اللباس.
الحادي عشر: اقتناء الكلاب.
الثاني عشر: أحكام الأطعمة، وفيه مسائل:
(أ) الذبائح.
(ب) دخول المحرمات في المأكولات أو المشروبات.
(ج) الأكل في أواني الكفار.
(د) الأكل في مطاعم الكفار.
1 / 12
الثالث عشر: بناء المساجد في بلاد الكفر.
الرابع عشر: صرف أموال الزكاة في الدعوة إلى الله.
الخامس عشر: صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم من الكفار.
السادس عشر: زكاة الفطر.
السابع عشر: صلاة الجمعة، وفيه مسائل:
(أ) العدد المطلوب لصلاة الجمعة.
(ب) أداء المرأة لصلاة الجمعة.
(ج) ترجمة خطبة الجمعة.
(د) صلاة الجمعة قبل الزوال.
(هـ) إقامة الجمعة على دفعتين لضيق المسجد.
الثامن عشر: قبول المسلمين من الكفار التبرعات لمشاريع خيرية.
التاسع عشر: السكن.
العشرون: الزواج الصوري.
الحادي والعشرون: أوقات الصلاة، وفيها مسائل:
(أ) في حال استمرار الليل أو النهار أربعًا وعشرين ساعة فأكثر.
(ب) في حال قصر الليل أو النهار قصرًا مفرطًا مع بقاء العلامات الفلكية الشرعية.
1 / 13
الثاني والعشرون: أوقات الصيام، وفيها مسائل:
(أ) الرؤية في دخول شهر رمضان وخروجه.
(ب) الصيام يوم عرفة، هل هو يوم اجتماع الناس في عرفة؟ أو اليوم التاسع بحسب كل بلد؟
(ج) تحديد زمن الإمساك في رمضان في حال الغيم.
(د) فتاوى متفرقة في الصيام.
الثالث والعشرون: خوف المسلم من إظهار دينه.
الرابع والعشرون: الصلاة في المساجد التي فيها قبور.
الخامس والعشرون: الصلاة خلف الإمام المبتدع.
السادس والعشرون: دفن المسلم في مقابر الكفار.
1 / 14
أولًا: الجنسية
قد كتب د. محمد يسري إبراهيم في كتابه (فقه النوازل) للأقليات المسلمة تأصيلًا وتطبيقًا بحثًا مطولًا عن الجنسية والتجنس، أفاد فيه وأجاد، أنقل منه بتصرف واختصار، قال حفظه الله: "جرى عمل فقهائنا المتقدمين على تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، وأما في الواقع المعاصر فقد انقسم الناس باعتبار الجنسيات، وصار من الممكن للإنسان أن يتجنس بجنسية بلد غير بلده الأصلي الذي نشأ فيه هو وآباؤه وفق شروط معينة تختلف من دولة إلى أخرى.
وسعى كثير من أبناء هذا الزمان إلى الحصول على جنسيات غير جنسيات بلادهم الأصلية، تدفعهم إلى ذلك دوافع شتى؛ فمن لاجئ سياسي، ومن باحثٍ عن حرية وساعٍ إلى الحصول على حقوق أو مميزات لم يجدها في قومه .. إلى غير ذلك من المآرب.
ولكن الأمر ليس قاصرًا على الميزات التي يُعطاها المرء فحسب، بل ثمة حقوق وواجبات عليه؛ من الالتزام بقوانين تلك البلد، والتحاكم إلى أنظمتها، والدفاع عنها، والانخراط في سلك المدافعين عنها من أبنائها، وبذل الجهد والوسع في تقويتها ورفعة شأنها، وعقد الولاء لها والبراء من غيرها .. إلى غير ذلك من مفردات منظومة كبيرة تسمى بـ "المواطنة".
1 / 15
ومن هنا مسّت الحاجة اليوم إلى معرفة حكم التجنس بجنسيات الدول غير الإسلامية؛ لشدة الدوافع والمقتضيات إلى ذلك.
المفهوم الاصطلاحي للجنسية والتجنس:
يعرف القانونيون "الجنسية" بأنها: (الرابطة القانونية والسياسية التي تربط بين الفرد والدولة، والتي بمقتضاها يعتبر الفرد جزءًا في شعب الدولة يتمتع بالحقوق المترتبة على تمتعه بجنسية الدولة والتي لا يتمتع بها الأجنبي كأصل عام، ويلتزم أيضًا بالالتزامات التي تترتب على وصف الوطني والتي لا يلتزم بها الأجنبي).
وعرّفها بعض القانونيين بقوله: (رابطة سياسية وقانونية بين الفرد والدولة)، وهناك من يضيف إلى هاتين الرابطتين رابطةً ثالثة؛ هي الرابطة الاجتماعية، خاصة إذا كان شعب الدولة مكونًا من أمة واحدة.
أما "التجنس" فهو: (طلب انتساب إنسان إلى جنسية دولة من الدول وموافقتها على قبوله في عداد رعاياها، وينشأ عن ذلك التجنس خضوع المتجنس لقوانين الدولة التي تجنَّس بجنسيتها، وقبوله لها طوعًا أو كرهًا، والتزام الدفاع عنها في حال الحرب).
وللتجنس شروط تشترطها الدول، فمنها العام، ومنها الخاص ببعض الدول.
آثار التجنس:
إن أهم أثر يترتب على التجنس هو كسب صفة الوطني، والتي
1 / 16
تستوجب التمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها الوطني الأصلي والالتزام بكافة الواجبات التي يُلزم بها، ولعل من أهم هذه الحقوق والواجبات ما يلي:
أولًا: الحقوق:
يكون المتجنس مساويًا في الحقوق للوطني في الجملة، وإن استثنيت بعض الأمور كالتقدم لوظائف حساسة، ومن بين هذه الحقوق:
١ - الحصول على حق المواطنة.
٢ - التمتع بالإقامة الدائمة.
٣ - تكفل الدولة الحماية الدبلوماسية للمنتسب إليها، وتتولى القنصليات رعاية أحواله الشخصية خارج البلد.
٤ - التمتع بالحقوق السياسية كحق الانتخاب بعد اجتياز فترة الاختبار، وبممارسة الحريات الأساسية.
ثانيًا: الواجبات:
١ - خضوع المتجنس لقوانين الدولة والاحتكام إليها.
٢ - المشاركة في جيشها والتزام الدفاع عنها في حالة الحرب.
٣ - تمثيل الدولة خارجيًا.
٤ - مشاركته في بناء صرح الدولة.
1 / 17
حكم التجنس بجنسية الدولة غير المسلمة:
البحث في هذه المسألة يختلف عن البحث في مسألة الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام من حيث إن الهجرة أمر قديم بقِدم الإسلام، وتناوله العلماء في كتب الفقه والتفسير وشروح الحديث وغيرها.
وأما التجنس فمسألة حادثة ونازلة لم تكن على عهد السلف والأئمة، وإنك لواجد في كتب الأئمة الفقهاء التفصيل الواضح في أحكام الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وأحكام الأقليات غير المسلمة في المجتمع المسلم، أما فقه الأقليات المسلمة في البلاد غير المسلمة فنادر في كتب الفقه؛ لأنه نادرٌ ما كان يحتاج المسلم للإقامة الدائمة هنالك؛ لوجود الخلافة الإسلامية التي يأوي إليها المسلم ويتفيأ ظلالها، ولانعدام الحدود بين الدول الإسلامية، فأينما تيمم المسلم في بلاد الإسلام فهو في بلاده لا يحس بغربة ولا وحشة، وكذا العزة الإسلامية التي يتمتع بها المسلم فهو ليس بحاجة للإقامة في بلاد الكفر فضلًا عن التجنس بجنسياتها، ذلك أن التجنس بجنسية الدول الكافرة موطئ للإقامة في بلاد الكفر، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على خلل أو ضعف حلَّ بالمسلمين والخلل العظيم في هويتهم، إذ المهزوم والضعيف هو الذي يريد أن يشابه المنتصر والقوي فيقتدي به.
ومن نظر في التاريخ وجد أن هذا أمر مطَّرد، فوقت أن كانت الدولة للمسلمين كان المشركون حريصين على تعلم لغتهم
1 / 18
والعيش في بلادهم؛ ليتمتعوا بالأمن والعدل ورغد العيش الذي كانت بلادهم قفرًا منه.
ثم إنه بعد سقوط الخلافة الإسلامية وانتشار الغزو الصليبي لبلاد الإسلام، أو ما سُمي زورًا بـ (الاستعمار)؛ فتحت دول الكفر باب التجنس لمن يرغب في ذلك من المسلمين؛ لطمس هويتهم، وإخماد روح الإيمان والجهاد في قلوبهم، وذلك في أوائل القرن الميلادي المنصرم، وهي نتيجة طبيعية لضعف المسلمين وقوة شوكة عدوهم.
يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: (المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده؛ والسبب في ذلك أن النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط من أن انقيادها ليس لغالب طبيعي إنما هو لكمال الغالب وتشبُّهه به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه - والله أعلم - من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة ناس وإنما هو بما انتحل من العوائد والمذاهب.
ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها؛ بل وفي سائر أحواله) (^١).
والحاصل أن التجنس بجنسية الدول الكافرة مسألة حادثة،
_________
(^١) مقدمة ابن خلدون، (٢/ ٥٠٥).
1 / 19
وقد اختلف فيها فقهاء العصر على أربعة أقوال:
القول الأول:
قول أكثر الفقهاء المعاصرين وهو المنع، وممن قال به العلامة الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ علي محفوظ عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، والشيخ محمد عبدالباقي الزرقاني، والشيخ إدريس الشريف محفوظ مفتي لبنان، والشيخ يوسف الدجوي عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن، والعلامة عبدالحميد بن باديس، والعلامة البشير الإبراهيمي، وكل أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، والعلامة الشيخ ابن عثيمين .. وغيرهم.
القول الثاني:
قول بعض فقهاء العصر وهو الجواز، ومنهم د. يوسف القرضاوي، ود. وهبة الزحيلي، بشرط المحافظة على الدين والتمسك به، وعدم الذوبان في المجتمع الكافر.
القول الثالث:
جواز التجنس بجنسية الدولة الكافرة عند الضرورة؛ كما لو كان مضطهدًا في دينه في بلده المسلم ولم يقبله أحد سوى الحكومة الكافرة، وهو رأي بعض أعضاء مجمع الفقه الإسلامي، وقد وضع الشيخ الخليلي ثلاثة شروط للجواز، وهي:
1 / 20
١ - انسداد أبواب العالم الإسلامي في وجه لجوئه إليهم.
٢ - أن يضمر النية على العودة متى تيسَّر ذلك.
٣ - أن يختار البلد التي يمارس فيها دينه بحرية.
القول الرابع:
التفصيل في المسألة؛ فالناس في طلب الجنسية على ثلاثة أقسام:
١ - التجنس بجنسية الدولة الكافرة من غير مسوِّغ شرعي، بل تفضيلًا للدولة الكافرة وإعجابًا بها وبشعبها وحكمها، وهذه ردة عن الإسلام عياذًا بالله.
٢ - التجنس للأقليات المسلمة التي هي من أصل سكان تلك البلاد؛ فهو مشروع وعليهم نشر الإسلام في بلادهم، وتبييت النية للهجرة لو قامت دولة الإسلام واحتاجت إليهم.
٣ - تجنس الأقليات المسلمة التي لم تكن من أهل البلد الكافرة، ويعتريه الحالات التالية:
(أ) أن يترك المسلم بلده بسبب الاضطرار والاضطهاد ويلجأ لهذه الدولة؛ فهو جائز بشرط الاضطرار الحقيقي للجوء، وأن يتحقق الأمن للمسلم وأهله في بلاد الكفر، وأن يستطيع إقامة دينه هناك، وأن ينوي الرجوع لبلاد الإسلام متى تيسر ذلك، وأن ينكر المنكر ولو بقلبه، مع عدم الذوبان في مجتمعات الكفر.
1 / 21
(ب) أن يترك المسلم بلده قاصدًا بلاد الكفر لأجل القوت؛ فلو بقي في بلاده لهلك هو وأهله، فله أن يتجنس إذا لم يستطع البقاء بغير جنسيته.
(ج) التجنس لمصلحة الإسلام والمسلمين ونشر الدعوة، وهو جائز.
(د) التجنس لمجرد أغراض دنيوية بلا ضرورة ولا مصلحة للإسلام وأهله، وهو محرم.
وهذا التفصيل رجّحه بعض الباحثين وأصحاب الرسائل الجامعية.
أدلة المانعين:
استدل المانعون بأدلة كثيرة، وعمومات ومقاصد شرعية نوردها فيما يلي:
- قال تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨].
- وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤)﴾ [التوبة].
1 / 22
ففي هاتين الآيتين النهي عن اتخاذ ذوي القربى أولياء إن كانوا كفارًا؛ فكيف باتخاذ الأباعد أولياء وأصحابًا، وإظهار الموافقة لما هم عليه والرضا به؟
- وقال ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء].
- ومن السنة ما رواه أبو داود من حديث سمرة بن جندب ﵁ أن النبي ﷺ قال: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» (^١).
-وقوله ﷺ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه لِمَ؟ قَالَ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا» (^٢).
- وبما رواه النسائي من حديث جرير بن عبدالله قال: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَعَلَى فِرَاقِ الْمُشْرِكِ (^٣).
-وروى النسائي في سننه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه
_________
(^١) سنن أبي داود برقم (٢٧٨٧) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (٢٣٣٠).
(^٢) سنن الترمذي برقم (١٦٠٤) وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (١٣٠٧).
(^٣) سنن النسائي برقم (٤١٧٥)، وأحمد في مسنده برقم (١٩٢٣٨) وقال محققوه حديث صحيح.
1 / 23
عن جده أن رسول الله ﷺ قال: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ ﷿ مِنْ مُشْرِكٍ بَعْدَمَا أَسْلَمَ عَمَلًا، أَوْ يُفَارِقُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ» (^١).
- وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي ﷺ كان إذا بعث أميرًا على سرية أو جيشًا أوصاه بأمور؛ فذكرها، ومنها: «ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ» (^٢).
وجه الدلالة من الآيات والأحاديث السابقة:
لقد استفاضت النصوص الشرعية السابقة في التحذير من موالاة الكافرين، ومحبتهم ومودتهم، والرضا عنهم وعن منكراتهم، وأوضحت أن ذلك مناقض لأصل الإسلام وهادم لعقيدة الولاء والبراء والحب والبغض في الله التي لا يصح إسلام عبدٍ إلا بها.
ولما كان التجنس يلزم منه - لا محالة - ولاء المرء للدولة التي يحمل جنسيتها وخضوعه لنظامها وقوانينها، ويصير المتجنس واحدًا من المواطنين له ما لهم وعليه ما عليهم، وتجري عليه أحكام ملتهم في الأحوال الشخصية والمواريث، وعدم تدخله في شؤون أولاده إذا بلغوا السن القانونية عندهم سواء الذكور والإناث ..، لمّا كان الأمر كذلك كان طلب التجنس بجنسية الدول
_________
(^١) سنن النسائي برقم (٢٥٦٨) وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (٧٧٤٨).
(^٢) صحيح مسلم برقم (١٧٣١).
1 / 24