مشکلہ العلوم الانسانیہ
مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها
اصناف
هذا الاتفاق المبدئي هو الذي أقام المرحلة الوصفية، وذلك التنازع هو الذي يعوق النجاح المنشود للمرحلة التفسيرية. فذلك التنازع - وبسبب تدخل العوامل الخارجية وضغوطها - على وجه الدقة العامل الذي تسبب فيما أسلفنا الإشارة إليه من تناقض التفسيرات الإنسانية، مقابل تكامل التفسيرات الطبيعية.
إن تكامل التفسيرات الطبيعية يتمخض فعليا وإجرائيا في التساوق والتآزر الجميل، والخصيب المثمر، بين اتجاهات النظرية وممارسات التجريب، مثلا بين الفيزياء النظرية أو البحتة وبين الفيزياء التجريبية أو المعملية. الأولى ترسم للثانية خطاها وتحدد أطرها. والثانية تحمل اختبارات الأولى ومحكاتها وشواهدها، وأيضا مواطن كذبها، بل أحيانا ضرورة تعديلها، أو حتى الثورة عليها، وسرعان ما يستجيب منظرو الفيزياء أنفسهم، كما حدث مثلا حين أثبتت تجربة مكلسون مورلي كذب «الأثير»، وكان ضروريا للفيزياء النظرية الكلاسيكية. وعبر استجابات نظرية عديدة لنتائج هذه التجربة - كمحاولات فيتزجيرالد ولورنتز وسواهما - أتتنا في النهاية الاستجابة العظمى، ألا وهي نظرية النسبية، هكذا يتساوق التجريب والتنظير في الفيزياء، وفي العلوم الطبيعية عموما، فتتآزر الجهود، وتتسارع معدلات التقدم، ويهتف باشلار: «أي تفاهم ضمني يسود الحاضرة الطبيعيانية.»
23
وبالمثل تماما، نجد تناقض التفسيرات الإنسانية يرتد فعليا وإجرائيا في الانفلاق الذي تشهده العلوم الإنسانية بين اتجاهات التنظير واتجاهات التجريب، ما يسهم في تباطؤ معدلات التقدم، والجدير بالذكر ها هنا أنه في الثلث الأول من القرن العشرين ساد علم الاجتماع، بتأثير من المدرسة الأمريكية، خصوصا مدرسة شيكاغو، انكباب محموم على التجريب، وعزوف تام عن التنظير؛ لأنه يذكر الاجتماعيين بالمرحلة قبل العلمية حين كانت المباحث الاجتماعية مشاكل فلسفية. طبعا سرعان ما أثبتت التجريبية المحضة عقمها وقصورها، وربما كانت سيادة البنيوية في المرحلة التالية من مسار علم الاجتماع في القرن العشرين، بمثابة رد فعل عكسي لهذا. وسادت البنيوية أمريكا وأوروبا، وارتفع لواؤها في البحوث العربية أيضا، وكما هو معروف تعتمد البنيوية التجريد غير الرياضي إلى أقصى حد ممكن في بحثها الدءوب عن الهيكل الثابت. والمحصلة لكل هذا أن تزايد في الآونة الأخيرة إحساس الباحثين بالبون الذي أخذ يتسع بين التنظير والتجريب، بحيث أصبحنا «نرى العلوم الاجتماعية صنفين في منهجياتها إما تجريبا مفرطا، وإما تلاصقا مع الواقع، أو بالأحرى فإن الاتجاهين يمثلان قطبين يتمركز حولهما عديد البحوث حسب الاهتمامات، والأغراض المتبعة، والمدارس الفكرية. ومما لا شك فيه أن البحوث الاجتماعية تنفلق حسب هذين التوجيهين الكبيرين: توجه نحو مزيد من البحوث الميدانية، وتوجه نحو تكثيف البحوث البنيوية».
24
وبالطبع الحال عينه في علم الاقتصاد، وأيضا في علم النفس؛ حيث يبز السلوكيون جميع باحثي العلوم الإنسانية في انكبابهم على التجريب وعزوفهم التام عن التنظيرات، بل حتى عن مناقشة النظرية السلوكية ذاتها! ربما كرد فعل عكسي لما كان من إفراط التحليليين المضجر بشأن الصروح النظرية الشاهقة والسحيقة التي ابتدعها خيال فرويد، وأصر على إقحامها في دهاليز ودياجير مفترضة للنفس الإنسانية. «مرة أخرى نشير إلى علم النفس المعرفي كوسط ذهبي يحمل إمكانية تقدمية بتدارك هذا الانفلاق.»
إن افتقاد التآزر المنطقي السليم بين اتجاهات التنظير واتجاهات التجريب لهو - في آن واحد - علة ومعلول لاضطراب الحدود المنطقية للعلوم الإنسانية، وهو في النهاية تمثل من تمثلات منطق مشكلتها، وحلها ينطوي على تدارك لهذا؛ لأنه شرط ضروري لمعدلات التقدم المنشود؛ ولأنه لا تفسير علميا بغير تنظير ملتحم بالتجريب. فغني عن الذكر أنه لا علم إخباريا أصلا بغير التجريب. أما النظرية فهي البوصلة الموجهة والعقل الهادي الضروري للم شتات المباحث الإمبريقية، لتوجهها وترسم إطارها، بل وترسم خطتها أصلا، فتحدد الوقائع المطلوب ملاحظتها، وبغير النظرية الكفء تغدو النتائج الإمبريقية هشيما يذروه الرياح، لا يعني شيئا، ولا يفضي إلى شيء، خصوصا إذا يممنا الأبصار صوب الهدف التفسيري بنجاح ملموس. إن النظرية الكفء بمثابة التتويج النهائي للمشروع العلمي، وبتعبير مجازي يمكن القول إن البحوث التجريبية والإمبريقية هي جسد العلم، والنظرية هي روحه، وكفاءة الممارسات والإنجازات العلمية تنطوي على كفاءة التوازن والتآزر بينهما، وهذا يعتمد على محكات علمية قوية - سنحاول طرحها - تحدد تخوم الطريق في متصل تقدمي صاعد صوب الهدف العلمي، وهو سيطرة العقل على الظاهرة موضوع البحث، ودائما نهدف إلى أن يكون هذا أعلى من المطروح في وقتنا، ليطرد التقدم العلمي.
الخلاصة أن تناقض التفسيرات في العلوم الإنسانية، ومعها قصور الممارسات سواء تطرفت في التنظير، أو أفرطت في التجريب ترتد إلى تأثيرات العوامل الخارجية المذكورة التي تجعل المشروع العلمي ليس نقيا خالصا، ليس علميا تماما، بل يمتزج ويتشابك مع أمور كثيرة غير علمية. والأرض التي يتأسس عليها المشروع العلمي الإنساني لم تمهد بما يكفي؛ إذ لم تحدد تخومها بدقة منطقية.
إن مهمة العلوم الإنسانية هي دراسة كل نشاط إنساني في كل مجال يزاوله الفرد أو الجماعة في الفكر والعمل، دراسة إخبارية؛ أي تهدف إلى الوصف والتفسير، ومن ثم التنبؤ والتحكم، تماما كما تهدف العلوم الطبيعية. ومع هذا فكما قيل بحق: «لا ريب أنها تختلف عن العلوم الطبيعية؛ لأن موضوعها العام هو «الإنسان في المجتمع إزاء العالم» فهي بذلك لا تستطيع أن تعتصم بعزلتها بحجة التخصص العلمي الدقيق، ولا بد أن تجد نفسها منخرطة في صميم الواقع الإنساني الاجتماعي، غير أن هذا يوجهه الالتزام العلمي بقدر ما كان يسيره نفوذ عناصر أخرى خارج العلم، وبذلك جاءت أنساقها مفتوحة الطرفين تدلف من قمتها الفلسفات أو الأيديولوجيا أو التقويمات، وتتسرب من قاعدتها التعميمات التجريبية دون أن تؤسس رصيدا متفقا عليه من الفروض المتحققة.»
25
نامعلوم صفحہ