مروج الذهب ومعادن الجوهر

المسعودی d. 346 AH
143

مروج الذهب ومعادن الجوهر

مروج الذهب ومعادن الجوهر

والأهرام وطولها عظيم، وبنيانها عجيب، عليها أنواع من الكتابات بأقلام الأمم السالفة، والممالك الداثرة، لا يحرى ما تلك الكتابة ولا ما المراد بها، وقد قال من عنى بتقدير ذرعها: إن مقدار ارتفاع ذهابها في الجو نحو من أربعمائة ذراع، أو كثر، وكلما علا به الصعداء دق ذلك، والعرض نحو ما وصفنا، عليها من الرسوم ما ذكرنا، وإن ذلك علوم وخواص وسحر وأسرار للطبيعة، وإن من تلك الكتابة مكتوب: أنا بنيناها فمن يدعى موازنتنا في الملك وبلوغنا في القدرة وانتهاءنا من السلطان فليهدمها، وليزل رسمها؟ فإن الهدم أيسر من البناء، والتفريق أيسر من التأليف، وقد ذكر أن بعض ملوك الإسلام شرع في هدم بعضها فإذا خراج مصر وغيرها من الأرض لا يفي بقلعها، وهي من الحجر والرخام، والغرض في كتابنا هذا الإخبار عن جمل الأشياء وجوامعها، لا عن تفصيلها وبسطها، وقد أتينا على سائر ما شاهدناه حسا في مطافاتنا الأرض والممالك، وما نمي إلينا خبرا من الخواص وأسرار الطبيعة من الحيوان والنبات والجماد في عجائب البلدان والآثار والبقاع، في كتابنا المترجم بكتاب القضايا والتجارب. ولا تمانع بين ذوي الفهم أن في مواضع من الأرض مدنا وقرى لا يدخلها عقرب ولا حية، مثل مدينة حمص ومعرة وبصرى وإنطاكية، وقد كان ببلاد إنطاكية، إذا أخرج إنسان يده خارج السور وقع عليها البق، فإذا جذبها إلى داخل لم يبق على يده من ذلك شيء، إلى أن كسر عمود من الرخام في بعض المواضع بها، فأصيب في أعلاه حق من نحاس في داخله بق مصور من نحاس نحو كف، فما مضت أيام - أو على الفور من ذلك - حتى صار البق في وقتنا هذا يعم الأكثر من دهرهم، وهذا حجر المغناطيس يجذب الحديد، ولقد رأيت بمصر حية مصورة من حديد أو نحاس توضع على شيء ويدنى منها حجر المغناطيس فتحدث فيها حركة تباعد منه، وحجر المغناطيس إذا أصابته رائحة الثوم بطل فعله في الحديد واذا غسل بشيء من الخل أو ناله شيء من عسل النحل عاد إلى فعله الأول من جذب الحديد، وللمغناطيس في الحديد خواص عجيبة غير ما ذكرنا كالحجر الماص للدم، والله عز وجل قد استأثر بعلم الأشياء، وأظهر للعباد ما شاء ما لهم فيه الصلاح على قدر الوقت وحاجتهم فيه إليه وأشياء استأثر بعلمها لم يظهرها لخلقه؟ فلا تقف العقول على كنهها، وكما يجمع بين أشياء فيحدث لاجتماعها معنى هو غيرها، كما يحدث من ماء العفص والزاج عند الاجتماع من شدة السواد، وكحدوث جوهر الزجاج عند جمعنا بين الرمل والمغنيسيا والقلى عند الطبخ والسبك لذلك، وكذلك لو جمع بين ماء القلي وماء المرتك وهو المرداسنج خرج الحارث من مزاجيهما كالزبد بياضا، وإذا مزج ماء القلي بماء الزاج خرج من مزاجيهما لون أحمر كالعصفر، وكجمعنا في النتاج بين الفرس الأنثى والحمار فتحدث بغلا، ولو نتج دابة على أتان لخرج منها بغل أفطس ذو خبث ودها يسمى الكودن.

وقد ذكرنا النتاج الذي كان بصعيد مصر مما يلي. الحبشة، وما كان ينتج من الثيران على الأتن، والحمير على البقر، وما كان يحدث من ذلك من الدواب العجيبة التي ليست بحمير ولا بقر كالبغل التي ليس بدابة ولا حمار.

وقد ذكرنا ضروب التوليدات في أنواع الحيوان والنبات من تطعيمهم الغررس والأشجار وما تولد من الطعوم في المذاق في كتابنا المترجم بكتاب القضايا والتجارب في أنواع الفلاحات وغيرها، وذكرنا باب خواص الأشياء ومعرفتها والطلسمات وعجائبها، وهو باب كبير في ذكر بعضه نيابة عن بعض، والجزء منه يوهمك الكل، واليسير منه يدلك على معرفة الكثير.

ويمكن - والله اعلم أن تكون هذه الخواص والطلسمات والأشياء المحدثة في العالم للحركات مما وصفنا والدافعة والمانعة والمنفردة والجاذبة والفاعلة في الحيوان وغير ذلك مثل الطرد والجذب - كانت دلالة لبعض الأنبياء في الأمم الخالية، جعلها الله كذلك لذلك النبي دلالة ومعجزة تدل على صدقه وتنبيئه من غيره ليؤدي عن الله أمره ونهيه وما فيه من الصلاح لخلقه في ذلك الوقت، ثم رفع الله ذلك النبي، وبقيت علومه، وما أبانه الله عز وجل مما ذكرنا، في أيدي الناس، وأصل ذلك أنهى كما وصفنا، إذ كان ما ذكرنا ممكنا غير واجب ولا ممتنع في القدرة.

قال المسعودي: فلنرجع إلى ما كنا فيه من أخبار ملوك مصر.

بقية ملوك مصر

صفحہ 161