لم يدر البتة لماذا سماه المحيط «الهادر». ربما فعل ذلك لأنه كان في غاية من الإنهاك لدرجة أنه إذا لم يتدبر أن يضحك في نفسه بشأن شيء ما، فمن الوارد جدا أن ينهار على الطريق ويرقد بلا حراك دون أن يعبأ البتة بملابسه الجديدة، أو أي شيء آخر في العالم بأسره .
في تلك اللحظة انفتح الباب السلكي المؤدي من الشرفة إلى داخل المنزل الجميل، الذي كان خارجه بأكمله بمثابة دعوة رقيقة تستميل الزوار، وخرج منه رجل طويل القامة نحيل القد، أرستقراطي الهيئة من رأسه إلى قدميه، ممشوق القوام، ذو شعر أبيض طويل مثل الحرير مسترسل إلى الوراء بداية من جبهته، ولحية ناعمة قصيرة من حرير أبيض فضي متموج ممتدة حتى صدره، رجل ذو أنف طويل نحيف، وعينين واسعتين غائرتين، وشفتين شاحبتين. راح يترنح وهو يعبر الشرفة، وقد قبض على جانبه الأيسر بكلتا يديه وظل يتهادى يمينا ويسارا حتى بلغ البوابة. فرفع يديه عن جنبه وتشبث بالبوابة. فمال إليها وتعلق بها وجال ببصره في الطريق من أقصاه إلى أدناه، وهناك لمح جيمي. فرفع إحدى يديه ولوح بها.
ظل جيمي واقفا هناك يحدق إليه، وببطء وتأن، أنزل قدمه المتورمة على الطريق الصلب ثم تبعها بالأخرى، وأخذ بضع خطوات في اتجاه الرجل. توقف مرة أخرى ليحدق فيه، فلاحظ الخطوط الدقيقة في الوجه الهرم المكروب للبدن المتعلق بالبوابة، وملابسه المهندمة، وسلوكه المضطرب. ومن ثم، بكل ما استطاع حشده من قوته، أخذ جيمي بضع خطوات أخرى وصار على مرمى سمعه، فنزل على أذنيه المذهولتين والمرتابتين صيحته المكتومة إذ قال: «النجدة! أنقذني أيها الفتى أستحلفك بالله!»
قبل دقيقة لم يكن جيمي ليصدق أن باستطاعته مساعدة أي شخص أو أي شيء. فقد كان يتصور أنه قد بلغ حدود طاقته، وأنه إن لم يجد من ينجده هو نفسه في غضون دقائق قليلة فسوف يفوت أوان نجدته. لكن كان ثمة شيء في بياض الرأس العجوز الطيب، شيء ما في عرض منكبيه ونحول جسده ذكر جيمي بأبيه، وربما لأنه تذكر أباه، رفع جيمي عينيه أعلى المنزل الأبيض البديع، وفوق الأشجار المتشابكة المحيطة به، وفوق كرومه التي سترته، لأعلى نحو السماء، وفي أعماق قلبه أعطى أمرا حاسما. «لا بد أن تساعدني الآن، يا رباه! لا بد أن تساعدني الآن!»
ثم كور قبضتيه بإحكام شديد إلى جنبيه وعبر الخطوات الثلاث الأخرى نحو البوابة . واستجمع قواه ليفتحها، ووضع ذراعه حول الجسد العجوز المستند إليها، وسمع نفسه يقول بصوت جاف لاهث: «مهلا، بالطبع، سوف أساعدك!» ولم يكن لديه أدنى فكرة إن كان هو نفسه يستطيع السير ثلاث خطوات أخرى أم لا.
لكنه بالفعل خطا الخطوات الثلاث الأخرى، وفتح الباب السلكي، واتجه بالرجل المتعب الذي يحاول إسعافه نحو أريكة كبيرة وأنزله عليها، موفرا له الراحة على الوسائد التي ضغطها سريعا. ثم هبط إلى ركبتيه، وتشبث بجانب الأريكة، وتكلم مرة أخرى بصوته الجاف منقطع الأنفاس: «ماذا أفعل؟»
في حركة عفوية لمست يدا الرجل المتعب منطقة قلبه. فحدث جيمي نفسه، وقد صفا ذهنه إزاء مصاب رجل آخر قائلا: «إن ألمه قريب جدا من مكان ألمي.» فكرر سؤاله مرة أخرى: «ماذا أفعل؟»
فجاء الرد: «الهاتف. يجب أن تتصل بطبيبي. يجب أن تصل بي إلى مستشفى.»
نهض جيمي بالاتكاء على الأريكة ونظر حوله. ثم رأى هاتفا على الجدار ومنضدة صغيرة أمامه وعليها دليل هاتف مفتوح، فجلس على المقعد وتنفس بعمق مرة أو مرتين. ثم سأل من فوق كتفه: «هل تستطيع إعطائي الرقم؟»
بعد نوبة من الألم جلبت العرق للجبهة البيضاء المرتفعة فوق الحاجبين الأبيضين اللذين ظللا عينين كبيرتين بدتا مثل بركتين من السواد، جاءت الإجابة: «ستجد الرقم والاسم في القائمة الموجودة بجانب الهاتف. دكتور جرايسون.»
نامعلوم صفحہ