في نحو الساعة العاشرة ذلك الصباح التقى بالحارس. لم يكن حارس هذا الوادي على وجه الخصوص منعزلا تماما شأن حراس الجبال؛ لذا كان ودودا. فقد توقف للتحدث معه مدة دقيقة، وبينما كان ينظر إلى جيمي نظرة عابرة لاحظ ضعف جسده، وشحوب يديه، وكيف أن بشرة وجهه مشدودة على عظام هزيلة، ولأنه شاب ومفعم بالحيوية، ويجري في دمائه عطف جارف على أخيه الإنسان، فقد قال لجيمي: «تقول لي أمي إنني إذا أفرطت في امتطاء الخيل فسأصاب بالنقرس في قدمي. ما رأيك أن تركب الحصان خلال الأميال القليلة القادمة وتسمح لي أنا بالسير؟»
قال جيمي إنه يسره ركوب الحصان إن كان هذا يناسب الحارس، لكنه لم يكن قد وضع في اعتباره ما سوف يفعله خطو الحصان بالجزء الأيسر من صدره. ورغم أنه استقر على السرج في وضع مريح بقدر ما استطاع، فقد كان الركوب مؤلما حتى إنه لم يستطع تحمله طويلا، ومن ثم، بعد ميل أو اثنين، اضطر إلى السير مرة أخرى. لكنه كان ممتنا بالعرض، وقد بدأ يستنبط في ذهنه على نحو مبهم الشعور بأن العالم يتكون من أشرار وأخيار، من أشخاص أنانيين وأشخاص يراعون الآخرين، من أشخاص قساة وأشخاص رحماء، وأي النوعين ستقابل حين تضطلع بمغامرة كبرى ما هي إلا مسألة حظ فحسب.
منذ التقى بالحارس فصاعدا، صارت مغامرة جيمي أميالا بطيئة من العذاب، وهو لا يزال متجها نحو الجنوب الغربي، حتى صارت الساعة الثالثة تقريبا من عصر ذلك اليوم. لم يكن أحد قد ترك علبة طعام ولم يكن هناك مكان يمكنه أن يشتري منه طعاما بالبنسات القليلة التي يحملها. كان قد غادر الوادي واتبع طريقا راح يتسع حتى صار مستوعبا للخيل والمركبات، فكانت تمر به سيارة من وقت لآخر؛ لكنه ليس طريقا كثير المسافرين؛ ليس من الطرق المزدحمة، ولا المعتنى بها، وقد صار من الصعب على جيمي مواصلته أكثر فأكثر؛ لأن قدميه كانتا قد تحملتا كل ما يمكن لقدم بشرية تحمله حين تتصل بشخص مريض يدفع نفسه ببسالة لأقصى حدود طاقته.
قرب الساعة الرابعة بدأ الجوع الذي كان معلقا منذ الليلة السابقة يعذبه مجددا. كان الإرهاق قد بلغ به درجة أنه وجد نفسه يحيد عن دربه خطوتين أو ثلاثا؛ لكيلا يضطر إلى رفع قدميه ولو قليلا ليخطو فوق نتوء صغير على الطريق. وقد بدأ يدرك أن فرصة الحصول على مأوى لقضاء هذه الليلة قد أصبحت ضئيلة. وكذلك فرصة العثور على طعام ضئيلة بالمثل. حتى الآن أسفرت مغامرته عن نقاط مضيئة، ومواقف مثيرة، ومواقف مؤلمة. أما في تلك اللحظة، بين الشعور بالوجع المتأجج في صدره والالتهاب المشتعل في حذائه والألم الذي عم جميع أنحاء جسده المعذب، فإنه لم يستطع أن يرى جدواها. شرع يتساءل ما إن كان يستطيع أن يعود أدراجه إلى المستشفى وما إن كانوا سيقبلونه، ثم خطر على ذهنه أمر الطاعون الأبيض الذي قالوا إنه لم يصبه بعد، فأغلق شفتيه بإحكام شديد بينما وقف مترنحا وهو يحدق مثل رجل شبه مخمور في الطريق الممتد أمامه، محاولا أن يحدد ما إن كان مسار العربات على يمينه يبدو أكثر سلاسة ولو قليلا من مسار العربات الذي على اليسار. حين قرر أن الذي على اليمين هو المناسب له ليسلكه سار مترنحا بخطوات واسعة وبدأ التقدم، وراحت عيناه تتفقدان الطريق خلسة على الجانبين بحثا عن البقعة التي سينهار فيها أخيرا. وتساءل، ما إن كان سيعثر عليه أحد إذا تعثر وسقط ولم يستطع النهوض، إذا استلقى غائبا عن الوعي في منتصف الطريق، وماذا سيفعلون به إن عثروا عليه.
إن البحث في جانبي الطريق جعل جيمي لا يلاحظ النقطة التي تحول فيها الطريق حتى وجد قدميه تتبعانه، ثم نظر قبالته فاتسعت عيناه وشهق شهقة خفيفة. إذ تسنى له أن يرى على الطريق، على بعد بضع قصبات (وحدة قديمة لقياس الطول تساوي خمس يارادات ونصفا) فحسب عن اليمين، منزلا صغيرا، ومن بين كل المنازل التي قد حلم بها من قبل، واعتقد أنه يود للغاية أن يمتلكها ويعيش فيها، بدا له ذلك المنزل الأكثر جاذبية.
كان قائما على مقربة من الطريق. وقد امتد بحذاء واجهته سور أبيض من الأوتاد الخشبية. وحجبه عن الطريق بوابة بيضاء أنيقة. وبدت واجهته المطلية رقيقة وساحرة. وقد تجلت سمات نيو إنجلاند في أرجائه. وتسلقت زواياه نباتات معترشة مزهرة واعتلت شرفاته الصغيرة الأمامية. خارج البوابة استطاع أن يرى دائرة من الصدف المجروش، وخيل إليه أن الممشى المؤدي إلى الباب الأمامي قد يكون مصنوعا من الأصداف. بدا واقعا في موقع قريب جدا من الطريق ولم يكن هناك مساحات كبيرة من التربة الخالية على جانبيه. حيث بدت كلها مليئة بالزهور نفسها التي كان جيمي يساعد في العناية بها في حديقة أمه في نيو إنجلاند. أمكنه أن يرى زهور الخطمية، التي استطالت حتى طالت أفاريز المنزل، وتعددت ألوانها، وعن اليمين واليسار استطاع أن يلحظ تدرج ألوان الكبوسين والزينيا والمخملية، واستطاع أنفه الحساس التقاط الرائحة النفاذة لزهور رقيب الشمس والبليحاء وأذن الفأر والبنفسج، لكن ما طغى على كل شيء آخر كان الانطباع لديه بوجود سحابة زرقاء، زرقة لطيفة جميلة تبعث على السكينة.
ظل جيمي يتمايل محملقا في المنزل في لهفة. وحمله نظره لما وراءه، فرأى أنه على الجانب الآخر من السور الفاصل يوجد فناء آخر ومنزل آخر، ثم أخذت المنازل تتجمع على نحو يبث الألفة على جانبي الطريق، وظلت المنازل تنتشر على مرمى بصره هنا وهناك، كدلالات أخرى على الحياة. وفي تلك اللحظة بلغ أذنيه على نحو رقيق ارتداد الأمواج ببطء، وانتظام فيما ربما كان أدنى مستويات المد والجزر للبحر.
في ظل ما انتابه من إنهاك، خدر الألم حواسه؛ إذ كان قد سار طوال الجزء الأكبر من وقت ما بعد الظهر، مثقلا، شبه واع، أما الآن وقد مسه اقتراب البشر، ومسه جمال منزل أحد الأشخاص، فقد تحمس لوجود احتمال ما أنه قد يجد المأوى والطعام، فتدفق دمه الراكد، ورفع رأسه، ولمعت قليلا عيناه المطفأتان، واتجه أنفه القوي نحو الغرب وتشمم مستطلعا. ثم قال جيمي، بصوت جهوري، من أغوار المجهول: «إن لم يكن أنفي الخبير يكذبني،
فيبدو أنني أشم ...
ما لا بد أنه المحيط «الهادر»!»
نامعلوم صفحہ