مقامرة التاريخ الكبرى
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
اصناف
هذه بديهيات معروفة، ولكن المرء يجد نفسه مضطرا إلى التذكير بها في مرحلة التزييف الفكري التي نعيشها في أيامنا هذه، وفي زمن خروج الجرذان من الجحور بعد بيات شتوي طويل، فهل يكون من حقنا، ونحن نستنكر الاستبداد الذي كانت تمارسه الأنظمة الشيوعية الحاكمة على شعوب رومانيا أو بولندا أو المجر، أن نصل إلى حد ننسى معه فظائع الاستعمار، الذي هو الابن الشرعي للرأسمالية، في الكونغو وكينيا وأنجولا وبقية القارة الإفريقية ومعظم بلاد آسيا؟ هل من حقنا أن ننسى وجود إمبراطورية أميركية بكل معاني الكلمة، حتى عهد قريب، في أميركا اللاتينية؟ هل من حقنا أن ننسى أن الرأسمالية لا تزال حتى هذه اللحظة تمارس أساليب الاستعمار التقليدي في غزو الجيوش الجبارة لبلاد صغيرة مغلوبة على أمرها مثل جرينادا وبنما حيث يتداخل القهر الاستعماري مع الاستغلال الاقتصادي مع استخدام عصابات المرتزقة مع فرض أبشع أنواع الدكتاتورية العسكرية؟ الحق أن المرء يحار في تفسير الاهتمام المفرط بالمصير الذي حل بأوروبا الشرقية على أيدي الشيوعيين، والتجاهل التام لمصير بلاد العالم الثالث على أيدي الرأسمالية.
أيكون ذلك راجعا إلى أن الأوروبيين شعوب راقية، لا يصح أن تهان أو تظلم، على حين أن الإفريقيين والآسيويين والأميركيين اللاتينيين ملونون أو مختلطون، لا تجوز عليهم الرحمة، ولا تنطبق عليهم مواثيق حقوق الإنسان؟
إن للمرء كل الحق في أن ينتقد بشدة الأوضاع الجائرة التي فرضتها الأحزاب الشيوعية على أوروبا الشرقية، غير أن الخطورة الحقيقة تكمن في القفز من هذا الانتقاد إلى الثناء العاطر على الرأسمالية، فهذه نقلة غير جائزة، وخاصة بين شعوب العالم الثالث التي اكتوت، وما تزال، بنار الاستعمار وتسلط رأس المال.
وحقيقة الأمر أن الرأسمالية تظل ظالمة وغير إنسانية، بغض النظر تماما عما يحدث في الكتلة الشرقية.
لا مفر في وقت تغيم فيه الرؤية وتغيب الحقائق الواضحة، من أن نواصل التذكير بالبديهيات، فالأنظمة الشيوعية قد أخفقت في أن توفر لمجتمعاتها مستوى جيدا من الغذاء ... هذا خطأ فادح بلا شك، ولكن أيهما أكثر شرا: ذلك النظام الذي يصل الخلل والإهمال فيه إلى حد العجز عن الوفاء باحتياجات أساسية للبشر، أم ذلك النظام القادر على أن ينتج ما يفيض عنه، ولكنه يحرق الحليب والزبد، ويلقي بفوائض المواد الغذائية إلى البحر حتى لا تنخفض أسعارها؟ إننا لا نشير هنا إلى ما كان يحدث أميركا أيام الكساد العظيم في أواخر العشرينيات فحسب، بل إلى ما حدث في أواخر الثمانينيات وفي قلب السوق الأوروبية المشتركة، وفي الوقت ذاته الذي كان مئات الألوف فيه يموتون جوعا في القارة الإفريقية. ومع ذلك فإن هذا العيب في حالة النظام الرأسمالي، ليس ناجما عن سوء إدارة أو أي خلل طارئ، وإنما هو جزء من طبيعة النظام وآلياته وبنيته الأساسية.
هل نواصل التذكير ببديهيات أخرى، فنقول إن الحريات، التي كانت مكمن الضعف في أسلوب الحكم السائد في المنظومة الاشتراكية كلها، ليست مكفولة في قلاع الرأسمالية إلى الحد يتصوره ذوو النوايا الحسنة، وأن هناك ضروبا من الازدواجية تشوه الصورة التي تبدو للسذج ناصعة البياض كازدواجية الرفاهية التامة في جانب والبطالة واسعة النطاق في جانب آخر، وازدواجية السيطرة التامة للأقوياء وعدم الأمان للضعفاء، وازدواجية منح الحريات في الداخل وسلب الحريات من الدول الواقعة تحت السيطرة في الخارج (تايلاند، الفلبين، إلخ) ... وازدواجية الأبيض والملون، والمساواة النظرية في الفرص من ناحية، وانعدام وجود تكافؤ حقيقي للفرص من ناحية أخرى؟
ولو أصر المهللون للرأسمالية على إلغاء ذاكرتهم، ونسيان التاريخ، والتغافل عن الكوارث التي أنزلتها الرأسمالية بالعالم الثالث عامة، والمصائب التي جرتها «بركات» الرأسمالية على العالم العربي بوجه خاص، لتولت قلعة الرأسمالية الكبرى في العالم المعاصر، بدلا منا، مهمة تنشيط ذاكرتهم وإيقاظ وعيهم، فقد جاء الغزو الأميركي لبنما تنبيها للغافلين. وبقدر ما تعي ذاكرتي من أحداث سياسية على مدى العقود الأخيرة، فإني لم أصادف في حياتي تصرفا أغبى من هذا الغزو، ففي الوقت الذي كانت فيه أحداث أوروبا الشرقية تصل إلى درجة الغليان، وفي الذي بدا فيه للكثيرين أن اكتشاف عيوب فادحة في ممارسات الأنظمة الاشتراكية، وسقوط أقوى رموز هذه الأنظمة، يعني أن الرأسمالية هي البراءة والطهارة، وهي المال والمصير، في هذا الوقت بالذات، تأبى الولايات المتحدة إلا أن تذكر الغافلين بأن الديمقراطية التي تسهر الرأسمالية على حراستها لها أيضا أنياب ومخالب (مع الاعتذار لروح الزعيم العربي الذي ابتكر هذا التعبير البليغ)، وتتطوع بتقديم خدمة كبرى للأيديولوجية المضادة التي كانت في هذه اللحظة بالذات تمر بأسوأ مراحل أزمتها، وتتكفل مشكورة - بتكذيب الأصوات التي انتهزت فرصة الأزمة لكي تهتف: الرأسمالية هي النظام الطبيعي للإنسان! فهل كان من المحتم غزو بنما لإسقاط نورييجا في هذا الوقت بالذات؟ وهل يساوي نورييجا الثمن الفادح الذي دفعته أميركا من سمعتها، والمكسب الذي هبط على جورباتشوف من السماء في أحرج أوقات أزمته؟ غباء منقطع النظير، دون شك، ولكنه أفادنا فائدة لا تقدر؛ لأنه أعاد إلى العقول الغافلة اتزانها، ونبهها إلى حقيقة بسيطة عظيمة الأهمية، هي أن خطايا أحد المعسكرين العالميين لا تعني أن المعسكر الآخر هو الفضيلة المجسمة، وهو الملجأ الأول والملاذ الأخير.
والحق أن كبريات الدول الرأسمالية في عالم اليوم لا تشارك هؤلاء «المعجبين» تفاؤلهم، فهناك نوع من القلق الخفي يستشفه المرء من ثنايا تصريحات المسئولين في هذه الدول، وإن لم يكونوا يكشفون عنه بوضوح، حرصا منهم على أن يتركوا أحداث أوروبا الشرقية تتفاعل إلى أقصى مداها، ففرنسا تخشى من عودة الوحدة إلى ألمانيا، ذلك الجار العملاق الذي أذاقها ويلات أربع حروب كبرى خلال القرنين الأخيرين، وأوروبا الغربية ككل ترى الحل في مزيد من التوحد من أجل امتصاص خطر العملاق الألماني، ولكن إنجلترا لا ترتاح إلى وحدة «القارة»، وأميركا تشعر بأن أوروبا الموحدة ستكون قوى منافسة لها، وليست بالضرورة متحالفة معها، لا سيما وأن التحالف العسكري قد فقد مبرر وجوده حين لم يعد هناك خصم عدواني يقوم الحلف من أجل مواجهته. وهكذا فإن المعسكر الرأسمالي يشعر في داخلة بأنه هو ذاته مقبل على تغيرات لا يستهان بها، قد لا تتخذ طابع العنف كتلك التي حدثت في أوروبا الشرقية، ولكنها ستكون قطعا عميقة الجذور.
فالرأسمالية بدورها لا بد أن تغير مسارها تغييرات حادة حتى تتمكن من مواجهة الأوضاع الجديدة في عالم منزوع السلاح. وإذا كنت قد تحدثت من قبل باستفاضة عن نزع السلاح المادي، وتأثيره الهائل، الذي بدأ يظهر منذ الآن في صورة شركات ضخمة للأسلحة تغلق أبوابها أو تسرح عمالها، فلنتذكر جميعا أهمية نزع السلاح المعنوي. إن على الرأسمالية أن تعيد تكييف أوضاعها بحيث تلائم عصرا لن تعود فيه قادرة على انتقاد الاشتراكية بحجة أنها عدوانية تكبت الحريات وتلغي فردية الإنسان، مع أن هذا الانتقاد هو الزاد المعنوي الذي عاشت عليه الرأسمالية طويلا، وكسبت بفضله عددا لا يحصى من الأصدقاء. ولكن ماذا سيكون حالها حين تفقد هذا السلاح بدوره، وحين تبدأ الأيديولوجية الخصم في سلوك ذلك الطريق الشاق والطويل الذي يؤدي إلى الجمع بين الاشتراكية والإنسانية في مركب واحد؟
لا شك في أن لون الحياة أمام الرأسمالية لن يكون، كما يتصور الكثيرون، ورديا؛ فهي بدورها مؤهلة لتغييرات حاسمة في هياكلها الأساسية، ولكن هذا يتوقف بالطبع على مدى نجاح الأيديولوجية المضادة في الجمع بين الاشتراكية والنزعة الإنسانية، وهو موضوع بحثنا القادم.
نامعلوم صفحہ