ـ[المقفى الكبير]ـ
المؤلف: تقي الدين المقريزي (المتوفى: ٨٤٥ هـ = ١٤٤٠ م)
المحقق: محمد اليعلاوي
الناشر: دار الغرب الاسلامي، بيروت - لبنان
الطبعة: الثانية، ١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م
عدد الأجزاء: ٨ (الأخير فهارس)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
نامعلوم صفحہ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
عرّف السخاوي (ت ٩٠٢) التاريخ بأنّه «الوقت الذي تضبط به الأحوال من مولد الرواة والأئمّة ووفات [هم]» (١) فجعل لعلم التراجم المنزلة الأولى. أمّا الحوادث والماجريات فهي منه في المحلّ الثاني: «ويلتحق به ما يتّفق من الحوادث والوقائع الجليلة». ويبرّر هذا التفضيل لفنّ التراجم، أو ما يسمّى أيضا علم الرجال أو الطبقات أو الوفيات، بحاجة المرء إلى التعرّف على تواريخ الرواة في ولاداتهم ووفياتهم، علاوة على أحوالهم الأخرى من صحّة العقل والبدن، ومدى ارتحالهم في طلب العلم من مختلف الأمصار، وتعرّضهم إلى الجرح والتعديل، حتى يعرف مقدار الوثوق بهم وبروايتهم.
والرواية المقصودة إنّما هي رواية الحديث النبويّ الشريف، فهو في نظره «أساس الإسلام، وأصل الأحكام، ومبيّن الحلال والحرام» (٢). فلا غرو أن يصبح عنده «علم التاريخ فنّ [ا] من فنون الحديث النبويّ» (٣). وقد أكّد المستشرق فرانز روزنتال، الذي اختصّ بدراسة المؤرّخين المسلمين، على هذه الصلة فقال: «كتب التراجم نشأت بدافع تدعيم علمي الحديث والفقه» (٤). ولا عجب كذلك أن يسمّى كتاب وفيات الأعيان «تاريخ ابن خلّكان». وقبله كان «تاريخ» البخاري كتاب رجال سند، وكذلك طبقات ابن سعد وطبقات خليفة بن خيّاط.
تمّ وقع التفريع والاختصاص، إمّا بحسب صنوف العلم: طبقات القرّاء- وفيات النقلة- معجم الأدباء ... وإمّا بحسب المذاهب والنحل: الحنابلة- الشافعيّة- المعتزلة- الصوفيّة ... وإمّا بحسب الأزمنة والعصور: رجال القرنين السادس والسابع (كتاب الروضتين) - البدر الطالع (ما بعد القرن السابع) - تراجم المائة الثامنة (الدرر الكامنة) - الضوء اللامع (تراجم القرن التاسع) إلخ ... وإمّا حسب الأصقاع والبلدان: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي- تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر- تاريخ نيسابور- تاريخ مكّة ...
_________
(١) الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ، نشر القدسيّ، بيروت ١٩٧٩، ص ٧.
(٢) الإعلان ص ٢٠، نقلا عن محمد بن يوسف المدني نزيل بلخ.
(٣) الإعلان ص ٤٤.
(٤) مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، تعريب أنيس فريحة، بيروت ١٩٦١ ص ١١٥.
1 / 5
وإلى هذا الصنف ينتسب كتاب «المقفّى» للمؤرّخ المصري الكبير تقيّ الدين المقريزيّ. ولذلك يسمّيه السخاوي نفسه تارة «تاريخ مصر» وتارة «تاريخ المقريزي» (١) مع أنّ المقريزي ألّف أيضا تواريخ في الحوادث والماجريات، منها اتّعاظ الحنفاء وكتاب السلوك. وقد نبّه المقريزي إلى هذه الميزة في المقفّى فقال: «كتابنا الكبير المقفّى هو كتاب تراجم ووفيات، كما أنّ هذا الكتاب (السلوك) كتاب حوادث وماجريات» (٢). فهو كتاب تراجم مصريّة أي تراجم أعيان ولدوا بمصر ونشئوا بها أو طرءوا عليها فتعلّموا بها أو اتّخذوها مقرّا دائما. وقد تفوق نسبة الطارئين والزائرين المارّين نسبة الأصيلين المقيمين، ممّا يبعد الكتاب عن أن يكون «معجما قوميّا» بالمعنى المعاصر للقوميّة، لا سيّما وأنّ الكتاب وصل إلينا مبتور الأوّل والآخر، فلا يمكن لنا أن نعرف منهج المقريزيّ في تصنيفه، ولا الغاية التي قصد إليها، ولا الأسّ الذي بنى عليه اختياره. وأقصى ما نظفر به هو إشارات عابرة في غضون بعض التراجم نفهم منها أنّه يذكر كلّ من عاش بمصر من الأعيان ومن ورد عليها، حتّى من دخلها ميتا في تابوت! ولا نعرف كذلك السرّ في وسمه بالمقفّى؟ وقد لاحظ الصفدي في الوافي (١/ ٦٣) أنّ «المقفّى اسم من أسماء الرسول ﷺ». فهل ختم به المقريزيّ كتبه كما كان محمد خاتم الرسل؟ .
والمقفّى وصل إلينا ناقصا مبتورا، في خمسة أجزاء تتضمّن بعض حروف المعجم دون البعض، زيادة على ما نفتقده فيها من تراجم يصرّح المقريزي نفسه بأنّه أنجزها في الكتاب. وهذه الأقسام تتوزّع كما يلي:
- جزء بالمكتبة الوطنية بباريس (٣) يشمل بعض التراجم من حرف الطاء وترجمة وحيدة من الظاء، وجانبا وافرا من حرف العين، عبد الله وأضرابه، دون علي وعمر، والمجموع ١٥٩ ترجمة.
- ثلاثة أجزاء بالمكتبة الجامعيّة بليدن (٤) مرتّبة ل ١ ول ٢ ول ٣، تشمل نحو عشرين ترجمة من حرف الهمزة، وترجمتين في الكاف، وثلاثا في اللام، ثم جانبا كبيرا- وربّما كاملا- من المحمّدين.
ومجموعها ٢١٢٦ ترجمة (٨٤٨+ ٦٩٥+ ٥٨٣).
وهذه الأجزاء الأربعة هي التي عرفها المستشرقون منذ القرن التاسع عشر، وبعض الدارسين في عصرنا الحاضر، فوصفوها ونبّهوا إليها ونشروا أو ترجموا نماذج منها أو مجموعات مختصّة كما فعل الإيطالي أماري بالصقلّيّين من المترجمين (٥) أو حبيب الزيّات بأصحاب النوادر والفكاهات (٦). وهي جميعا مسوّدات بخطّ المقريزيّ كما نبّه إلى ذلك دارسوها الأوّلون مثل دوزي (٧) وكاترومير، وكما يتّضح من مقارنة خطّها بخطّ الصفحات النموذجيّة من مخطوط كتاب السلوك التي صدّر بها المرحوم محمد
_________
(١) الضوء اللامع للسخاوي ١/ ١٧٥ (ترجمة إبراهيم بن مكرم) و٢/ ٢١ في ترجمة المقريزي.
(٢) السلوك ٢/ ٣٦٥.
(٣) باريس رقم ٢١٤٤.
(٤) ليدن رقم ١٣٦٦.
(٥) أماري: المكتبة العربية الصقليّة.
(٦) حبيب الزيّات بمجلة المشرق لسنة ١٩٣٧، ص ١٨٠.
(٧) دوزي: ملاحظات عن بعض مخطوطات ليدن (بالفرنسية)، ليدن ١٨٥١.
1 / 6
مصطفى زيادة طبعته لهذا الكتاب، وهو خطّ مؤلّفه كما بيّن المحقّق. هذا، وسنفصّل الحديث عن هذه المخطوطات «الأوروبيّة» حين نقدّم الكتاب إلى الطباعة.
أمّا الآن فنبحث في القسم الخامس- وهو في الواقع الأوّل لأنّه يفتتح بالهمزة ويتواصل حتى الخاء- وهو مخطوط المكتبة السليمية بإسطنبول (١) الذي لم يحظ بكشف ولا وصف، ما عدا وثيقة التثبّت من صحّة عنوانه وصحّة نسبته إلى المقريزي، وهي وثيقة محرّرة سنة ١٢٤٦/ ١٨٢٩ من شخص اسمه عبد الباقي لم يذكر صفته ولا تاريخ الحصول على المخطوط ولا مصدره.
وهو مخطوط حقيق بالبحث الدقيق عن طرق وصوله إلى المكتبة التركيّة: فهو الجزء الوحيد، من أقسام المقفّى الخمسة، الذي وصل إلينا في شكل نهائيّ، لا في مسوّدة. وهو ليس مكتوبا بخطّ المقريزي السريع المضطرب، بل هو مكتوب بخطّ أنيق نظيف متأنّ- وإن كان صعب القراءة أحيانا لقصور الناسخ عن فهم الكلمة. ثمّ إنّه أكمل مادّة وأوضح نسقا وأبين تنظيما من أجزاء باريس وليدن:
فتراجمه مسترسلة من حرف الهمزة إلى الخاء، دون انقطاع فجائيّ كما في مخطوط ليدن ١ بين الهمزة والكاف، ودون اختصار محيّر كما في مخطوط باريس الذي حصر حرف الظاء في ترجمة ظافر الحدّاد وحده.
ولهذا الجزء خاصّيّة أخرى، ولكنّها تبعث على التساؤل: فقد ذكرت فيه كافّة التراجم من حرف الهمزة التي يفتتح بها جزء ليدن ١ - وهي نحو عشرين ترجمة- دون أن تتكرّر في المقابل بقيّة تراجم الهمزة من جزء السليميّة- وهي نحو سبعمائة ترجمة- في جزء ليدن. ومخطوط ليدن هو مسوّدة المؤلّف كما قلنا. فكان من المفروض أن يكون هو الأوفر مادّة: فكيف نفسّر فقره- في حرف الهمزة على الأقلّ- بإزاء ثراء المخطوط التركيّ في هذا الحرف؟ فهل ضاعت منه بقيّة تراجم الهمزة، وما يليها إلى حرف اللام؟ وفي المقابل، من أين استقى ناسخ السّليميّة التراجم الزائدة على مسوّدة ليدن؟ .
ولا مانع من أنّ نعتبر أنّ الأصل الذي اعتمد عليه ناسخ المخطوط التركيّ كان أيضا مسوّدة، وربّما كان مسوّدة بخطّ المقريزيّ: فالناسخ أبقى على الثغرات والبياض الذي يترك لتعميره فيما بعد بمعلومة مدقّقة غابت عن المؤلّف عند تحرير «جذاذته» كيوم الوفاة أو شهرها، أو اسم بعض الشيوخ، أو بعض المواضع والبلدان، فأرجأ الإكمال إلى فترة التبييض أو التحرير النهائيّ، ولكنّه مات قبل أن يبيّض أو يكمل الكتاب- ذاك ما يقولهمترجمو المقريزيّ كما سنرى، وذاك ما نلاحظه بكثرة في الأجزاء الأوروبيّة من الكتاب وهي كما قلنا بخطّ المؤلّف. وقد يبلغ البياض أسطرا كثيرة، وقد تقف الترجمة عند قول المؤلّف: ومن شعره ... ولا شعر. بل ربّما اقتصر على تسجيل اسم المترجم دون أيّ معلومة أخرى، في انتظار أن يجمع مادّة الترجمة.
وافتراضنا أنّ الأصل الذي نقل عنه مخطوط السليميّة كان هو أيضا مسوّدة، هذا الافتراض يستوجب وجود أكثر من مسوّدة واحدة، نظرا للتفاوت بين هذا الأصل المفترض ومسوّدة ليدن.
هذه جملة من التساؤلات في خصوص أصول المقفّى ومدى اكتماله، وطرق انتقاله إلى تركيا وإلى
_________
(١) رقم ٤٩٦ من فهرس هذه المكتبة التي ألحقت بالسليمانية وصارت تسمّى برتو باشا.
1 / 7
ليدن وباريس، وخلوّ موطنه الأصليّ- مصر- من أيّة نسخة منه. ولا يمكن الإجابة عنها إلّا بعد نشر الكتاب كاملا- أي بأجزائه المنقوصة الخمسة هذه- وبعد دراسة تراجمه بالتدقيق، والوقوف عند كلّ إشارة شخصيّة من المؤلّف فيه، وتتّبع أثره في كتب التراجم والتواريخ اللاحقة- فنحن نعرف على الأقلّ أنّ السخاوي اطّلع عليه، فالكتاب موجود في بداية القرن العاشر- وكذلك بعد الاطّلاع على مادّة معجمه الآخر، في تراجم معاصريه، الذي سمّاه «درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة» والذي نسأل الله أن يعيننا على تحقيقه أيضا ونشره (١).
وجزء السليميّة يحتوي على نحو ١٤٠١ ترجمة في ٤٤٩ ورقة- أي نحو ٩٠٠ صفحة. وكلّ صفحة تحتوي على ٣١ سطرا، ومقاسها- حسب إشارة المصوّرة التي بأيدينا- ١٨ ٥، ٢٦ سم.
والتراجم فيه مسترسلة من الهمزة إلى الخاء دون توقّف ولا استراحة ولا تهوئة. واسم المترجم يكتب بلون مميّز وخطّ غليظ. وبين الفينة والفينة نجد في الطرّة إشارة بخطّ مغاير تنبّه إلى التراجم الهامّة كترجمة إبراهيم بن أدهم أو أحمد ابن تيميّة، أو إلى وجود الترجمة عند ابن حجر، دون إشارة إلى الكتاب المقصود من كتب هذا الحافظ.
وقد رأينا- بعد نشرنا مختارات من الكتاب مخصوصة بأعلام من الفترة الفاطميّة بالمغرب (٢) - أن ننشر الكتاب بكامل أجزائه الموجودة. فبدأنا بمخطوط السليميّة لأنه يبدأ بحرف الهمزة- وقد تبرّك المقريزي بإبراهيم خليل الرحمن إذ جعله فاتحة الكتاب. وننشر من هذا المخطوط القسم المشتمل على حرف الهمزة- مادة إبراهيم وأحمد- ثمّ ننشر بعده إن شاء الله بقيّة الأحرف حتّى إذا فرغنا من جزء السليميّة، ثنّينا بمخطوط باريس، ثم نختم بأجزاء ليدن. ونذيّل المجلّد الأخير بفهرس أبجديّ لكافّة المترجمين، وبفهرس عامّ للأعلام المذكورين. أما فهرس كل مجلّد فيسير على ترتيب المؤلّف، وليس ترتيبه أبجديا دائما- فقد بدأ بإبراهيم تبرّكا كما قال، قبل «أبان».
ونذكر إثر كلّ ترجمة المصادر الإضافيّة التي استعنّا بها لضبط النصّ وتصويبه وإكماله. فالقارئ يعلم مشقّة التحقيق على نسخة واحدة فريدة، إذ تنعدم المقابلة ويستعصي التثبّت. ولكنّ المقريزي، من
_________
(١) بطلت اليوم- ونحن في يونية ٢٠٠٢ - هذه النيّة بعد صدور طبعتين لكتاب درر العقود متقاربتين في الزمن متفاوتتين في التحقيق:
أ- طبعة الدكتور محمد كمال الدين عزّ الدين عليّ بعنوان «المقريزي وكتابه درر العقود» عالم الكتب بيروت ١٩٩٢ في جزءين، وتحتوي على دراسة عن المؤلف وكتابه مشفوعة بتراجم من حرف الهمزة: ٣٠٠ ترجمة من ٣٥٤، وقد أسقط أيضا التراجم الثلاثين من حرف العين المحوّلة عن كتاب المقفّى.
ب- طبعة الدكتور عدنان درويش ومحمد المصريّ (وزارة الثقافة دمشق ١٩٩٥ دون إشارة إلى الطبعة السابقة، في جزءين أيضا)، وهي محقّقة تحقيقا جيّدا شاملا لكافّة التراجم المحفوظة بمكتبة قوطا بألمانيا (ما عدا ترجمتين لعمرين سقطتا من الطبعة).
وقد كنا أدرجنا الثلاثين ترجمة من حرف العين في الجزء الثامن- جزء الفهارس- من طبعتنا الأولى وها نحن اليوم ندرجها في مكانها من الجزء الرابع مع تراجم حرف العين.
وندرج التراجم المكتشفة في مخطوط ليدن الجديد Or.١٤.٥٣٣ في أماكنها الطبيعية من الأجزاء الثلاثة الأولى مع تراجم حروف الهمزة إلى الخاء (ديسمبر ٢٠٠١).
(٢) كتاب المقفى الكبير (تراجم مشرقيّة ومغربيّة من الفترة العبيدية) - دار الغرب الاسلامي، ١٩٨٧.
1 / 8
حسن حظّنا- وإن كان ذلك له محلّ تهمة وريبة من السخاوي مثلا- كان ينقل كثيرا، إمّا من كتبه هو كالخطط والاتّعاظ والسلوك، وإمّا من كلام غيره كتاريخ بغداد وتاريخ ابن عساكر وطبقات السبكيّ، وهي كتب مطبوعة. وهكذا فكلّما أضفنا زيادة أو صوّبنا، ذكرنا المصدر المساعد على ذلك، فإذا عجزنا عن التقويم، نبّهنا القارئ إلى ذلك. وفي خصوص التراجم المكرّرة، اكتفينا منها بالأكثر وضوحا والأغزر مادّة، وألغينا مكرّرات الهمزة في مخطوط ليدن ١ فأدمجناها في مخطوط السليميّة.
حان الآن أن نعرّف بالمقريزيّ، وهو الغنيّ عن التعريف نظرا لشهرة كتاب الخطط، وكتاب اتّعاظ الحنفاء وكتاب السلوك. فهو تقيّ الدين أحمد بن عليّ بن عبد القادر المقريزيّ. أصل أسرته من بعلبك بلبنان الحاليّ. انتقل أبوه إلى القاهرة فتولّى بعض الخطط الديوانية وولد له بها أحمدنا سنة ٧٦٦ فنشّأه تنشئة أبناء الموسرين فحفظ القرآن وسمع الحديث ولا سيّما على جدّه للأم، وهو المحدّث شمس الدين ابن الصائغ الحنفيّ. أمّا أبوه فكان حنبليا. وعند وفاة والده، تحوّل المقريزي إلى المذهب الشافعيّ.
فلعلّه كان يطمح إلى بعض المناصب الديوانية في الدولة المملوكيّة التي تصانع الشوافع، أصحاب المذهب السائد في البلاد. وبالفعل تعلّق المقريزيّ بخدمة الظاهر برقوق ثم ابنه الناصر فدخل معه دمشق وشغل بها عدّة مناصب من نظر دواوين وتدريس، إلّا أنّه رفض منصب القضاء. وحجّ مرارا وجاور بمكّة مدّة وألّف هناك كتبا. وتولّى بالقاهرة وظيفة الحسبة ونظر الجامع الحاكميّ، وخطابة الجامع العتيق بالفسطاط. ولعلّ هذه المناصب المختلفة أثّرت في تكوينه وميوله فنراه في المقفّى، يكثر من تراجم المحدّثين والحفّاظ والفقهاء، وخصوصا الشافعيّين منهم، ويهتمّ فيه وفي غيره من كتبه بأحوال الحياة العامّة من سعر البضائع، وأحكام السوق، والأكيال والموازين. على أنّه لا يهمل الأدب والشعر فهو نفسه أديب بشهادة معاصره ابن حجر فيه: «وله النظم الفائق والنثر الرائق»، لذلك لا يترك فرصة تمرّ دون أن «يتحفنا» بأبيات قاض أو زاهد أو محدّث، وله ولع خاصّ بالكتابة الزخرفيّة التي اشتهر بها القاضي الفاضل ثمّ العماد صاحب الخريدة وابن فضل الله صاحب المسالك، فلا يتردّد في إيراد الفقرات، بل الصفحات، من هذه الصنعة المتعمّلة المتكلّفة، وهي لعمري للمحقّق عذاب، لأنّه لا يتمكّن من تحقيقها، والمصادر الإضافيّة لا تنقلها لأنّ أصحابها- ربّما- لا يشاطرون المقريزي ولعه هذا.
وعاد المقريزي إلى القاهرة فاعتزل الوظائف وانقطع ببيته فاشتغل بالتأليف التاريخيّ خاصة، فبلغت مصنّفاته نحو المائتين. غير أنّها متفاوتة الأحجام، فإلى جانب الكتاب الضخم، مثل «السلوك في معرفة دول الملوك» وهو في تاريخ الأيّوبيّين والمماليك (١) نجد الرسالة القصيرة مثل «النزاع والتخاصم بين بني أميّة وبني هاشم» وبإزاء اتّعاظ الحنفاء (٢) وهو في تاريخ الفاطميّين بمصر، نجد «إغاثة الأمّة بكشف الغمّة» في وصف المجاعة والأوباء بمصر في عهود الاضطراب السياسيّ.
_________
(١) نشر بالقاهرة في ٤ أجزاء و١٢ مجلّدا.
(٢) نشر بالقاهرة في ثلاثة أجزاء.
1 / 9
ولم تكن اهتماماته مصريّة فقط: فقد ألّف في «بناء الكعبة» وفي ملوك الإسلام بأرض الحبشة، وفي الأوزان والمكاييل، وفي تمجيد آل البيت- دون أن يكون شيعيّا.
وأوفر ترجمة له نجدها عند السخاوي في الضوء اللامع (١) وفي «التبر المسبوك» الذي ذيّل به السخاويّ كتاب المقريزيّ: السلوك (٢). إلّا أنّه كما ألمحنا يتحامل عليه كثيرا ويتّهمه بالسطو على مؤلّفات سابقيه والجهل بأخبار الأوّلين والآخرين، حتى إذا وجد ثناء عليه من شيخه ابن حجر قال: إنّه يبالغ! وقد تحدّث عن هذه الحملة المرحوم محمد مصطفى زيادة في ترجمته له (٣). كما ترجم له فرانز روزنتال في دائرة المعارف الإسلامية (٤). وتوفيّ المقريزي في آخر رمضان سنة ٨٤٥.
بقيت قضيّة اكتمال الكتاب أو وفاة المؤلّف قبل إتمامه. فقد ذكر السخاوي أنّ الكتاب بلغ ستّة عشر مجلّدا وأنّ المقريزي كان يقول: «لو كمل (المقفّى) على ما أروم لجاوز الثمانين مجلّدا» واستنتج المرحوم الشيّال من هذه الكلمة أن المقريزي «توفيّ قبل أن يتمّه» (٥). ولا نفهم نحن منها أنّه لم يتمّه، بمعنى أنّه توقّف في بعض الحروف ولم يزد. بل نفهم أنّه جمع ما كان ينوي جمعه من التراجم، فأثبتها في مسوّدته، إلّا أنّه ترك فيها ثغرات وبياضا كثيرا، واعتزم أن يعود إليها بالزيادة والإكمال فلم تسعفه المقادير. فعبارة السخاوي تفسّر في نظرنا وجود البياض في الأجزاءالواصلة إلينا، ولكنّها لا تبرّر فقدان حروف كاملة كالدال والذال والراء ... الخ. ولا تبرّر بالخصوص فقدان بعض التراجم التي أعلن المؤلّف عن وجودها في الكتاب (٦). وإنّ هذه لمعضلة أخرى من معضلات هذا الكتاب، نرجو أن يأتينا المستقبل بما يساعد على حلّها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تونس في ١٤ ذي الحجة ١٤٠٨
٢٨/ ٧/ ١٩٨٨
محمد اليعلاوي
_________
(١) الضوء اللامع ٢/ ٢١.
(٢) التبر المسبوك في ذيل السلوك لمعرفة دول الملوك ٢١ - ٢٤.
(٣) دراسات عن المقريزي (مجموعة أبحاث) - القاهرة ١٩٧١، ص ١٣.
. EI ٢ ٤ /١٧٧ (٤)
(٥) مقدمة الطبعة الجديدة لاتّعاظ الحنفاء، ص ٢١.
(٦) مثلا، في هذا الجزء الأوّل: ترجمة أحمد بن المشطوب أعلن عنها في ترجمة ابنه وهي مع ذلك ساقطة من الأحمدين.
1 / 10
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرّحمن الرّحيم
من المعلوم أنّ المقريزي لم يكمل معجمه الكبير «المقفّى» الذي خصّصه للداخلين إلى مصر أو القاطنين بها. ولا نعرف مقدار ما أنجزه منه ولا أشعرنا السخاوي بذلك. على أنّ المؤلّف نفسه ذكر في غضون الكتاب تراجم من حروف مختلفة لم نعثر عليها، لا في النسخ التي وصلت إلينا بخطّه- وهي مخطوطات ليدن الأولى وباريس- ولا في نسخة السليميّة المنقولة عن مخطوط مجهول. وفقدان هذه التراجم المعلن عنها من النسخ التي بنينا عليها طبعتنا الأولى يبعث على الظنّ أنّ المادّة التي أنجزها المقريزي أوفر بكثير من المادّة الحاصلة لدينا.
يدلّ على هذه السواقط ما عثرنا عليه في معجمه الثاني «درر العقود الفريدة» المخصّص لأعيان وقته، من تراجم لا تمّت إلى عصره بصلة فألحقناها- وكانت الطبعة الأولى على وشك الظهور- مؤقّتا بالجزء الثامن جزء الفهارس.
ويدلّ عليها أيضا ما عثرت عليه مكتبة جامعة ليدن أخيرا من تراجم معروفة- وأخرى مجهولة- بخطّ المقريزي مدرجة في نحو خمسمائة ورقة مضطربة الترقيم متفاوتة الوضوح والتماسك.
لم نعلم بهذا الاكتشاف إلّا بعد أن سلّمنا الكتاب إلى الطبع، ولكنّا بادرنا إلى مراسلة السيد ج. ج.
ويتكام J.J.Witkam أمين مكتبة جامعة ليدن حتى نشتري نسخة مصوّرة من هذه الورقات التي جاء بها القدر فنلحقها إذا أمكن بطبعتنا.
لكنّ الأمين المذكور لم يجبنا لا سلبا ولا إيجابا. وفهمنا حين اطّلعنا على الفصل القصير الذي نشره بدوريّة كيراندوا) Quaerendo المجلّد ٩/ ١ من سنة ١٩٧٩ ص ٣٥٣) سبب سكوته، فقد قال: إنّ حالة الورقات من التفكّك والتداخل وتلطّخها بالموادّ اللزجة لا تسمح بعرضها للجمهور إلا بعد سنوات من الإصلاح والترميم. وكان بإمكانه أن يجيبنا بهذا الجواب أو أن يحيلنا إلى هذه النشريّة.
على كلّ حال اقتنينا شريطا من هذه الورقات- وقد سجّلت تحت رقم. OR.١٤.٥٣٣
فاكتشفنا أنّها تتضمّن جانبا كبيرا من تراجم نسخة السليميّة، لا كلّ التراجم- فقد خلت من ترجمة
1 / 11
الحجّاج بن يوسف مثلا والمنصور الفاطميّ ومن كلّ إبراهيم ومن كلّ خالد- وفي المقابل زادت على مخطوط استنبول بنحو سبعين ترجمةلبعض الأحمدين (١) والمماليك وطائفة من الخديجات.
وقد بدا لنا من المعقول أن ندرج هذه التراجم الجديدة في الأجزاء المناسبة لحروفها وأن نحوّل التراجم من حرف العين التي وضعناها مؤقتا في آخر الجزء الثامن- جزء الفهارس- إلى مكانها المعقول أيضا وهو الجزء الرابع.
ويبقى الجزء الثامن جامعا لفهارس الأجزاء السبعة بزياداتها أو تصويباتها التي أنجزناها بفضل المقارنة مع الأوراق المكتشفة: فقد أصلحنا نصيبا وافرا من الأغلاط، وسددنا كثيرا من الفراغ وصوّبنا قراءات خاطئة اضطرّنا إليها الاعتماد على مخطوطة وحيدة هي من خطّ غير المؤلّف.
من تلك النقائص ما نبّه إليه الدكتور ماهر الجرّار (الأبحاث سنة ١٩٩٤ ص ٩٧ - ١٠٦) عند استعراض التراجم الأولى للكتاب فبادرنا إلى تداركها في هذه الطبعة الثانية مع الاعتراف له بالجميل على نقده اللطيف الصريح، وكم وددنا أن يمضي في نقده إلى ما بعد الصفحات الأولى الأربعين! .
كما أفادنا صديقنا البشير البكوش محقّق رياض النفوس للمالكيّ وأنموذج الزمان لابن رشيق وكتاب العمر لحسن ح. عبد الوهاب، والدرّة الخطيرة لابن القطّاع بملاحظات صائبة عملنا على اتّباعها، فله أيضا الشكر الجزيل.
ولعلّ الأيام تطالعنا- قريبا أو بعيدا- بأجزاء أخرى من المقفّى ضائعة أو مدرجة في غير محلّها فما ذاك على الله بعزيز والحمد لله ربّ العالمين.
محمد اليعلاوي
تونس، جانفي ٢٠٠٤
_________
(١) تراجم الأحمدي الإضافيّة ذيّلنا بها هذا الجزء الأوّل ابتداء من رقم ٦٩٤/ ١ ص ٤٦٧.
1 / 12
مخطوط السليميّة، الورقة ١ ب
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نثق
حرف الألف
نبدأ بإبراهيم، تبرّكا بسيّدنا إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليه.
١ - إبراهيم الخليل (١)
إبراهيم بن آزر- ويقال لآزر تارح- بن نوحور بن سروغ بن رعو بن فالغ بن عيبر بن شالخ (٢) بن أرفخشاذ بن سام بن نوح بن لامخ بن مثوشالح بن حنوح- وهو إدريس- بن يارذ بن مهلائيل بن قنن بن أنوش بن شيت بن آدم ﷺ وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
[ضبط أسماء أجداده]:
هذه الأسماء كلّها ليست بعربيّة، وقد خبط في ضبطها كثير من نقلة الأخبار لبعدهم عن معرفة العبرانيّة. والصواب في ذلك ما وقع في التوراة إذ هذه الأسماء ليست ممّا يدخله النسخ والتبديل، وهي هناك كما أوردته لك هنا.
وأزيدك أيضا بيانا بضبطها بالحروف، فإنّها إنّما كتبت في التوراة بالقلم العبرانيّ، وقد منّ الله بعد معرفتها بالقلم العبرانيّ أن يسّر ضبطها بالحروف العربيّة: فإبراهيم كان اسمه «أبرام» بفتح الهمزة وسكون الباء الموحّدة وضمّ الراء المهملة ثم ألف بعدها ميم، ومعنى ذلك تقريبا «رفيع القدر» فسمّاه الله تعالى «أبروهام» وصار معناه: أبو جمهور الأحزاب. وعرّبته العرب فقالت: «إبراهيم» بكسر الهمزة وسكون الباء الموحّدة وفتح الراء المهملة وكسر الهاء ثمّ ياء آخر الحروف ساكنة بعدها ميم.
وقالت أيضا: «إبراهام» بفتح الهاء، وبهما جاء تنزيل العزيز الحكيم في القرآن المجيد. وسمع أيضا «إبرهم». قال عبد المطّلب بن عبد مناف بن أساف: نحن آل الله في بلدته، لم يزل ذاك على عهد إبرهم.
وتارح- بفتح التاء المثنّاة من فوق ثمّ ألف ساكنة بعدها راء مهملة مفتوحة ثم حاء مهملة.
ونوحور بضمّ النون وسكون الواو وضمّ الحاء المهملة، وبعدها واو ثمّ راء مهملة.
وسروغ بفتح السين المهملة وضمّ الراء المهملة ثمّ واو ساكنة بعدها غين معجمة.
ورعو: بضمّ الراء والعين المهملتين ثم واو.
_________
(١) في ترجمته انظر: دائرة المعارف الإسلامية ٣/ ١٠٠٤، والمعارف لابن قتيبة ٣٠، والطبريّ ١/ ٢٣٣؛ والكامل ١/ ٥٣.
(٢) في مروج الذهب ٣/ ٦: إبراهيم بن تارح Terah بن ناخور Nahor بن أرعو بن اسروج/ ساروع Serug بن فالغ Peleg بن شالح Shelah بن أرفخشد Arpakshad بن سام ...
1 / 13
وفالغ بفاء مفتوحة بعدها ألف ثمّ لام مفتوحة وغين معجمة. وهذه الفاء ليست في اللغة.
وبعضهم يقول: «فالج» بالجيم. ويقال [...] كما هي في اللغة العربيّة لكنّها بين الفاء والباء الموحّدة [...].
[وعيبر] بكسر العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحّدة [...].
... من نقلة الأخبار من يقول: «عابر» بفتح العين. وأصله كما ذكرت.
وشالح بفتح الشين المعجمة واللام وسكون الحاء المهملة.
وأرفخشاذ بفتح الهمزة وسكون الراء المهملة، وفتح الفاء وسكون الخاء المعجمة وفتح الشين ثم ألف بعدها ذال معجمة. وهذه الفاء أيضا بين الفاء والباء.
وسام أصله بشين معجمة وعرّب فقيل: بسين مهملة مفتوحة، ثم ألف بعدها ميم. وكثيرا ما تكون الشين المعجمة في العبرانيّة سينا مهملة في اللسان العربيّ.
ولامخ بفتح اللام والميم وبعدها خاء معجمة.
ومثوشالح بفتح الميم [وضمّ] المثلّثة وسكون الواو وفتح الشين المعجمة بعدها ألف ساكنة ثم لام مفتوحة ثم حاء مهملة كأنّ بعدها ألفا.
وحنوخ بحاء مهملة مفتوحة ونون مضمومة بعدها واو ساكنة ثم خاء معجمة.
ويرذ- ويقال يارذ- بياء آخر الحروف مفتوحة إذا أشبعت الفتحة صار كأنّ بعدها ألفا ثم راء مهملة مفتوحة بعدها ذال معجمة.
وما هللئل بميم مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثمّ هاء مفتوحة ولام مفتوحة أيضا ثمّ لام أخرى ساكنة بعدها ألف مهموزة مكسورة كأنما بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم لام ثالثة.
وقنن بقاف مكسورة كأن بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم نون مضمومة كأن بعدها واو [٢ أ] ساكنة ثم نون أخرى.
وأنوش بفتح الهمزة وضمّ النون وسكون الواو ثم شين معجمة.
وكان إبراهيم ﵇ من السريانيّين- ويقال: من الكنعانيّين- ملكوا إقليم بابل من الكسدانيّين (١) بعد ما حاربوهم زمانا. فجلب نمروذ أئمّة من الكنعانيين جعلهم في إقليم بابل، منهم أسلاف إبراهيم. فولد ﵇ بكوثى من إقليم بابل. وكان لسانه السريانيّة إلى أن خرج من كوثى، وعبر الفرات من حرّان فغيّر الله لسانه وتكلّم بالعبرانيّ.
وقيل: وكانت ولادته بغوطة دمشق، وليس بصحيح.
وعن مجاهد قال: «آزر صنم، ليس بأبيه، وفي التوراة: «إبراهيم بن تارح». وهذا قول مردود فقد قال تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنامًا آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٧٤]. وهذا هو الحقّ.
وقال بعضهم: آزر هو تارح وأحدهما اسمه والآخر لقب. وليس ببعيد.
[و] إبراهيم يكنّى بأبي الضيفان. وعن ابن الكلبيّ: كان أبو إبراهيم من أهل [...] فأصابته سنة فأتى هرمزجرد، ومعه امرأته أمّ إبراهيم ...
يوما بنت كرسنا بن كوني من بني أرفخشاذ بن [...] بل أمّه ﵇ أبيونا وأنّها من ولد
_________
(١) الكسدانيّون: بالعبريّة Kasdin ثم يطلق عليهم اسم الكلدانيّين. Chaldeens
1 / 14
إفرايم بن أرعو بن فالغ بن عينو بن أرفخشاذ بن سام بن نوح. ويقال في اسمها: يوما بنت أرغو بن إفرانم.
وعن ابن الكلبي: وكان أبو إبراهيم ﵇ على أصنام الملك نمروذ (١) فولد إبراهيم بهرمزجرد. ثم انتقل إلى كوثى من أرض بابل.
وعن محمد بن عمر الواقدي: كان بين نوح وآدم ﵇ عشر [ة] قرون، وبين إبراهيم ونوح ﵇ عشر [ة] قرون. فولد إبراهيم خليل الرحمن ﵇ على رأس ألفي سنة من خلق آدم.
وعند النصارى: أنّ بين آدم وإبراهيم ثلاثة آلاف ومائة وأربعا وثمانين سنة. ويقال: بأن بين نوح ومولد إبراهيم سبعمائة واثنتين وأربعين سنة [...] وبين ميلاد إبراهيم والطوفان ألف وثلاث وعشرون سنة. وقد صحّ عن نبيّنا محمد ﷺ أنه قال: أنا إبراهيم، فأشبه الناس به صاحبكم، يعني نفسه الكريمة ﷺ.
وفي التوراة: أن إبراهيم ﵇ ولد ولأبيه من العمر سبعون سنة، وأن أباه خرج به بعد ما تزوّج بسارة، ومعه لوط أيضا، من بلد الكسدانيّين، إلى حرّان فسكنوها، وبها مات أبوه وعمره خمسون ومائتا سنة.
[رؤيا نمروذ بذهاب ملكه على يد إبراهيم]:
ويذكر أصحاب القصص أنّ نمروذ لمّا أحكم أمر ملكه، وساس أمر الناس، وأذعن له الكافّة، أخبر أنّه يولد في مملكته مولود ينازعه في ملكه، ويكون سلب ملك نمروذ على يديه. فتجرّد للنظر في ذلك ودعا خيار قومه واختار منهم ستّة،
أحدهم آزر أبو إبراهيم، فولّى كلّ رجل منهم خصلة من الخصال التي أسّس أمر ملكه عليها وضمّنها إيّاه وارتهن بها رقبته إن هي ضاعت أو فسدت أو تغيّرت. وقال لهم: أيّها القوم، إنّكم خيار قومي ورؤساؤهم وعظماؤهم، وإنّني لم أزل منذ سست أمر ملكي وأهل مملكتي وهممت بما هممت به فيهم، أعدّكم وأختاركم. وقد دعاني أن أستعين بكم وأشاوركم أنّي قد سست أمر الملك والناس على سبع خصال، وقد ولّيت كلّا منكم خصلة، وجعلت نفسه مرتهنة عندي إن هو لم يحكمها. فانطلقوا واقترعوا عليهنّ، [وما صار] لكلّ منكم في قرعته، فهو واليها ووليّ أهلها، وأنا له عليها وعلى أهلها عون. واعلموا أنّي سست أمر الملك ووطّنت الناس على أنّه لا يعبد إلّا إلا هي وعلى أنّه لا سنّة إلّا سنّتي، وعلى أنّه لا أحد أولى بنفسه وماله منّي، وعلى أنّه لا أحد أخوف فيهم ولا أطوع عندهم منّي، وعلى أنهم يد واحدة على عدوّهم، وعلى أنهم خولي وعبيدي [٢ ب] أحكم فيهم برأيي ومحبّتي، وعلى أنه قد بلغني أنه يولد في هذا الزمان مولود يكابرني ويخلع طاعتي ويرغب عن ملّتي ويغلبني ويقهرني، فأنا سابعكم في هذه الخصلة، وأنا وأنتم وجميع أهل مملكتي كنفس واحدة في طلبه وهلاكه. فمن ظفر به فله عليّ ما احتكم وما تمنّى. فانطلقوا فاقترعوا ثم أعلموني ماذا صار في قرعة كلّ منكم.
فلمّا اقترعوا صار في قرعة أبي إبراهيم الآلهة التي يعبدها، فلا يعبد أحد صنما، لا الملك ولا غيره، إلّا صنما عليه طابع أبي إبراهيم، وكان ذلك لطفا من الله تعالى لما أراده من كرامة خليله وإظهاره. فأحكم ذلك أبو إبراهيم، وصار أمينهم لا يتّهمونه ولا يعدلون به غيره.
[احتيال أمّ إبراهيم للحفاظ عليه]:
_________
(١) نمروذ ابن كوش: انظر سفر التكوين ١٠/ ٨ - ١١ وهو مؤسّس نينوى.
1 / 15
فلمّا حملت أمّ إبراهيم به قالت لأبيه: قد وددت أنّي وضعت ما في بطني غلاما لأحمله أنا وأنت إلى الملك فيتولّى ذبحه: فإنّ الملك أهل لذلك لإحسانه إلينا- وكان ذلك منها مكيدة خدعت بها زوجها فصدّقها. فلمّا حضرت تتمّة ولادتها قالت لزوجها: إنّي قد أشفقت من حملي أن تكون فيه منيّتي، ولست أدري متى يبغتني، وأنا أرغب إليك أن تنطلق إلى الإله الأعظم الذي يعبده الملك فتشفع لي بالسلامة وتعتكف عليه حتى يبلغكخلاصي فترجع- وأرادت بذلك أن تلد وهو غائب فتجعله في سرب (١) تحت الأرض تغيّبه فيه، فإذا رجع زوجها من انعكافه قالت: إنّه قد مات. وكانت عنده أمينة لا يتّهمها.
فانطلق حيث أمرته، واعتكف أربعين يوما في قضاء ما أرادته لطفا من الله بإبراهيم. ثمّ بعثت بالرسول إلى أبيه أنّها تجد الوجع فقام يدعو إلهه حتى بلغه أنها وضعت غلاما به عاهة شديدة و[أنّه] مات حال وضعه فاستحيت أن تطلع الناس على ما به فكتمت أمره حتّى قبرته. فعاد وقد سرّ بخلاصها وصدّقها فيما قالت.
وجعلت أمّ إبراهيم تختلف إلى إبراهيم وتدخل عليه عشاء وتسقيه ما تحتلبه من النساء اللائي ذبح أولادهنّ، حتّى بلغ الفطام، ففصلته عن اللبن، وكان سريع الشباب. فما زال في السرب حتى بلغ ثلاث عشرة سنة. ثم أخرجته أمّه فلم يشعر به أبوه إلّا وهو قاعد في بيته. فلمّا رآه سأل عنه بعد ما همّ أن يبطش به، فقالت أمّه: هذا ابنك الذي ولد ليالي كنت معتكفا فكتمته عنك في سرب تحت الأرض حتّى بلغ هذا المبلغ.
فقال: وما حملك على أن خنتني وخنت نفسك
وخنت الملك وأنزلت بنا من البلاء ما لا قبل لنا به؟
قالت: لا يهمّنّك هذا وأنا ضامنة أن تزداد عند الملك كرامة. وإنّما فعلت الذي فعلت نظرا لك ولي ولابنك ولعامّة الناس. وذلك أنّي أضمرت يوم كتمت هذا الغلام أنّي أخفيه حتى يكون رجلا.
فإن كان عدوّ الملك قدناه إليه وقلنا: دونك عدوّك قد تمكّنت منه فارحم الناس في بقاء أولادهم، فإنّك أفنيت خولك. وإن لم يكن هو بغية الملك وعدوّه، فلم أذبح ابني باطلا؟
فأعجب ذلك زوجها، وقال: كيف لنا أن نعلم أهو عدوّ الملك أو غيره؟ .
فقالت: نحبسه ونعرض عليه دين الملك. فإن أجاب كان رجلا من الناس ليس عليه قتل. وإن عصانا ولم يدخل في ملّتنا أسلمناه إلى القتل.
فقال: هذا هو الرأي!
وألقى الله سبحانه في قلبه عند ذلك محبّة إبراهيم وزيّنه في عينه فأحبّه حبّا شديدا ونفس به عن القتل واشتدّ بكاؤه رحمة لإبراهيم. وكانت أمّ إبراهيم واثقة بأنّ ابنها إن كان عدوّ القوم فليس أحد يطيق قتله، ورأت أنّه متى نصر ابنها عليهم نجت هي وأهلها. فشجّعها ما ألقى الله في قلبها من ذلك على معصية نمروذ. وقد كان نمروذ يخبر [٣ أ] الناس قبل مولد إبراهيم أنه سيأتي رجل يغلبه ويرغب عن ملّته ويخلع دينه. وكان هذا من قول نمروذ سببا في قوّة أمّ إبراهيم على ارتكاب معصية نمروذ ومخالفة قومها.
وكان أبو إبراهيم من شدّة ما ألقاه الله سبحانه في قلبه من محبّة إبراهيم يبالغ في كتمانه ويوصي بذلك أمّه ويقول: ارفقي به ولا تعرّضيه لشيء من أمر الملك فإنّه غلام حدث السنّ لم يجتمع له رأيه
_________
(١) السرب: الحفير والنفق.
1 / 16
ولا عقله، فإذا بلغ واحتنك (١) حينئذ نقيسه ونختبره نرجو بذلك حادثا يكون فيه الفرج لإبراهيم.
[خلع إبراهيم لديانة قومه الوثنيّين]:
فلمّا تمادى الحال خلع إبراهيم ذلك كلّه ونابذ قومه في الله ولم يراقب شيئا ولا خاف سوى الله سبحانه. ودعا إلى عبادة الله فبلغ ذلك نمروذ فحبسه في السجن سبع سنين وبنى له جامرا (٢) وأوقده بالحطب الجزل وألقاه فيه.
وقال محمد بن جرير الطبري (٣): كان من شأن إبراهيم ﷺ أنّ الله ﷿ لمّا أراد أن يبعثه حجّة على قومه ورسولا إلى عباده، ولم يكن فيما [بين] نوح وإبراهيم ﵇ نبيّ إلّا هود وصالح، فلمّا تقارب زمان إبراهيم ﵇ طلع كوكب على نمروذ فذهب بضوء الشمس والقمر، ففزع من ذلك ودعا المنجّمين والكهنة والقافة، وسألهم عنه فقالوا له: يخرج من ملكك رجل يكون على يده هلاكك وذهاب ملكك.
وكان مسكنه ببابل فخرج من قري [ت] هـ إلى قرية أخرى، وأخرج الرجال وترك النساء وفرّق بينهم وأمر أن لا يولد مولود ذكر إلا ذبح. فكان يذبح أولادهم، ثم بدت له حاجة في المدينة لم يأمن عليها إلّا آزر أبا إبراهيم، فدعاه وأرسله في الحاجة وقال: لا تواقع أهلك! .
فقال: أنا أضنّ بديني من ذلك.
فلمّا دخل القرية ونظر إلى أهله لم يملك نفسه حتّى واقع زوجته. ففرّ بها إلى قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها أود، فجعلها في سرب. وكان
يتعهّدها بالطعام والشراب.
وإنّ الملك لمّا طال عليه الأمر قال: هذا قول سحرة كذّابين. ارجعوا إلى بلدكم.
فرجعوا.
وعن وهب: بعث الله تعالى إبراهيم إلى أرض بابل، والغالب عليهم في ذلك الزمان علم النجوم، حتّى إنّ الرجل ليولد له المولود فيقيم طالعه ساعة ولد، فإن كان مسعودا ربّاه، وإن كان منحوسا ذبحه فأتاهم إبراهيم ﵇ فغلب النجوم، فكان يحكم فلا يخطئ، ويحكمون فيخطئون ويكذبون.
وقال الله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٨ - ٨٩] وأنزل عليه، سبحانه، عشرين صحيفة فيها عشرون كتابا بخطّ السريانيّ.
وكان نمروذ والذين اتّبعوه بأرض بابل يعبدون النجوم اتّخذوها آلهة. فقوم يعبدون الشمس، وقوم يعبدون غير ذلك من الدراريّ السبعة (٤) ويزعمون أنها آلهة تملك ضرّهم ونفعهم، وحياتهم وموتهم. فأقام عليهم الحجّة كما أخبر الله تعالى بقوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: ٧٦] فقالوا:
نَعْبُدُ أَصْنامًا [الشعراء: ٧١]، وسمّوها بأسماء الدراريّ. فأخذ إبراهيم قدّوما وأتاها ليلا وكسرها وعلّق القدّوم على عنق صنم الشمس وهو أكبرها.
فلمّا رأوها قالوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا [الأنبياء: ٥٩]، قال رجل منهم: سمعت إبراهيم يذكرها.
فأتوا إبراهيم فقالوا: من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟
قال لهم: سلوا كبيرهم هذا إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء: ٦٣].
_________
(١) احتنك الدهر الرجل: جعله مجرّبا حكيما.
(٢) الجامر: لا وجود لهذه الكلمة في المعاجم. والمعنى واضح.
(٣) تاريخ الطبري ١/ ٢٣٦.
(٤) الكوكب الدّريّ بضمّ الدال وكسرها: الثاقب الكثير الإنارة والدراريّ السبعة هي الكواكب السيّارة (اللسان).
1 / 17
[إلقاء إبراهيم في النار]:
ثمّ عاد إبراهيم فألقى عليها النار فصارت رمادا. فأخذه نمروذ فرماه في النار. قال قتادة في قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: ٧٥] قال: خشي إبراهيم من جبّار الجبابرة فجعل الله تعالى رزقا في أصابعه فكان إذا مصّ أصابعه وجد فيها رزقا. فلمّا خرج أراه الله ملكوت السموات والأرض، وكان ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر [٣ ب] والبحار.
وعن ابن عبّاس في هذه الآية: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: ٧٥] قال: يعني به الشمس والقمر والنجوم: لمّا رأى كوكبا قال: «هذا ربّي» حتى غاب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغًا قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: ٧٦ - ٧٧] حتى غاب، فلمّا غاب قال لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ [الأنعام: ٧٧ - ٧٨] حتى [إذا] غابت قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ٧٨ - ٧٩].
وعن كعب الأحبار قال: رأى إبراهيم ﵇ قوما يأتون نمروذ الجبّار فيصيبون منه طعاما فانطلق معهم. فكان كلّما مرّ بالنمروذ رجل قال له: «من ربّك؟» قال: «أنت ربّي!»، وسجد له إعظاما، فأعطاه حاجته. حتّى مرّ به إبراهيم فقال: من ربّك؟
قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة: ٢٥٨].
وخرج إبراهيم ولم يعطه شيئا. فعمد إبراهيم إلى تراب فملأ به وعاءه ودخل به منزله وأمر أهله أن لا يحلّوه. ووضع رأسه فنام، فحلّت امرأته الوعاء فإذا هو أجود دقيق رأت. فخبزته وقرّبته إليه فقال لها: من أين لك هذا؟
قالت: سرقته من الوعاء.
فضحك. ثم حمد الله وأثنى عليه.
وقال محمد بن إسحاق: حدّثني أبو الأحوص ابن عبد الله قال: خرج قوم إبراهيم إلى عيد لهم فمرّوا عليه فقالوا: يا إبراهيم، ألا تخرج معنا؟
قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٩]. وقد كان قال قبل ذلك: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء: ٥٧]. فسمعه إنسان منهم. فلمّا خرجوا إلى عيدهم انطلق إلى أهله فأخذ طعاما ثمّ انطلق إلى آلهتهم فقرّبه إليهم فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ* فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [الصافات: ٩١ - ٩٣] فكسرها إلا كبيرا لهم. ثم ربط في يد [هـ الفأس] الذي كسر به آلهتهم. فلمّا رجع القوم من عيدهم دخلوا فإذا بآلهتهم. فلمّا رجع القوم من عيدهم دخلوا فإذا بآلهتهم قد كسرت، وإذا كبيرهم في يده الفأس الذي كسر به الأصنام.
ف قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: ٥٩] فقال الذين سمعوا إبراهيم بالأمس يقول: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء: ٥٧] سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء: ٦٠]. فأخذوه فجاهرهم عند ذلك وقال:
أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥] قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: ٦٦ - ٦٧].
(قال) فجمعوا له الحطب ثمّ طرحوه وسطه ثمّ أشعلوا النار عليه فقال الله: يا نارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: ٦٩].
1 / 18
[مناظرة علميّة بين إبراهيم وقومه]:
وقد ذكر أبو بكر أحمد بن عليّ بن قيس بن وحشيّة في «كتاب الفلاحة النبطيّة» الذي عرّبه من اللغة الكسدانيّة: إنّ إبراهيم ﵇ لمّا خالف قومه وجعل الأفعال كلّها في الأرض إنّما تكون من فعل فاعل هو أقوى وأقهر من الشمس وأعلى منها، وكان القوم صابئة يعتقدون أنّ الآثار الموجودة في الأرض كلّها إنّما تصدر عن الكواكب- فمن قولهم: إنّ الشمس هي التي تفيض على الكلّ- فاحتجّوا على إبراهيم لقولهم بما يشاهدونه من إسحاب الشمس بحركتها الدائمة على الأرض. فدفع إبراهيم ذلك وقال: ليس إسحاب الشمس بعلّة، بل العلّة فعل الفاعل بالشمس، وإنّما الشمس بمنزلة الفأس للنجّار.
وأنكر أن تكون سخونة الهواء من حركة الشمس وقال: إن كانت الحرارة تصل من الشمس إلى الهواء فتسخنه، فما بال تلك السخونة لا نجدها في الظلّ إذا تحوّلنا عن الشمس إليه؟ فقد كان يجب على قولكم أن نحسّ في الظلّ من السخونة مثل ما نحسّ به إذا كنّا في الشمس تحت شعاعها، لأنّ الهواء منبسط على الأرض متّصل بعضه ببعض.
فالجزء الذي [٤ أ] لا يناله شعاع الشمس قبل الجزء الذي يناله، وليس أحد الجرمين بمنفصل عن الآخر، بل هما معا.
فاحتجّوا عليه باتّصال الشعاع والتئامه بالهواء في ذلك الجزء، وانقطاعه عن الجزء الذي لا يتّصل به الشعاع، واحتجّوا باللون الناريّ الأحمر الذي يظهر في الجوّ، وقالوا: إنّما هو من توقّد الرطوبة الغالبة على الأرض المتصاعدة إلى الجوّ من حرارة الشمس عند محاذاة جرم الشمس.
فزاد إبراهيم عليهم بأن قال: إنّكم مجمعون على أنّ جميع البخارات التي ترتقي من البحار إلى الجوّ إنّما هي رطوبات فما تكاثف منها وتجمّع بالبرد، فإنّه يصير سحابا ممطرا، وما لا يلحقه البرد بقي بخارا راكدا رطبا، لأنّ أصله رطوبة مائيّة لا دهنيّة تقبل حرارة الشمس حتى تتوقّد منها. وإذا كان ذلك البخار كما ذكرنا لم يجز أن يتوقّد ولا يشتعل أبدا لأنّ رطوبته غير موافقة للاشتعال ولا قابلة للالتهاب.
فقالوا له: بل تلك الرطوبة الدهنيّة قابلة للتوقّد موافقة للاشتعال، فهي تشتعل لذلك.
فقال: هذا محال أن تتوقّد الرطوبة الدهنيّة فتبقى بمكانها طرفة عين. ومحال من وجه آخر هو أوكد: وذلك أنّ الرطوبة المائيّة تستحيل إلى الدهنيّة بطول طبخ الحرارة الليّنة لها بموضع لا ينالها فيه هواء البتة. فهل تكوّنت هذه الرطوبة في بطون الأرض وأطباقها، أم هي رطوبة ظاهرة، ما استحالت إلى الدهنية قطّ؟
فانقطعوا.
ونفاه الملك من إقليم بابل بعد استصفاء (١) جميع أملاكه إلى بلاد الشام لئلّا يميل إليه العامّة فيفسد عليه السياسة. وذلك بعد أن ناظرهم وناظروه أيّاما كثيرة وهو محبوس.
وليس ما ذكره ابن وحشيّة ببعيد، وهو، وإن كان عند من طالع كتبه ليس من أهل الأديان البتّة، لا أهل الإسلام ولا غيرهم من ملل الأنبياء، فإنّ في هذا الذي حكاه معنى قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ﵇: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الأنعام: ٨٠]، وقوله تعالى:
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الأنعام: ٨٣].
_________
(١) في المخطوط: استقصاء.
1 / 19
[خلاص إبراهيم من النار]:
وقال مقاتل: أوّل من اتّخذ المنجنيق نمروذ.
وذلك أنّ إبليس جاءهم لمّا لم يستطيعوا أن يدنوا من النار التي أضرموها لرمي إبراهيم فيها، فقال:
أنا أدلّكم.
فاتّخذ لهم المنجنيق، صنعه له رجل من الأكراد يقال له: هبون. وكان أوّل من صنع المنجنيق، فخسف الله به الأرض. وجيء بإبراهيم ﵇ فخلعوا ثيابه وشدّد رباطه، فوضع في المنجنيق، فبكت السموات والأرض والجبال والشمس والقمر والعرش والكرسيّ والسحاب والريح والملائكة، كلّ يقول: يا ربّ عبدك إبراهيم بالنار يحرق، فائذن لنا في نصرته- فقالت النار وبكت: يا ربّ، سخّرتني لبني آدم، وعبدك يحرق بي! .
فأوحى الله إليهم إنّ عبدي إيّاي عبد، وفي جنبي أوذي، إن دعاني أجبته، وإن استنصركم فانصروه.
[و] لمّا رمي استقبله جبريل ﵇ بين المنجنيق والنار فقال: السلام عليك يا إبراهيم، أنا جبريل، ألك حاجة؟
فقال: أمّا إليك فلا! حاجتي إلى الله ربّي.
فلمّا أن قذف سبقه إسرائيل فسلّط النار على قماطه (١). وقال الله: يا نارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا [الأنبياء: ٦٩]. فلو لم يخلط بالسلام لآذاه البرد.
ودخل جبريل معه، وأنبت الله حوله روضة خضراء، وبسط له بساط من درنوك (٢) الجنّة، وأتى بقميص من حلل جنّة عدن فألبس [هـ]، وأجري
عليه الرزق غدوة وعشيّا، إسرائيل عن يمينه وجبريل عن يساره.
وعن عكرمة في قوله تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: ٦٩] أنّ نار الدنيا كلّها لم ينتفع بها أحد من أهلها. فلما أخرج الله إبراهيم [٤ ب] من النار، زاده (٣) الله في حسنه وجماله سبعين ضعفا.
وعن علي بن أبي طالب ﵁ قال:
كانت البغال تتناسل، وكانت أسرع الدوابّ في نقل الحطب لحرق إبراهيم ﵇ فدعا عليها، فقطع الله نسلها. وكانت الضفادع مساكنها القفار، فجعلت تطفئ النار عن إبراهيم. فدعا لها فأنزلها الله الماء. وكانت الأوزاغ تنفث عليه النار فلعنها فصارت ملعونة، فمن قتل منها شيئا أجر! .
وعن ابن عبّاس ﵁ قال: لمّا ألقي بإبراهيم ﵇ في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل! .
وقال الزبير بن بكّار: حدّثني عبد الرحمن بن المغيرة قال: لمّا رأى الناس أنّ إبراهيم ﵇ لا تحرقه النار قالوا: ما هو إلا عرق الندى ومانعرفه. ألا ترى: ما تضرّه النار ولا تحرقه فسمّي عرق الندى.
وقال وهب: فلمّا رأوا الآية الباهرة آمن منهم بشر كثير. فأتى الجمع إلى نمروذ فقالوا: إنّ إبراهيم قد استمال الناس، وقد صبا إليه خلق كثير. فجمع نمروذ وزحف، يريد إبراهيم ومن معه. فأوحى الله إلى إبراهيم: ارحل بمن معك! .
[هجرة إبراهيم إلى مصر]:
فرفع بامرأته سارة وجميع من آمن به حتّى بلغ مدين فنزل، ونمروذ سائر بجموعه خلفه. فأرسل
_________
(١) القماط: حبل يشدّ به اليدان والرجلان كما يفعل بالأسير أو بالصبيّ في المهد.
(٢) درنوك: طنفسة. بساط أصفر (دوزي).
(٣) في المخطوط: وزاده.
1 / 20
الله عليهم جندا من البعوض فأعمى أعين الدوابّ ودخل خياشيم الرجال حتّى ماتوا، وأبقى الله نمروذ، وقد دخلت خيشومه بعوضة فسكنت دماغه حتى كان أحبّ الناس إليه من ضرب رأسه ليكفّ عنه أكل البعوض. ثمّ هلك بعد ذلك.
فأوحى الله تعالى إلى إبراهيم بهلاك نمروذ وجنوده. فرفع من مدين إلى مصر فدخلها ليمتار منها، وكان معه ثلاثمائة رجل، وعلى مصر يومئذ عمرو بن امرئ القيس بن سابليون بن سبأ، وهو عبد سعلس بن يشحب بن يعرب بن قحطان.
فبلغه قدوم إبراهيم فاستدعاه وأكرمه. ثمّ بلغه جمال سارة امرأة إبراهيم فأمر بإحضارها. فلمّا عاينها افتتن بها وراودها عن نفسها فمنعها الله منه وقبض يده عنها، فردّها إلى إبراهيم وأخدمها هاجر. وسار إبراهيم من مصر.
ويروى أنّه لمّا نجّى الله إبراهيم من النار خرج هو وأبوه وسارة زوجته ولوط ابن أخيه إلى حرّان، فأقام بها خمس سنين. فأوحى الله إلى إبراهيم أن اخرج إلى الأرض المقدّسة التي أجعلها لنسلك وأبارك فيها (١) وأعظّم اسمك. فسار ومعه لوط.
وكان عمر إبراهيم عند ما هاجر من حرّان خمسا وسبعين سنة. وخرجت معه سارة وجميع مواشيهم وخدمهم، فنزل بهم حيث مدينة القدس. فبنى عند الصخرة مذبحا لله. وكان بالأرض حينئذ غلاء ومجاعة، فتوجّه إلى مصر.
وعند ما دنا منها قال لسارة: إنّك امرأة حسناء، فإن رآك المصريّون يقولون: امرأته، فيقتلونني ويأخذونك. قولي: إنّي أخته! .
فلمّا دخل مصر رأى أهل مصر سارة وما هي عليه من الجمال. فوصفت لفرعون.
وذكر إبراهيم بن وصيف شاه أنّ فرعون إبراهيم اسمه طوطيس بن ماليا بن خربتا بن ماليق بن تدارس بن سبأ، وقد ذكر في موضعه من هذا الكتاب (٢)، وذكرت سارة وما كان من خبرها مع طوطيس، وكيف أخدمها هاجر.
ثمّ إنّ إبراهيم ﵇ لمّا ردّ الله إليه سارة خرج بها من مصر بعد ما أقام بها ثلاثة أشهر، وقد أعطتها حوريا ابنة طوطيس [ها] جر وزوّدتها بسلال من جلود فيها زاد، وجعلت تحت الزاد جواهر وذهبا مصوغا مرصّعا. وكان ذلك من حوريا حيلة احتالت بها: فإنّ إبراهيم ﵇ كان قد ردّ عليهم المال الذي حملوه إليه، فيقال:
إنّه لمّا أمعن في السير أخرجت سارة بعض تلك السلال، فرأت الجواهر والحلي. فلمّا أعلمت إبراهيم به باع بعضه وحفر من ثمنه البئر التي يقال لها: بئر سبع [٥ أ] بالقرب من غزّة، وجعلها سبيلا. وفرّق بعضه في وجوه البرّ. وكان يضيف كلّ من مرّ به. وكثر ماله من الذهب والفضّة والمواشي. فأمر ابن أخيه لوطا أن يتحوّل بمواشيه عنه خشية أن تقع المشاجرة بين رعاتهما. فسار لوط من أرض المقدس ونزل أرض سدوم، وكان من خبره ما ذكر في ترجمته من هذا الكتاب (٣).
[نزوله بحبرون]:
ونزل إبراهيم حبرون وهي التي تعرف اليوم ببلد الخليل. فكانت حروب بين ملك سدوم ومن جاوره، فأخذت مواشي لوط. فلمّا بلغ ذلك إبراهيمسار في ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا إلى دمشق، وقاتلهم وهزمهم وردّ مواشي لوط إلى سدوم. فتلقّاه ملك سدوم وبالغ في كرامته فلم يقبل منه شيئا، وعاد إلى حبرون.
_________
(١) في المخطوط: فيك.
(٢) انظر ترجمته في الجزء الرابع رقم ١٤٢٦.
(٣) ترجمة لوط: لعلّها في الحروف المفقودة.
1 / 21
فلمّا كان بعد عشر سنين من سكناه أرض كنعان ولد له إسماعيل من هاجر. وكانت سارة قد وهبتها له. وعمره يومئذ ستّ وثمانون سنة.
فلمّا أتى عليه تسع وتسعون سنة، أوحى الله إليه: إنّي مكثرك جدّا جدّا- فسجد لله. وجاءه الوحي وهو ساجد [ب] تثبيت عهد الله له، وأنّه يكون أبا لشعوب كثيرة. ووعده بأن يملك نسله من بعده دائما. وأمره بالختان وبشّره بولد من ساره. فاختتن إبراهيم وله تسع وتسعون سنة على ما ذكر في التوراة.
وخرّج مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ أنّه قال: «اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة».
ووقع في موطّإ مالك موقوفا على أبي هريرة:
وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وقول رسول الله ﷺ هو الحقّ.
وختن ابنه إسماعيل، وله من العمر ثلاث عشرة سنة وعمر إبراهيم مائة سنة. فلمّا فطم صنع إبراهيم مأدبة عظيمة. وغارت سارة عند ذلك من هاجر. فأمرت إبراهيم أن يخرجها هي وابنها، فشقّ ذلك عليه. فأوحى الله إليه يأمره بطاعة سارة، ووعده أن يجعل من إسماعيل وإسحاق شعوبا كبارا. فأخرج خفية هاجر وابنها إسماعيل من عند سارة كما ذكر في ترجمة هاجر (١).
وامتحنه الله في ذبح ولده. وقد اختلف في الذبيح فقيل: إسحاق. وقيل: إسماعيل.
وماتت سارة فدفنها في مغارة حبرون حيث قبر الخليل اليوم، وتزوّج قطورا فولد لها منه ستّة أولاد، وهم: زمزوم، وبوقاشون، ومازون، ومزيون، ويشبون، وشوسخ.
ومات إبراهيم وعمره مائة وخمس وسبعون سنة فدفنه ابناه إسحاق وإسماعيل- بعد ما بعث إليه أبوه إبراهيم وهو مريض، وأقدمه من الحجاز- في مغارة حبرون حيث سارة مدفونة.
قال الحسن في قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: ١٢٤] قال: يقول: فعلمهنّ (قال) ابتلاه بالكواكب فرضي عنه. وابتلاه بابنه فرضي عنه. وابتلاه بالهجرة وابتلاه بالختان.
وقال قتادة عن ابن عبّاس: ابتلاه بالمناسك.
وعنه في قوله [تعالى]: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا [البقرة: ١٢٤] قال: يقتدى بهداك وسنّتك.
وعن سعيد بن المسيّب: كان إبراهيم ﵇ أوّل من اختتن وأوّل من رأى الشيب. قال:
ربّي، ما هذا الشيب؟
قال: الوقار.
قال: زدني وقارا.
وكان أوّل من أضاف الضيف وأوّل من جزّ شاربه وأوّل من قصّ أظفاره وأوّل من استحدّ (٢).
ويروى أنه أوّل من لبس السراويل.
وقد جاء أنّه أنزلت عليه الصحف في ليلتين في شهر رمضان- وروي: في أوّل ليلة.
وعن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج: ٢٧] قال: لمّا أمر الله ﷿ إبراهيم أن يؤذّن في الناس بالحجّ قال: يا أيّها الناس، إنّ ربّكم اتّخذ بيتا وأمركم أن تحجّوه- فاستجاب له ما سمعه من حجر أو شجر أو أكمة أو تراب أو شيء فقالوا: لبّيك اللهمّ لبّيك! .
_________
(١) ترجمة هاجر مفقودة.
(٢) استحدّ: حلق شعر العانة.
1 / 22
وعن مجاهد قال: لمّا أمر الله ﵎ إبراهيم أن يؤذّن في الناس [٥ ب] بالحجّ قام على المقام فقال: يا عباد الله أجيبوا ربّكم.
فقالوا: «لبّيك اللهمّ لبّيك» فمن حجّ من الخلق فهو ممّن أجاب دعوة إبراهيم ﵇.
[سبب تسميته «خليل الرحمن»]:
وعن مجاهد: حجّ إبراهيم وإسماعيل- ﵉، وهما ماشيان. وجاء مرفوعا: ألا أخبركم لم سمّى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ - لأنّه كان يقول كلّما أصبح وأمسى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم: ١٧] حتى يختم الآية. وفي رواية قال: وفّى: عمل يومئذ أربع ركعات من أوّل النهار، يعني: صلاة الضحى.
وعن الحسن قال: وفّى الله فرائضه.
وجاء مرفوعا أنّ الله اتّخذ إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام.
وجاء أن الله أوحى إلى إبراهيم إنّي لم أتّخذك خليلا على أنّك أعبد عبادي، ولكنّي اطّلعت على قلوب الآدميّين فلم أجد قلبا أسخى من قلبك، فلذلك اتّخذتك خليلا.
وقيل: اتّخذه خليلا لطول قيامه بين يديه.
وقيل: لقيامه بين يدي الله في الصلاة. وعن وهب قال: لمّا اتّخذ الله إبراهيم خليلا كان يسمع [دقّات] قلبه عن بعد خوفا لله ﷿.
وعن ابن عبّاس: لمّا اتّخذ الله إبراهيم خليلا [...] له ثلاثمائة عبد أعتقهم وأسلموا فكانوا يقاتلون معه بالقسيّ. فهم أوّل موال قاتلوا مع مولاهم.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك ﵁ أنّ رجلا قال للنبي ﷺ: يا خير البشر- وفي رواية: يا خير البريّة- فقال: ذاك إبراهيم.
وجاء أنّ الله أوحى إلى إبراهيم ﵇: يا خليلي، حسّن خلقك ولو مع الكفّار، تدخل مداخل الأبرار، فإنّ كلمتي سبقت لمن حسّن خلقه أن أظلّه في ظلّ عرشي وأن أسقيه من حضيرة قدسي.
وجاء أنّه ﵇ كان من أغير الناس، وأنّه كان يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر.
وعن الحسن في قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا [لِلَّهِ حَنِيفًا] [النحل: ١٢٠] قال: الأمّة: الذي يؤخذ عنه العلم. وعن ابن عمر: الأمّة: الذي يعلّم الناس دينهم.
وعن ابن مسعود في قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ [التوبة: ١١٤] قال: الأوّاه: الدعّاء. وقيل:
الخاشع. وقيل: المؤمن. وقيل: الرحيم. وقيل:
كان إذا ذكر النار قال: أوه! أوه! وقيل: الأوّاه:
المصدّق.
وقيل: كان إذا قال، قال لله، وإذا عمل عمل لله، وإذا نوى نوى لله.
وعن مجاهد في قوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: ٨٤] قال: الثناء الحسن، فليس أمّة إلّا وهي تودّه.
وعن قتادة في قوله تعالى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٢٨] قال:
التوحيد والإخلاص، لا يزال في ذرّيّته من يوحّد الله ﷿.
وعن عطاء: كان إبراهيم ﵇ إذا أراد يتغدّى طلب من يتغدّى معه ميلا في ميل. (قال) وأحبّ الطعام إلى الله ما كثرت فيه الأيدي.
وعن سعيد: أوّل من خبز الكعك إبراهيم الخليل، خبز للضياف. وكان إبراهيم يطعم طعامه فإذا أكلوا قال: هاتوا ثمنه! فيقولون: وما ثمنه؟
1 / 23