لا بد أن تكون الحياة ككتاب مفتوح أمام كل إنسان بما فيه من: جمال وقبح، وفضيلة ورذيلة؛ لأن الله - تعالى - خلقه لننظر إليه ونفهمه ونتدبر ما فيه ونتعظ به. فتبعة البلاغة راجعة إلى نفس الجمهور وإلى القارئين أنفسهم؛ لأن القارئ كمتعلم يصرف وقته في معمل كيميائي؛ ليفيد ويستفيد، وليقف على أسرار ما لديه. فإن استعمل المواد الكيميائية لقتل نفسه، فقد «جنت على نفسها براقش.» والكاتب كالعالم يظهر نتيجة تجربته في الحياة وما رآه وفهمه، وعلى القارئ أن يستفيد ويميز بنفسه الضار والنافع،
1
على أن كل كاتب له خيال خاص، وطريقة خاصة، وله أفكار خاصة تجد لها من القراء من يميل إليها بطبيعته؛ فكل نفس تقبل ما يوافقها وترغب فيما تميل إليه. فالقصة التي تعرض صورة من صور الحب قد تضل نفوسا، وقد تفتح على بعض الناس أبوابا من الفجور لم يكونوا يعرفونها، كما أنها قد توحي إلى بعض النفوس حب الجمال ورقة الشعور، وتهذيب العواطف؛ لأن الرجل الحساس صاحب الشعور الرقيق والنفس الشريفة والأخلاق الكريمة، يهذبه الحب، ويرشده الغرام إلى الفضيلة، وكثيرا ما كان الحب سببا في إصلاح النفوس. ولكن لكل إنسان استعدادا خاصا في تصور الأشياء وفهمها. وعلى هذا الاستعداد تكون حظوته من السعادة والشقاء تقوده إليها نفسه، وترشده إليها فطرته. غير أنه لا يلزم قراءة هذه الكتب للعمل بما فيها، كما تقرأ كتب الأخلاق وكتب الدين مثلا، وإنما تقرأ لدراسة موضوعاتها، ومعرفة ما بها من الآراء وأسرار البلاغة والفصاحة.
في قراءة الكتب عاملان: عامل التأثير، وعامل الإفادة. والثاني أكثر أثرا وأبقى، فإن ما يبقى في نفس القارئ من المعلومات التي اكتسبها من القراءة أنفع وأثبت. أما التأثرات والانفعالات التي منشؤها العواطف فإنها سرعان ما تزول، فالكاتب الذي يصف مجلسا من مجالس الخمر، ليس عليه أدنى تبعة إذا قام إنسان بعد قراءة كلامه فشرب كأسا أو كأسين، كما أن الخلقي ليس في قدرته أن يحمل الناس على اتباع ما يقول؛ ولذلك قيل «إنه من الواجب علينا بث النصائح والإرشادات. ولكن ليس علينا حمل الناس على العمل بها.» ولو كان للبلاغة الأثر الذي يدعو إلى العمل بما فيها لكانت كتب الأخلاق كافية في إصلاح النفوس. فلماذا يكون وصف المجون سببا في فساد الأخلاق والاجتماع؟ ولو صح حذف كل ما من شأنه أن يفسد الأخلاق، أو يؤثر فيها أثرا سيئا؛ لوجب على الإنسان أن يصم أذنيه ويغمض عينيه، حتى لا يرى ولا يسمع نصف المخلوقات أو أكثر، ولعمل على عدم فهم كثير من الأمور التي يراها كل يوم أمامه في الحياة.
البلاغة من غرضها عرض كل شيء، وعلى القارئ أن يحكم عقله ويميز الخبيث من الطيب.
النقد الأدبي
يقرأ الإنسان ليفهم، ويفهم ليكون له رأي فيما يقرأ، وكل إنسان له استعداد خاص في الفهم وطريق خاص في الإدراك، وذوق خاص في قدر الكلام والحكم على الأفكار؛ ولذلك تعددت المذاهب وتفاوتت طرق البحث.
القراءة والفهم والتفسير والحكم هي أصول النقد وهي حده أيضا؛ إذ لا يمكن حد النقد حدا تاما لعدم اندماجه في قانون عام؛ لأنه ليس علما من العلوم التي لها قواعد خاصة، وإنما هو فن من الفنون التي تضبط بالعلوم وتتقدم بتقدمها، فإنه مبني على قوة الذكاء وسلامة الذوق، وذلك ليس داخلا تحت قانون عام، فضلا عن أنه لا بد من ظهور أثر الناقد الشخصي في حكمه على ما يقرأ؛ لأنه إنما يحكم على غيره بمزاجه الخاص؛ ولذلك كانت الفروق كثيرة بين آراء النقاد؛ لأن النقد صورة من صور عقولهم المختلفة.
ويختلف النقد باختلاف الموضوعات والأغراض المقصودة منه، فقد يكون من غرضه دراسة الأساليب، أو دراسة نفوس الكتاب أو دراسة الأفكار والآراء، فهو متغير لا يثبت على حالة واحدة ولا يلزم قاعدة واحدة، فليس علما من العلوم؛ لأن العلوم لا بد أن تكون قواعد عامة، تنطبق على جزئيات كثيرة، بدون أن يكون للنفوس أثر فيها. والنقد غير ذلك، فهو قبل كل شيء أثر من الآثار الخاصة للعقول، يبحث عن آراء الكتاب ولا سيما خواصهم الذاتية، والتصورات والخيالات والإدراكات كانت متعددة مختلفة، على حسب المواهب والطبائع؛ فلا بد أن يكون النقد الذي هو فهم العقول المختلفة والإدراكات المختلفة أيضا مختلفا، غير مقيد بقانون ولا قاعدة؛ ولذلك كان كل نقد قاعدي قابلا للطعن وعرضة للنقض؛ لأن النقد القاعدي أو المذهبي يرمي إلى تقييد العقول والأفكار، وحملها على اتباع طريق واحد في الفكر والتصور والخيال، وإلى الحكم عليها حكما عاما بطريقة واحدة.
هذا إذا كانت الطريقة علمية كطريقة تين
نامعلوم صفحہ