مقدمة الطبعة الثانية
المنقذ غادر بيته
إنقاذ العالم
المنقذ يهجر كهفه
إنقاذ الدولة
خاتمة الرحلة وبدايتها
الرسالة السابعة لأفلاطون
تمهيد
الرسالة السابعة لأفلاطون
زيارة أفلاطون الأولى لصقلية
نصيحة لحلفاء ديون
زيارة أفلاطون الثانية لديونيزيوس الثاني
عجز الكلمات عن التعبير عن الواقع
آخر أخبار أفلاطون مع ديونيزيوس ورحيله عن سيراقوزة
تعليقات
مقدمة الطبعة الثانية
المنقذ غادر بيته
إنقاذ العالم
المنقذ يهجر كهفه
إنقاذ الدولة
خاتمة الرحلة وبدايتها
الرسالة السابعة لأفلاطون
تمهيد
الرسالة السابعة لأفلاطون
زيارة أفلاطون الأولى لصقلية
نصيحة لحلفاء ديون
زيارة أفلاطون الثانية لديونيزيوس الثاني
عجز الكلمات عن التعبير عن الواقع
آخر أخبار أفلاطون مع ديونيزيوس ورحيله عن سيراقوزة
تعليقات
المنقذ
المنقذ
قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
تأليف
عبد الغفار مكاوي
إلى ابني الكريم ...
عل زمانك يا ولدي أنت وجيلك
أن يصبح أجمل من زمني المنكود وأعدل.
ليست الأرض ملكا لأحد، إن ثمراتها للجميع.
جون بال
ليست هناك يوتوبيا تبلغ من الشر حدا يمنعها من أن تقدم بعض المزايا المؤكدة.
أوجست كونت
إن خريطة للعالم لا تحتوي على يوتوبيا، لا تستحق حتى مجرد النظر إليها؛ لأنها تغفل البلد الوحيد الذي تتوجه سفينة البشرية دائما إليه، وعندما ترسو على شاطئه، تتلفت في الأفق، فإذا لمحت بلدا آخر، انطلقت مبحرة إليه، إن التقدم هو تحقيق اليوتوبيات في الواقع ...
أوسكار وايلد
لا يمكنني تصور الوضع الراهن للبشرية في مجموعها على أنه هو الوضع الذي يمثل غايتها الكلية والنهائية؛ فلو صح ذلك لكان كل شيء حلما وخداعا، ولما كان هناك طائل من وراء الحياة التي عشناها ولا من اللعبة المتكررة العقيمة التي شاركنا فيها. إن هذا الوضع لا يكتسب قيمة في نظري إلا إذا اعتبرته وسيلة لتحقيق غاية أفضل، ومعبرا مؤقتا لهدف أعلى وأكمل ... إنني لا أستطيع أن أتحمله لأجل ذاته، وإنما أتحمله لأجل شيء أفضل يكون هو تمهيدا وإعدادا له.
فيشته: غاية الإنسان
لا يجوز لصقلية، ولا لغيرها من المدن، أن تخضع للسلطة المطلقة، بل يجب - في رأيي على الأقل - أن تخضع لحكم القانون.
أفلاطون: الرسالة السابعة، 334ج
مقدمة الطبعة الثانية
لا أدري اليوم ما هي المشاعر والأفكار التي دفعتني قبل أكثر من عشرين عاما - عندما كنت أسكن في شقة فقيرة وهادئة في شارع القيادة بصنعاء اليمن - لصحبة أفلاطون والكتابة عن حلمه بالتغيير، ولا أعرف أي قوة مجهولة تلك التي جعلتني أختار الشذرة أو الفقرة الموجزة أسلوبا في التعبير، وساقتني في دفقات متوالية لأن أبدأ فصول هذا الكتاب وأختمها بنغمات شعرية أو شاعرية بعد أن كنت قد هجرت الشعر وهجرني سنوات طويلة. لكن ربما كان الحلم الأفلاطوني بسيادة القانون وتحقيق العدل - في دولته المثالية أو مدينته الفاضلة - هو الذي احتضنني واحتضنته ونحن نلقي الرأس المتعب على صدر الأم الحنون صنعاء التي وفرت لنا - في خريف عام 1978م - الرعاية والرضا والسكون العميق آناء الليل الرحيم وأطراف النهار المشحون بأعباء التدريس ...
جذبتني الرسالة السابعة - وهي سيرة حياة أفلاطون في أواخر العقد السابع من عمره - في تلك الأيام التي كنت فيها مشغولا بالتغيير الجذري والحرية والعدالة، وبالتفكير في كتابة سيرة حياتي التي لم تكتب حتى الآن ... وترجمت الرسالة إلى العربية عن الطبعتين الألمانية والإنجليزية؛ إذ لم يساعدني الحظ على التوصل للأصل اليوناني أثناء وجودي وعملي في اليمن. وقد تصور بعض الأصدقاء أن هذا الكتاب مجرد هامش أو حاشية على الرسالة السابعة التي انطلقت منها، لكن الواقع أنهما شيئان منفصلان ومستقلان كل منهما بنفسه.
1
وبالرغم من أن الكتاب يعتمد على الرسالة السابعة، فإنه - كذلك - محاولة لعرض شاعري موجز لفلسفة أفلاطون السياسية بوجه خاص.
أما الدافع المحرك والقلب النابض لهذا العرض فهو حلم أفلاطون بالتغيير الثوري، ومشروعه المفصل عن دولته المثالية (كما صوره في الجمهورية، ثم عدل هذه الصورة في آخر محاوراته وهي القوانين).
وكان من الطبيعي أن تكون سيرة حياته المختصرة التي كتبها بعد زيارتيه الأخيرتين والفاشلتين لجزيرة صقلية؛ كان من الطبيعي أن تكون هي الأساس الذي بنيت عليه للتعبير عن حلم التغيير وعن الفلسفة المرتبطة به ارتباط الجسد بالرأس المفكر، والشرايين بالقلب الذي يدفق فيها نبض الدماء ...
كانت الرسالة السابعة التي يصف فيها أفلاطون جزءا من طريقه إلى الفلسفة، وزهده في المشاركة في السياسة العملية في عصره، ومغامراته الجسور والفاشلة لتحقيق حلمه في الواقع الحي في صقلية - كانت، كما سبق القول، هي نقطة الانطلاق. ولقد بدا الطريق واضحا لعينيه منذ بداية حياته؛ إذ ولد لأسرة أثينية عريقة، وكان الاشتغال بالحياة السياسية في انتظاره. غير أن الأزمة الطاحنة التي مرت بها أثينا في شبابه الباكر، مع لقائه بسقراط وملازمته له، قد تكفلا بتغيير جميع خططه، فأحرق - فيما يحكى - كل مخطوطات تراجيدياته ونذر نفسه للفلسفة. وحكم أثينا، التي خرجت مهزومة ومخذولة من الحرب البيلوبينيزية (431-404ق.م) نظام أقامته إسبرطة من ثلاثين طاغية. وكان من هؤلاء الطغاة - بجانب كرتياس وخارميدس المتحدثين الرئيسيين في المحاورة المعروفة بالاسم الأخير عن التبصر أو التدبر - اثنان من أقرب أقارب أفلاطون، حاولا عبثا مع زملائهم أن يجذبوا كلا من أفلاطون وسقراط لمشاركتهم في الحكم، لكن الحكم كان فظيعا مرعبا، وبدت كل الدساتير الفاسدة التي سبقته في أثينا أو في مدن اليونان أشبه بالماضي الذهبي أو الفردوس الضائع ... ثم رجع الديمقراطيون إلى الحكم، لكن حظهم من الديمقراطية اقتصر على الاسم. فقد أدانوا معلمه وصديقه وأعدل الناس وأعزهم عنده بتهم ملفقة وخسيسة، ثم قدموه للمحاكمة الشهيرة وقضوا عليه بالإعدام ونفذوه بالفعل، ولا بد أن شخصية سقراط - الذي لازمه أفلاطون على مدى ثمانية أعوام قبل الحكم عليه بشرب السم - قد جعلت فيلسوفنا الشاب ينفض يديه من كل الدساتير البائسة التي عاصرها في صباه وشبابه، ويقتنع من صميم كيانه بأن إنقاذ المدينة (البوليس) لن يتحقق إلا عن طريق الفلسفة التي سترسم خطة المدينة المثالية التي تسودها العدالة والسعادة ويحكمها القانون الذي يكفل الحقوق المتساوية للجميع. صحيح أنه تخلى عن كل رغبة في الحكم، لكنه لم يتخل أبدا عن توجهه السياسي والعلمي لإنقاذ المدينة، وهو التوجه الذي ملأ عليه حياته وتعليماته، وأشعل لهيب الحماس في فكره وفعله وبصيرته حتى نهاية حياته (حوالي سنة 347ق.م).
وقصة محاولاته لتحقيق حلمه «اليوتوبي » في سيراقوزة - عاصمة جزيرة صقلية - قصة معروفة؛ فقد دفعه الغضب والاشمئزاز مما جرى لأستاذه إلى السفر لزيارة أصدقائه الفيثاغوريين في جنوب إيطاليا وإلى مصر. وفي حوالي الأربعين من عمره (387ق.م) قام برحلته الأولى إلى سيراقوزة والتقى بطاغيتها ديونيزيوس الأول. عجز أفلاطون عن التأثير على هذا الملك - الذي لقنه الكراهية الأبدية لكل طاغية وكل طغيان! - ولكنه نجح في كسب صداقة ديون - شقيق إحدى زوجات الطاغية ومستشاره - الذي توهج حماسا للفلسفة، وأخذ يترقب الفرصة المناسبة لتحقيق حلم أفلاطون على أرض الجزيرة التي لم تهدأ فيها الاضطرابات والصراعات بين الإغريق والقرطاجيين. ولا بد أن طاغية سيراقوزة قد نظر نظرة الشك والتوجس لما سمعه من أفلاطون أو سمعه عنه من ضرورة حكم الفلاسفة؛ لذلك استشعر خطر الفيلسوف وصمم على إبعاده عن المدينة، ولا ندري مدى صدق القصة التي يرويها ديوجينيس اللائرسي - مؤرخ الفلسفة من القرن الثالث الميلادي في كتابه الرائع عن حياة وآراء مشاهير الفلاسفة - عن أن ملك الجزيرة التعسة قد بلغ به السخط على الفيلسوف إلى حد الأمر ببيعه في سوق الرقيق في «إيجينا» القريبة من أثينا، ولولا تدخل الصدقة الحسنة وافتداء أحد أصدقائه له لبيع الفيلسوف كالعبيد ...
لم تثنه التجربة القاسية عن قصده، ولم يكف عن الاقتناع بوحدة النظر والعمل، والفكر والممارسة، ولم يتردد عن المغامرة من جديد في سبيل الحلم ...
كان قد رجع إلى وطنه وأسس الأكاديمية في سنة 387ق.م بالقرب من أثينا، وأخذ يلم شتات أفكاره وتجاربه وتأملاته عن السياسة العملية التي تهتدي بالعقل، وعن نظام التربية الذي سيكون النخبة الحاكمة والحكيمة، وعن التساؤل عن مفهوم العدالة والدولة العادلة والحاكم الحكيم أو الملك الفيلسوف، وذلك على النحو الذي فصله في محاورته الكبرى «البوليتايا» أو الجمهورية.
ولم تستطع الصدمة التي تلقاها من طاغية سيراقوزة أن تصرفه عن الهدف العملي من فلسفته، الذي يستحق التضحية حتى بالحياة؛ لكيلا يقال عنه - في يوم من الأيام - إنه كان رجل أحلام وكلام ونظريات ... لذلك لم يتردد طويلا عن القيام برحلتيه التاليتين في عامي 367 و361ق.م على الترتيب، ولم يثنه فشلهما الذريع - إلى حد تهديده بالاغتيال لولا تدخل أصدقائه الفيثاغوريين في الوقت المناسب! - عن مواصلة التفكير والكتابة عن دولته المثالية، كما نرى في آخر محاوراته وهي القوانين (لا سيما في الكتاب العاشر الذي يلخص اتجاهه السياسي والطبيعي أو الكوني كله) التي حاول فيها أن يكون أكثر واقعية وقربا من الطبيعة البشرية، وإن لم ينجح في أن يكون أقل تسلطية وشمولية، أو أقل تجاهلا للحرية الفردية والديمقراطية ... ولست في حاجة لرواية قصة هاتين الرحلتين الفاشلتين اللتين أقنعتاه بالعكوف على نشاطه التعليمي في الأكاديمية؛ فالرسالة السابعة تروي قصتهما بالتفصيل، كما أن نشاطه في الأكاديمية يؤكد - بما فيه الكفاية - إصراره على أن فلسفته وتلاميذه لا يحملان مسئولية ذلك الفشل، وإنما الواقع العملي والسياسي - في بلده أثينا وخارجها - هو الذي حال دون تحقيق حلم الإنقاذ العسير - وإن آمن على الدوام بأنه غير مستحيل! - ترى هل عوضه قليلا عن فشله أن يشجع تلاميذه على البحث المستمر (كما نرى في تشجيعه للرياضي النابغة ثيآيتيتوس الذي أطلق اسمه على واحدة من أهم محاوراته، ولتلميذه أويديموس الكنيدي في بحوثه عن المسارات المتجانسة للكواكب، ثم لأنبغ «أبناء رأسه» وهو أرسطو الذي انضم للأكاديمية سنة 367ق.م ونمى البحث المنطقي والبحث العلمي والتجريبي فيها)؟!
2
ليس من الصعب أن نتعرض باختصار شديد لنظرية أفلاطون السياسية كما بينها في كبرى محاوراته (وهي الجمهورية التي اعتمد عليها هذا الكتاب)، وفي محاورتيه «السياسي والقوانين».
لا شك أنها نظرية تسلطية وشمولية لا مكان فيها - كما سبق القول - للحرية الفردية ولا للديمقراطية. ومع ذلك فعلينا أن نبسطها بإيجاز قبل أن نلقي عليها أضواء النقد أو سهامه ونرى معا ما لأفلاطون وما عليه ... فهو ينطلق من الفرض القائل بأن الذين يعرفون الخير هم وحدهم الذين يصلحون للحكم، ثم يصف لنا المراحل الدقيقة للتربية والتدريب العقلي التي ستؤدي في رأيه إلى تلك المعرفة. وهذه المعرفة - كما يوضح رمز «الكهف» الذي وقف عنده هذا الكتاب وقفة طويلة - ستتخلص من القيود والأغلال التي تجعل معظم البشر يعيشون سجناء في «كهف سفلي» ويقاومون كل دعوة للخروج منه والصعود إلى العالم «الحقيقي» الذي يقع خارجه، وهو عالم المثل أو الأشكال والنماذج الثابتة للمعرفة والوجود التي تدرك بالعقل لا بالحواس. ويشترط أفلاطون الدراسة المتعمقة للرياضيات التي ستشد انتباه الخارج من الكهف إلى المثل؛ لأن الرياضيات معرفة قبلية لا تهتم بالمحسوس إلا بقدر ما تنطلق منه للمفاهيم غير المحسوسة، ثم يشترط دراسة الجدل الفلسفي (الديالكتيك) الذي هو سبيل المعرفة العقلية الخالصة للنماذج الخالدة. والذين يجتازون بنجاح هذه المراحل التربوية نحو التفلسف الصحيح ويتوصلون لمعرفة ماهية الخير، هم الذين سيكونون النخبة الحاكمة والحكيمة من جملة الحراس. سوف يطالبون - من حين لآخر - بالانصراف عن مباهجهم الفلسفية والنزول إلى زملائهم القدامى في الكهف «لإنقاذهم» أي تبصيرهم بالمعرفة والوجود الحقيقي وحكمهم الحكم الخير العادل الذي يضاعف سعادة المدينة بأكملها. والقارئ يعرف الشروط القاسية التي يضعها أفلاطون لتحقيق هذه الغاية فهو يفرض رقابة صارمة لاستبعاد الأفكار الخاطئة - إلى حد استبعاد الشعر ومصادرة أي تجديد في الفن والتعليم، أي مصادرة حرية الفكر نفسها! - وضمان قيام كل طبقة وكل شخص من سكان المدينة بعمله الذي هيأته له الخبرة والطبيعة التي مزج تركيبها بمعدن معين! وعدم إقحام نفسه فيما لا يحسنه بفطرته ولا بتعليمه وخبرته، وهذا هو لب مفهوم العدالة عنده. (وقد عاد فأكد في إحدى محاوراته المتأخرة - وهي السياسي - أن الحكم مهمة الخبراء، وأن الخبير لا ينبغي أن يقيده القانون ولا رغبات الناس ...)
لا شك أن أفلاطون هو الذي قدم أول «يوتوبيا» شاملة ومفصلة رجع إليها كل من كتب اليوتوبيا من بعده، كما أثرت بصورة أو بأخرى على جميع أشكالها الأدبية والسياسية والعلمية والفكرية التالية. فبعد محاولات إغريقية عديدة لرسم صورة الحياة اليوتوبية السعيدة، كحياة الاستغناء التام عند أتباع ديوجينيس الكلبي الذين سووا بين البشر والكلاب أو الخنازير، وكحياة البحث عن اللذة بكل وسيلة ممكنة وإشاعتها بين الجميع بصورة «ديمقراطية» عامة كما عند أرستيبوس ومدرسته، وهجمات صغار السفسطائيين على القانون الوضعي والنظم المترتبة عليه ودعوتهم للأخوة البشرية العالمية، جاء أفلاطون والتقط الدافع اليوتوبي ثم قيد حرياته وعكس اتجاهه تماما ... لم يعد في «يوتوبياه» مكان للأحلام الغامضة والأماني الوهمية، ولم يعد أحد يشتاق للماضي الذهبي أو يثني عليه. وبدلا من الحرية الضائعة - ريفية كانت أو حضرية - يظهر النظام غير المسبوق، ويثبت الحلم ويغدو بيده الأمر والنهي ... لم يغب النموذج التجريبي والعيني لهذا الحلم عن وعي أفلاطون، بل كان قريبا منه وماثلا في إسبرطة التي أذلت مدينته، وكان حب إسبرطة الأرستقراطية - بعد انتهاء الحرب البيلوبينيزية وتقليد المهزوم للمنتصر كما بين ابن خلدون بحق! - شيئا على هوى الطبقات الأثينية الحاكمة التي كانت تكره الديمقراطية وتعمل على هدم أركانها. وما دامت الدولة - كما رآها وعاصرها أفلاطون - قد انقسمت إلى دولة للفقراء وأخرى للأغنياء وسادت الكراهية المتبادلة بينهما، فلا بد في هذه الحالة من تأكيد سلطة الدولة «البوليسية» المنظمة. هكذا أصبحت يوتوبيا أفلاطون صورة مثالية من إسبرطة؛ إذ كانت - وهذه هي المفارقة - هي يوتوبيا الطبقة ذات السيادة. وساعد الصراع الطبقي في أثينا على وضع صورة إسبرطة داخل إطار الدولة الإغريقية المنظمة، وعلى الاعتقاد بأن السلطة الحازمة هي العلاج الوحيد. ألم تسبق إسبرطة ... إلى ترسيخ الطبقات الثلاث التي تقوم عليها الجمهورية: الطبقة التي تقوم بإطعام الكل (الهيلوتيون) والطبقة التي تتولى الدفاع عن الكل (الإسبرطيون) ثم النخبة الحكيمة التي تدير دفة الحكم (مجلس الكبار - أو الجيروزيا الذي أوصى به مشرعهم ليكورجوس)؟ ...
هكذا بنى أفلاطون عالما عقليا شديد الإحكام، الناس فيه يتصفون بالصلابة «الدورية»، والتنظيم الشديد فيه نسخة من نظام الأرستقراطية الإسبرطية، حتى مجتمع النساء في الطبقة العليا (طبقة الحراس الذين يختار منهم الحكام الحكماء) يوحي بالتشابه القوي مع الفوضى الكلبية والتطرف في اللذات، ويكاد أن يكون نقلا حرفيا عن طريقة الحياة الشاذة التي كانت مألوفة في معسكرات الجيش الإسبرطي. كذلك كان امتلاك الذهب والفضة الذي حرمه أفلاطون على نخبته الحارسة والحكيمة، محرمين على الطبقة المحاربة في إسبرطة.
وأخيرا فإن مجلس الكبار الإسبرطي قد استفاد منه أفلاطون في وضع الإطار اللازم لأعلى الطبقات في دولته، وهي طبقة الحكام الفلاسفة. ومع ذلك يمكن القول بأن أفلاطون قد خرج عن مضمون ذلك الإطار الإسبرطي المعادي للعقل بتشديده على التربية الفلسفية لحكام المستقبل، ومطالبته بالحاكم الحكيم أو الملك الفيلسوف، وتأكيده أن الدولة لن يصلح حالها وتصبح دولة خيرة حتى يحكم الفلاسفة أو يتفلسف الحكام ... (والشيء الغريب حقا أن طبقة الفلاسفة قد تفككت في المحاورة الأخيرة التي عدلت نموذج الجمهورية في مواضع غير قليلة إلى حد الاستغناء عن التربية الفلسفية الأرستقراطية. لقد أصبحت الدولة المثالية في «القوانين» دولة بوليسية كاملة، ولا يقلل من ذلك أنها رجعت للاعتراف بالحق في الملكية الخاصة وفي الزواج، بل إنها لتطبق قوانين العقاب الجنائي على أي تجديد سياسي أو ثقافي بحيث يتساءل المرء إن كان قد بقي في نظام هذه الدولة شيء يمكن وصفه بالمثالية أو الحرية بعد ما بلغت هذا الحد من الرجعية!)
يبدو أن فكرة المعمار المتدرج هي التي وجهت أفلاطون في تصوره لبناء دولته المثالية، سواء في الجمهورية أو في القوانين، ويبدو أيضا أن هذا البناء يقوم في تقديره على أساس الفطرة أو الطبيعة البشرية نفسها. ففي الإنسان ثلاث قوى أو ثلاثة أجزاء تنقسم إليها نفسه وتتدرج في القيمة من أعلى إلى أسفل: الشهوة، فالشجاعة، فالعقل. وهي تتوزع بالترتيب من الجزء الأسفل من الجسم إلى الصدر إلى الرأس، بل إنها لتتوزع على الشعوب وطباعها فيكون أهل الجنوب انفعاليين، وأهل الشمال جسورين، وأبناء الإغريق حكماء متدبرين! ... وحتى الإغريق أنفسهم تتوزع بينهم فضائل التدبر أو التبصر والحكمة، بحيث تتدرج من الطاعة إلى الشجاعة إلى الحكمة، وتأتي الفضيلة الإغريقية متسقة مع التدرج السابق: فالطاعة هي فضيلة الطبقة التي تقوم بأمور الإعالة المادية وبالتغذية، والشجاعة هي فضيلة طبقة الجنود، والحكمة هي فضيلة مشرعي القوانين من الفلاسفة. وهكذا تنشأ دولة تكاد الطبيعة نفسها أن تكون هي التي أنشأتها، قوانينها لا تناقض الطبيعة ولا تتصادم معها، بل إن الطبيعة لتعزز وتدعم سلم الطبقات الاجتماعية المتصاعد، وكأن لكل طبقة طبيعة أقرتها الطبيعة (الفيزيس) بنفسها. ويؤكد الكتاب الثالث من الجمهورية أن أولئك الذين يصلحون للحكم يدخل الذهب في تركيب نفوسهم، أما المحاربون فيدخل في تركيبهم الفضة، ويبقى المزارعون وأرباب الحرف والصنائع الذين جعلت نفوسهم من النحاس والحديد! ... ومعنى هذا أن لكل طبقة طبيعتها التي لا تختلط بطبيعة الطبقة الأخرى، بل إن القاعدة هي أن الأبناء يشبهون الآباء، بحيث يندر أن يصلح ابن من الطبقة الدنيا للانخراط في الطبقة الأعلى، كما يندر - على العكس مما سبق - أن يصلح ابن نشأ في طبقة المحاربين للحياة في طبقة المزارعين والصناع ... وليس على الحكم في مجموعه سوى التأليف بين كل هذه العناصر الطبقية والطبيعية في كل متجانس هو الذي يسميه أفلاطون بالعدالة. ومن العدالة في رأيه - كما سبق القول - أن يقوم كل امرئ بوظيفته التي هيأته لها الطبيعة، وأن تختص كل طبقة بوظيفتها ولا تتعدى على وظيفة طبقة أخرى، تلك هي الأخلاقية التي كرستها دولة أفلاطون، فسمحت - بجانب العبيد - بوجود طبقة من الفلاحين والصناع المستغلين الذين يتحملون وحدهم عبء العمل، بينما تتمتع الطبقتان الأخريان بترف اللاعمل: الرقابة من ناحية، والتفلسف والتشريع من ناحية أخرى ... هذه الأخلاقية - التي تجردت من كل أخلاقية! - قد أسست عدالتها وسوغتها بمسوغ طبيعي هو طبيعة الطبقة الكادحة التي خلقت للطاعة لأنها جبلت من معدن النحاس أو الحديد غير النفيس! ...
هكذا قامت العدالة في دولة أفلاطون المثالية على ظلم شديد حاولت تبريره بأساليب طبيعية أو كيمائية غير منصفة ولا مقنعة، بل إن المهمة التي يكلها أفلاطون للطبقة العليا بأن تسهر على «عدم تسرب الفقر والثراء إلى الدولة»، فضلا عن الزهد المطلوب من الطبقة العليا في الذهب ليس له - في رأي إرنست بلوخ
3 - إلا معنى واحد، هو الحيلولة دون نشوء طبقة رعاع غنية يمكن أن تكون مصدر خطر على «عدالة» الدولة واستقرارها ...
على الرغم من كل المضامين غير الثورية ولا المثالية - بل غير الإنسانية! - لجمهورية أفلاطون، فقد ظلت في نظر الكثيرين من أبناء الأجيال التالية هي المثل الأعلى للدولة الاشتراكية أحيانا والدولة الشيوعية أحيانا أخرى ، ولا شك أن سلطة أفلاطون - كفيلسوف كبير - قد عملت على اعتبار جمهوريته في عصر النهضة الأوروبية نوعا من التوجيه نحو النظام الاشتراكي، كذلك يذكر زعيم ثورة الفلاحين في عصر النهضة - وهو توماس مونتسر - يوتوبيا أفلاطون مؤكدا أنها جعلت كل شيء مشتركا بين الكل.
كل ذلك لم يكن في الحقيقة، ولن يكون في المستقبل، إلا نوعا من إساءة الفهم أو سوئه. فصورة العصر الذهبي التي رآها أفلاطون بعيون إسبرطية أرستقراطية لم تكن من الاشتراكية ولا الشيوعية في شيء؛ لأنه قد قصر «الشراكة» أو المشاعية في تملك السلع والنساء والأطفال، على الطبقة العليا في دولته. ووقع التابعون في الوهم الشديد بأنه سحب اشتراكيته على الجميع، كما تصوروا خطأ أنه هو الأب الشرعي لليوتوبيا الاجتماعية الخالية من الطبقات، بينما كانت دولته المثلى - في الحقيقة - تنظيما إسبرطيا تسلطيا أقرب ما يكون إلى تصور الدولة الكنسية والعسكرية في العصور الوسطى المسيحية، لقد وضعت تلك الدولة على جسدها رقعا صغيرة متناثرة من ثوب الاشتراكي ولم تترك لسكانها «الإسبرطيين» سوى حرية أن يكونوا أعمدة أو أسوارا أو نوافذ تقوم بوظائف التغذية والحماية والرقابة والتوجيه في بنائها الصلب العنيد ...
علينا أن نسأل الآن بعد كل ما ذكرناه من عيوب وعناصر سلبية: ألم تحتفظ دولة أفلاطون أو مدينته الفاضلة - على الرغم من كل ما ذكرناه - بالعنصر «اليوتوبي» الكامن فيها، هذا العنصر الذي جعلها بحق أول «يوتوبيا» بالمعنى الشامل الدقيق في التاريخ، كما جعل كتاب اليوتوبيات اللاحقين - كما سبق القول - يتأثرون بها ويرجعون إليها بصورة أو بأخرى، سواء أساءوا فهمها أو عرفوا عيوبها؟
لقد اعتدنا سماع اسم أفلاطون من كل من يقول باستهانة أو بشيء من السخرية عن فكرة من الأفكار: إنها يوتوبية، فإذا سألناه: ماذا تعني؟ قال ببساطة: إنها فكرة أفلاطونية حالمة ... ومع أن اليوتوبيا والتفكير اليوتوبي قد وضعت عنها مكتبة ضخمة لا تقل عما كتب عن أفلاطون نفسه، فلا بد هنا من وقفة عابرة عند معنى اليوتوبيا لنقول باختصار شديد ومخل إن «اليوتوبي» عنصر مكون لماهية الإنسان نفسه ككائن مستقبلي لا يرضى أبدا عن واقعه، يحلم ويريد على الدوام أن يتجاوزه إلى واقع أفضل وأسعد وأعدل. ربما تختلف النظرة اليوتوبية بين الالتفات إلى الماضي الذهبي السعيد والاتجاه إلى المستقبل، بين الحلم الذهبي الغامض المجرد وبين التفكير والتدبير لواقع ممكن التحقق، وذلك منذ الحكايات الشعبية القديمة عن بلاد العسل واللبن والحياة الرخية المسالمة البسيطة الخالية من الجهد والعمل، وبين التخطيطات المتوالية لإبداع واقع يوتوبي أفضل على هذه الأرض نفسها. ومع ذلك فلا بد من التفرقة بين اليوتوبيات المجردة واليوتوبيات الواقعية الممكنة. فالأولى - وتمثلها اليوتوبيات الاجتماعية بأسرها - كانت مجردة وسابقة على عصرها، كما أن اتجاهات العصر ونزعاته وظروفه وإمكاناته الواقعية لم تكن لتسمح لها بالتحقق. هل ينطبق هذا على «يوتوبيا» أفلاطون كما ينطبق على اليوتوبيات الاجتماعية منذ يوتوبيا توماس مور إلى يوتوبيات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأشكالها العلمية والصناعية المختلفة؟ وهل نقول إن مدينة أفلاطون أو دولته المثالية ما هي إلا من نبت خياله ونبع قلبه وتخطيط عقله، وإنها تفتقد الوعي بالتاريخ والواقع المعاصر لها؟ - إذا صح هذا كله، فلا يصح أن نبالغ في اتهامها بالتجريد أو التفكير «الفانتازي» الخيالي الغامض؛ فبالرغم من أن أفلاطون نفسه كان على وعي تام بصعوبة تحقيق مشروعه أو حلمه نتيجة خبرته بالواقع السياسي والاجتماعي في عصره، وإن بقي على اقتناعه بأن المشروع نفسه ليس وهما ولا أملا مستحيلا - كما سبق القول أكثر من مرة - فينبغي أن نتذكر أن البرنامج التربوي والتشريعي المفصل الذي قدمه في كل من «الجمهورية» و«القوانين» يحمل الكثير من خصائص ومكونات عصره ومجتمعه السلبية في محاولة دائبة لرسم النموذج المضاد لواقعه وأحوالها الفاسدة التي جربها بنفسه وعانى منها،
4
ويكفي أفلاطون أنه حدثنا باسم واقع يوتوبي قادم وطبقة اجتماعية ستأخذ على عاتقها مهمة تنظيمه وتوجيهه وترشيده، مهما رفضنا اليوم كل ذلك التنظيم الشمولي الصارم وقلنا باستحالته ومجافاته لطبائع البشر، واستبداده وافتقاده للحرية الفردية والديمقراطية ... يكفيه أن توافر لديه الضمير والمعرفة اليوتوبية اللذان لا يقلل من شأنهما تقصيره في التبصر بشروط الواقع، كما لا يدحضه ذلك الواقع الفاسد نفسه دحضا نهائيا؛ إذ سرعان ما ترتبت عليه وبنيت على أساسه يوتوبيات أخرى اختلف حظها من التجريد والخيال أو من مراعاة ظروف الواقع والتاريخ
5 ... ولنتذكر في النهاية عبارة الشاعر ف. شيلر - على الرغم من مثاليتها ومرارتها! - التي يقول فيها: إن ذلك الذي لم يتحقق في أي مكان، ولن يتحقق، هو وحده الذي لن يتقادم عليه العهد أبدا ...» يكفيه أخيرا أنه فطن إلى المبدأ اليوتوبي الكامن في الليس-بعد ... في الأمل المستقبلي الذي لا يفتأ يطالبنا بأن نعقد العزم - بالإرادة والمعرفة والخبرة - على تحقيقه ... الأمل في مجتمع خال من الاستغلال والشقاء، مجتمع إنساني يمكن أن تثبت فيه العدالة والكرامة ... بالرغم من كل العقبات التي تقف في طريقه، بالرغم من زمن المحنة الذي نحيا ونشقى به وفيه ...
لقد وصف أفلاطون بأنه يعتبر من بعض النواحي أعظم الثوريين، كما يعد من نواح أخرى أكبر الرجعيين ... ولعل الأدق من ذلك أن نقول إنه أكبر ممثل للنزعة الشمولية، وإن نصيب الحرية في مدينته أو دولته المثالية أقل بكثير مما كان عليه بالفعل في بعض المدن اليونانية، سواء في عصره أو قبل عصره، ولو كانت بلاد اليونان القديمة جمهورية شمولية - كما تخيل أفلاطون - بدلا من أن تكون اتحادا فيدراليا بين مدن حرة، لما استطاع رجال مثل هوميروس وسوفوكليس وأرسطوفان - بل لما استطاع أفلاطون نفسه - أن ينتجوا روائعهم الأدبية والفكرية،
6
ولعل من حسن حظ بلاد اليونان نفسها أنه لم يقيض لإحدى دولها - أو دول المدن فيها - أن تحاول تطبيق جمهورية أفلاطون ولا قوانينه، وأنها لم ترزق بأي ملك فيلسوف مثل تلميذه ديون الذي تشرب منه الفلسفة، فلما تمكن من الإمساك بزمام السلطة في سيراقوزة تحول إلى طاغية دموي لم تر جزيرة صقلية نظيرا له في دمويته، مما اضطر واحدا من أصدقائه إلى اغتياله، كما اضطر أفلاطون نفسه - في رسالته السابعة - للدفاع غير المقنع عنه ...
ربما كان الفيلسوف الإنجليزي وايتهيد محقا في قوله: «إن تاريخ الفلسفة الغربية كله يوشك أن يكون تعليقات على فلسفة أفلاطون، أو هوامش وتعقيبات عليها صادرة من ثراء أفكاره الأساسية.» والواقع أن كل إنسان يمكن أن يجد عند أفلاطون جوابا على الأسئلة الفلسفية التي تؤرقه وتعنيه. فالوجودي - مثل كيركجورد - يهتم بشخصية سقراط ووجوده الذاتي، والتحليلي، يعنى بدقة مفاهيمه أو عدم دقتها في بعض الأحيان، والمهتم بالفكر السياسي لا يمكنه أن يتجاهل دولته المثالية، والجدلي يمكنه أن يغوص في محاورتي بارمنيدز والسفسطائي ويحاول فك ألغازهما الجدلية. ولا يستطيع أحد تجاهل نظرية المثل التي ما زالت تتحدى الجميع - لا سيما في مرحلتها الرياضية العسيرة في تطورها الأخير - بل إننا لنسمع اليوم من يقول (مثل هوبرت درايفوس): «إن الذكاء الاصطناعي في برامج الحاسب (الكمبيوتر) قد وصل بالعقلانية الأفلاطونية إلى ذروتها الرفيعة ...»
كل هذا ممكن، وسوف تبقى فلسفة أفلاطون حقلا لا نهائيا يتسع لجهود الحارثين والزارعين المخلصين، وميدانا غير محدود يتنافس فيه الفرسان البارعون.
وسوف تبقى كذلك ملاذا للحالمين - من أمثالي! - بالتغيير، وللعاملين على تجاوز واقعهم، الذين نخرت فيه جيوش سوس الفساد، إلى واقع أفضل وأكثر عدلا وحرية وشرفا وجمالا. فالحس اليوتوبي في هذه الفلسفة يستحيل إنكاره، وشمولية دولته المثالية غير مسئولة عن النظم الشمولية البشعة التي قاسى منها البشر في القرن العشرين أو ما زالوا يقاسون. وقد كان هذا الحلم بالتغيير والعدالة وسيادة القانون والديمقراطية، هو الذي استبد بي وألهب خيالي وقلبي وعقلي أثناء العمل في هذا الكتاب وفي زميله الذي تزامن معه وهو «لم الفلسفة؟»،
7
وإذا كنت قد عشت مع أفلاطون حتى كادت عباءته المهيبة أن تخفيني وأوشك ظله أن يطمس وجودي، فقد التهبت حماسا لفكرته اليوتوبية عن التغيير والإنقاذ، دون أن تغفل عين الوعي لحظة واحدة عن أخطائه وعيوبه (راجع الفصل الأخير عن خاتمة الرحلة وبدايتها)، وإذا استطاع الكتاب أن يثير في وجدانك بعض الموجات التي أثارت كياني أثناء تأليفه، فسوف أكون قد أخذت أكثر مما يتوقعه أي مؤلف جزاء على حبه وتعبه وتفانيه ...
د. عبد الغفار مكاوي
المنقذ غادر بيته
أجمع أمره، صمم أن يتحدى قدره، أن يأخذ معه سره، الرحلة كانت خطرة، والمحنة مرة ، ما ضر إذا أخفق مرة؟ فليعد الكرة، وليحمل للعالم فكرة؛ فالفكرة إن كانت حرة، فستصبح فعلا أو ثورة، تنقذه وتحطم نيره.
الرسالة السابعة: سيرة فشل مر، وثيقة اعتراف ودفاع وتبرير. طالما أثير الشك حولها، واليوم ينعقد إجماع العلماء أو يكاد على صحة نسبتها لأفلاطون. لعلها هي الوحيدة من بين رسائله الثلاث عشرة التي نجت من الشك، وربما شاركتها الرسالتان الثالثة والثامنة. فيها نقرأ قلبه، نعرف همه؛ فلقد وقف القلب وراء الفكر، طول العمر، يشعل فيه نار العدل ويلهمه الحكمة والشعر.
الأصل والطبع والرغبة في «إنقاذ» مدينته توجه خطاه على درب السياسة؛ ففي طفولته وشبابه شاهد مواطنيه يمزقون لحمهم بأيديهم، في أقسى حرب عرفتها بلده «حرب البيلوبينيز بين أثينا وإسبرطة، استمرت من 431 إلى 404ق.م»، ورأى الكارثة بعينيه، ونظام أثينا، حريتها وحضارتها، تنهار أمامه: «كنت لا أزال في ريعان الشباب عندما حدث لي ما يحدث للكثيرين، فقد تطلعت للإلقاء بنفسي في أحضان السياسة بمجرد بلوغي سن الرشد.»
كانت صورة الأحوال السياسية مضطربة عجيبة؛ فالناس في مسقط رأسه ناقمون على النظام الخائن الذي تسبب في الكارثة وجلب عليهم الهزيمة. وتمت ثورة نقلت زمام السلطة المطلقة إلى حكومة الثلاثين. كان بعض هؤلاء من أقاربه؛ «فرئيسهم - كريتياس - هو عم أمه، وأحد زعمائهم - خارميدس - هو خاله»، وعلى الرغم من إعجابه بهما، فقد سمى محاورتين من محاوراته باسمهما، لم يملك نفسه من السخط على حكمهما. لقد توقع أن ينقلوا المدينة من الظلم إلى العدل، ويستبدلوا بالإدارة الفاسدة إدارة رشيدة. غير أنه سرعان ما اكتشف أنهم استطاعوا، في أقصر وقت ممكن، أن يجعلوا الحكم السابق يبدو - بالقياس إلى حكمهم - أشبه بالجنة أو بالعصر الذهبي. ساد الظلم وغلب الشر، واشتد العسف وكتم الصدر. وابتعد بنفسه، فلقد خاب الأمل وفر.
لم يمض وقت طويل حتى انهار حكم الثلاثين. وخلفت حكومة الأقلية «الأوليجاركية» حكومة شعبية «ديمقراطية» معتدلة.
لكن الحظ الأسود بالمرصاد؛ فلقد شاء رجال السلطة الجديدة أن يقدموا للمحاكمة صديقه ومعلمه الشيخ «سقراط» أعدل الناس وأطهرهم عنده. اتهموه بتهم خسيسة هو أبعد الناس عنها، وأدانته المحكمة وقضت عليه بالموت. وأصابه الدوار أمام الاضطراب الشامل؛ فالعاملون بالسياسة أشرار وطغاة، وفساد التشريع والأخلاق العامة يستفحل بصورة مخيفة، والمبادئ التي عاش عليها الأجداد تتداعى وتنهار.
انشقت الهاوية بينه وبينهم، تحطمت كل الجسور. مع ذلك لم يتوقف عن التفكير في الإصلاح وترقب الفرصة المواتية للعمل، «فلا يزال القلب مفعم الحماس للتغيير والإنقاذ». حتى اقتنع - أخيرا - بصعوبة حكم الدولة حكما ترضى عنه النفس. بل اقتنع بأن أحوال الدول الحاضرة كلها تدعو للرثاء، وأن دساتيرها المريضة لن يشفيها إلا معجزة تأتي معها بالإصلاح، معجزة يتولاها الحظ الطيب أو ترعاها عين الله: «وهكذا وجدتني مدفوعا إلى الاعتراف بقيمة الفلسفة الحقة، والتأكد من أنها هي - وحدها - التي تمكن الإنسان من معرفة العدل والصواب الذي تصلح به الدولة والحياة الخاصة، وأن البشرية لن تتخلص من البؤس حتى يصل الفلاسفة الأصلاء إلى السلطة، أو يصبح حكام المدن - بفضل معجزة إلهية - فلاسفة أصلاء.»
اليوم يحوم فوق ربوع أثينا، والتهم تشير أصابعها نحوه، فيهجر هذا البلد الخرب سنين طويلة، وليبدأ رحلته الكبرى، يتزود من بحر العلم، يزور رفاق الدرس، من حوالي 399 حتى حوالي 388ق.م. «ترسو المركب في ميجارا، ثم تطوف بمصر وقورينا، حتى تصل إلى «تارنت» وتقف على شطآن صقلية».
ما زال الحلم يداعب عينه، حلم الحاكم حين يكون حكيما، رجلا يجمع بين القدرة والعلم، بين السلطة والحكمة ...
هل زار صقلية في نهاية هذه الرحلة وتعرف بحبيب عمره «ديون»، أم عرفه في بلاط صديقه الحاكم الحكيم الفيثاغوري النبيل «أرخيتاس» في «تارنت»؟ لا ندري على وجه التحديد. لكن الرسالة تشير إلى هذه الزيارة الأولى، التي تمت حوالي سنة 388ق.م عندما كان يناهز الأربعين من عمره، وإن بقيت دوافعها غامضة. لم يكن يصل إلى هناك حتى أصابه الاشمئزاز والنفور من حياة القوم؛ فهي حياة ينفقها أصحابها على ملذات الطعام والشراب والعشق، ولا يمكن أن تتيح لإنسان فان أن يصبح حكيما. والأخطر من هذا أن مثل هذه الدولة التي يتهالك أهلها على الملذات لا يمكن أن تنعم بالطمأنينة والسلام، ولا بد أن تقع تحت سطوة طاغية فرد أو استبداد بعض الأسر أو حكم الغوغاء، ولن يتحمل حكامها سماع كلمة «الحكم العادل». وأنى لها بالعدل وقد فقد الحاكم والمحكوم كل إحساس بالتدبر والاعتدال؟
كان ديونيزيوس الأول يسيطر - بقبضته - على أقدار الجزيرة ومعظم الجزر اليونانية في جنوب إيطاليا. أقام فيها مملكة عسكرية مستبدة، واحتفظ في الظاهر بأشكال الحكم الديمقراطي، لكنه كان في الواقع من أبشع الطغاة الذين عرفهم التاريخ القديم أو الحديث «لعل صورته أن تكون هي صورة الطاغية المطلق الذي يهاجمه أفلاطون في الجمهورية وغيرها من محاوراته، فهو الذئب، الليل، السكير الأحمق، مجنون يتصور أن يحكم غيره وهو العاجز عن أن يحكم نفسه، يلبس ثوب الطغيان ويمسك سيفه، وهو العبد بمعنى الكلمة، هو أشقى من أشقى الناس ...»
لا ندري في الحقيقة هل اتصل أفلاطون مباشرة بهذا العسكري المحترف، أم لم يتمكن من الاتصال به. فبعض الروايات تحكي عن خلاف وقع بينهما أدى إلى مشادة حادة اتهمه فيها أفلاطون بالاستبداد، فلم يكن من القائد المحترف إلا أن أهانه وطرده، ومن الطبيعي ألا يحس بقيمة الثقافة أو يحترم قدر الفيلسوف. وبعض الروايات تقول إنه أمر بترحيله إلى سوق الرقيق في جزيرة «أيجينا»، وكان من حظه أن رآه أحد مواطني قورينا - ويدعى أنيكريس - فافتداه ومكنه من العودة سالما إلى وطنه.
مهما يكن الأمر في هذه الروايات والحكايات، فيبدو أنه تعرف في بلاط الطاغية بشاب ذكي متحمس في حوالي العشرين من عمره، سحرته عصا المعلم فانقاد لسحرها حتى النهاية، ذلك هو «ديون» شقيق إحدى زوجتي الطاغية، وصديق أفلاطون ويده اليمنى في تحقيق الحلم الأكبر: «يبدو أنني عندما التقيت بديون في ذلك الحين - وكان لا يزال شابا صغيرا - قد عملت دون قصد مني على انهيار الطغيان، وذلك عندما أفضيت إليه برأيي عن أفضل الأمور للبشرية وحثثته على اتباعها بصورة عملية.» تحمس له ديون تحمسا فاق ما عرفه من الشباب الذين قابلهم في حياته، وتشرب بتعاليمه حتى تحولت نفسه بكليتها إلى الحكمة، وأصبحت الفضيلة عنده أسمى من الملذات والمباهج الحسية، وانطوى على نفسه مع أحلام معلمه حتى أثار حقد الحاشية ...
واستمر ينسج أحلامه حتى مات الطاغية سنة 367ق.م، وخلفه ابنه ديونيزيوس الثاني الذي كان أبوه قد أقصاه عن مهام الحكم وفرض عليه الجهل. حانت الفرصة ليلقي ديون شبكته على الصيد الثمين، ليصنع منه الحاكم الفيلسوف، أخذ يلح عليه حتى اقتنع بدعوة أفلاطون ثم أخذ يلح على أفلاطون لكي يقبل الدعوة: «أهناك فرصة أنسب من هذه الفرصة التي هيأتها العناية الإلهية؟ أن الملك الشاب شغوف بالعلم، وأقاربه يمكن أن نكسبهم بسهولة، والأمل كبير في أن يتحقق حلمك، أن يتحد الحكم مع الحكمة في شخص واحد، وبذلك تسعد سيراقوزة والبشرية، أسرع لا تبطئ عنا، فالمثل الأعلى يوشك أن يتجسد في إنسان حي ...»
واستجاب المعلم للدعوة، انتصرت إرادة الحلم على مخاوف التردد: «فقد كنت الآن بحاجة إلى إقناع إنسان واحد بآرائي لكي أحقق كل الخير الذي قصدت إليه.» وما قيمة آرائه عن القانون والحكم إن لم توضع موضع التنفيذ في الواقع الملموس؟ فليقدم إذا على المخاطرة «حتى لا أخجل من نفسي، أو أبدو في عيني مجرد رجل نظري لا يحسن إلا الكلمة.» حتى لا يتهم بنسيان الواجب أو خذلان الحق، سيكون عليه أن يتخلى عن عمله، يهجر أخلص أبنائه، ليعيش ببلد يتحكم فيه الطغيان، أبغض شيء عنده، لكن هذا أهون من أن يوصم يوما بالجبن وإيثار الراحة ...
ويقدم على المخاطرة. ويفاجأ ببلاط يموج بالدسائس والمؤامرات على ديون. ثم يفاجأ بعد وصوله بقليل بنفي صديقه وتلميذه من صقلية. وتسري الشائعات بأنه تآمر معه على خلع الملك الشاب عن العرش، وأنهما أرادا أن يوقعاه في سحر الفلسفة لينشغل عن مهام الحكم. هل يمكن أن يبقى في هذا الجو الخانق؟ هل يملك شيئا بعد رحيل صديقه؟ أيجرب أن يهدي الملك الأخرق لطريق الحكمة؟ لكن الشر استشرى فيه وفي حاشيته. وسهام الحكمة تتكسر فوق صخور الغلظة، بل إن الهمس يردد أن ديونيزيوس قتله، أو أمر بقتله، فليطلب إذنا بالعودة. ويتردد الملك؛ فسمعته مرهونة ببقاء الفيلسوف ببلاطه. وتوسل إليه أن يبقى، وتوسلات الطغاة تهديد ووعيد. ووافق الفيلسوف على أمل أن تخالجه الرغبة في الحياة الفلسفية. بكنه ظل يقاوم إلى النهاية، بل أمر بأن يحبس الفيلسوف في برج لا يخرج منه إلا بإذنه. وأخيرا وافق أن يرحل على وعد بأن يرجع عندما يستقر السلام في الجزيرة ويعود ديون من المنفي.
وتمر ستة أعوام، ويعود أفلاطون إلى صقلية سنة 361ق.م. فقد ألح عليه ديونيزيوس أن يقبل دعوته، ووعد بأن ينفذ العهد الذي قطعه على نفسه بتسوية شئون ديون. كيف استجاب الفيلسوف على الرغم من سوء ظنه بالطاغية؟ ألم تكفه مرارة التجربة السابقة؟ يبدو أنه لم يشأ أن يضيع الفرصة الأخيرة لهداية ديونيزيوس إلى الطريق، ولم يفقد الأمل في مساعدة ديون، ولم يقطع كل رجاء في «إنقاذ» سكان الجزيرة والعمل على سيادة القانون وإقامة نظام عادل يحل محل الحكم المستبد. ارتفع شعاع الأمل الأخير فوق ظلمات الشك والريبة، لكن ماذا يجد أمامه؟
تتحول الزيارة إلى كارثة؛ فلم يف ديونيزيوس بوعوده، ولا استدعى ديون من منفاه، لم يدخل في حوار مع الفيلسوف إلا مرة واحدة، ومع ذلك فسوف يدعي الإحاطة بمذهبه. وتثور ثورة المرتزقة طالبين رفع أجورهم. ويتهم الفيلسوف بمساندة المتمردين. ويجد نفسه سجينا في حديقة القصر كالطائر الحبيس في قفصه، ويحاصره التهديد بالقتل من كل ناحية. ولولا شفاعة صديقه النبيل أرخيتاس لما قدرت له النجاة.
فشلت المغامرة الثالثة وخاب الأمل. تحطم الحلم على صخور الغدر والحسد واللؤم، وتهاوى في أوحال الواقع برج الفكر. ماذا يفعل؟ ها هو يرجع، ماذا في جعبته إلا المر؟ فليلزم دارا لا يدخلها الشر. وليعط صغار الطير حصاد العمر. وليزرع في الأفئدة بذور الخير، فلعل النبتة تنمو في بستان الوعي وتثمر، والقوة تسقى من ماء العلم فتزهر، في فردوس العدل، الحلم الأكبر، يتولاه راع يحكم ... ويفكر ...
مسئولية من؟ ومن الجاني ومن المجني عليه؟ أهو ديون أم ديونيزيوس ؟ أم قدر خاف بين حنايا العصر؟
إن كلامه عن ديون يفيض بالعرفان والحنان «لا تخفى منه نغمة إحساس بالذنب!» لقد استمع إليه ديون وفهم عنه، شرب من نبعه وتطهر بمائه. ربما تحمس أكثر مما ينبغي، والحماس المشبوب وراء كل علم أو إبداع أو إصلاح. لكن التطرف فيه فاسد؛ لأنه بداية طريق لا منهج سير، كما أن الانفعال شيء غريب على عالم العقل والنظام والتدبير ...
كان ديون طيب القلب، تسقط كلمات الفلسفة في بحيرة وجدانه فتثور وتمور، لكن قلما تلمس الموجة قمة جبل العقل. وهو يذكرنا بشخصية شاب آخر يتحمس للفلسفة كالمجنون وينفعل بها إلى حد البكاء والهياج. إنه «أبوللودور» الذي نراه في اللحظات الأخيرة من محاورة فايدون (59) ومن حياة سقراط يشهد مع أصحابه أخر فصل في حياة المعلم الكبير. فلا يكاد سقراط يضع كأس السم على فمه حتى ينفجر وحده من بين الحاضرين بالبكاء والنشيج. ويلتفت سقراط - الذي احتفظ بسخريته الحنون إلى آخر لحظة - لأحد تلاميذه ويقول عنه: «إنك تعرف هذا الشاب وتعلم طبعه!» وهو نفس أبوللودور «المجنون» الذي نراه في محاورة المأدبة (172 وما بعدها) يروي ما جرى من حديث الحب في بيت الشاعر «أجاثون». إن لقاءه بسقراط قد بدله وحوله: «كنت قبل لقائي به أهيم هنا وهناك كيفما اتفق، وكنت أتوهم أنني أصنع شيئا، بينما كنت في الحقيقة وحيدا منسيا، أتعس من أي إنسان آخر.» الناس تدعوه أبوللودور المجنون. وهو في كل مكان يحكي - في طيبة قلب - عن شعوره بالفرح والسرور كلما أمكنه أن يتكلم عن الفلسفة أو يستمع لمن يتكلم عنها. ثم لا يلبث أن يرتد إلى الحزن واليأس كلما وجد أنه لم يتوصل بعد إلى التشبه بسقراط ...
هنا وهناك تحول التلميذ وتبدل. لكنه لم يكن التحول الذي يقصده المعلم والمربي من تحويل النفس بكليتها نحو الحكمة، كلاهما طيب القلب، حسن النية، مندفع في حماسه إلى حد السذاجة والطيش، والنيات الحسنة أقصر الطرق إلى الجحيم. يصدق هذا في الأدب وفي الفلسفة، فما بالك بالواقع؟
بذل ديون كل ما في وسعه للتأثير على الأب والابن الطاغيين، أحسن الظن في الحالين فلم يتعلم مما لقي من الصدمات. ولم يقف طموح آماله عند «إنقاذ» سيراقوزة لينعم أهلها بسعادة تجل عن الوصف وتستحق أن تشرف اسمه، بل أراد أن ينقذ البشرية كلها بمجرد أن ينجح في تحقيق مثال الحاكم الحكيم والملك الفيلسوف في شخصية الطاغية. واسترسل مع الأحلام وأخذ يلح على المعلم لاغتنام الفرصة النادرة. واندفع المعلم أيضا مع حماسه حتى أفاق على الصدمة تلو الصدمة، نفي التلميذ وأبعد عن بلده، نهبت ثروته، بيعت فجأة. بعد سنين ثار لنفسه ومعلمه واغتصب الحكم، لكن أصبح طاغية أقسى من كل طغاة صقلية، وأخفق في تطبيق الحكم العادل أو إصلاح الدستور، وأخيرا ثار عليه الشعب، حتى انغرز الخنجر - بيد صديق - في أعماق القلب ...
ما من أحد منا خالد. ولقد مات ديون ميتة رائعة: «وإنه لشيء جميل وجدير بالسعي إليه في كل الأحوال أن يتحمل المرء كل شقاء يصيبه به القدر، مهما تكن وطأته ثقيلة، في سبيل كفاحه لبلوغ أسمى الخيرات لنفسه ووطنه.» فهل استجاب حقا لتعليم أستاذه؟ هل جنى عليه الأستاذ دون أن يدري؟ أم كان الذنب أخيرا هو ذنب «الحلم»؟ فعل ديون كل ما يستطيع ليغير الطاغية، لكن هل تتجه النفس إلى الخير إذا لم تك خيرة بطبيعتها؟ نفاه الطاغية وأهان أستاذه، فانتقم منه وحرر الجزيرة منه ليصبح طاغية مثله! قتل أخلص أعوانه، نشر الخوف والرعب، نسي على عرش السلطة ما لا ينسى من تعليم الأستاذ: «لا يجوز لصقلية ولا لغيرها من المدن أن تخضع للسلطة المطلقة أو الطغيان الفردي، بل يجب أن تخضع لحكم القانون، فالسلطة المطلقة مضرة بالحكام والمحكومين، وهي مؤذية لهم ولأبنائهم وأبناء أبنائهم؛ لأن مثل هذه التجربة لا بد أن تؤدي إلى الخراب ...»
لكن المعلم يتحسر على مصير تلميذه، «الذي كانت لديه الرغبة الحارة في تحقيق العدالة.» يعتذر عنه بأنه «لو تمكن من تدعيم حكمه لبدأ على الفور بتزويد مواطنيه بأفضل وأنسب ما يستطيع من قوانين.» هل يجهل أفلاطون أم يتجاهل أنه سرعان ما تحول إلى طاغية قاس؟ هل تمنعه عاطفة الحب من الاعتراف بأنه أهمل تعاليمه؟ أم إن بذرة التسلط كانت كامنة في هذه التعاليم؟ يبدو أن قلبه يمنعه من سماع صوت العقل، أو أن هدف الرسالة السابعة كلها - وهو تبرير رحلاته والدفاع عن فلسفته ومدرسته - يحول بينه وبين السير في الاعتراف إلى آخر مداه. ها هو يلقي الذنب على أكتاف المجهول: «ولكن يبدو - بعد أن تحولت الأمور على هذه الصورة - أن روحا شريرا (أو ربة من ربات الثأر) قد هاجمنا واستطاع بما جبل عليه من احتقار القانون والدين وبما هو أسوأ منهما من رعونة الغباء أن يقلب كل خططنا ويفسدها للمرة الثانية.»
ويتذكر الصديق المسكين الذي يحتل من قلبه أغلى مكان. وينصح أصدقاءه وأتباعه بأن يقتدوا به في حب الوطن، ويهتدوا بحياته التي اتسمت بالبساطة وضبط النفس، ويحاولوا تحقيق أهدافه - التي هي نفس أهدافه! - في ظل ظروف أنسب. صحيح أنه يؤكد لهم ضرورة احترام القانون الذي يكفل الحقوق المتساوية للجميع، ولا بد أن يخضع له الفريق المنتصر قبل الفريق المهزوم، بل ينصحهم باختيار مجموعة من حكماء اليونان لوضع هذه القوانين. فهل أنسته عاطفة الحب لصاحبه أنه تجاهل المبادئ التي عمل معه على تحقيقها «مدفوعين بالحب لأهل سيراقوزة»؟ هل صحيح أن «قدرا يفوق قدرة البشر» هو الذي حال دون نجاح خطتهما؟
ويواصل الاعتذار عن «ديون» والتحسر عليه، فقد كانت آراؤه «هي نفس الآراء التي يفترض في وفي أي إنسان عاقل أن يعتنقها.» لقد وضع نصب عينيه ألا يصل إلى السلطة وأسمى الوظائف إلا عن طريق التفاني في خدمة الصالح العام، وكان هدفه وضع دستور حقيقي وإقامة قوانين طيبة عادلة تنفذ بغير قتل أو إعدام أو نفي. فهل هذا كان حقا هو المثل الأعلى الذي وضعه ديون لنفسه مؤثرا تحمل الظلم على اقترافه؟ هل غاب عن المعلم أن تلميذه أغرق يديه ومثله الأعلى في الدماء؟ وهل كان سبب سقوطه أنه انخدع في المدى الذي وصلت إليه خسة الأشرار الذين لم يغب عنه أنهم أشرار؟ كالملاح البارع الذي يتوقع هبوب العاصفة، ومع ذلك تداهمه بقوتها وعنفها المفاجئ فتغرقه؟ أم إن القلب المحب يصعب عليه الاعتراف بأن «الحلم المنقذ» بحاجة إلى إنقاذ؟ وأن طريق «الحكمة» أشق مما تصور المعلم والتلميذ؟!
هل المسئول ديونيزيوس؟
لقد تعب أفلاطون وديون في توجيهه نحو الخير. بذلا له النصيحة تلو النصيحة ليبدأ بتغيير حياته من أساسها. لكن عبثا يحاولان علاج مريض يصر على رفض تعاليم طبيبه. عبثا تكره إنسانا على شيء يأباه طبعه. فالخير يسعى للخير، وطريق الحكمة وعر، درب يرقاه السالك بالعرق المر، تحويل النفس برمتها نحو الخير، هل تصلح نفس جبلت من طين الشر؟
علماه أن يصادق نفسه. فالذي لا يحب نفسه لا يحب غيره. لكن كيف يصادق طاغية نفسه؟ كيف تعرف الصداقة طريقها إلى قلبه؟ إنه عدو نفسه الأول. ولهذا فهو عدو الناس جميعا، والناس جميعا أعداؤه، إن لم يجدهم في الداخل فهم وراء الحدود، وإن لم يهددوه من الخارج فكل من حوله يهدده: الذئب يهاجم أو ينتظر هجوما ...
نعم، لقد دعا الفيلسوف لضيافته. واستقبله بالترحاب اللائق والتكريم. لكنه لم يدع فكره وحكمته، بل أراد أن يستغل سمعته، أن يباهي به أمام الرأي العام الإغريقي، أن يجعله زينة قصره، تحفة تحفه، أن يروي الناس ويحكي التجار وملاحو السفن بأن ديونيزيوس صاحب أفلاطون، بل يفهم عنه أيضا ويحاوره في آرائه! فإذا همس رجال الحاشية بأن أفلاطون يريد أن يوقعه في سحر الفلسفة، ويشغله عن واجبات الحكم، أسرع بحبسه في برج لا يخرج منه إلا بإذنه، ولا يستطيع الملاحون أن يأخذوه منه إلى وطنه ...
وتردد الشائعات أن الطاغية تحمس فجأة للفلسفة! وتصله الرسائل التي تؤكد - حتى من أصدقائه الفيثاغوريين في تارنت - أنه تغير وغير نفسه، وأنه عازم على سلوك الحق والفضيلة. ويصدق الفيلسوف على الرغم من سوء ظنه به وبحماس الشباب الذي يشتعل فجأة ويخبو فجأة. ويسرع إليه على أمل أن تتحقق الفرصة الأخيرة ويصنع منه تمثال الحاكم الحكيم. لكن الطينة نجسة، وغناء الضفدع لا يحلو إلا في قلب المستنقع. ها هو ذا قد أخلف وعده، لم يستدع ديون من منفاه، لم يرسل إليه نصف دخله كما تعهد على نفسه، والأدهى من هذا أن المتعطش للفلسفة لم يكلف نفسه عناء لقاء الفيلسوف إلا مرة واحدة! مع هذا سوف يشيع بين الناس أنه يحبه ويفهمه، بل سينشر كتابا يعرض فيه مذهبه! ...
كيف تجرأ أن يفعل هذا مع أن صاحب المذهب يؤكد أنه لم يفكر يوما في كتابة شيء عنه؟ لقد آمن دائما بأن «حقائق الطبيعة» و«القضايا الأخيرة» تستعصي على التدوين في الكلمات الجامدة والحروف الصماء. فالفلسفة طريق وحوار حر، نور ينبض فجأة، في نفس خيرة سمحة، وهنالك ينمو ويعيش. ولو تصور أن نشر أفكاره يمكن أن ينفع الناس، فهل كان يتردد عن تقديم هذا المذهب الذي ينقذهم من بؤسهم ويبين لهم حقائق الأشياء؟ أكان هنالك عمل أجمل أو أنبل من هذا العمل؟ لكن القلة القليلة هي التي ستفهمه على الوجه الصحيح، أما الكثرة فلن يصيبها منه إلا الأذى والاضطراب، «ولهذا لن يخاطر إنسان جاد بوضع أفكاره في ثوب اللغة الضعيفة، وأولى من ذلك ألا يخاطر بوضعها في ذلك الشكل الجامد الذي يميز كل ما يكتب بالحروف.»
لكن غرور الطاغية صور له أن الأمر هين، وهل هناك ما هو أهون من إطلاق شراع القلم فوق بحر المداد؟ هل ثمة شيء أيسر من تلويث الورق الطاهر؟ لن يكون ديونيزيوس أول ولا آخر من يكتب عن الخير ونفسه مليئة باللؤم والحسد والشر، «انظر وتأمل حولك: كم من شرير لبس مسوح العلم، اجتر مئات الكتب وفوق الورق العذري أسال بحور السم، ماذا كسب العلم أو العالم منه؟ وا أسفاه! صار الرأس وصار الفم، مقبرة الكلمات الصم، ماذا يجني الشوك من الشوك الشائك - إلا الظلم؟ هل تلد الأرض العاقر إلا العقم؟ ما قيمة بحر مداد لم تسقط فيه قطرة دم؟»
هل صعد ديونيزيوس على سلم المعرفة قبل أن يتصدى للإفتاء فيها؟ هل ارتفع من الاسم إلى التعريف إلى التمثل قبل أن يصل إليها؟ وكيف وثب على سر «الموضوع» وهو لا يملك الخير ولا الموهبة ؟ أكان يحسبه إحدى ضحاياه؟ هل تصور أنه لا ينجو من طغيانه؟ وكيف يكتب عن «المثال» وهو لا يعرف ولا يرى؟ كيف لأعمى - يعجز حتى «لينكويس»
1
أن يجعله يبصر - أن يتغزل في النور الباهر؟ أن يزعم رؤية ما لا تمكن رؤيته إلا بعيون الروح؟ هل جرب شوق الجدل الصاعد له؟ هل عرف الحب؟
لم يعرف شيئا من هذا. والمنقذ أسفر عن وجهه، فإذا هو ذئب!
هل مات الحلم؟ فليحمل معه أشلاءه، ويعود إلى الوطن الأم.
هل بقي أمل في الإنقاذ؟ ألا يزال في قدرة الفلسفة أن تنقذ البشرية؟ أم تظل تحلم حتى يطفئ الجراد سراج الحلم؟ أننتظر المنقذ أم نحاول إنقاذ أنفسنا؟
ويعكف المربي الأثيني على تربية النفوس والعقول، ويقدم لمواطنيه طريقا أو مشروعا ينقذهم من الانهيار. فلننظر في هذا المشروع، ولنسأل ماذا يمكن أن يعطينا في زمن المحنة ...
إنقاذ العالم
العالم بؤس وفساد، لم نحيا فيه إن لم نسع لإنقاذه؟ ما معناه إن لم نضف عليه المعنى؟
معرفة الوجود الخالد الحق والمشاركة فيه لإنقاذ الوجود الأرضي المحسوس بقدر الإمكان، تلك هي مشكلة أفلاطون.
ليست مشكلته هي الخلاص من الثاني وإفناؤه، ولا الاتحاد مع الأول والفناء فيه، «فهذه آثار فلسفة أفلوطين وشراحه على التصور الشائع عن أفلاطون!» بل حمل النفس على المشاركة فيه، «من هنا تأتي وظيفة التربية وتقسيم العلوم».
عالم الحس والتجربة هو عالم التغير والفساد، والحركة والفناء، كل ما هو جسدي محسوس، وطبيعي مادي ليس وجودا حقا، إن له صورة، لكنه ليس صورة، «لهذا أخطأ الفلاسفة (الطبيعيون) في البحث داخل هذا العالم عن أصله ومبدئه، عن سببه وجوهره ...» فالوجود الحق في المثل أو الصور، في الأفكار أو الأنواع «صورة الدائرة، العدالة، المساواة ... إلخ».
1
ارتباط الطبيعة بالأخلاق: من تعلق بهذا العالم الحسي أصبحت القيم الأخلاقية عنده متغيرة وقابلة للتحول. لا عدل ولا حق ولا واجب، بل كلمات تغوي وتؤثر، كل شيء كما يبدو لكل إنسان. أوضح من عبر عن هذا كالليكيليس في «جورجياس» وثرازيماخوس في «الجمهورية»، من هنا كان فساد السفسطائيين، وانحلال أثينا، وتضليل الجماهير بالكلمات. من هنا كان خداع كل الدجالين، ينتظر الناس الحق فلا يجدون، غير بريق الكلم الزائف من فم مجنون.
الهوية هي مجال الوجود الحق، مجال «الموضوعية» حين يعرف العقل حقائقه. والغيرية «أو الأقل والأكثر» هي مجال الصيرورة، مجال النسبية التي لا يستطيع العقل أن يثبت فيها، واللاوجود - أو الموجود في الظاهر فحسب - بينهما هوة وانفصال، وانشقاق وثنائية حاسمة، هل يمكن أن يلتقيا؟!
الأساس الأكبر لفلسفة أفلاطون هو هذا الانفصال التام، هذه الثنائية الحاسمة، هذه الهوة السحيقة
2
بين عالم الوجود وعالم الصيرورة، والمشاركة
3
هي التي تحاول التقريب بينهما.
أبينهما تناقض أم بينهما تضاد؟
أتصدق عليهما: إما «أ» أو «ب»، أم «أ» عكس «ب»؟
فرق كبير بين التضاد الذي يسمح بوجود حدود متوسطة بين الضدين، كالصيف والشتاء وبينهما خريف وربيع، والأبيض والأسود وبينهما عدة ألوان، وبين التناقض الذي لا يسمح بالتوسط، حياة وموت، حركة وسكون، ذكر وأنثى، زوجي وفردي، جوهر وعرض، صدق وكذب ... الخ.
مع ذلك تسمح بعض المتناقصات بحدود وسطى من جانب واحد، كالظلم بالنسبة للعدل، فقد يقترب من العدل أو يبتعد عنه، بعكس الزوجي والفردي والحياة والموت ... إلخ.
بين عالمي الصيرورة والوجود تناقض من النوع الأخير، الأول يسمح بالتقارب، يمكن أن يبتعد أو يقترب من الثاني. فالوجود مطلق، ولا بد من معرفته معرفة مطلقة في ذاتها. والصيرورة أو اللاوجود الذي يقترب منه أو يبتعد عنه يناقضه؛ لأنه يشتاق للوجود ويسعى للمشاركة فيه «إذ لو كان مثله لصار منافسا له ولم يسمح بالمشاركة».
عالم الصيرورة نوع من اللاوجود «لسعيه الدائم إلى الوجود»، لكنه لا وجود ينطوي على درجات «مثل الظلم والكذب».
فالحكم الصادق «يناقض» الحكم الكاذب «وإن كان هذا على درجات تقترب من الصدق أو تبتعد عنه.»
و«السرمدية» تناقض «الزمانية»، وإن كان من الممكن أن تمتد وتدوم بعد موتها وانتهائها، كالفكرة العظيمة، والعمل الفني.
و«الإله» + يناقض «الإنسان»، وإن أمكن - في حدود الأرضية والبشرية - أن يوصف بعض الناس - وهم الصفوة والقلة النادرة - بأنهم إلهيون.
والإيدوس
4 «يناقض» الإيدولون.
5
النموذج والأصل، الحقيقة والوجود المطلق، الماهية والجوهر، هنا نجد نموذج كل صيرورة، والنماذج أو المثل متعددة - أخلاقية ورياضية - لكنها تمثل وحدة حية وجماعة مشتركة.
6
النسخة الناقصة والظاهرة المتغيرة، تتفاوت بين وجود مظهري خداع وآخر مشارك في الماهيات والحقائق الثابتة، والصور أو المثل الخالدة تتفاوت أيضا في طبيعتها، فهي جسدية أو جمالية أو نفسية ...
والمثل لا ترى بالعين، حتى لو كانت عين العقل!
لكن العقل يفترض وجود المثل أو الصور الأصلية كأساس منطقي لا بد من الاقتناع به.
ثنائية حاسمة، هوة وانفصال: بين العقل والمحسوس، والوجود والصيرورة، والمثل والأشياء، والمعرفة والجهل، والنور والظلام، والحرية والعبودية.
علينا نحن أن نقرر: هل نريد البقاء في عالم الصيرورة والضرورة، والتجربة والحس، أم نريد الارتفاع إلى عالم الفكر والعقل، والإرادة والسلوك، الأول ينقصه كل ما يميز الحق من قيم «الثبات والتحدد، الجوهرية والاستقلال» لأنه عالم التغير والفساد. أما الثاني فيحتوي على كل معيار للمعرفة، كل قانون للفكر والعلم؛ لهذا تقاس به المعرفة التجريبية ولا يقاس هو بها.
هل يمكن أن يلتقيا؟
لا يقطع أفلاطون بشيء، بل يترك الأمر للمشيئة الإلهية
7 ...
فإذا شاءت ولد «المنقذ»: سيكون شبيها ببروميثيوس الذي جلب النار للبشر أو بأسكلبيوس الذي وهبهم فن الطب والعلاج. سيكون مفاجأة، حدثا فريدا وجديدا قد يتبعه غيره، وقد ينتهي الأمر عنده ويأتي بعده الفساد ...
هذا المنقذ هو الذي سيوحد بين العالمين، عالم التجربة وعالم الحكمة. هو الذي سيحقق الدولة المثالية العادلة؛ إذ يجمع بين القوة العملية والرؤية الفلسفية.
فلقد عرف السر الأكبر، لا يشبهه سر الطب أو النار؛ فهم مثال العدل وطلب الخير المطلق ...
الأمر إذا لله، لا للعالم التجريبي «الدينامي»، ولا لعالم المثل «الوجودي»، فهو القادر أن يوحد بينهما؛ لأنه هو القوة الوحيدة الفعالة فيهما.
لن تنشأ الدولة المثالية من عالم التجربة، بل ستكون - شأنها شأن كل المثل - مخالفة له. لن تتحقق مهما توافرت الشروط المطلوبة «من تجريد الطبقة العليا من الملكية واختيار الحراس والفلاسفة، والتجنيد العام ... إلخ.» ولن تتم عن طريق الثورة والعنف، بل تتحقق حين يشاء الله أو تشاء المصادفة أن يولد هذا المنقذ، فيخلص كل البشر من البؤس، ويبدد ليل الظلم وينصب ميزان العدل ...
حتى يحدث هذا، ما هو واجب الفلاسفة؟ عليهم أن «يربوا» الناس تربية فلسفية تهيئهم لتحقيق الخير المطلق على الأرض، أن يعلموهم كيف يحافظون عليه كما علموهم كيف يفكرون فيه. عليهم أيضا أن يعدوهم لاستقبال المنقذ والعمل معه، حتى لا يدمروه باللؤم والحسد والغدر والغباء ...
ماذا يطلب منهم؟ ما الشروط الواجب أن تتحقق فيمن يطمح للحكمة؟ فيمن يريد أن يكون فيلسوفا، وقد يتاح له فرصة تدبير أمور الناس وتصريف شئون حياتهم السياسية والعملية، أي فرصة إنقاذهم بالحكمة والحكم؟
عليه أن يعرف هذه الأمور الثلاثة معرفة دقيقة: (1)
عالم التجربة. (2)
عالم المثل. (3)
عالم الخير الإلهي.
عالم التجربة لكيلا يخدعه السفسطائيون ويسرقوا منه آذان العامة بكلامهم المختلط البراق، وعالم المثل والماهيات الذي يحتوي وحده على معايير المعرفة الحقة وموضوعاتها، وعالم الخير الإلهي الذي هو «شمس نهار الأخلاق ...»
أما عالم التجربة فلا بد أن يعرف أنه عالم الظواهر والقيود، عالم النقص والعذاب؛ لأنه إن رضي به فلن يستطيع «إنقاذه» بالفلسفة ... «لا بد أن يعرف خداع الكلمات التي تغري والإحساسات التي تغوي، والقوى المادية التي تضل. لا بد أن يعرف أن هذا العالم، عالم الزمان والمكان والظواهر»، هو الضد من عالم الحقيقة والمعنى الثابت الأصيل ...
لا بد أيضا أن يقتنع بالوجود المطلق الثابت للمثل «فوق الزمان والمكان». وبعد أن يتمرس بالطريقة المنهجية في التفكير، ويتدرب على الحياة العملية والعسكرية، عليه أن يرجع - من حين لآخر - إلى المجال الموضوعي الوحيد للعلم، لكي يعرف أن التصورات والأفكار الحقة ليست مجرد تجريدات من الأشياء التجريبية، بل إن الأمر يتعلق بالمعايير الثابتة التي ينبغي أن نقيس الأشياء بمقياسها لنعرفها معرفة صادقة.
من شعر بأنه يعيش في عالم المثل الخالدة كأنه يعيش في وطنه فهو وحده الذي يمكنه أن يتجه بفكره نحو المطلق والخالد ، ومن أحس المسئولية التي تنتظره ليكون مرشدا للناس، ينبغي أن يكون ثابت الفكر والرأي كالكواكب الثابتة في السماء. إن لم يفعل هذا ضل وتاه بعالمنا التجريبي، فتش عبثا عن سند يعتمد عليه.
أما أسمى واجبات الفيلسوف فهو أن يعرف طبيعة الواحد الإلهي، الخير المطلق الشامل الفريد، «فليس له مبدأ مضاد كالشر الأصلي الحاسم مثلا».
فأسوأ ما يوجد على الأرض - أو يمكن أن يوجد على ظهرها - هو الطاغية، سواء كان «طاغية فردا» أم كان هو «الغوغاء»
8
التي أفسدها المحرضون والمشوشون؛ لأن الطاغية هو الذي يحاول أن يجعل الشر مبدأ عاما. غير أن هذه المحاولة لن تنجح أبدا - مهما أدت في عالم الحس والتجربة إلى الدمار والخراب - لأن الشر لا وجود له في الواقع «في هذا يتأثر أفلاطون بالإيليين!» ولأن كل ما يوجد فهو موجود بقدر ما يشارك في الخير «ما يوجد في الدائرة هو دائما ما يتفق مع وجود الدائرة الكاملة في ذاتها - مثال الدائرة أو الدائرة الخيرة - وهي التي نقصدها عندما نتصور الدائرة أو نقوم بتعريفها. كل ما عدا ذلك فهو لا دائرة، نفي وسلب لوجود الدائرة ...»
كيف نعرف الطاغية؟ كيف نعرفه؟
هو - مثل كل ما هو شر - نفي الحاكم الخير، كما أن اللادائرة هي نفي الدائرة الحق، والسفسطائي هو نفي المعلم الصحيح، والمرض هو نفي الصحة ...
وإذا فموضوع التعريف، وبالتالي موضوع كل معرفة صحيحة تعبر عن ماهية الوجود بالمعنى العقلي اليقيني،
9
هو دائما ما يشارك في الخير، والموجود الذي يمكن أن نسميه إلها هو وحده العلة والمبدأ الذي يتيح هذه المشاركة في الخير؛ لأنه هو نفسه الخير في ذاته أو الخير المطلق «الخالي من الحسد لأنه خير!»
هذه المشاركة تتحقق على أكمل وجه في عالم الصور والمثل، فكل صورة أو مثال على حدة - كالحقيقة أو الجمال أو العدالة أو المساواة أو الدائرة أو الدولة والمجتمع ...إلخ - هي التي تكون الوجود الحق على نحو نموذجي أو معياري أصيل، وكل مثال أو صورة يمثل، مع سائر المثل أو الصور، جانبا من الخير الواحد، «فالدائرة التجريبية الناقصة تشارك في مثال الدائرة، والدولة في عالم التجربة تشارك في مثال الدولة، كل الموجودات في عالم التجربة ناقصة متغيرة، وهي تشارك في ضدها، أي في وجود كامل في ذاته.»
هل يناقض هذا مبدأ عدم التناقض الإيلي؟
لا يناقضه؛ لأن هذا المبدأ لا ينطبق إلا على عالم الواقع والتجربة، ولأن الفكر عندما يكون في مجال المشاركة لا يكون في مجال وجود أفقي، بل في مجال وجود رأسي يعبر عن مشاركة الموجود الناقص المتغير في الوجود الكامل الثابت، عن علاقة اللاوجود بالوجود نفسه.
الله - أو الخير الواحد الأسمى - هو علة هذه المشاركة.
فالحياة تكون في هذه المشاركة، والله هو علة كل خير ووجود،
10
وليس للأشياء ولا لعالم التجربة والظاهر من وجود إلا بقدر ما تقاس بالنموذج أو المثال الذي يضعه الفكر، بقدر ما يمكنها أن تشارك فيه.
المشاركة هي شرط الفكر الموضوعي والمعرفة نفسها. لم يقرر أفلاطون طبيعة هذه المشاركة إلا في مرحلة متأخرة من تطوره:
نقول في الأحكام والقضايا الحملية: أ هي ب «هذه دائرة»، أو س هي م «أثينا مدينة». والكينونة هنا تعبر عن التساوي. لكن حين يقاس كلاهما بحقيقة الدائرة أو بحقيقة المدينة يصبح معناها الشوق والنزوع والطموح للمشاركة، فكل ما هو تجريبي يشتاق للمشاركة في الوجود الكامل الموجود في ذاته، أو للخير الذي تمثله سائر المثل كل من ناحيته.
فالله أو الخير الأسمى هو سبب المثل وعلتها «لأنها تشارك فيه»، كما هو سبب عالم الأشياء والظواهر «لأن كل شيء يمكن أن يشتاق للمشاركة في المثل».
هذا الإمكان
11
لا يأتي من المثل نفسها، فهي مكتفية بذاتها، بل يأتي من الله «الذي يفوق الوجود في الرتبة - أو الشرف والكرامة - والقوة»؛ إذ لولا خيريته ما كان هناك ثبات.
وإذن فعلة نزوع الأشياء إلى الخير هو الخير نفسه؛ لأنه متعال على الأشياء وكامن فيها في نفس الوقت كقوة وإمكان، وهي لا تأتي من المثل المتعالية على الأشياء لأن المثل غايات وأهداف ونماذج لا قوى دينامية، ولا من الأشياء نفسها؛ لأنها ناقصة وبلا ماهية.
والخير الواحد ومثال المثل، الله أو الخير الإلهي، لا يكاد الفهم يعرفه إلا معرفة تقريبية، ولا يمكن التعبير عنه إلا من وجهة نظر أسطورية لا فكرية دقيقة «كما في الجمهورية وفايدروس وطيماوس».
أنه لا يدرك، أي لا يعرف ولا يحدد؛ لأن الفكر تحديد وتعريف. وهو مثال المثل - الخير في ذاته - الذي تقاس به المثل الأخرى، كما نقول «1» بالقياس إلى سائر الأعداد «2، 3، 4، ...» ولهذا فهو فوق الفكر الماهوي، وفوق كل المثل وقبلها، كما أن العدد «1» فوق كل الأعداد وقبلها، وإن كان كل عدد في ذاته وكل مثال في ذاته واحدا أو وحدة.
إذا كانت كل المثل «وجودية»،
12
فإن مثال الخير
13
وحده فعال ودينامي:
14
هو في «الجمهورية» الشمس التي تتحكم في قبة السماء، والسماء تزينها المثل كالكواكب الثابتة، وهو الذي يشيع الحياة والدفء والوجود في عالم الكائنات والأشياء.
وهو في «فايدروس» الرب الذي يقود موكب الأرباب الراقص والنفوس الفردية تتزاحم في حاشيته لتفوز بنظرة إلى المثل الخالدة ونماذج الوجود الأزلي.
وهو في «طيماوس» الصانع الخير الذي يجبل الكون من الفراغ
15 «أو اللاوجود» بعد أن ينظر للمثل ويحاكيها، وطيبته الخالية من الحسد هي التي جعلته يبني العالم «مكان الصيرورة» ويجعل منه كائنا حيا عاقلا. هو الذي أحال الفوضى إلى نظام؛ إذ لا يليق به أن يخلق إلا الجميل. وهو الذي جعل للجسد نفسا وللنفس عقلا، وأخرج الكائنات من اللاوجود إلى الوجود.
وهو في المجال الرياضي والحسابي الوحدة المطلقة السابقة على كل كثرة وتعدد.
وفي مجال المثل - أو جماعتها الحية المتجانسة! - هو الذي يفوقها في الوجود والرتبة والشرف، وهو مصدر الخير فيها وفي سائر الكائنات، ولهذا لا يكاد العقل يقدر على التفكير فيه.
كل المثل «تمثله» وتشارك فيه، وهو وحده المبدأ الصانع الذي يهدي الكائنات الناقصة إلى الكمال ويدلها على طريقه.
وهو فكرة الإله نفسها التي تتردد في صور مختلفة في أعمال أفلاطون ...
والآن ... ما شأن المثل؟ ألها دور في إنقاذ العالم؟
لم يوضح أفلاطون ترتيب المثل وتنظيمها، لكن يمكن أن نستخلص طبيعتها من محاوراته:
فهي لا زمانية ولا مكانية «قبلية بلغة كانط!»، يسري الخير فيها جميعا، والحق والصدق طابع مشترك بينها، وهي متعددة «لأن وحدة المعرفة لا تقوم بغير هذا التعدد، ولأنها تفترض وجود بعضها وعلاقتها ببعضها كالإيجاب والسلب، والصدق والكذب، والظلم والعدل، والواحد والغير ...» ولكنها في نفس الوقت واحدة، تمثل جماعة حية مشتركة، نسقا عضويا متجانسا، وإذا اختلف الواحد منها عن الآخر في نوع وجوده، فهي جميعا في الوجود متشابهة؛ إذ هي موجودة في ذاتها، مكتفية بذاتها، مطلقة، ثابتة وخالدة ...
هي - باختصار - جواهر ونماذج أصلية باقية، حتى الصانع لم يخلقها، بل يتطلع إليها ويحاكيها «محاكاة النجار والرسام للسرير في ذاته!» وهي كذلك - ابتداء من محاورة «جورجياس» وخصوصا في «السفسطائي» - نسب وعلاقات «كالاختلاف، والتضاد، والسلب»، لكن أعلاها وأعمها وأهمها هي مثل الخير والحق والجمال:
الخير؛ لأنه ليس مثلها علة نموذجية
16
فحسب، بل هو علة وجودية دينامية،
17
والحق؛ لأن الحقيقة مشتركة بينهما جميعا.
والجمال؛ لأنه المثال الوحيد الذي يمكننا أن نفكر فيه بالعقل والفهم معا، أي كنموذج مطلق وصورة موجودة في عالم الحس «في جمال وردة أو حسن فتاة ... إلخ».
هنا نسمع نداءه الذي يصل إلينا من عالم المثل ليحرك فينا الشوق ويوقظ فينا الحب «الأيروس» كلما رأينا صورته على وجه الأشياء «في التناسب الرياضي، والتجانس الموسيقي والنظام والغائية في العالم»؛ لهذا فهو علة محركة
18
للشوق والحب، متعالية وكامنة في عالمنا المحسوس.
هي في النهاية (أي المثل) أصل الوجود والحقيقة معا «ميتافيزيقية-وجودية، ومنطقية-معرفية، نظرية وعملية في آن واحد».
ما هو موقف الفكر منها؟ ما واجبه نحوها؟
إن العقل يفكر فيها بالجدل وبالتركيب «ديالكتيك وسيلليتيك»، وبالتحليل أو التقسيم وبالتأليف «دياريزيه وسينتزيه». لكن واجبه ومهمته أن يعرفها، يوجد معها وفيها وبها ... لا ليدير ظهره أو يصرف نظره عن الكائنات المحسوسة المتغيرة، بل ليحسن فهمها وتقديرها وقياسها بمقياس المثل والنماذج، أي ليغيرها ويعدلها ويرتفع بها «على أساس مثال التساوي أو العدالة مثلا.»
لكي تمثل «المثل» الخير بشكل فعال لا بد أن يوجد عالم تكون هي هدفه وغايته، مقياسه وأساسه من ناحية الوجود والمعرفة جميعا، هذا هو أساس نظرية أفلاطون عن الصيرورة والمشاركة والحب والنفس، أساس «دليله» على وجود الله وعنايته «إن جاز التعبير المتأخر عن التيوديسيه»، وأساس الجهد والمعاناة في شخصية أفلاطون وكفاحه لتحقيق الاتحاد بين الوجود والصيرورة في عالمنا التجريبي بقدر الإمكان، بقدر ما تسمح به ظروف هذا العالم.
لكن كيف سنرقى لسماء المثل، لكواكبها الخالدة الساطعة الضوء؟ كيف لنا أن نعرفها ونشارك فيها؟ من يصنع هذا الجسر ومن يعبره؟
تعبره نفس الإنسان، بالحب وبالشوق الظمآن «الأيروس».
تطورت فكرة أفلاطون عن النفس من «فايدون» إلى «فايدروس» إلى «طيماوس»: من النفس الخالدة لأنها حياة ومختلفة عن الجسد «قبر النفس أو الموت»، إلى النفس التي تتحرك بذاتها وتختلف عما يحرك غيره أو يتحرك به، إلى نفس كلية هي القانون الباطن للكون. النفس في «فايدون» جوهر حي؛ لأنه يشارك في مثال الحياة، بالتذكر أو بالضدية. وهي في «فايدروس» مبدأ الحياة والحركة، وما يتحرك من نفسه فهو خالد؛ إذ لو مات فسوف يموت الكون كله وتفنى الحياة، ليس هناك تعارض، بل تطور من المستوى الفردي إلى المستوى الكوني.
النفس مبدأ تلقائي متحرك بذاته. من هنا تأتي قدرتها على المشاركة؛ لأن كل ما هو حي - لا الإنسان وحده، بل الكون كله - له نفس ذاتية الحركة. والمشاركة لا تتم إلا بالنفس وفي النفس، سواء كانت هي الفردية أم الكونية. فهي مبدأ الحياة والحركة الذاتية في الفرد، وهي مبدأ الحياة والحركة الذاتية في الكون.
المعرفة إذا هي الحركة غير المكانية ولا الزمانية للنفس العاقلة؛ وهي لهذا أيضا تختلف عن حركة كل الموجودات الخاضعة للضرورة في عالم المكان والزمان والأجسام. كل تفكير أو حركة عقلية هي في الواقع حوار يتم في النفس ذاتها وينقلها إلى الوجود «من الحس إلى العقل في المعرفة، ومن اللا إلى النعم في الحكم».
الحياة والمعرفة إذن مرتبطان؛ لأنهما مشاركان في المثل «معرفة النفس الفردية شرط لمعرفة النفس الكونية؛ لأن الكون يعكس صورة الإنسان ونفس الإنسان تعكس صورة الكون. ومعرفة الجدل شرط لمعرفة النفس الفردية ولكل معرفة بالذات أو الكون؛ لأنه هو ماهية الفلسفة وجوهر التفلسف.»
19
حركة النفس «ديناميتها» هي القوة الوحيدة التي تحقق المشاركة في المثل «أو هي الأنتليخيا بتعبير أرسطو وليبنتز»، والنفس تنتمي لعالم الصيرورة والضرورة والتجربة ولكنها لا تستغرق فيه، بل تسعى للعلو عليه. غير أنها تواجه دائما بالمقاومة، إما بسبب الجسد ووجودها في عالم المكان والزمان الخاضع للضرورة، أو بسبب طبيعة الفكر نفسه. فالفكر حوار، اختيار بين لا ونعم، وكذب وصدق، وشر وخير، والنفس هي المجال الوحيد للحوار بين الطرفين.
تتميز النفس عن الجسد والأجسام المحسوسة - كما تقدم - بأنها مبدأ حركتها الذاتية، كما تتميز عن المثل - التي هي نماذج وغايات وأهداف في ذاتها - بأنها حركة مندفعة مشتاقة إلى هذه المثل.
وحيث تكون الصيرورة تكون المشاركة والشوق، يكون الوجود واللاوجود.
والقوة الوحيدة التي يمكنها التوحيد بين الوجود واللاوجود هي النفس التي تسعى للكمال وتشتاق للمشاركة في المثل والنماذج الأصلية، «واللاوجود تصور حدي، هو «الغير» من الناحية الجدلية؛ لأنه «غير» كل ما هو واقعي؛ ولهذا لا يعبر عنه إلا بالأسطورة. لقد خلقه الله أو الخير المطلق، عندما خلق الوجود، ولكنه حدد له مكانه ودوره، لكي تكون الظواهر ظواهر، ولكي يفنى ما في الزمن ويبلى. ويبقى الله - وهو قمة الوجود ومصدره - مختلفا عن اللاوجود اختلافا أساسيا، فعلاقته به كعلاقة المربية بالطفل الذي لم تلده ولكنها ترعاه ... ويبقى اللاوجود - الذي يعجز الفكر عن تبرير خلقه، فيلجأ للأسطورة في «طيماوس» - في صورة السلب، فهو شرط تعدد المثل وكثرتها وغيريتها، وهو كذلك شرط تعدد سبل المعرفة العقلية ومراحلها».
بالنفس - التي تملك قوة المشاركة - وبمشيئة الله - الذي يهدي الكائنات الناقصة للكمال - يمكن أن يتحد الأرضي وفوق الأرضي، أن يمتد الجسر على الهاوية الفاغرة الفم.
هل يمكن أن يلتئم الصدع؟ هل يمكن أن تتحد الثنائية؟ هذا هو واجب الإنسان، هو - بالتعبير الحديث - مسئوليته والتزامه، من ناحية المعرفة وناحية الأخلاق والسياسة. لن نفهم هذه الثنائية حتى نفهم أن معرفة المثل تحررنا وتمكننا من السعي إليها والعمل على تحقيقها، بقدر الطاقة والإمكان ! حتى نفهم أيضا ما يحول بيننا وبين هذا التحرر من معوقات وضغوط وأوهام و«أصنام». وأول هذه الأصنام هي الكلمات التي تقيدنا منذ الطفولة وتجعلنا عبيدا للظلال والأصداء «حيث يعيش السفسطائي في ظلام اللاوجود، يفسد ويخادع في كهف لم يتحرر منه بعد ...»
هذه الثنائية أو التضاد الأساسي يقوم بين الخير الذي يحررنا «وتمثله كل المثل» والضرورة الآلية التي تقيدنا «كأننا مجرد أجسام لا عقول مفكرة.»
هذه الثنائية: بدلا من أن تلعنها «كما فعل نيتشه ويفعل اليوم كثير من المشوشين» حاول أن تقهرها! لن تقهرها حتى تصبح حرا.
ومن الحر؟! من - بالفكر وبالعقل - اتجه إلى المثل فلم تستعبده الأشياء، من رفض حياة في كهف لا يشهد فيه إلا الأشباح ولا يسمع غير الأصداء، من فك قيود الليل، الجهل، الذل، وخرج - نبيلا وشجاعا - كي يغزو النور ... من أنقذ نفسه، كي ينقذ غيره ...
ومن المنقذ؟!
رجل يجمع بين الحكمة والقوة، بين الرؤية والسلطة، بين مجال الوجود والماهية ومجال الحس والتجربة «ولهذا يتحتم أن تكون لديه المعرفة بالرياضيات ليحقق المشاركة بينهما!». عن طريق الحب «الأيروس:
20
الشوق الدائب لوجود المثل الحق، أي للحكمة»، وعن طريق الجدل «الديالكتيك: كطريق صاعد إليها»، يمكنه أن يوحد بين العالمين، أن يطبع صورة المثال على وجه الشيء، أن يقرب مجتمعه الفاسد من المجتمع الأمثل، أن يخرج إخوته المسجونين - منذ طفولتهم أو منذ القدم - إلى نور الشمس، أن يختم آخر فصل في مأساة البشرية ...
بنظرية المثل مع نظرية الحب «الأيروس»، بالقول السقراطي «اللوجوس» مع الأسطورة، بالمشاركة مع الإحساس بالهاوية «الثنائية»، بالحماس الفلسفي مع إدانة العالم،
21
بهذا يوحد بين النموذج «أيدوس» والنسخة «أيدولون» وحدة رأسية لا هيراقليطية؛ «ولهذا كانت عاطفة كفاحه في صميمها عاطفة إلهية، فهو مواطن في العالمين».
لكن المنقذ ليس مثاليا أعمى، فالحلم عسير، والحالم يحلم مفتوح العينين:
فليس من السهل على كل إنسان أن ينفصل عن العالم السفلي ليطمح إلى الأعلى، أن يخرج من الظلام والضلال والاضطراب إلى النور والوعي والحرية.
وليس من السهل أن يتحقق عالم المثل «أو قل عالم العقل» فوق الأرض الناقصة بطبيعتها، وسط الناس المفطورين على الحسد والشر والغدر.
ليس من السهل أخيرا أن يوجد هذا المنقذ، وإذا وجد - بمعجزة أو صدفة - فلن يسلم من شر الناس.
الأمر عسير، وجناح الحلم كسير، ماذا نفعل كي يخرج هذا المنقذ من كهفه؟
نربيه ونحول نفسه، لكن كيف؟ الحكمة ستوجهه نحو الخير، «معرفة الأشياء جميعا لا جدوى منها إن لم تعرف هذا الخير!» «الجمهورية 505أ-ب».
هل يكفي هذا؟ هل يغني كنز الحكمة عن سيف القوة؟ وإذا الحكمة والسيف اجتمعا، هل يولد حلم مدينتنا المثلى؟
لا يكفي الحلم. لا بد للمنقذ من أكبر قدر من المشاركة في عالم المثل، لا بد من أكبر قدر من الجهد والكفاح والعذاب «ليعرف» مثال الدولة العادلة، ويحاول «التقريب» بينه وبين نظام الدولة القائمة، التقريب بقدر الطاقة والإمكان، وبقدر ظروف العالم والواقع.
والأمر أخيرا لله، في يده، رهن مشيئته، فهو السيد، لسنا إلا أدواته، «القوانين، 644د».
المحنة تشتد علينا، والليل طويل ممتد، هل تولد معجزة كبرى، أم إن المهد هو اللحد؟ هل يبعث يوما فنراه، أم يمضي العمر ولا يبدو؟ - المنقذ في الكهف سجين، مغلول يرسف في القيد، فلعل إلها ينقذه، ويمن علينا بالوعد، المنقذ حر لا يحيا، ما بين عبيد كالعبد، والمنقذ شهم وكريم، يسخو بالنور بلا حد، ويفيض الخير «بلا حسد».
هل يبقى أم يهجر كهفه؟
المنقذ يهجر كهفه
من المظهر إلى الحقيقة، من الظن إلى العلم، من الحس إلى العقل، من الصيرورة إلى الوجود، من الضرورة إلى الحرية، من الظلام إلى النور، ومن الظلم إلى العدل.
ثلاثة مجالات تكون لب الفلسفة الأفلاطونية:
عالم الكينونة والصيرورة والضرورة الذي يشتاق للوجود الحق «المثل».
المثل أو الصور النموذجية والموجودات المطلقة الثابتة التي تشارك في الخير المشترك بينها.
الله أو الخير المطلق، وهو القوة المحركة «الدينامية» للوجود والصيرورة والكون، وهو الذي يوجد كثرة المثل ويفيض الخير عليها وعلى كل شيء.
1
والنفس وحدها هي التي تقطع هذا الطريق الشاق من عالم الكينونة إلى عالم المثل إلى عالم الله. إنها تنتمي إلى عالم الكينونة، ولكنها لا تكف عن السعي إلى معرفة الوجود الحق. تسبح في نهر الظواهر والتجربة، لكنها لا تريد أن تغرق فيه.
كيف نوضح هذا؟ برمز الكهف «أمثولته أو تشبيهه». فهو الرمز الحي الملموس لنظرية المثل، ونظرية الحب الفلسفي «الأيروس» الذي يدفع النفس لعبور الهوة، للعلو من الصيرورة إلى الوجود، من الجهل إلى العلم، من العبودية إلى الحرية.
والرمز يصور قصة، قصة جهد وصراع. وصراع الموج عسير، قد نغرق فيه أو ننجو، فلينظر كل منا كيف سينقذ نفسه، إخوته ومدينته والعالم كله. وإذا سقط المنقذ؟ لا ضير، فالمنقذ يتحمل قدره، والقدر ينادي في صمت: هو أمر حياة أو موت.
سقراط: والآن، قارن طبيعتها من وجهة نظر التربية ونقص التربية بمثل هذه التجربة. تأمل هذا: أناس يقيمون تحت الأرض في مسكن أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار. في هذا المسكن يقيمون منذ الطفولة، مقيدين بالأغلال من سيقانهم ورقابهم بحيث يبقون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا النظر إلى الأمام ليروا ما يواجههم. إنهم - بسبب هذه القيود والأغلال - عاجزون عن التلفت برءوسهم «والنظر» فيما حولهم. في إمكانهم مع ذلك أن يبصروا نورا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من نار تلمع خلفهم. بين النار وبين المقيدين بالسلاسل «أي في ظهورهم» يمتد في الجهة العلوية طريق بني على طوله - تصور هذا! - جدار منخفض شبيه بالحواجز التي يقيمها المهرجون «أصحاب الألعاب البهلوانية والعرائس المتحركة» أمام الناس ليعرضوا عليهم ألعابهم.
قال: هذا ما أراه. - تأمل كذلك كيف يعبر الناس على طول هذا الجدار الصغير حاملين مختلف الأشياء من تماثيل وصور من الحجر والخشب وغير ذلك مما يصنع البشر، فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو منتظر، ويمر البعض الآخر صامتين. - صورة غريبة هذه التي تتكلم عنها، هكذا قال، ومساجين من نوع غريب.
قلت: إنهم يشبهوننا نحن البشر شبها تماما، مثل هؤلاء الناس لم تقع أعينهم منذ البداية، سواء كان ذلك من أنفسهم أم من غيرهم، إلا على الظلال التي تلقيها النار على جدار الكهف المواجه لهم.
قال: وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أجبروا على عدم تحريك رءوسهم طوال حياتهم. - ولكن ماذا عساهم يرون من هذه الأشياء التي يحملها الناس «خلف ظهورهم»، ألا يرون هذه «الظلال» نفسها؟ - الأمر كذلك في الواقع. - لو كان في وسعهم أن يتحدثوا مع بعضهم البعض عما يرون، ألا تعتقد أنهم كانوا سيحسبون أن ما يرونه هو الوجود؟ - بالضرورة. - ماذا يكون الأمر إذن لو أن هذا السجن تردد فيه صدى من الجدار المواجه لهم؟ ألا تظن أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرون خلف المسجونين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر عن الظلال التي تمر أمامهم؟ - لا شيء غير ذلك، بحق زيوس.
قلت: إن أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئا حقيقيا سوى ظلال الأدوات «التي يحملها العابرون».
قال: بالطبع هذا أمر ضروري.
قلت: تتبع إذن بنظرتك كيف يفك هؤلاء المسجونون من قيودهم ويشفون في نفس الوقت من فقدان البصيرة، وتفكر عندئذ كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إن حدث لهم ما يلي، كلما فكت السلاسل عن أحدهم وأجبر على الوقوف على قدميه فجأة والالتفات برقبته والسير قدما والتطلع للنور، فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألما «شديدا»، ولن يستطيع من خلال الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبل. «لو حدث له كل ذلك» فماذا تحسبه يقول لو أخبره أحد بأن ما رآه من قبل لم يكن إلا عدما وأنه الآن أقرب إلى الوجود وأن نظره أكثر صوابا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودا؟ ولو أن أحدا عرض عليه الأشياء التي مرت عليه واحدا بعد الآخر واضطره أن يجيب عن سؤاله عما هو هذا الشيء، ألا تعتقد أنه سيحار كيف يرد عليه وأنه سيعد ما رآه بعينيه من قبل أكثر حقيقة مما يعرض عليه الآن؟ - بالطبع. - وإذا أجبر أحد على النظر إلى النور «المنبعث من النار»، ألن تؤلمه عيناه ويتمنى أن يحولهما عنه ويفر إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير مما يعرض عليه الآن؟ - الأمر كذلك.
قلت: وإذا حدث أن جذبه أحد بالقوة من هناك وشده على الطريق الوعر «إلى خارج الكهف»، ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذ بالألم والسخط؛ إذ يحس، وقد وقف في نور الشمس، بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئا مما يقال له الآن إنه الحق؟ - لن يقوى أبدا على ذلك، أو على الأقل لن يقوى عليه فجأة. - أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعود إذا كان عليه أن يرى ما هناك «أي خارج الكهف في ضوء الشمس»، وسيتمكن في أول الأمر «نتيجة لهذا التعود» من النظر في يسر شديد إلى الظلال، وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، حتى يتمكن أخيرا من رؤية هذه الأشياء نفسها «أي الموجودات الحقيقية بدلا من انعكاساتها». ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما يتجلى منها في قبة السماء كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلع ببصره إلى ضوء النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟ - لا شك في ذلك. - أعتقد أنه سيتمكن آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب، وسيتمكن من النظر إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها وفي الموضع المحدد لها، لكي يتأملها ويتعرف طبيعتها. - من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك. - وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يجمل القول عنها «أي عن الشمس» فيعرف أنه هي التي تضمن «تعاقب» فصول السنة كما تضمن «مر» السنين وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية، بل إنها علة كل ما يجده أولئك «المقيمون في الكهف» حاضرا أمامهم على نحو من الأنحاء. - واضح أنه سيصل إلى هذا «أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها» بعد أن تجاوز ذلك «أي ما كان ظلا وانعكاسا فحسب». - ماذا يحدث إذن لو تذكر سكنه الأول، وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه، والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له بينما يأسف لأولئك؟ - أسفا شديدا. - فإذا حددت في المكان القديم «بين من كانوا يقيمون في الكهف» جوائز وألوان معينة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤية حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة ثم ما يتبعها أو يتفق مروره معها في وقت واحد ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي في المستقبل قبل غيره، أتعتقد أنه «أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة» سيحس الشوق إليهم «أي إلى الذين ما يزالون في الكهف» لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة، أم تعتقد معي «على العكس من ذلك» أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمة رجل غريب فقير» وسيتحمل كل ما يمكن احتماله ويؤثره على اعتناق الآراء «التي يؤمنون بها في الكهف» والحياة كما يحيون؟ - أعتقد أنه سيفضل أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة «التي يعيشونها في الكهف».
قلت: والآن تفكر في هذا: لو حدث لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط إليه مرة أخرى وجلس في نفس المكان «الذي كان يجلس فيه»، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟
قال: طبيعي جدا أن يحدث له ذلك. - فإذا عاد إلى الجدال مع المقيدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال، في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان «من الضوء» قبل أن تعودا سيرتهما الأولى - الأمر الذي سيستغرق منه زمنا غير قليل حتى يتعود عليه، ألا تعتقد أنه سيعرض نفسه للسخرية وأنهم سيحاولون إقناعه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليرجع إليه بعينين مريضتين، وأن الأمر لا يستحق أبدا أن يشق الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد أن يمد يديه ليفك عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، «ألا تعتقد» أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه حقا؟
قال: يقينا سيفعلون ذلك.
2
ما معنى هذا الرمز؟ ماذا يقصد أفلاطون بهذه الحكاية؟ إنه يتولى الجواب بنفسه، يقوم بتفسيرها بعد الانتهاء من روايتها مباشرة (517أ، 8، إلى 517د، 7).
فالمسكن الذي يشبه الكهف هو صورة «المقر الذي يتبدى للنظر كل يوم»، والنار المتوهجة في الكهف، فوق رءوس سكانه، هي «صورة» الشمس، وقبة الكهف تمثل قبة السماء. تحت هذه القبة يعيش البشر مرتبطين بالأرض مقيدين بها، كل ما يحيط بهم ويشغلهم هو بالنسبة إليهم «الواقع» أو الموجود. في هذا المسكن الشبيه بالكهف يحسون أنهم «في العالم»، يشعرون أنهم «في بيتهم»، يجدون كل ما يثقون فيه ويعتمدون عليه.
هذه الأنواع المختلفة من التطابق بين الظلال والواقع الذي يجربه الإنسان كل يوم، بين انعكاس النار في الكهف والنور الساطع الذي يغمر الواقع القريب المألوف، بين الأشياء الموجودة خارج الكهف والمثل، بين الشمس ومثال المثل؛ هذه الأنواع المختلفة من التطابق لا تستنفد مضمون الرمز. فهو يروي لنا أحداثا ولا يقتصر على بيان الأماكن التي يقيم فيها الإنسان داخل الكهف وخارجه. والأحداث التي يصورها هي مراحل انتقال من ظلام الكهف إلى ضوء النهار يعقبها الرجوع من ضوء النهار إلى ظلام الكهف؛ هي في الواقع مراحل انتقال أو تحول من مستوى للمعرفة إلى مستوى أعلى منه، من مفهوم غامض عن الحقيقة إلى مفاهيم أخرى أكثر وضوحا.
في المستوى الأول يحيا البشر في الكهف مقيدين بالسلاسل والأغلال، أسارى التعود على القريب والمألوف. إنهم يعيشون في عالم «الكلمات»، وهو العالم الذي ينشأ فيه الإنسان بالطبيعة، ويقيد بالنظم والعلاقات الاجتماعية. هذا العالم يولد فيه الإنسان ويستسلم له. بل إن الناس جميعا تحيا فيه على نحو سلبي، أشبه بعبيد مغلولين، تحملهم سفن الرق إلى هدف مجهول. قيدوا من أعناقهم وسيقانهم بالسلاسل، طرحوا في كهف سفلي مظلم، لا يستطيعون أن يلتفتوا وراءهم، لا يرون إلا الظلال التي تتحرك على جدار مواجه لهم، لا يسمعون غير الأصداء التي تصل إلى آذانهم، لا يدرون أن هذه الظلال والأصداء ليست سوى ظلال وأصداء ... هم في مرحلة خداع الكلمات، مرحلة الظن أو التخمين «أيكازيا»،
3
يحيون فيها منذ الطفولة، وقد يعيشون فيها ويموتون ضحايا السفسطة والسفسطائيين، والجهال والدجالين ... هذا العالم هو نسخة كل النسخ على الإطلاق ...
في المستوى الثاني يحدثنا «الرمز» عن الخلاص من القيود والأغلال، فقد يتحرر أحد المسجونين أو يحرره أحد، سيمكنه أن يلتفت برأسه ويحرك رقبته وساقيه. وستؤلمه حركة أعضائه، لا سيما إذا نهض واقفا على قدميه ومشى على الطريق الذي كان مدخله يقع في ظهره وظهر زملائه المساجين «وهو الطريق المؤدي إلى أعلى وإلى خارج الكهف». وستؤلمه أيضا عيناه لأنه سيرى نارا صناعية مشتعلة وراء ظهورهم، وسيدرك أنها علة الظلال التي تسقط على الجدار المواجه لهم. وسيصبح «أكثر اقترابا من الموجود» (الجمهورية 515د، 2)؛ لأنه سيشاهد موكب الممثلين العابرين على الطريق الممتد بين النار والمساجين، ويعرف أن أشكال هؤلاء الممثلين وأدواتهم هي الظلال التي كان يراها معهم، وأن أصواتهم هي الأصداء التي كانوا يسمعونها. وسيفرح لأنه يرى الآن بشرا حقيقيين ومدركات واقعية، بدلا من رؤية الظلال «نسخ الأشياء» وسماع الأصداء «نسخ الكلمات».
أخذت الأشياء الأصلية الواقعية تعرض نفسها كما تعرض ظلالها على ضوء النار المشتعلة داخل الكهف. فإذا اتفق للعينين أن تقعا على الظلال، غشيت هذه الظلال على البصر وحجبت عنه رؤية الأشياء نفسها. عندئذ يمكن أن يعتبر أن ما كان يراه من قبل - أي الظلال - أكثر تكشفا ووضوحا أو أكثر حقيقة،
4
مما يظهر له الآن «نفس الموضع السابق من الجمهورية»، وربما حن للرجوع إلى حالته الأولى حيث لم تكن تؤلمه الحرية ولا كان نور المعرفة يعشى عينيه، بل كان سعيدا بتقبل أصداء الكلمات التي تصل إليه بغير مقاومة، قانعا بمشاهدة الأشباح والظلال، بل بمشاهدة نصفها الأعلى وحده! ولعل هذا الاحتمال الثاني - كما يقول أفلاطون - هو الأرجح. لأن معظم الناس لا يعرفون شيئا في حياتهم ولا يريدون أن يعرفوا شيئا؛ ولهذا قلما يتحرر واحد من كهف المسجونين، وأقل منهم من يقطع طريق المعرفة في مرحلته الثانية ...
توصل السجين المتحرر في هذه المرحلة إلى شيء من الحرية، ولكنه لم يبلغ الحرية الحقيقية بعد. فلا يزال حبيسا داخل الكهف، ولا يزال يتصور أن الظلال الذي تغشى بصره وتحجب عنه رؤية الأشياء أكثر وضوحا من هذه الأشياء نفسها. فهل سينجح في تحويل بصره من الظلال إلى النار والأشياء التي تظهر على ضوئها؟ هل ستتحول نفسه بعد أن تحولت عينه وسائر أعضائه؟ هل سيكون لديه الصبر والجهد اللازم لإنقاذ نفسه من هذه الحال وتعويدها على حال أخرى؟
إن المتحرر لم يتحرر بعد تماما. فهو يدرك الواقع المحسوس، يعرف بعض القوانين التي تتحكم فيه «كالمعية والتتابع حين يشاهد الممثلين المتجولين - على باب الله! - عند حضورهم وانصرافهم، وحين يلاحظ تسلسل الأحداث والظواهر وفق نظام معين، ويتنبأ بما يتبعها ويترتب عليها»، هذه المرحلة والمرحلة التي سبقتها ترمزان للإنسان الذي يعيش في عالم التجربة، عالم الأشياء والمحسوسات والمرئيات، والمكان والزمان والضرورة. هو - في اصطلاح أفلاطون - يحيا في مستوى الإدراك الحسي «أيسثيزيس»،
5
والرأي المبني على الظن «دوكسا»
6
وخبرة التجربة «إمبيريا»
7
القائمة على المعرفة بالتتابع والمعية والقوانين العلية «وكلها ضد المعرفة العقلية بالتصورات والمفاهيم - نؤزيس
8 - والعلم اليقيني الثابت - إبيستيميه»،
9
ولكنها ضرورية ضرورة اللغة والإدراك الحسي، لا بد من البدء بها للوصول إلى المعرفة الحقيقية، من المستحيل تجاوزها وتخطيها، لكن من يبقى فيها لن يمكنه أن يخرج من كهفه، من يستسلم لإغرائها لن ينفذ من عالم الظواهر إلى عالم الحقائق «بتعبير كانط!»، لن يتجاوز نقص التربية والاستنارة أو التكوين «أبايدويزيا»
10
إلى التربية الحقة، وهي الهدف الأصلي كما حدده رمز الكهف ...
فمتى تتحول نفس الإنسان بكليتها؟ ومتى تتكون أو «تتربى» التربية الحقة؟ ومتى تبلغ عتبة ما هو حق؟ بل ما هو أكثر حقيقة وتكشفا ووضوحا؟
11 (الجمهورية 474ح، 5، وما بعدها).
عندما تصل إلى المستوى الثالث فتدخل مرحلة الحرية الرحبة، والمعرفة المطلقة، والحقيقة الناصعة.
انطلق المسجون إلى خارج الكهف، حطم آخر أغلاله، لكن هل يكفي تحطيم القيد لكي يكتسب الحرية؟ إن الحرية لا تبدأ إلا بالتحول نحو الإعداد لتحويل اتجاه الإنسان بكليته وفي صميم ماهيته، فإنها لا تتم إلا في هذا الأفق المضيء، حيث الشمس «مثال المثل» تفيض الدفء وتهب الخير، أي تمنح كل الموجودات المقدرة على أن توجد.
تلك هي الخطوة الحاسمة، غادر السجين كهفه، أمكنه أن ينتشل نفسه من عالم الحس المشترك والرأي الشائع «والموقف الطبيعي»، أخذها بالصبر والجهد على التحول بكليتها نحو الموجود الحق.
لم يعد هناك ضوء صناعي شاحب، بل نور الشمس في وضح النهار. لم تعد هناك ظلال وأصداء، بل واقع حقيقي وطبيعة حية. الانتقال هنا أشد إيلاما مما سبقه، لأن رؤية الوجود الأصلي تؤلم العين التي لم تتعود الرؤية بعد. وأين ألم العين التي رأت النار الصناعية بعد رؤية الظلال من ألم العين التي تتطلع الآن إلى نور الشمس؟
لا مفر إذا من أن يعود نفسه على توجيه البصر إلى الأرض «وهذا هو المستوى الثالث» قبل أن يرفعها إلى السماء، وينظر للشمس نفسها «وهو المستوى الرابع». سيمكنه في الحالة الأولى أن يرى كل ما يزدهر وينمو في ضوء الشمس ودفئها. ولأن «التحول الكلي» لم يتم بعد، فمن الأنسب لعينه ونفسه أن ينظر إلى ظلال الأشياء قبل أن يستطيع التعود على رؤية الأشياء نفسها، أن يرى انعكاس النجوم في الماء قبل أن يرفع بصره للنجوم. إنه يستضيء بنور الشمس والنجوم «التي تعبر عن المثل» ولكنه يزال عاجزا عن رؤية المثل الأصلية؛ ولهذا يكتفي بإدراك نسخها أو صورها على هيئة تصورات أو مفاهيم. فانعكاس النجوم على سطح الماء يعبر عن انعكاس المثل في التصورات والمفاهيم، وكل ما يزدهر وينمو في ضوء الشمس يعبر عن آثار العلة الوجودية «أو الخير المطلق» على الأرض. إنه يقف الآن على حدود العلم الجزئي، ومعرفته معرفة وسط بين المعرفة التجريبية «العلية» والمعرفة العقلية «الماهوية». وهي تتم بطريقة رياضية - فرضية استنباطية - وتستخلص المفاهيم «كالتساوي والتدوير والاستقامة وسائر النسب والعلاقات » من الأشياء الحسية. ولهذا تتجه من أعلى إلى أسفل، ولهذا أيضا سماها معرفة الفهم «ديانويا»
12
ليفرق بينها وبين معرفة العقل «نؤزيس»
13
التي ترتفع إلى أعلى. فالفهم استنباطي، والعقل جدلي «إن جاز لنا أن نطبق هنا استخدام كانط ...»
إذا كانت المعرفة التجريبية استقرائية تسير من الجزئي إلى الكلي، بحيث يعتقد التجريبي أن في إمكانه الوصول من الحالات الفردية إلى القوانين العامة، فالرياضي على العكس منه يبدأ من العام «من فكرة المثلث أو الزاوية أو الخط المستقيم أو المنحني» ليهبط إلى الموضوع الخاص «كالمثلث الواقعي مثلا». وإذا كان التجريبي يقول: الدائرة المرسومة هي الدائرة الحقيقية، وما كلمة الدائرة إلا اصطلاح رياضي متفق عليه، فإن الرياضي يقول: تعريف الدائرة يحددها ويعين ماهيتها، أما الرسم فنسخة منها قد تقترب من الحقيقة أو تبتعد عنها. ولهذا فمنهجه - كما تقدم - فرضي استنباطي يصل إلى نتائج عيانية حسية. وهو يجرد ويتوسط بين العالمين المحسوس والمعقول ويحقق المشاركة بينهما؛ ولهذا أيضا كانت الرياضة هي هدية الآلهة للبشر. ولقد تلقى أفلاطون هذه الهدية في رحلته الكبرى حيث تعلم من أصدقائه - الفيثاغوريين والأيليين - أن الرياضة تحقق المعجزة لأنها الوسيط أو «الثالث» الذي يقيم الجسر على شفا الهاوية فيربط بين عالمي الحس والعقل.
ويختتم أفلاطون رمز الكهف بقوله: «وفي آخر الأمر يتمكن من رؤية الشمس - لا مجرد انعكاس ضوئها في الماء ولا في موضع آخر غير الموضع الخاص بها - الشمس نفسها في واقعها الكامل وفي مكانها ويتمكن من تأمل طبيعتها. وسيستطيع عد ذلك عن طريق الاستنتاجات الصائبة أن يتبين أنها هي التي تضمن تعاقب الفصول وتتحكم في العالم المرئي كله، كما هي - بمعنى من المعاني - أصل كل ما رأوه من قبل».
من قبل ... أي على الطريق الطويل الذي يسير من الكلمات إلى الانطباعات والتجارب الحسية إلى التصورات والمفاهيم حتى يصل إلى المثل، فإذا بلغ نهاية الطريق وجد نفسه في مجال العقل الخالص، يتحرك حرا بين «الأصول» والنماذج الأولية للتصورات والظواهر، بين المثل أو الموجودات الحقة ذاتها!
إنه الآن في المستوى الرابع من رحلته الجدلية، بلغ نهاية درب شاق، وصل إلى آخر درجات السلم، نفذ من الموج الهادر بالظلمات إلى نور الحق الغامر، نور العلم المطلق والخلاق. إنه الآن لا يضطرب بين المحسوسات، لا يبدأ من الفروض بل يناقشها ويسأل عن مشروعيتها. يناقش مثلا فكرة المساواة فيسألها: أأنت فكرة هندسية أم حسابية أم أخلاقية أم سياسية أم من نوع آخر؟ ثم يقفز إلى فكرة المساواة في ذاتها، فهي الأصل المشترك الواحد لكل ألوان المساواة. الفرض عند صاحب الفهم سقف، أما عند صاحب الجدل فأرضية يبدأ منها الصعود، هل معنى هذا أن منهجه يرجع للوراء؟ نعم. ولكن ليصعد إلى أعلى ليقيم أخيرا في مملكة العقل، بين «نجوم المثل»، ينابيع العلم الحق.
هكذا مضى به الطريق من الظلال الممزقة إلى نور الشمس الخالص، من تقبل الكلمات الجوفاء بلا مقاومة إلى «الرؤية» السامية لمثال المثل، مثال الخير المطلق، من شبه حياة يحياها شبحا بين أشباح في عالم سفلي كالجحيم، عالم رطب وكئيب محروم من النور، إلى حياة حقيقية تستضيء بشمس الحقيقة:
أوضح مثل يكشف عن هذا هو رمز الخط المرتبط برمز الكهف:
أصل «أيدوس» نسخة «أيدلون».
14 «ب» «أ» «ب»، «أ» يمثلان العالم المحسوس والعالم المعقول على الترتيب: الأول نسخة ناقصة من الثاني، والنصف الأول من كل منهما نسخة من نصفه الآخر.
في «النسخة» نجد التخمين والظن عن طريق سماع الكلمات ورؤية الظلال والحصول على معرفة بالنسخ، كما نجد الإدراك الحسي والمعرفة التجريبية التي نتلقاها من عالم النبات والحيوان وكل ما صنعته يد الإنسان. وفي «الأصل» نجد «الفهم» عن طريق التصورات، والفنون والمهارات والعلوم الخاصة التي نتعامل بها مع الأشياء وتقوم على الرياضيات. نحن هنا أقرب إلى المناهج الفلسفية في الوصول للمعرفة، ولكنها تظل مرتبطة بالعالم المحسوس وبالمعرفة الغالبة عليه؛ لأنها تبدأ من فروض لم نتحقق من صحتها. وأخيرا نجد المعرفة العقلية والاستبصار بوجود المثل أو بحقائق العلم ونماذجه:
من الظن والتخمين «أيكازيا» - إلى الاعتقاد والتجربة «إيستثيزيس» - إلى الفهم «ديانويا» إلى التعقل «نؤزيس». ومعرفة الله «مثال المثل، الخير المطلق» وراء حدود التقسيم. مع هذا فهو الطاقة المحركة الكامنة في كل مراحله؛ لأنه هو الذي يضمن المشاركة بينها، وهو علة كل ما هو خير وجميل.
كل قسم من أقسام الخط نسخة من القسم الذي يليه، والحياة داخل الكهف نسخة من الحياة خارجه. بين النسخة والأصل تناقض حاسم، ثنائية مطلقة، هوة فاصلة. لن تتحد النسخة مع الأصل أبدا. ومع ذلك فبينهما تشابه بجانب التناقض، وتناسب بجانب الثنائية: إذ لو كانت النسخة منقطعة الصلة بالأصل، فكيف تكون «نسخة» منه؟
طريق مضن شاق. لن يفهم سر مشقته إلا «العارف»، إلا «المنقذ». ليست مسألة تطور يبدأ من مرحلة أولى ليتم بعد ذلك من تلقاء نفسه؛ إذ لن يعرف مقدار الألم ولا مقدار الصبر، إلا من عاناه وقطعه، إلا من صعد عليه. لا بد من الاستعداد لمن يتصدى لعناء الرحلة؛ إذ لن يعرف معنى الخير سوى الخير، والخير ليس أنانيا. فالسلم ما زال أمامه، لن يطرحه، لن يستغني عنه. سيعود ليهبط درجاته، هل يمكن أن يستأثر بالخير لنفسه، أن ينسى أصحاب الأسر، رفاق السجن السفلي؟ إن الطريق طريق التربية، والمربي يفترض من يتربى على يديه. التربية تحرير وإنقاذ. فكيف يكتفي بتحرير نفسه وإنقاذها؟
لن تنتهي «قصة» الكهف بالنهاية التي يحلو لبعض الناس أن يتخيلوها. لو كانت مسألة معرفة لما كان هناك داع للمرحلة الخامسة والأخيرة. لو كانت التربية مجرد «صب» المعلومات في وعاء النفس ما كانت له ضرورة. لكنها تجاوز مستمر لنقص التربية، تحويل اتجاه الإنسان بكليته وفي ماهيته، هي - بتعبيرنا الحديث - صراع ومسئولية والتزام ...
والمسئولية تفترض من نكون مسئولين عنه ومن أجله.
والالتزام لا معنى له بغير من نلتزم بهم وفي سبيلهم. ولو اكتفى السجين المتحرر بالخروج من الكهف لأصبح الرمز كله بلا معنى، وأصبح أفلاطون مثاليا هاربا من العالم، كما يتصور الكثيرون الذين يسيئون فهمه ويظلمونه ...
لو صح هذا الفهم الخاطئ الظالم لبطلت فلسفة أفلاطون كلها، لا رمز الكهف وحده. إنها فلسفة متطورة حية، هي في صميمها «طريق» يصعده «العارف » بالحب وبالشوق، يخطو فيه «بحوار» سمح حر. المعرفة لا تنفصل فيه عن الوجود، وكلاهما لا ينفصل عن العدالة. وإذا قنع العارف بالمعرفة، فهل سيكون لفلسفته معنى، وجوهرها - كما علمنا - هو الانفصال بين عالم الصيرورة وعالم الوجود والمشاركة التي تقرب بينهما بقدر الطاقة؟ هل سيكون للعارف نفسه مكان فيها؟ كيف سيمكنه أن «يعرف» إن لم «ينقذ»؟ ما أبعد أفلاطون عن العلم المترف! ما أبغض هذا العلم لذات العلم إلى نفسه! حكم عليه «ديونيزيوس» أن يحبس في برج عال، لكن رفض الفكر ورفض القلب، أن يسكن سجنا من عاج أو من طين ...
هبوط السجين المتحرر إلى الكهف ورجوعه إلى زملائه المقيدين بالأغلال جزء متمم للحكاية التي يرويها الرمز. ليس مجرد فصل فيها أو حادثة، بل هو قمة كل الأحداث وغايتها. إنه يرى الآن من واجبه - بعد أن اطلع على المثل وعرف - أن يحول عيونهم عما يتصورونه حقيقة إلى الأكثر حقيقة، أن يساعدهم على «انتزاع» الحق من الباطل، والنور من الظلام، والعلم من الظن، والواقع من المظهر.
غير أن التحرير لا يتم بسهولة، والسجين لا يدري أنه سجين، والناس تطمئن إلى «الحقيقة» التي تتصور أنها ثابتة الأساس والجدران كالبيوت التي تسكنها وتطمئن إليها، هي إذا مغامرة. وعلى العارف أن يكون مستعدا لمواجهة الخطر المحدق بحياته. سيحاول أن يخلصهم من قبضة «الحقيقة» السائدة هناك، وسيكون هو نفسه عرضة للوقوع تحت سيطرتها. سيكافح لانتشالهم من قيد الواقع المألوف والحس المشترك، وسيصبح هو نفسه مهددا بالاستسلام له والخضوع لسلطانه الأزلي. بل سيشعر بأنه مهدد باحتمال قتله، وهو احتمال تحول ويتحول كل يوم إلى واقع، كما نعلم من قدر سقراط الذي «علم» أفلاطون والأثينيين. فلقد حاول هو أيضا أن «ينقذهم» من «الحقيقة» الزائفة التي اطمأنوا إليها، أن يساعدهم على مناقشتها والتساؤل عنها. لكن أثينا كانت تنهار. عجز الناس عن «الدهشة»، خافوا كل «جديد»، ركنوا «للتقليد»، ضاقوا بنداء الطيف الحافي في طرقات أثينا، بعثوه لمسامرة الأطياف الأخرى في «هاديس». شرب السم وبدأ سقوط أثينا. فاعتبري أيتها المدن الساقطة بأحضان الزيف! ...
كان حتما على رمز الكهف أن ينتهي بانتزاع الحقيقة من حجب الباطل، والنور من ثنايا الظلام، لهذا كان تخليص «السجين» من الكهف ووضعه في مجال الحرية صراع حياة أو موت. ولو لم يكن التحرير والإنقاذ هو الهدف من هذا الرمز لما كان لتصوير الكهف المغلق في القبو المظلم أية قيمة، ولا كان هناك معنى الصور الموحية فيه، كالنار والضوء المنعكس منها، والظلال ونور النهار الساطع، وضوء الشمس والشمس نفسها ...
إن داخل الكهف وخارجه متضادان تضاد المظهر والوجود، وظلام «هاديس» ونور الحياة، وزيف السفسطة وصدق الخبرة والعلم. أحدهما نسخة من الآخر: النار الصناعية من الشمس، والممثلون وأدواتهم من الواقع الخارجي، وعلة الأشباح والأصداء من العلة الحقيقية للوجود والمعرفة في عالم النور. تطور الإنسان من الكلمات إلى التجربة نسخة من المعرفة التي تسير من المفاهيم إلى المثل في عالم العقل. بين النسخة والأصل تناقض. بينهما هوة، والمعنى كل المعنى في نفس الإنسان، نفس العارف - لا الدجال - تقرب بينهما، تطبع أختام العلم على جسد الواقع، وبحب الحكمة تبني جسرا بينهما، والحكمة حب ...
حتى لو أنكرنا وجود المثل الواقعي - كما فعل أرسطو والاسميون - فسيبقى دور النفس ودور العقل، وسيبقى العبء الأبدي، عبء «العلم» لينقذنا من كهف الجهل، وسنحمل هذا العبء الكبر: تحقيق العدل ...
لكن كيف وأين؟ في الدولة. من يحمله؟ المنقذ. فعندما تجتمع الحكمة والقوة، وتتحدد الرؤية مع السلطة، عندما تأذن المشيئة يظهر الملك الفيلسوف «الكتابان الخامس والسادس من الجمهورية» سيكون هنالك أمل في «إنقاذ» الجنس البشري من البؤس، في إنقاذ الواقع وإشراكه في عالم العقل «الكتابان السادس والسابع من الجمهورية والرسالة السابعة».
أن يتحد العلم مع العزم، أن يتلاقى العارف والثائر - هل يمكن أن يجتمعا في إنسان؟
لا بد من المعجزة الكبرى، والمعجزة ستنسجها كف الصدفة، والصدفة طيبة
15
حين يشاء الله ويجري الحظ على سنن القدرة ...
من يعطينا شمعة أمل في ظلمات اليأس المطبق؟ أين، متى يجتمع العلم مع الثورة والعاطفة مع المنطق؟ أترانا نخدع أنفسنا بالوهم المطلق؟ ونظام العدل «الممكن » هل يتحقق؟ أم تبقى عين الحلم مسهدة والجفن مؤرق؟ لم ننتظر وقد يأتي أو لا يأتي، قد ينجح في مسعاه أو قد يخفق؟ ماذا لو ينقذ كل منا نفسه؟ يخرجها من ظلمات الكهف ومن أسر الرق؟ ويشيد مع إخوته بيت العدل ومدن الحق؟!
إنقاذ الدولة
«ما لم يصبح الفلاسفة ملوكا على المدن، أو يبدأ أولئك الذين يسمون الآن ملوكا وحكاما في التفلسف الحقيقي، وما لم تتجمع السلطة والحكمة في شخص واحد، وما لم يصدر من جهة أخرى، قانون صارم يقضي باستبعاد أولئك الذين تؤهلهم مقدرتهم لأحد هذين الأمرين دون الآخر من إدارة شئون الدولة ...»
ماذا لو لم يحدث شيء مما تقوله العبارة المشهورة؟
ما لم يحدث ذلك كله، فلن تهدأ، يا عزيزي جلوكون، حدة الشرور التي تصيب الدولة، بل ولا تلك التي تصيب الجنس البشري بأكمله (الجمهورية 3773ج-د، 473-499د). «ولن يتخلص الجنس البشري من البؤس حتى يصل الفلاسفة الحقيقيون الأصلاء إلى السلطة، أو يصبح حكام المدن - بفضل معجزة إلهية - فلاسفة أصلاء» (الرسالة السابعة 326د).
تعبير الملوك الفلاسفة أو الحكام الحكماء يتكرر ذكره في الكتاب السادس من الجمهورية، وتكاد الرسالة السابعة «التي ثبتت صحة نسبتها إلى أفلاطون، كما ثبت أنه كتبها في العقد الثامن من عمره» أن تكون شهادة اعتراف بهذا الأمل الذي ملأ عليه حياته، وباليأس الذي أصابه من إخفاقه في تحقيقه على أرض الواقع. وقد سبق له أن عبر في «برنامجه» الفلسفي الذي أعلنه في محاورة «جورجياس» - وهي أول ما ألفه بعد أن أسس الأكاديمية واستقر به الرأي على بذل بقية حياته وجهده للتعليم بدلا من تبديدهما في مغامرات لا جدوى منها ... - عن فكرته الصحيحة عن الدولة بعد مقارنتها بالطبيب الذي يعلم ماهية الصحة والأسباب الحقيقية التي تؤدي إليها أو تذهب بها، على خلاف الطباخ الذي لا يعرف إلا فن الطعام الجيد المذاق فحسب. فالسياسي الحق هنا يلجأ لوسائل أخرى غير وسائل القهر والعسف.
لكنه فصل هذا كله في الجمهورية وقدم لنا تصوره عن نموذج الدولة. لم يغب عنه أنه مثل أعلى من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحقيقه. أنها الدولة التي تحقق فكرة العدالة في عالم المكان والزمان والضرورة، عالمنا التجريبي المتغير، بقدر ما تسمح فكرة «المشاركة» بتحقيقها على الأرض. ولا تتضح فكرته عنها حتى يتضح رأيه في ترتيب الطبقات الثلاث التي تتألف منها، وهي طبقة الحكام، والحراس، والفلاحين والصناع والتجار. وتتحقق العدالة إلى أقصى قدر ممكن عندما «تقوم كل طبقة بواجبها»؛ إذ لو فعلت كل منها ما تريد لسادت الفوضى وعم الاضطراب. وإذا أرادت الدولة ككل أن تظل حية فلا بد أن تحافظ على هذا الترتيب المناسب لها، أي أن تحافظ على روحها. كيف يتم هذا الترتيب؟ بتقسيم واجبات كل طبقة حسب المبدأ الأول للفلسفة، فكل معرفة تفترض أن اللامعرفة مناقضة لها. ولهذا فلا بد للدولة أن تفرق منذ البداية بين أولئك الذين عرفوا المبدأ الأسمى، وهو أن يقوم كل إنسان بواجبه، أن يشغل المكان الذي تؤهله له قدراته وبين أولئك الذين لم يعرفوه ...
لن نبدأ إذا بالدولة المثالية، بل سنحاول أن نعرفها بضدها؛ إذ لو شئنا الدقة لقلنا إنه لا يصور مثال الدولة العادلة الخيرة، لأنه يقدم الصورة المقابلة عن الدولة الظالمة السيئة. ولو أراد أن يقدم ذلك المثال لما أمكنه أن يفعل؛ لأن عالم المثل لا ينطوي إلا على الخير. أما حيث توجد «النفس» فلا بد أن يوجد الخير والشر معا لأن النفس هي التي تختار بينهما. ولما كان للدولة «نفس»، ولما كانت صورة مكبرة من نفس الفرد، فلا بد أن يوجد نموذجان للدولة الخيرة والدولة السيئة، كما توجد صورتان للعارف والدجال، للمنقذ والطاغية المحتال.
فلنبدأ بالضد الأسوأ حتى نتبين ضده. ولنعرف طبع الطاغية الحاكم في الأموات الفانين، قبل لقاء الكامل والقديس الموعود، في بلد تشرق فيها شمس العدل على البشر المدعوين إلى مأدبة الدود ...
الدولة السيئة ليست كلا متحدا متجانسا. إنما هي شيء ممزق، دولة «بوليسية» ينفصل فيها الشعب عن الحكومة، فيسيطر البعض ويأمرون، ويخضع الآخرون ويطيعون. أما الدولة الخيرة فتكون فيها الطبقات كلا متحدا متجانسا، كيانا حيا عاقلا يعبر عن الحياة المنظمة المتآلفة.
والدولة السيئة تفتقر إلى الوحدة، فهي تضم الفقراء والأغنياء، وهي في حالة حرب دائمة مع نفسها؛ ولهذا فمن السهل الانتصار عليها وغزوها من الخارج.
أما الدولة الخيرة فمتحدة؛ لأن حكامها الذين يعرفون «مثال» الوحدة يحرصون على تحقيقه فيها ...
والدولة السيئة مريضة تفتقر إلى الصحة؛ لأنها تستنفد طاقتها في القضايا والمحاكمات بحيث يثري المحامون من وراء المنازعات بين المواطنين. أما الدولة الخيرة فتتمتع بالصحة وتحيا في تناغم وتجانس وانسجام. إن الحراس يحافظون عليها، والحكام يعنون بها كما يعنى أفضل الأطباء بمريضه. وهي تتميز في مجال الاقتصاد بالأسعار الثابتة التي لا تقبل المساومة. أما في مجال القضاء فإن القانون يأخذ مجراه دون حاجة إلى القضايا والمحاكمات ...
ليست للدولة السيئة شكل ثابت؛ لأنها معرضة لمحاولات التغيير المستمرة التي تنجم عن السخط العام. أما الدولة الخيرة بشكلها الثابت الذي تستمده من ترتيبها في ثلاث طبقات «تتفق مع الترتيب الثلاثي في مجال الوجود: وجود، وصيرورة، وفراغ كوني، أو التقسيم الثلاثي لمجالات الكون: العقل «أو الفكرة»، والنفس، والعالم المادي»، فقد يتغير دستورها من حين إلى حين، ولكن ترتيبها الثلاثي يظل ثابتا. وهي ليست بحاجة إلى قوانين مدونة؛ لأن قواها تتجدد باستمرار في حركة دائرية من المركز إلى الأطراف؛ إذ يعرف الحكام كيف يختارون الصفوة اختيارا دقيقا، ويعلمون أي الطبائع من ذهب وأيها من فضة ... «هؤلاء «العارفون» قد تلقوا التربية الصحيحة. ومهمة التربية في رأيهم تنحصر في تنشئة طبقة «الحراس» بحيث يمثلون في كيان الدولة العضوي الحي ما تمثله قوة الإرادة العاقلة في كيان الفرد، القوة التي تعرف الواجبات وتحققها في وقت واحد. إنهم يوفقون بين المعرفة والإرادة بالمعنى الذي فهمه سقراط».
هذه الطبقة التي يتحد فيها الجنود والموظفون هي التي يعتمد عليها بقاء الدولة الخيرة، وهي التي تحفظها من السقوط والزوال. إن الحكام الذين يحتاج إليهم يختارون منها بدقة - على أساس الحكمة لا على أساس الأرستقراطية - والحكام بدورهم يحرصون، كما تقدم، على تنشئة الحراس وتربيتهم على أكمل وجه ممكن. وتصرف الحكام مع هؤلاء الحراس يشبهه في النفس الفردية تصرف العقل الخالص مع الإرادة العاقلة، فالحكام هم «العقل المدبر»
1
والحراس هم الإرادة العاقلة،
2
أما الطبقة الثالثة
3
فهي التي تقوم بتغذية الطبقتين السابقتين وتعنى بأملاك الدولة. وهي إن كانت بطبيعتها تتجه للكسب والتملك وإشباع الحاجات الضرورية، فعليها أن تبلغ من العقل بقدر ما يمكنها بلوغه.
الدولة السيئة تتحكم فيها الشهوات، فتصبح التجارة والبضائع غايات في ذاتها، بينما يقضي الواجب بأن تكون مجرد وسائل، وتتحكم المصالح ورءوس الأموال في تحديد طابعها فتفقد التوازن بين وظائفها. أما الدولة الخيرة فتقوم على الطبقات الثلاث التي تعرف كل منها وظيفتها كما يعرف الفرد وظائفه ...
والدولة السيئة تتيح الفرصة لظهور رذائل لا حصر لها. أما الدولة الخيرة فمن أهم واجباتها أن تحقق الفضائل الأربع الأساسية، وهي: الحكمة التي تنشأ عن تدبير حكامها، والشجاعة التي تتكفل تربية الحراس برعايتها، والعفة التي تأتي من التزامها الحد والاعتدال، والعدالة التي تترتب على حصول كل مواطن على حقه ما دام يؤدي واجبه ...
من أين تأتي فكرة الدولة الخيرة؟
تأتي حين يفكر الفيلسوف (أو قل في لغة اليوم: صاحب العلم والخبرة) في مثل الوحدة والعدالة والصحة والانسجام ... إلخ. ويبذل في هذا التفكير أقصى ما يمكنه بذله من جهد في المشاركة، ويحصل من هذه المشاركة على أقصى قدر ممكن من الحيوية والتنظيم والترتيب في المجتمع البشري.
لا يمكن أن تقوم الدولة بغير فلسفة تستند إليها. فليست الدولة السيئة هي التي تخلو من الفلسفة أو تستغني عنها، بل هي التي تقوم على فلسفة فاسدة. إن الناس يفكرون باستمرار. وإذا لم يفكروا تفكيرا صحيحا فهم يفكرون بالضرورة بطريقة فاسدة تؤدي إلى الدولة الفاسدة. وإذا لم يحكم الفيلسوف، فلا مفر من أن يحكم السفسطائي.
هذا أمر تستلزمه طبيعة العالم الذي نحيا فيه (كما يحيا سجناء الكهف!)، وإذا لم يحكم «سقراط» ومعه العقل والفضيلة، فلا مفر من أن يحكم أمثال «كاليكيليس» ومعه البطش والعسف، وإذا لم تحكم نظرية المثل (أو العلم الحق) صار الحكم للنزعة التجريبية «أو للرأي المتقلب والظن».
4
لا بد إذا أن تتدخل الفلسفة «لتنقذ» الناس وترسم لهم بالفكر معالم الدولة الشرعية العادلة. وإذا لم تفعل هذا نكصت عن أداء واجبها وتخلت عن حمل رسالتها، وألقت بزمام السلطة في أيدي الطاغية وعصبته الدجالين. وهو الأمر الذي تعاني منه كل الدول في الواقع الذي عاصره أفلاطون. لهذا نفض يديه من العمل السياسي وقصر جهده على التربية السياسية بمعناها الأشمل، بعد أن اقتنع بأن «حالة الدول الحاضرة كلها سيئة، وأنها تحكم حكما يدعو للرثاء، وأن دساتيرها المريضة لا يشفيها إلا إصلاح يتم بمعجزة توجدها المصادفة أو يسندها حسن الحظ، (الرسالة السابعة، 326ب).
لكن ما العدل وما الظلم وما الطغيان؟ وكيف يصير الطاغية أساس الشر ومبدأه المطلق؟ والحراس - رعاة الشعب - كيف انقلبوا لذئاب شرسة؟ كيف احتاج الحراس إلى حراس؟! «العدالة حكمة وفضيلة، والظلم جهل ورذيلة.»
هذا تعريف «سقراطي» عام يصدق في أي مكان وزمان، ينطبق على الفرد كما ينطبق على الدولة. لكن «وظيفته» غير محددة، لا ندري ماذا نصنع به، وخصوصا حين تكون بصدد الحكم وتدبير شئون الناس.
فلننظر في تعريفات أخرى، يذكرها أفلاطون ثم يفندها: هي الصدق في القول والوفاء بالدين، هي إعطاء كل ذي حق حقه (كما قال الشاعر القديم سيمونيديس - ولد حوالي 556 ومات حوالي 468ق.م)، أي تقديم الخير للصديق والشر للعدو، وهي صالح الأقوى وبلاهة مبعثها الطيبة ... «في رأي السفسطائي ثراسيماخوس» (الجمهورية 338-339-241)، وهي تفوق القوي على الضعيف، أو أداة من وضع الضعفاء ليقاوموها بها الأقوياء (كاليكيليس في جورجياس 383-490).
هل نجد التعريف الجامع أم تمضي الجمهورية في طرح سؤال بعد سؤال؟ هل يقنع سقراط بطرح الشبكة وهو الزاهد في الصيد، «كما هو حال الصياد المعجز في كل حوار؟»، أم ترسو سفن الجدل على شط آمن؟
حقا، هذا ما سوف نراه:
العدالة هي أداء كل إنسان للوظيفة التي يصلح لها.
لكل إنسان في المدينة العادلة وظيفة واحدة محددة.
لكل امرئ، في أي دولة يحسن قادتها حكمها، مهمة يتعين عليه القيام بها (الجمهورية 317، 403، 406، 433).
5
سقراط :
ولهذا كان من خصائص دولتنا وحدها أن الحذاء فيها حذاء فحسب وليس ملاحا في الوقت نفسه، وأن الزارع زارع فقط وليس قاضيا في الوقت ذاته، وأن الجندي جندي وليس تاجرا كذلك، وكذا الأمر في الجميع». ويرد عليه أديمانتوس بقوله: هذا صحيح (387).
وإذا فالهدف الأسمى أن نكفل أكبر قدر ممكن من السعادة للدولة بأسرها. كيف؟ بالنظر إلى الصالح العام. وكيف يتحقق الصالح العام؟ بتحقيق العدالة.
وما هي العدالة؟ هي ما قلناه الآن: أن يؤدي كل فرد أو فئة وظيفة واحدة هيأتها الطبيعة لهما، فتقتصر كل طائفة من الطوائف الثلاث - الصناع والحراس والحكام - على مجالها الخاص، وتتولى كل منها العمل الذي يلائمها في الدولة.
وكما يتحقق الاعتدال في نفس الفرد بالانسجام بين فضائلها الثلاث، بحيث لا تطغى إحداها على الأخرى، ويسيطر الجزء الأفضل على الجزء الأخس، كذلك يمتد من باطن الفرد إلى واقع الدولة، فتتحكم عقول القلة الفاضلة ومشاعرها في انفعالات الكثرة الشريرة ولذاتها، ويسود الانسجام والتوافق جميع المواطنين، الرفيعين منهم والوضيعين والأوساط (432).
وكما يكون العادل شخصية واحدة موحدة، لا يتعدى جزء من أجزاء نفسه الثلاثة (الشهوية والغضبية والعاقلة) على الجزء الآخر، بل يحيا في وفاق مع ذاته ويكون (هو نفسه) في كل ما يفعل ويفكر ويقول، كذلك تكون الدولة العادلة واحدة متحدة، كلا حيا، لا تتعدى فيه طبقة على طبقة، ولا تقوم طائفة بوظيفة هيأتها الطبيعة والخبرة لطائفة أخرى، ولا تختلط فيها الطبقات الثلاث «مما يجر على الدولة أوخم العواقب» (435) وينشر فيها الفوضى «وهي مبعث الظلم والتهور والجبن والجهل وبالاختصار كل الرذائل»، (444).
لكن ماذا يحدث لو لم يعد حراس المدينة حراسا لها إلا بالاسم؟ سيجرون عليها خرابا لا يعوض؛ إذ إن نظامها وسعادتها يتوقفان عليهم وحدهم، (421).
وكيف نمنعهم من أن يتحولوا من كلاب حراسة إلى ذئاب ماشية؟
بالتثقيف والتربية. تلك هي القاعدة الكبرى لبناء الدولة، الدولة العادلة الموحدة، القوية السعيدة، (424).
وكيف تكون التربية سليمة؟ ما هو هذا التعليم الذي يجعلهم يعاملون بعضهم بعضا كما يعاملون من يتولون رعايتهم بالحسنى، ويحثهم على إظهار الوداعة مع مواطنيهم والشراسة مع أعدائهم، حتى لا يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة، دون أن ينتظروا حتى يهلكهم الآخرون؟
وبالجملة: كيف نضمن للحارس أن يبلغ الكمال والطهر في حراسته؟
الجواب: بأن يجمع إلى الحماسة الفياضة صفات الفيلسوف: الحكمة والعلم؛ بالحكمة يتعلم كيف يتحكم في نفسه قبل أن يحكم غيره، وبذلك يعتدل ولا يتعدى حده، وبالعلم يفهم كيف يطبق النظر على العمل، ويقرب الواقع من المثال، والوجود من الحقيقة.
أول درس يتعلمه درس في «التطهير»: سنعلمه أن الذهب والفضة الكامنين في نفسه أغلى وأنفس من الذهب والفضة اللذين يكنزهما الناس ويسببان كل الشرور، ونعلمه ألا يملك كالآخرين حقولا وبيوتا وأموالا حتى لا يتحول من حارس إلى تاجر وزارع، ومن حام للمدينة إلى طاغية يبغض أهلها ويخشاهم أكثر من خشيته الأعداء في الخارج.
سقراط : ... ليس أضر ولا أبعث على الخجل بالنسبة إلى الراعي من أن يربي ويغذي - من أجل حماية قطعانه - كلابا تدفعها شراستها أو جوعها أو أية عادة سيئة أخرى تعودوها إلى التعرض بالأذى للماشية، فتتحول من كلاب إلى ما يشبه الذئاب.
جلوكون :
هذا شيء ضار ولا شك.
سقراط :
وإذن فمن الواجب اتخاذ كل التدابير التي تحول دون سلوك حراسنا على هذا النحو إزاء مواطنيهم، بحيث يسيئون استخدام قدرتهم ويغدون سادة شرسين بدلا من أن يكونوا حماة يقظين.
جلوكون :
أجل. علينا أن نحول دون ذلك بكل وسيلة.
سقراط :
ولكن أنجح الوسائل لتحصينهم من المغريات هي أن يكون تعليمنا لهم سليما ... (375-376-403-416-417).
لكن ما العمل إذا أخفق هذا التعليم؟ وإذا انتصرت نفس الحراس الشهوية والغضبية فأطاحت عرش العقل وقلبت ميزان العدل؟ وإذا جعل الحراس مدينتهم مقبرة للأحياء، وانقض الليل وفي جعبته السوداء الموت، الذل، القهر وسائر ذريته والأبناء؟
عندئذ يأتي الطوفان. يتجهم وجه الطغيان. والطاغية شقي، أشقى الناس وأتعس من أتعس إنسان.
نفس الطاغية تجردت من كل اعتدال، ودعت الجنون ليحل محل كل فكرة أو رغبة عاقلة، (573).
والطاغية الحقيقي - بخلاف ما يظن الناس - عبد بالمعنى الصحيح، بل هو شخص بلغ أقصى حدود العبودية؛ لاضطراره إلى تملق الناس، وقضاء حياته في خوف مستمر، وعجزه عن إشباع أبسط رغباته، ومعاناته على الدوام آلاما مرهقة (579).
والطاغية أشد الناس تعاسة؛ لأنه يأخذ على عاتقه حكم الآخرين، ويحلم بالتحكم في الناس، بل وفي الآلهة، مع أنه عاجز عن حكم نفسه، (573-576-579).
والطاغية يعيش طوال حياته بلا صديق، فالطغاة إما سادة مستبدون أو عبيد خاضعون. أما الحرية والصداقة الحقيقية، فتلك نعمة لا يذوقها الطغاة أبدا، (576-579).
والطاغية ابن عاق، قاتل أبيه، آكل أولاده، يجمع بالطبع أو بالتطبع أو بهما معا بين صفات السكير، والعاشق، والمجنون، (569-573-619).
لكن كل آثام الطاغية الفرد التي يذكرها سقراط لا تكاد تكون شيئا مذكورا إذا قورنت بما يجلبه الطغيان من بؤس وبلاء على الدولة. ويؤمن جلوكون - كعادته! - على كلامه فيقول: من الواضح للجميع أنه ليس ثمة دولة أشقى من دولة الطغيان ... (576).
لو وصلت المدينة إلى هذه الحال، وتحولت الغايات إلى وسائل، وكلاب الحراسة إلى ذئاب، والحرية والعدل المأمول إلى ظلم وإرهاب، ولم يفلح الوعد ولا الوعيد في حمل الحراس على أداء ما يصلحون له من الوظائف، وأصبح ذنبهم في خداع الناس في معنى الجمال والخير والعدل والنظم الاجتماعية أعظم من ذنبهم لو قتلوهم عن غير قصد (433-476).
لو وصلت المدينة إلى هذه الحال، وألقيت «المثل» على ركام الإهمال والنسيان، ولقي أحكم الناس في بلادهم معاملة «تبلغ من السوء حدا يستحيل معه مقارنة موقفهم بأي شيء موجود في الطبيعة» (488)، ونفرت الجماهير من الفلسفة؛ أي من جدوى الحكمة التي تناضل للسعي إلى مثل المعرفة الحقة ثم تناضل لإصلاح الواقع على صورتها، بعد أن تسلل الدخلاء إلى صفوف الفلاسفة، وانصرفوا إلى التشاحن فيما بينهم، واقتصروا على تبادل الإهانات الشخصية، وهي أبعد الأمور عن مسلك الفيلسوف، (500).
لو حدث هذا، فماذا يكون جواب أفلاطون على السؤال الأبدي الملهوف؟
لن نجد لديه غير جواب اليائس حين يخيب الأمل المأمول ويصطدم بطبع الناس «المفطورين على الشر»: أن ننتظر «المنقذ» الذي يولد بمعجزة إلهية أو تتمخض عنه الصدفة، تتحد القوة فيه مع الحكمة ، يأتي بدواء يشفي الداء.
لكن هل يكفي هذا؟ هل يكفي أن نجد الحل لكي نستريح من الإشكال؟
سقراط :
أتعتقد أن النظرية يمكن أن تتحقق عمليا على نحو أكمل؟ ألا تقضي طبيعة الأشياء أن يكون الفعل العملي أبعد عن الحقيقة من الكلام؟ (473).
وإذا وجد عاشق الحقيقة، ورفيق العدالة والشجاعة والاعتدال، من يتحلى بالصدق ويكره الزيف ويرفض الكذب في كل صوره، من يتجه برغباته كلها نحو العلم وما يرتبط به، من لا ينشغل بلذات البدن عن الروح، من يترفع عن الجشع والوضاعة والغرور والجبن (485-487)، من يروي أعتاب مدينته الخيرة بدمه وفي سبيلها يتجرع السم الذي تجرعه سقراط، أإذا وجد المنقذ تم الإنقاذ؟ هل ينجح في إنقاذ الدولة كما نجح في إنقاذ نفسه؟ هل يقبل الاشتغال بالسياسة كما اشتغل بها في «دولته الباطنة»؟ (592) هل ينجو من حسد الناس، من الغدر؟
في هذا «المنقذ» - الذي يشارك في عالم المثل المطلقة - تكمن كل معاناة أفلاطون الأخلاقية والعاطفية، كل العبرة من كفاحه الفلسفي والسياسي. علق عليه آماله في تحقيق الاتحاد بين الوجود والصيرورة، بقدر ما تسمح به طاقة الإنسان وظروف العالم.
لكن هل يكفي التفكير لتحقيق الدولة العادلة الخيرة؟ أليست النفس عرضة للانحراف عن طريق الفكر الخاطئ؟ وهذا المنقذ «الفنان» الذي يرسم خطة الدولة وفقا لأنموذج إلهي (500) هل يسلم من الحسد والنفاق، والجحود والإغراء، وسائر القوى التي تغلب على العالم التجريبي وتتحكم فيه؟
لم يكن أفلاطون مثاليا إلى الحد الذي يعميه عن الواقع. فهو يعترف بأن فرصة تحقيق هذه الدولة المثالية ضئيلة، ولكنه لا يستبعدها ولا يقول إنها مستحيلة. ربما تتدخل «المشيئة الإلهية» أو «الصدفة الطيبة» فيولد المنقذ. وبدلا من أن نسأل أنفسنا: «متى يأتي؟» علينا أن نسألها: «كيف نحميه من الانحراف إذا تصادف ظهوره؟» وليس المهم أن توجد هذه الدولة في أي مكان أو أي وقت طالما أنه وضع أنموذجا في السماء لمن شاء أن يطالعه، فالأهم من ذلك هو كيف نحافظ عليها من بعده، (593).
إن وجد المنقذ فسيجد أمامه فلسفة فاسدة، وسيبذل كل كهنتها كل الجهد لإفساده، «والفلسفة الفاسدة - كما قدمنا - أسوأ بكثير من عدم وجود فلسفة على الإطلاق!»، هنا يأتي دور العارفين، فعليهم أن ينشروا الفلسفة الحقة بحيث تقنع الجماهير بأن الدولة التي يشرعها الفلاسفة الأصلاء هي الدولة الحقيقية، وأن مصلحتهم مرهونة بوجودها وبقائها. إن الجماهير وحش طاغية، ولكن السفسطائيين هم الذين جعلوها كذلك. والواجب الأكبر هو تنويرها وتربيتها بحيث تعترف بفضل الفلسفة الحقة، وتمكن المنقذ من أداء مهمته، وإذا خانه الحظ أو عاقته ظروف أقوى منه فعليها أن تتم ما بدأ، وإذا جانبها التوفيق فإن عليها أن تكشف «السفسطائيين لكل العصور ...» ولا تحول عيونها عن «الأنموذج الإلهي...»
ليست المشكلة الحقيقية أن «المنقذ» لم يوجد بعد، بل أنه يوجد دائما ولا يلتفت إليه أحد، وأنه في العادة أزهد الناس في الحكم. لا مفر إذا من «إرغامه» على الهبوط من عليائه.
علينا إذا أن نمارس نوعا من الضغط على هذه الطبائع الرقيقة لإرغامها على الصعود لرؤية الخير، الذي قلنا إنه أسمى موضوع للمعرفة. فإذا ما وصلوا إلى هذه المكانة العليا، وتأملوا الخير بما فيه الكفاية، فلنحذر بأن نسمح لهم بما يسمح لهم به اليوم.
وما هو؟
أن يظلوا في عليائهم ويأبوا العودة إلى سجنائنا أو الاشتراك في أعمالهم ومشاركتهم فيما ينالونه من الجزاء، مهما عظمت قيمته أو تضاءلت، (519).
ليس في هذا الإرغام جور، ما دامت سعادة المدينة بأسرها، وضمان وحدتها، تقتضي المشاركة في الخدمات التي يتسنى لكل فئة أن تؤديها للجماعة:
وهكذا ترى يا جلوكون أننا لن نكون جائرين على فلاسفتنا إذا أرغمناهم على رعاية بقية المواطنين وقيادتهم. فعليكم إذا أن تهبطوا إلى حيث يقيم بقية المواطنين، وأن تعودوا أعينكم رؤية الظلام؛ إذ إنكم متى اعتدتم الظلام أمكنكم أن تبصروا فيه على نحو أفضل ألف مرة مما يبصر فيه الآخرون. وستعرفون كل صورة في الظلام وتعلمون ما تمثله؛ لأنكم شاهدتم الأصول الحقيقية للجمال والعدل والخير. وهكذا يغدو دستورنا، بالنسبة إلينا وإليكم، حقيقة لا حلما كما هو حادث بالفعل في معظم الدول الحالية، حيث يدب الصراع بين الناس من أجل ظلال وأشباح، ويتنازعون السلطة وكأنها خير عميم، على حين أن الدولة في الواقع لا تكون خير الدول وأصلحها حكما إلا إذا تولى الأمر فيها أزهد الناس في الحكم، بينما يحدث عكس هذا في الدول التي يحكمها عكس هؤلاء (520).
هل يرفض «العارفون» الاستماع إلى هذه الحجج؟ وهل يوافقون على الإسهام في المجهود السياسي على الرغم من أنهم يقضون معظم حياتهم في عالم المثل الخالصة؟
قال: إنهم لن يستطيعوا الرفض؛ إذ إنهم عادلون، ونحن لا نطلب إليهم شيئا سوى العدل، ولا شك في أن كلا منهم لن يتولى القيادة إلا لأنها ضرورة لا مفر منها، على عكس ما يحدث الآن في كل الدول، (520). •••
ماذا تنتظر اليوم من المنقذ؟ كيف نراه في ضوء العصر؟ أنجدد وهما وخرافة، أم نقفو أثرا قد يهدي لسبيل الحق؟
المنقذ؟ هل تبقى كلمة، تتبعها كالظل الباهت، لعنة هاملت؟ (بولونيوس: ماذا تقرأ يا مولاي؟ - كلمات، في كلمات، في كلمات ...)
6
أم تبزغ من لجج الصوت، كعروس تحمل في صمت، ميزان العقل وسيف العدل، ليطارد زيف الكلمات؟ أندور ندور مع الطاحون؟ نمضغ كلمات نصبح كلمات تتساءل على سر «يكون»، في فرش السأم الملعون، ونموت ككل الأموات؟ عاهدني أن تنقذ نفسك، وتفك قيود المسجون، في كهف الظلمات المهلك «الواحد من أجل الكل، والكل لأجل الواحد»، فاللحظة بين يديك: حقل ينتظر الحرث، أرض تحتضن الغيث، تنبت من ليل الرحم بذور البعث، والصبح الواعد ...
خاتمة الرحلة وبدايتها
يجب أن نتذكر، ونحن ندرس أفلاطون، أننا نعيش في القرن العشرين. ولا بد للشارح والمفسر، وهو يواجه فلسفة خالدة - أي فلسفة قديمة متجددة - أن يكون على وعي تام بالموقف التاريخي الذي يحيا فيه، والظروف الاجتماعية والواقعية التي تحيط به. وليس معنى هذا أن نحاول تفسير أفلاطون تفسيرا «عصريا»، بل معناه أن نفهم عصرنا وواقعنا على ضوء فكره الباقي. وليس من حقنا بطبيعة الحال أن نلوي أعناق نصوصه، ونحملها فوق ما تحمل. فبداية البدايات في أي بحث نزيه هي الالتزام بالنص الأصلي، ورؤيته من داخله في ضوء العوامل التاريخية والفكرية والاجتماعية والنفسية ... إلخ، التي يعد ابنا شرعيا لها وشاهدا أمينا عليها، بشرط أن نترك أفلاطون نفسه يتكلم ، فلا نقاطعه ولا نفرض عليه مفاهيمنا الحديثة والمعاصرة، بل نتركه يفكر ونحاول التفكير معه، بحيث يكون «حاضرا» معنا نحن «الحاضرين» في هذا الزمان، دون أن نحاول «تحديثه» بالمعنى الشائع المبتذل، أو نستبدل واقعنا الراهن بواقعة التاريخي. ومن حقنا بعد ذلك أن نأخذ منه ما نتصور أنه يلقي بصيصا من النور على مشكلات مجتمعنا وحضارتنا التي لم يعد أحد يشك في حاجتها «للإنقاذ». أقول: «من حقنا»، والأولى أن أقول: «لا حيلة لنا». فنحن نرى أنفسنا بالضرورة في كل تفسير نتقدم به لنص قديم، ونستمع إليه أو نعيد قراءته لعلنا نزداد وعيا بأنفسنا وعالمنا. وحتى لو حاولنا أن نمتنع عن أي تفسير، متذرعين بموضوعية مطلقة ومستحيلة، فإن هذا الامتناع نفسه نوع من التفسير؛ لأن الباحث مضطر بحكم حدوده العقلية والبشرية أن يقف عند هذا الجانب أو ذاك من الفكر الرحب المتشعب. وهذا أيضا لا ينجو من الرؤية أو التفسير ...
كان أفلاطون - مثل أغلب الشباب من جيلنا - مثاليا أخفق في تطبيق أفكاره على الواقع، مصلحا ثوريا حاول أن يهتدي إلى أساس سياسي لإصلاحاته. عاش في عصر تدهورت فيه دولة المدينة، انهارت القيم القديمة وتحتم البحث عن قيم جديدة. فالمجد الذي أحرزته اليونان بعد انتصارها على الفرس قد ذوى قبل مولده بوقت طويل، وشعوره بإخفاق الروح اليونانية كان أقوى من شعور جميع معاصريه. كان في الثالثة والعشرين من عمره عندما انتهت الحرب الكبرى بين أثينا وإسبرطة بهزيمة مواطنيه وإذلالهم. ولهذا أدرك أن المهمة الحقيقية ليست هي إعادة بناء أثينا «فأثينا لم تعرف قط حاكما عادلا»، جورجياس (516-517)، وإنما المهمة الحقيقية هي «إنقاذ» بلاد اليونان.
1
كان عصره عصر انقلابات وثورات سياسية وفكرية واجتماعية، وكان في أعمق أعماقه شبيها بعصرنا. وعوامل الفساد التي كانت تدب في قلب مجتمعه القديم وتدمره لا تزال تنخر في قلب مجتمعاتنا الحاضرة. وإذا كانت فلسفته لم تستطع أن تستأصل الفساد الذي بلغ حدا أصابه بالدوار (كما تشهد زفراته الحارة في الرسالة السابعة!) ولم تتمكن من وقف الانهيار الذي أدى في النهاية إلى استسلام أثينا لسيطرة الإسكندر الأكبر، ثم وقوعها بعد ذلك في قبضة الرومان، فقد تنفع العبرة من كفاحه وبصيرته وعاطفته في إيقاف زحف الانهيار والفساد الذي يلاحظه المخلصون في مجتمعاتنا. وقد تدفع المصلحين إلى السيطرة عليها وتحويلها إلى عوامل إنقاذ وبعث جديد من وسط الرماد المحترق،
2
بيد أن هذا مجرد أمل، فليس على المفكر إلا أن يدق ناقوس الخطر، وينبه للإشكال ويشرك غيره في التفكير معه. أما اتجاه الواقع ومصيره فيندر - بشهادة التاريخ الفعلي - أن يكون في أيدي المفكرين.
يبدو أن حلم «المنقذ» قديم قدم البشرية نفسها، وأنه كان يراود النفوس المرهفة في فترات التأزم والظلام، «يمكن أن نلمح طيفه في ملحمة جلجاميش، في صرخات حديث المتعب من الحياة إلى نفسه ونذر أيبور وشكوى الفلاح الفصيح أثناء انهيار الدولة الوسطى في مصر القديمة ...» ويحتمل أن تكون فكرة أفلاطون عن «الملك الفيلسوف» قد تأثرت بفكرة بعض الفيثاغوريين في القرن الخامس قبل الميلاد من أن للحكمة حقا إلهيا في أن تحكم وتسود،
3
ولا بد أن الأديان السماوية قد زادت الإحساس ب «المنقذ» وترقب عودته ليملأ الأرض عدلا ونورا بعد أن شبعت جورا وظلاما، أمل «أوغسطين» - وهو يرى تصدع الدولة الرومانية - في تحقيق مدينة الله، خرافة «المسيح الدجال» والخضر والمهدي المنتظر وعودة الحاكم بأمر الله، صورة الإمام المعصوم والقطب، الخاتم والدرويش والزاهد، والمستبد العادل والبطل القديس ... إلخ، التي صاحبت ثورات الإصلاح المتطرفة وحاولت تجديد ربيع الشجرة الذابلة بالرجوع إلى بذور الأسطورة «قيصر، والإسكندر، نابليون، وموسوليني، وهتلر، ثورات الخوارج والشيعة والمهدية، هيجل والبطل الذي يتحد وعيه الذاتي بالروح المطلق، حلم نيتشه بالإنسان الأعلى»، السوبر مان «وجيل المتفوقين المعانقين للأخطار، حلم الخلاص الأرضي والعلمي «المعكوس» في الجدل المادي الثوري عند ماركس، أحلام المعاصرين بالمغترب والمنبوذ واللامنتمي ... إلخ، الذي يفجر ينابيع الخلق والإبداع ويتحدى مجتمع الآلية والعقلانية وإرهاب الحساب وأجهزة العقاب والعذاب، أحلام الرومانتيكيين والتعبيريين والحدسيين وفلاسفة الحياة ... إلخ»، ربما كان لحلم أفلاطون عن المنقذ «الملك الفيلسوف» دور كبير في نشر هذه الأسطورة عبر التاريخ. غير أني حاولت في الصفحات السابقة أن أبين استحالة خرافة المنقذ، وان أحافظ مع ذلك على فكرة الإنقاذ التي أكد أفلاطون نفسه ارتباطها بالعلم والمعرفة والبصيرة والحكمة. لم أرسم صورة «المنقذ» الذي يبدأ دائما بداية شعبية فيختاره الشعب ويتصور أنه نصيره وحاميه، ثم لا يلبث بعد أن يتحول إلى طاغية أن يخيب أمله فيه. إن أفلاطون نفسه - بتجاربه الحية ورسالته السابعة ونصوصه المتناثرة في مختلف محاوراته - يبين بوضوح لا مزيد عليه أن مثل هذا المنقذ سرعان ما يتحول إلى طاغية. والألوان القاتمة التي رسم بها صورة الطاغية الفرد في الكتاب التاسع من الجمهورية واستمدتها ريشته من شخصيتي ديونيزيوس الأب والابن - حاكمي صقلية وأمل شعبيهما حينذاك - تصدق بوجه عام على «المنقذين» المزعومين منذ عهده إلى يومنا الحاضر.
إن الإنقاذ في عصر العلم الذي نعيش فيه لن يتم إلا عن طريق العلم. هذه هي الفكرة التي حاولت توضيحها. وهي فكرة لا تأتي بأي جديد؛ لأنها تستند إلى أفلاطون نفسه، كما أنها واضحة وضوح الشمس لكل من يفتح عيني جسده ووعيه على واقع هذا العصر. والعلم لا يزدهر إلا في جو الحرية. وبلوغ النظام الاجتماعي الممكن والمعقول الذي يزرع هذين الجناحين في روح الإنسان وضلوعه كي يعلو ويخاطر بحثا عن الحقيقة، هو الجهد المشترك لكل الحالمين العاملين من أجل تحرير الإنسان وسعادته، الإنسان الحقيقي الذي يحيا «هنا والآن»، ويسعى إلى تحقيق الممكن فلا يتشبث بخيوط مطلق أسطوري مضى ولن يعود، ولا ينجذب نحو مطلق مستحيل يوغل في المستقبل البعيد ...
وإذا كنا نجد عند أفلاطون قرائن عديدة تؤكد عداءه للديمقراطية «الأثينية المعاصرة له، لا للشعب بوجه عام!»، وحماسه في الدفاع عن حكم النخبة الأرستقراطية «بالفضيلة والحكمة لا بالذهب والفضة!»، بل إذا وجد البعض عنده بعض مظاهر الفاشية «كوصاية الحاكم على المحكومين، ووقوفه منهم موقف الراعي من القطيع، حتى ولو كانت عنده باسم العقل لا باسم الغوغائية وتملق غرائز الجماهير»، وإذا كنا أخيرا - بعد مرور أربعة وعشرين قرنا جرف فيها تيار الزمان مئات الأفكار والنظم والعقائد والقيم والتصورات - نستهجن فكرته عن الملك الفيلسوف، فإننا نستطيع مع ذلك أن نحتفظ بجوهر فكرة الإصلاح الذي لم يتوان عن تأكيد أهمية العلم والمعرفة في تدبير شئون الحكم، والإلحاح على أنه لن ينصلح حاله ما دام مبنيا على الثروة أو القوة الغاشمة، كما نستطيع في النهاية أن نضع المنقذ «العارف» الذي كان يحلم به - ولا نملك اليوم أن نتخلى عن الحلم بأن يأخذ مكانه في كل عضو من أعضاء الدولة الحديثة - في نظام ديمقراطي يقوم على المشاركة وتبادل الرأي والمشورة بين الحاكم والمحكوم، لا على الوصاية وفرض الرأي الواحد واستغلال الغرائز الوحشية والدعاية الرخيصة: «لا تنتظر «المهدي» ولا الدجال المفزع، فالمسخ الكاذب لن يرجع، ودموع إيزيس لن تنفع، والصقر الغائب حوريس، من جوف الظلمة لن يطلع، اهجر كهفك! اطرد شبح القيصر والإسكندر! - سقط الفارس في جوف التنين الأكبر، لم يترك غير الصمت وأشلاء خرافة - أنقذ نفسك! بالحرية والعلم المبدع، والعمل بكف شفافة، تبصر تبتسم وتسمع، أصوات النبع الأقدم، تهمس بالسر المفجع، عن عرق الأجداد المر ودمع الأحفاد المؤلم ...»
إن الفكرة الأساسية في محاورات أفلاطون - مع اختلاف موضوعاتها وأساليب تعبيرها - هي إيجاد الإنسان العادل الكامل في مجتمع عادل كامل. ولهذا كان «أولا وقبل كل شيء فيلسوف العدالة، لم يعش إلا لهذا الهدف، ولم يعمل إلا على تحقيقه، سواء في حياته أو في مؤلفاته»،
4
والواقع أن أفلاطون لم يصل إلى الفلسفة إلا عن طريق السياسة ومن أجل السياسة
5
ظلت الفلسفة الحقيقية عنده هي السياسة الحقيقية، والاعتبارات العملية هي أساس أفكاره الميتافيزيقية والأخلاقية والمعرفية والجمالية. إن فلسفته كلها موقف اجتماعي يتخذ صورة فلسفية هي ضمان الخير للدولة،
6
ولعله لم يكن ليكتب كبرى محاوراته وواسطة عقدها «الجمهورية» لو لم تقم على ظروف فعلية، ولو لم يقصد فيها أن تشكل الحياة الفعلية أو تؤثر فيها على الأقل. ولعل الرسالة السابعة أيضا أن تكون أوضح دليل على محاولاته المستميتة لتطبيق أفكاره على الواقع العملي. ويكفي أن يطلع عليها القارئ في هذا الكتاب ليشهد ملحمة الصراع والأخطار التي ألقى بنفسه فيها وخرج منها في النهاية مثخنا بجراح لم يتوقف نزيفها قط. ولا بد أنه اقتنع في النهاية بأن «أحوال الدول الحاضرة كلها تدعو للرثاء، وأن الفلسفة الحقة هي وحدها السبيل إلى معرفة العدل والصواب الذي تصلح به الدولة والحياة الخاصة ...» (326ب)؛ ولهذا عكف بعد النجاة من مغامراته الأخيرة على بناء نظام فكري وتعليمي من شأنه أن يضمن الخير والعدل للدولة إذا قدر أن يجد السلطة الحاكمة التي تفرضه.
لا بد أن أفلاطون كان يضع في حسابه سخرية الرأي العام من هذه الفكرة الأساسية التي توحد بين الفلسفة الحقة والسياسة الحقة. ولا بد أنه كان يلتمس الفلسفة ومفهوم السياسة، ولم يصادفهم - في حياتهم أو حياة أجدادهم - من يجمع في شخصه بين الحاكم والحكيم، ولكنه لم يتخل عن إصراره على فكرته التي علق عليها كل أمله في إنقاذ بلاده وإنقاذ البشرية، ولم يتراجع لحظة أمام الموجة التي يمكن أن تطغى عليه: «ولكنني سأقول كلمتي ولو أغرقتني الموجة في السخرية والاحتقار» (الجمهورية، 473).
لعل هذا هو الذي جعله يحرص - في كثير من محاوراته - على تحديد مفهومه عن «السياسي»، والتأكيد بأنه وإن يكن مفهوما مثاليا فليس وهميا، وإن يكن متعذر التحقيق فليس بالمستحيل، ها هو ذا يقدم تعريفات مرفوضة: «السياسي هو راعي القطيع البشري» (السياسي، 275)، وأخرى غير كافية: «إذا مارس رجل الدولة العنف أسميناه طاغية، أما إذا قدم للرعية عناية صحيحة تتقبلها عن رضى، فتلك هي السياسة» (السياسي، 271)، حتى يستقر على هذا التعريف: «السياسي هو حائك خيوط إنسانية» (السياسي، 287)، ويكمله في النهاية على هذه الصورة الدقيقة العميقة: «السياسي أو الحاكم الحق هو القانون الحي» (القوانين، 694-698)، والأول يجعل من السياسي الحائك المثالي الذي جمع خيوط الشعب المختلفة وربط بينها بالوفاق والمحبة فضم الشعب كله، وضمن له السعادة التي يمكن لمجتمع بشري أن يتمتع بها (السياسي، 311)، وهو تعريف ينبثق من مفهومه للوجود البشري الواقعي «كجدلية» تناقض بين الواقع المحسوس والمثال المعقول، وللوجود البشري الممكن والمأمول، كجدلية مشاركة في مثال العدالة، ومنه يستخلص صفات الحاكم: العلم، والإخلاص ، والشجاعة، والمسئولية.
7
أما عن التعريف الثاني: «السياسة الحق هو القانون الحي»، فهو يتوج به في «القوانين» رحلة بحثه المضيئة عن معنى السياسة وهدفها. إنه يكرر أن هدف السياسة الوحيد هو تحقيق العدالة كشرط أولي لتحقيق المعرفة والحرية والمجتمع الواحد. فعلى أساس العدالة لا على أساس الإثراء يجب أن تقوم السياسة الحقة ... فتوزع العدالة الممتلكات توزيعا يجعل الجميع راضين (القوانين، 731-732). وفي ظل العدالة يمكن أن تحقق القوانين المثالية المبدأ القائل: كل شيء يجب أن يكون مشتركا، فإذا تحققت الاشتراكية الكاملة (في النساء والبنين والأشياء)، وزالت الملكية الخاصة وأضحى كل شيء مشتركا «حتى العيون والأذان والأيدي، فبات الجميع يرون ويسمعون ويلمسون الشيء الواحد»، فلا أحد يعود يرغب أن يعيش في غير هذا المجتمع (القوانين، 739).
لا شك أن مفهومنا اليوم عن الاشتراكية يختلف اختلافا بينا عن مفهوم أفلاطون الذي يمكن أن نصفه «بالمشاركة الجماعية» سواء في صورتها البدائية الناشئة عن عجز الفرد عن سد حاجاته وافتقاره إلى معونة الآخرين (وقد عرضها بشكل أسطوري في بروتاجوراس 321-323)، أو في صورتها الواعية المتطورة التي تقوم على العدالة وتوزيع الأعمال والخيرات حسب القدرة والموهبة (وقد توسع فيها في الجمهورية 369). وليس هنا مجال الخوض في أمر هذا الاختلاف؛ إذ المهم في هذا كله أنه يصدر عن فكرة العدالة التي يدور حولها كل كفاحه النظري والعملي في سبيل الإنقاذ، فقوام العدالة - كما قدمنا - هو تحقيق الفرد العادل في المجتمع العادل؛ إذ لا يمكنه أن يحقق ذاته الفردية إلا بتحقيق ذاته الاجتماعية والعكس بالعكس. والعدالة - كما قدمنا أيضا - هي الشرط الضروري لتحقيق المعرفة والحرية والمجتمع الموحد، وإصلاح الفضيلة والحب والجمال واللذة والفن والشعر وسائر القيم التي رأى ديدان الفساد تنخر فيها أمام عينيه؛ ولهذا فهو لا يكف عن المطالبة بالمشاركة في مثال العدالة وغيره من المثل حتى ترتفع على سلم الجدل إلى مثال المثل جميعا وهو الخير.
كما أن نظرية المثل والمشاركة - التي أسهبنا في عرضها في الفصل الثاني من هذا الكتاب - هي ركن الإصلاح والإنقاذ في السياسة والاجتماع والأخلاق والفن والقيم. لقد انبثقت عن نظريته في الوجود الإنساني المتناقض المركب من طبيعة حسية ونزوع مثالي، ومن «الدوار» (الرسالة السابعة، 325)، الذي أصابه وهو يلاحظ الفساد يستشري في النظريات الفلسفية والنظم السياسية والقيم السائدة في عصره. وإذا كان هذا الفساد لم يستطع أن يحوله عن مثاليته، فإنه لم يغرقه في الأوهام ولم يجعل منه ذلك الفيلسوف الزاهد المتشائم ولا الهارب الحالم الذي يحلو للكثيرين أن يخلعوا عليه صورته. لقد ألح على المشاركة في المثل وجعلها محور فلسفته، ولكنه لم ينس أن الإنسان يعيش في عالم المحسوس لا في عالم المثل وأنه يعمل في هذا العالم لا خارجه (فيليبوس، 20-30)، وطالب بالسياسي والحاكم الحق الذي يكون في نفس الوقت الفيلسوف والحكيم الحقيقي. ولكنه - كما سبق القول - لم يغفل عن صعوبة وجوده، بل عرف تمام المعرفة أن وجوده أصبح مستحيلا بعد أن فسدت النظم والضمائر، فالشعب لا يصدق بوجود هذا الحاكم المثالي الذي «يحكم بالعلم والفضيلة، وينشر العدالة والمساواة بغير محاباة وبغير أن يظلم ويقتل وينتقم كيف ومتى شاءت أهواؤه» (السياسي، 30)، فالتسلط يفسد عقله وإرادته وعواطفه، ومهما كان صالحا في بداية حكمه، فإن التسلط يحوله إلى طاغية ينكر الحقيقة والحرية (القوانين، 694-698). بل إنه لينظر حوله فيجد العدالة مفقودة في الشرق والغرب جميعا؛ ففي الشرق تطرف في الطغيان والعنف والاستبداد، وفي الغرب تطرف في الحرية. لذلك بادت المدنيات الشرقية الطاغية، وستبيد المدنية الأثينية التي أصبحت تعد الفوضى حرية وسعادة. هل معنى هذا أن يستسلم أو ييأس؟ نخطئ أكبر الخطأ لو صورناه في هذه الصورة القاتمة الظالمة، أن سياسته مثالية، لكنه يرفض أن تكون وهمية. والوعي لا يفارقه بأن وجود السياسي المنشود أمر عسير، لكنه لا يعده من قبيل المستحيل: «فلا تطلب مني تحقيق النظرية تحقيقا كاملا؛ لأن تحقيق المثال غير ممكن، يكفينا أن نحقق هذه السياسة المثالية بقدر المستطاع لكي نسلم بإمكان تحقيقها» (الجمهورية، 473، و«أفلاطون»، لجيروم غيث، ص159).
من أشد الأخطاء إذا أن نصور أفلاطون في صورة المفكر الحالم أو الزاهد المتشائم والصوفي الهارب من عالمنا الواقعي إلى عالم مثالي «آخر» وراء هذا العالم «كما ظلمه نيتشه! فهذه الصور التي تراكمت ظلالها عليه منذ شراح الأفلاطونية المحدثة إلى مختلف الشراح والمفسرين في عصرنا الحاضر قد أضفت عليه مسوح الفيلسوف الإلهي تارة وترصدت عيوبه ومتناقضاته تارة أخرى» كما فعل بعض المفسرين منذ أرسطو والأفلاطونيين المحدثين وآباء الكنيسة حتى نيتشه - عدوه الأكبر - وجورج سارتون وبوبر
8
وفؤاد زكريا!» وبين الصورة التي تحوطه بهالة التقديس والإجلال، والصورة التي تحمله مسئولية كل طغيان وشمولية مطلقة جاءت بعده وتتهمه بخيانة الأرض والواقع البشري الحي؛ بين الصورتين ضاع صوت المصلح الثوري والمنقذ الذي لا يزال يهيب بكل من يسمعه أن ينقذ نفسه بنفسه ...
إن لأفلاطون - بغير شك - سلطته الطاغية وجبروته الفكري المهيمن على التراث الغربي كله وجانب لا يستهان به من التراث الشرقي والإسلامي. وهو - ككل مفكر ضخم - قلعة هائلة لها ألف باب وباب. وقد تراكمت شروح المفسرين «وإسقاطاتهم» عليه عبر العصور، وأغلب الظن أن الركام سيرتفع وتتكاثف طبقاته على مر الزمن. وستحتمل القلعة شتى الصور وتتعرض لغزوات من مختلف الفرسان. ولو حاولنا تتبع تفسيراتهم «من سياسية وأخلاقية ورياضية ودينية وصوفية ووجودية واشتراكية مثالية أو علمية ... إلخ»، لطال بنا الحديث وغاب عنا الأثر. يكفي القارئ أن ينظر قائمة الكتب التي وضعت في تفسير نظرية المثل ليعرف أنها شيء ليس له آخر ولن يكون ... هذا أمر طبيعي يحدث لأفلاطون كما يحدث لغيره من كبار المفكرين. وإذا لم يكن هناك مفر من اختلاف الرؤى والتفسيرات لاختلاف المفسرين والأجيال، فلا مفر أيضا من إعادة النظر في الشروط «القبلية» لدراسة أفلاطون أو غيره. ولا بد من أن يحاول كل من يقترب منه أن يخلصه من الشوائب الغريبة التي حجبت جوهره النقي. إن أفلاطون نفسه لن يعبد الطريق للسالكين، ولن يعدهم بدرب مفروش بالزهور والرياحين. فهو في صميمه باحث عن الحقيقة لا «يملكها» في نظرية أو مذهب. والبحث عن الحقيقة ينفي عنه صفة المفكر المتزمت التي يلصقها به الكثيرون. وأول كلمة ينبغي أن نتعلمها من كتاب حياته وأعماله هي كلمة «التطور». فقد ظل يعمل على تكوين أفكاره طوال حياته، ويتطور من مرحلة إلى مرحلة، ينقد نفسه باستمرار، يصلح ما في نظرياته من خطأ أو نقص أو غموض، يضيف إلى بوتقة فكره كل جديد ويحاول أن يتمثله ويعيد بناءه ويضمه إلى كيانه الحي. ولكنه بقي مفكرا «جدليا» قبل كل شيء، لا تقف جدليته عند الجدل الصاعد والنازل المعروفين، بل هو في حوار دائم مع نفسه، ومع الآخرين وضد الآخرين، وهمه الأول والأخير هو الدفاع عن ركن أركان فكره وكفاحه، وهو «جدلية» المثل والمشاركة التي يقوم عليها وجود الإنسان العادل الكامل في المجتمع العادل الكامل، كما أشرنا أكثر من مرة،
9
ولهذا اتجه بفكره وعاطفته إلى إصلاح فساد العالم والإنسان والقيم والنظم على صورة عالم معقول ثابت بسيط، ولم يكف أبدا عن المطالبة بالمشاركة فيه لتحقيق هذا الإصلاح بقدر الطاقة ...
هل أنصفت أفلاطون أم ظلمته؟ هل فهمته أم أسأت فهمه؟ أتراني أضفت تفسيرا جديدا إلى ركام التفسيرات القديمة والحاضرة، أم تراني نزعت قناعا واحدا من الأقنعة التي تحجب عنا وجهه؟ هل أسأت معاملة «كلمته المكتوبة» - وهي اليوم ضعيفة عاجزة عن الدفاع عن نفسها في غيبة «أبيها»؟! (فايدروس، 275 وبعدها). إن القارئ أقدر مني على الإجابة على هذه الأسئلة؛ فهي في النهاية رؤية محدودة بجهد صاحبها، مقيدة بالقيود الخفية التي تطوق ذاتيته وانعكاس مجتمعه وزمانه وعصره على نفسه، كما هي مقيدة ببعد نظره أو قصره ... ربما كان أهم ما في هذه الرؤية أنه حاول أن يجد الإنقاذ عند أفلاطون «ورسالة الإنقاذ لا تنفصل عن أي نظرية أو تفكير حقيقي في أي زمان أو مكان»، وأن يخلصه من شوائب العصر والبيئة والظروف التاريخية والتفسيرات المتعاقبة ليكشف عن صفاء معدنه. ثم حاول أن يخطو خطوة أخرى فحرر صوت المنقذ وصورته من خرافته السحرية، لكي يطرق سمع كل واحد منا ويحثه على تحرير نفسه بنفسه وإنقاذ نفسه بنفسه ليكون قادرا على المشاركة في إنقاذ مدينته ومجتمعه ... ولن يكون الإنقاذ في عصر العلم والمعرفة إلا تأكيدا جديدا لصوت المنقذ والمحرر الأول في حياة أفلاطون، ألا وهو صوت سقراط الذي لا يزال يردد نداءه لكل ضمير: اعرف نفسك بنفسك!
هكذا ترتبط فكرة «الإنقاذ» عند أفلاطون بالمنقذ الفرد، كما يستحيل تصور المنقذ نفسه بغير الحرية التي تمكنه من اختيار مصيره والالتزام بنتيجة اختياره، وبغير الإيمان بقيمة المعرفة التي هي وسيلة إنقاذ نفسه وغيره. ولا تعني هذه المعرفة أن يكون المنقذ بطلا أسطوريا معصوما ولا متخصصا في فرع من فروع الفلسفة كالمنطق والجمال والأخلاق ونظرية العلم ... إلخ؛ لأنه في الحقيقة إنسان وبشر يريد أن ينقذ بشرا مثله. هذا هو المعنى العميق الذي يؤكده رمز الكهف كما سبق - أنه يعرف «الخير» - قيمة القيم ومصدر كل معرفة ووجود في عالم المثل والأشياء في آخر السلم الجدلي الخالص، ثم يهبط إلى ظلام الكهف ليحرر زملاءه، مع علمه بالخطر الذي يهدده كما هدد سقراط من قبل. فتحرير الذات هنا من أجل تحرير الغير هو قضية صراع في مواجهة المحن، وحرية مسئولة تهتم بالتحرر «من ...» بقدر ما تكافح للتحرر «لأجل ...» ولهذا تشغل النفس وتطهيرها من الشهوات وحركتها الذاتية ... إلخ مكانة هامة من تفكير أفلاطون وتتطور نظريته عنها مع تطور هذا التفكير؛ إذ إن الإنسان الفرد ونفسه الفردية هما في النهاية صورة مصغرة للمدينة (الجمهورية، 368-369)، ويضيق المجال عن تتبع هذا التطور منذ أن كان الجسد في رأيه هو قبر النفس وكانت ماهية الفلسفة هي تعلم الموت وكان هدف الفيلسوف يتجه للموت (فيدون، 64أ)، ومنذ أن كان كل همها أن تتحرر من تأثيره حتى تتشبه بالله بقدر الطاقة وتحقق ذاتها «الإلهية» الحقيقية وتصبح بارة وعادلة عن معرفة وإرادة (ثيآتيتوس 146، 174) إلى أن تصبح مبدأ تحديد ذاتها وحركتها الذاتية المنتظمة والوسيط وهمزة الوصل والمشاركة بين عالم الطبيعة وعالم العقل، لتكون أخيرا هي المسئولة عن «خلق» ذاتها وصنع «كونها الصغير» (فايدروس، 245-248، فيلييوس، 30ج ، طيماوس 35-37أ-ب، 43ب)، إنها إذا كانت غير مسئولة عن تكوينها ووجودها في الجسد، فهي مسئولة عن سقوطها وضياع حقيقتها الإلهية وفقدان حريتها، نتيجة انتصار الجزء الشهواني منها على الجزء العاقل وتسلطه عليه. من هنا اختلفت نفس الحكيم التي واجهت المحنة والصراع المستميت (فايدروس، 247ب)، حتى تشبهت بالله بقدر الطاقة وحققت ذاتها العادلة في مجتمع عادل، عن نفس الطاغية الذي استعبدته الشهوات ففقد حريته، مهما بدا في الظاهر حرا وشجاعا، ومهما حاول أن يجعل هذه النفس الشهوانية هي المبدأ العام للحكم وسياسة الناس. من هنا أيضا تفاجئنا هذه الكلمات الخاطفة التي ينهي بها أفلاطون محاورته الكبرى وكأنها وصيته للأجيال التالية التي لا تزال تواجه نفس المشكلة وتكافح للبحث لها عن حل ينبع من أعماق الفرد ومحنته في هذا العالم، هذا العالم الذي يجد فيه نفسه مع إخوته في البشرية - مسئولا عن مصيره واتجاهه نحو الدمار الشامل أو السعادة الممكنة:
أما الفضيلة فلا تعرف سيدا؛ فالمرء يحصل منها المزيد أو الأقل بقدر ما يكرمها أو يزدريها. واللوم إنما يقع على من يختاره، أما السماء فلا لوم عليها. (الجمهورية، 617)
لا عاصم بعد اليوم من الطوفان، يا بلدي، يا حظي العاثر، أنت الخاسر، إن لم تلجأ لسفينة نوح، يسلمها الموج الهادر والملاحون الفقراء إلى الشطآن، والربان؟ أطهر من أطهر إنسان، عين ترعى النجم الساهر، في أفق العدل يلوح، يا بلدي، ويرد إليك الروح، وحياة الروح حوار ...
في شتاء 1978
الرسالة السابعة لأفلاطون
تمهيد
تتضمن كتابات أفلاطون ثلاث عشرة رسالة بالإضافة إلى محاوراته المعروفة وبعض المقطوعات الشعرية القصيرة «الأبيجرامات» المنسوبة إليه. وقد ضمت هذه الرسائل إلى مجموع مؤلفاته منذ القرن الثالث بعد الميلاد، ولعلها كانت جزءا لا يتجزأ منها منذ القرن الأول قبل الميلاد.
والرسالة السابعة هي أهم هذه الرسائل وأشهرها؛ إذ تعد ترجمة ذاتية سجل فيها الفيلسوف جانبا من حياته الشخصية، وقدم لنا وثيقة لا غنى عنها لمعرفة اهتمامه بالشئون العامة، وتطور موقفه من السياسة والحكم، وكفاحه في سبيل تطبيق نظرياته المثالية على الواقع العملي في صقلية، واعترافه بما أصابه من خيبة وإخفاق، ودفاعه عن فلسفته دفاعا مفعما بالعاطفة الممزوجة بالألم والمرارة.
والرسالة طويلة، تعادل في طولها سائر الرسائل الأخرى مجتمعة، أو إحدى المحاورات القصيرة التي تسمى محاورات الشباب. وهي وحدها التي نجت من الشك في نسبة الرسائل إلى أفلاطون. وربما شاركتها الرسالتان الثالثة والثامنة في إجماع العلماء على صحتها إجماعا يكاد أن يكون عاما. فقد كثرت الرسائل المزيفة في أواخر العصور القديمة، واستهوى هذا الشكل الأدبي عددا كبيرا من أصحاب البلاغة الذين استغلوه لإظهار قدرتهم البيانية، وحشوه بالمحسنات اللفظية والإشارات المستفيضة للحوادث التاريخية، ونسبوا هذه الرسائل إلى كثير من الشخصيات المشهورة. ولا يتسع المقام للتعرض للمناقشات الطويلة التي دارت حول أصالة رسائل أفلاطون أو زيفها. فقد استقر الرأي في العصر القديم على أصالة الرسالة السابعة وأصبح الإجماع اليوم تاما أو شبه تام على صحة نسبتها لأفلاطون.
1
أشار إليها شيشرون ووصفها في «المجادلات التوسكونية» (5-100) بأنها تلك الرسالة الشهيرة، وأفاد منها المؤرخ المشهور «بلوتارك» في الفصل الذي كتبه عن حياة «ديون» صديق أفلاطون وتلميذه الذي أغراه بزيارة صقلية أكثر من مرة كما سنرى. ومهما يكن من أمر الاعتراضات التي لا تزال توجه إليها، فليس في أسلوب كتابتها ولا في سياق أفكارها شيء يخالف أسلوب المحاورات المتأخرة وأفكارها، كما أنها تخلو من التصنع والحشو وبراعة الصقل والتأنق التي اتسمت بها الرسائل المنحولة التي اخترعها البلاغيون المتأخرون؛ فهي في مجموعها مضطربة غير متوازنة، متقطعة ثقيلة الخطا، حافلة في بعض أجزائها بأسرار يصعب سبرها وإدراك غورها، وفي أجزاء أخرى بالغضب والندم والانفعال الذي يرتفع مع ذلك فوق التعريض والتشفي والسخرية، أي إن فيها كل مميزات الكتابة الحية التي تتدفق مع تيار الاعتراف الجارف، ويسري فيها نبض الحكمة السمحة الطيبة.
والرسالة تستحق منا أن نقرأها بعناية واهتمام، فليست مجرد اعتراف شخصي أو ترجمة ذاتية أو سيرة حياة تلقي الضوء على طموح أفلاطون لتحقيق أفكاره وأحلامه، والأخطار التي تعرض لها في فترة من أهم فترات حياته، ومحاولته «إنقاذ» البشر من بؤسهم ومتاعبهم على يد «الملك الفيلسوف» الذي يجمع القوة والحكمة في شخصه، ويقيم الدستور، ويدعم سيادة القانون على الحاكم والمحكوم جميعا؛ وإنما هي - بجانب ذلك كله - نافذة تطل منها على قلبه الذي وقف دائما وراء فكره، ونتعرف على معالم فلسفته المتأخرة التي فصلها في محاورات الشيخوخة، ولكنه لم يستطع أن يعبر عنها هذا التعبير العاطفي الحي الدقيق الذي نجده في الرسالة السابعة.
إن الرسالة - في ظاهرها - رسالة سياسية موجهة من أفلاطون إلى حلفاء صديقه ديون في سيراقوزة (أو سراقسطة كما كان العرب يسمونها) على أثر اغتيال هذا الأخير مباشرة. ولكنها كذلك تبرير شخصي للدور الذي قام به - أو تورط فيه - في الأحداث التي جرت في هذه العاصمة الصقلية والمحن التي ألمت بها، بل تبرير لفلسفته ومدرسته «الأكاديمية» أمام الرأي العام الإغريقي وأمام العالم كله. والملاحظ أن هذه الرغبة الملحة في التبرير تتكرر في الرسالة بصورة صريحة، (راجع الفقرات 330ج، 337د، 339أ، والعبارة الأخيرة التي تأتي في ختامها 352أ)، كما أن النصائح التي يوجهها لحلفاء ديون وأصدقائه - تلبية لطلبهم - تختلط بهذا التبرير المستمر الذي يوشك في بعض الأحيان أن يطغى عليها. وتتغلغل العاطفة في هذين الموضوعين الأساسيين اللذين تدور حولهما الرسالة، فهو يلح على الأصدقاء بالنصيحة ويستحثهم على الاقتداء بسيرة زعيمهم، ولكنه لا يعلق عليهم الأمل ولا يتوقع منهم الاستجابة. وهو يدافع عن نفسه وفلسفته وسمعة مدرسته وبلده، ولكنه دفاع لا تخطئ فيه الأذن نغمة الكبرياء الجريحة ومرارة الإحساس بالإهانة وشدة السخط على أعدائه الذين تمكن الشر منهم حتى يئس من هدايتهم إلى طريق الخير والحق والفضيلة. والواقع أن هذا الدفاع - أو التبرير - هو الهدف الأساسي من كتابة الرسالة، مهما أوحى إلينا بأنه مجرد هدف ثانوي بجانب الرد على حلفاء ديون. ولن نقدر هذا حتى نعرف شيئا يسيرا عن الأحوال السياسية في صقلية، والأسباب التي أدت بالفيلسوف إلى زيارتها والوقوع في شبكتها المعقدة.
زار أفلاطون صقلية ثلاث مرات، كانت زيارته الأولى لها سنة 388ق.م وهو في حوالي الأربعين من عمره . ولم تكن زيارة صقلية هي غرضه الأول؛ إذ انتهى به المطاف إليها بعد رحلة دراسية حل فيها ضيفا على صديقه النبيل «أرخيتاس» حاكم «تارنت» في جنوب إيطاليا ورأس المدرسة الفيثاغورية فيها. ولسنا نعرف - في الحقيقة - ما الذي دفعه إلى زيارة سيراقوزة، ولا ندري أيضا إن كان قد اتصل بالطاغية ديونيزيوس الأول الذي كان يحكمها في ذلك الحين،
2
ولكن القدر أتاح له أن يكسب صديقا سيظل يذكره ويعتز - طوال حياته - بوفائه وتضحيته وسيرته «الفلسفية» الحقة. ذلك هو «ديون» صهر الطاغية وشقيق إحدى زوجتيه، وكان يبلغ من العمر زهاء اثنين وعشرين عاما. اشترك الصديقان في حوار فلسفي أثر على ديون وحول شخصيته إلى درب الفلسفة تحويلا تاما. ولمست عصا المربي الساحرة أعماق الصديق الشاب، فانطوى على نفسه في البلاط الذي كان يموج بالدسائس والمؤامرات، وعكف على الحياة في عالم المثل الذي جذبه إليه المعلم الأثيني الكبير.
وانطوت عشرون سنة. مات ديونيزيوس الأول سنة 367ق.م وخلفه في الحكم ابنه ديونيزيوس الثاني، الذي كان الأب قد فرض عليه الجهل والحياة في الظل. ولم يكن الملك الشاب مجردا من الموهبة والاستعداد الفطري، ولكنه كان - في نفس الوقت - إنسانا ضعيفا عاجزا عن الاستقلال بنفسه، سهل الانقياد لكل همسة في أذنه. وتصور ديون أن الفرصة قد جاءت ليصنع منه الحاكم الفيلسوف الذي حلم به تحت تأثير أفلاطون. ويبدو أنه نجح في إقناع ابن شقيقته بأفكار أفلاطون السياسية، وسرعان ما تحمس لها الملك الشاب ورحب بدعوة أفلاطون الذي استجاب لتوسلات صديقه الشاب بعد تردد، وحضر إلى صقلية سنة 366ق.م ليسانده في تحقيق حلمه «وترويض» الطاغية الجديد الذي لم يكن يحسن الظن به كثيرا. واستقبل الفيلسوف بالحفاوة والتقدير. ولم تمض ثلاثة شهور على وجوده في صقلية حتى آتت دسائس البلاط ثمرتها المرة. فقد نشب الخلاف بين ديون وديونيزيوس، وفوجئ أفلاطون بنفي صديقه وتلميذه من صقلية. وبقي بعد ذلك فترة قصيرة على أمل أن يتمكن من التأثير على الملك الشاب، ولكن الشر الذي استشرى في نفسه وفي البلاط كانا أقوى منه، وتكسرت سهام الحكمة والإقناع على جدران الاستبداد والفساد. ولما يئس الفيلسوف من إصلاحه وتأكد من فشله في مهمته اقتنع بضرورة الرحيل. ولم يكن ذلك بالأمر اليسير على طاغية يخشى على سمعته من اتهام الرأي العام اليوناني بسوء معاملة الفيلسوف. ولهذا وعده أفلاطون بالعودة إلى سيراقوزة حالما تتغير الظروف السياسية وتعقد معاهدة السلام مع القرطاجيين، ووافق ديونيزيوس الذي كانت لا تزال لديه بقية من الوفاء والعرفان، وتمكن أفلاطون من مغادرة الجزيرة والرجوع سالما إلى بيته.
تجددت الدعوة سنة 361ق.م واستجاب لها الفيلسوف على الرغم من سوء ظنه بالطاغية الشاب واكتشافه أنه أخلف وعده بالموافقة على رجوع ديون من منفاه. ويبدو أن أفلاطون لم يشأ أن يضيع على نفسه الفرصة الأخيرة لتحويل ديونيزيوس إلى طريق الفلسفة، ولم يفقد الأمل في مساعدة ديون والوقوف بجانبه، ولم يقطع كل رجاء في «إنقاذ» سكان الجزيرة والعمل على سيادة القانون وإقامة دستور عادل يحل محل الحكم المستبد ويساعد على النهوض بمستوى الأخلاق وإعادة تعمير المدن المخربة، غير أن الزيارة الأخيرة تحولت إلى كارثة. فلم يف ديونيزيوس بشيء من وعوده، ولم يدخل في حوار مع الفيلسوف إلا مرة واحدة. ووجد أفلاطون نفسه سجينا كالطائر الحبيس في قفصه. وتأزم الموقف حتى تعرضت حياته للخطر، وحاصره التهديد بالقتل في كل لحظة. ولولا مسارعة صديقه أرخيتاس بالتوسط له عند الطاغية لما قدرت له النجاة من الموت ...
هكذا رجع أفلاطون في سنة 360ق.م إلى بلده وهو يطوي في صدره الشعور المرير بخيبة الأمل. فقد كان من الطبيعي أن تثير المغامرة الفاشلة أحاديث الناس وتفتح عيونهم على الحقيقة المؤلمة التي أبرزتها حوادث صقلية، وتقنعهم - آخر الأمر - بغرابة الأفكار السياسية التي ينادي بها الفيلسوف وبعدها عن الواقع. وكان من الطبيعي أيضا أن يكون هذا الفشل ضربة قاسية للمعلم ومدرسته. وزاد من مرارة الصدمة أن الطاغية الشاب لم يقتصر على إساءة معاملته، بل حاول كذلك أن يحشر نفسه في ثياب فلسفته ويدعي شرف الإحاطة بها! فلم تكد تمضي شهور قليلة على رحيل أفلاطون حتى ذاع بين الناس أنه نشر كتابا فلسفيا من تأليفه. صحيح أنه لم يزعم فيه أنه يعرض مذهب أفلاطون، ولكنه كان يطمع - على أقل تقدير - أن يكون شاهدا على قدرته على فهمه واستيعابه. وتتناول الرسالة السابعة هذه القصة بأسلوب لا يخفي غضب الفيلسوف واستنكاره. ويزيد من هذا الغضب والاستنكار ما يؤكده عن نفسه من تهيب الكتابة عن الأمور المتصلة بالحقيقة، وإيمانه بأن القضايا الأساسية في الفلسفة تستعصي على التدوين في الكلمات الجامدة والحروف الصماء؛ لأن شرارتها الحية لا تتقد إلا إذا احتك رأي برأي، واتصل حوار بحوار ...
والتقى أفلاطون بصديقه وتلميذه ديون في الألعاب الأوليمبية وروى له القصة بأكملها، وصمم ديون على الثأر للظلم الذي حاق بمعلمه وبالفلسفة، ولم يحبذ المعلم فكرة اللجوء إلى العنف، ولكنه لم يستطع أن يمنع نفرا من الشباب - ومن بينهم عدد من تلاميذه في الأكاديمية - من الالتفاف حول ديون والانضمام إلى صفوف الحملة الصغيرة التي بلغت شواطئ صقلية سنة 357ق.م ونجحت نجاحا لم يتوقعه لها أحد. واستقبله سكان سيراقوزة بالفرح والهتاف، وتمكن من السيطرة على المدينة دون مقاومة تذكر. وتحصن ديونيزيوس فترة في قلعة «أورتيجيا» ولكن ديون تمكن بمساعدة المرتزقة من طرده من الجزيرة، فلجا إلى أملاكه في جنوب إيطاليا واستمر ديون في حكم الجزيرة أربع سنوات. غير أنه فشل فشلا ذريعا في تحقيق برنامجه الإصلاحي الذي تشيد به الرسالة، وأثبت عجزه عن استرضاء الناس وإدارة شئون الحكم. واضطر محرر الجزيرة أن يتحول إلى أقسى طاغية عرفته. وكانت النتيجة أن أقصاه عن السلطة أحد قواد الجنود المرتزقة الذين مكنوه منها. وانتهى الأمر باغتياله سنة 353-354ق.م بيد أحد قوادهم، وهو صديقه الأثيني «كاليبوس» الذي وضع ثقته فيه ... ولم يكن القاتل - لحسن الحظ - من تلاميذ أفلاطون في الأكاديمية. ولهذا نجد الفيلسوف يتبرأ منه ويبرئ مدينته من جريمته. ولجأ حلفاء ديون إلى مدينة «ليونتيني»، وأرسلوا إلى أفلاطون يسألونه النصح والمشورة، فكان رده هو هذه الرسالة السابعة. لم يكن في إمكانه أن يكتفي بالنصح والإرشاد. فقد أثارت المناسبة كوامن أحزانه وفتحت جروح ذكرياته، ولم يستطع القلم أن يسيطر على آلامه فاندفع مع تيار الكتابة على هذا النحو الذي لا يخلو من التعثر والغموض، وترك لنا معضلات لا يسهل فهمها أو حلها.
ولا بد لنا قبل الكلام عن الرسالة نفسها من تتبع أحداث صقلية إلى نهايتها. فقد انضم «هيبارينوس»، وهو ابن ديونيزيوس الأول من شقيقة ديون وأخو ديونيزيوس الثاني غير الشقيق، إلى صف حلفاء ديون، وتمكن من طرد «كاليبوس» من سيراقوزة والاستيلاء على الحكم. غير أن الأمور ظلت مضطربة، ولم يستطع أن يثبت أقدامه في الجزيرة. وتقع الرسالة الثامنة في هذه الفترة الحرجة بين انضمام «هيبارينوس» إلى حلفاء ديون وسقوطه بعد ذلك بسنتين على أثر اغتياله بيد شقيقه نيزايوس. ويبدو أن أتباع ديون توجهوا مرة أخرى إلى أفلاطون طلبا للنصح والمعونة. ولهذا نجده - في الرسالة الأخيرة - يقترح عليهم أن يقدموا تضحية «أفلاطونية» أصيلة. كان خطر تدخل القرطاجيين يهددهم من ناحية، وأخبار الهجوم المتوقع من ديونيزيوس الثاني تؤرقهم من ناحية أخرى ... ولهذا اقترح عليهم أفلاطون أن يستدعوا ديونيزيوس لتولي الملك في سيراقوزة، وحاول أن يخفف عنهم وقع المفاجأة فأشار عليهم بأن يتولاه بالاشتراك مع ملكين آخرين أحدهما هو هيبارينوس نفسه «قبل اغتياله» والآخر هو أحد أبناء ديون الذي لم يذكر اسمه ويبدو أنه ولد في السجن بعد موت أبيه.
غير أن اقتراح المصالحة كان أبعد ما يكون عن واقع الجزيرة التي تحولت إلى ساحة صراع وحشي على السلطة. فلم يلبث ديونيزيوس أن غزا الجزيرة ونشر عليها ظلال استبداده، ولم يدم هذا الاستبداد طويلا؛ إذ توجه أهالي سيراقوزة سنة 345ق.م - أي بعد موت أفلاطون بسنتين - إلى مدينتهم الأم كورنثة طالبين النجدة، فسيرت إليهم حملة بقيادة «تيموليون»
3
المشهور. ونجح هذا القائد الشجاع في إقرار السلام والأمن في ربوع الجزيرة التي مزقتها الحروب. أما ديونيزيوس فقد عاش بعد ذلك حياة رجل عادي وإن كانت الحكايات الشعبية قد جعلت منه في النهاية معلما أو ناظر مدرسة ... •••
يبدأ أفلاطون بإعلان استعداده لمساندة حلفاء ديون وأتباعه، وذلك بشرط أن تكون آراؤهم وأهدافهم متفقة مع الآراء والأهداف التي آمن بها ديون وسعى لتحقيقها. فقد قامت خططه السياسية على الأحاديث التي جرت بينهما أثناء زيارته الأولى لصقلية؛ وهو لذلك أقدر من غيره على الحكم عليها . ويستغل الفيلسوف هذه المناسبة للحديث عن تطور أفكاره السياسية، واهتمامه في صدر شبابه بالمشاركة في شئون الحكم، ثم عزوفه عنها بعدما رآه من تخبط نظم الحكم الفردية والشعبية على السواء، والجريمة التي ارتكبتها بإعدام أستاذه وحبيبه سقراط. وفي هذا الجزء من الرسالة نجد العبارة المشهورة التي يسجل فيها يأسه من الأحوال السياسية التي توالت على بلده، واتجاهه إلى الفلسفة التي أصبحت أمله الوحيد في «إنقاذ» البشر، وتحوله بعد ذلك إلى التعليم والتربية:
وهكذا وجدتني مدفوعا إلى الاعتراف بقيمة الفلسفة الحقة والتأكد من أنها هي وحدها التي تمكن الإنسان من معرفة العدل والصواب الذي تصلح به الدولة والحياة الخاصة، وأن الجنس البشري لن يتخلص من البؤس حتى يصل الفلاسفة الأصلاء إلى السلطة، أو يصبح حكام المدن - بفضل معجزة إلهية - فلاسفة أصلاء.
ويعود للحديث عن ديون. عن الآمال التي عقدها على ديونيزيوس الذي تولى الحكم بعد موت أبيه، ودعوته لأفلاطون الذي استجاب لندائه حبا له وأملا في تحقيق أفكاره النظرية في الواقع. وتتم الزيارة الثانية، وتتتابع الأحداث المفاجئة فينفى ديون، ويكتشف استعداده (أي ديونيزيوس) للسير على درب الفلسفة. ولا يوضح أفلاطون طبيعة هذه التجربة، بل يكتفي بالإشارة إلى مشقة الطريق، وحاجة الممتحن إلى تغيير حياته من أساسها ليصبح أهلا للتفلسف. وقد أخفق ديونيزيوس في هذا الامتحان، وظهر عجزه الواضح من الحوار الوحيد الذي أجراه معه. ويتطرق الحديث إلى الكتاب الذي سمع بأن ديونيزيوس وضعه عن مذهبه. وعبثا يحاول أفلاطون الاستخفاف بهذه المسألة. فنغمة السخط والاحتقار تتردد في كل كلمة يقولها عنها: «وبعد ذلك بلغني أنه كتب رسالة من تأليفه وتعبر عن مذهبه لا عما سمعه. ولكنني لا أعرف شيئا مؤكدا في هذا الشأن». هل أراد هذا المؤلف الصغير أن يستغل ما شاع بين اليونانيين عن المودة التي بينهما لكي يشوه صورته لديهم ويثير سخريتهم على مذهبه؟ أليس غدرا لا نظير له من تلميذ دعي لم يستمع إلى المعلم إلا مرة واحدة، ومع ذلك واتته الجرأة على تقديم آرائه للناس في ثوب بال مسكين؟ وترتفع أمواج الغضب في قلب الفيلسوف المهان فيصرخ باعترافات جديدة من فوق مركبه المحطم. لم تكن هذه هي أول مرة تصيبه فيها مثل هذه المصيبة. ولكن الكتب التي نشرها هؤلاء المؤلفون المزعومون تشهد بأنهم لا يفهمون من الفلسفة شيئا. والدليل على ذلك - وهو دليل يفاجئ به القارئ - أنه لم ينشر طوال حياته شيئا عنها.
صحيح أنه لا ينكر محاوراته، ولكن هذه المحاورات لا تتناول شيئا عنها. وهو - للأسف - لا يوضح لنا ما يقصده بذلك. فهل نزه «المشكلات الأولى والأخيرة» عن لعنة الكتابة؟ هل أراد أن يحميها من الالتفاف في أكفان الكلمات الجامدة وتوابيت الحروف الباردة؟ أكان كل ما دونه من محاورات مجرد لعب وتسلية؟ حقا، ذلك كان مراده. فالفلسفة تتأبى على الكلمة المدونة التي تتسع لغيرها من العلوم؛ لأن حقيقتها «تنبثق في النفس فجأة بعد مشاركة طويلة وتعاون مستمر في العكوف عليها كما ينبثق نور يقدحه نبض شرارة، وهنالك ينمو في أعماق النفس ويحيا ...» ولو تصور أن نشر مؤلفاته يمكن أن ينفع الناس، فهل كان يتردد عن تقديم مذهب ينقذهم من تعاستهم ويبين لهم حقائق الأشياء؟ هل كان يمكن أن يقوم في حياته بعمل أجمل من هذا العمل؟ ولكنه مقتنع بأن هذا لن يجديهم شيئا، بل ربما جر عليهم الأذى والاضطراب؛ لأن القلة القليلة منهم هي التي ستفهمه على الوجه الصحيح.
ولعل أفلاطون لم يتصور أن الناس ستقتنع بهذه الحجة، أو لعله هو نفسه لم يقتنع بها! فهو يقدم الآن «حجة لا يمكن دحضها»، وهي حجة تستغرق الفصل العسير المشهور عن نظريته في المعرفة. ويبدو هذا الفصل غريبا في رسالة موجهة إلى أناس يطلبون منه الرأي والمشورة في موقفهم العسكري الحرج. كما يبدو غريبا لانقطاع السياق والتحول إلى مسألة فلسفية لا مكان لها فيه. وقد ذهب إلى هذا الرأي معظم المتشككين في أصالة الرسالة، ولم يتردد بعض المؤيدين لصحتها من نسبة هذا الجزء إلى كاتب متأخر أراد أن يثبت اطلاعه على نظرية المثل
4 ... ولكن الذي يعرف هدف أفلاطون الحقيقي من كتابة الرسالة.
وهو - كما قلت - تبرير زيارته لصقلية والدفاع عن فلسفته - لن يستبعد عليه أن يتطرق إلى نظرية المثل التي ظلت شغله الشاغل في أواخر حياته، ولم يتوقف عن شرحها وإثباتها والدفاع عنها في محاوراته المتأخرة. لقد كانت أساس فلسفته وقمتها العالية في وقت واحد. ولهذا ليس غريبا أن تحتوي على جانب «مقدس» يحميه من تطفل الكثرة الجاهلة. وليس غريبا أن يشهد أنبغ تلاميذه «أرسطو» بأنها كانت تزداد غموضا على غموض، وتلتف في دروسه الشفهية الأخيرة في ثوب رياضي عسير.
يؤكد أفلاطون أنه أعلن من قبل عن هذا «اللوجوس الحق». ولا بد أنه يقصد بذلك محاضراته الشفهية؛ لأن كل تفاصيل هذا الجزء المتعلق بنظرية المعرفة مثبتة في محاوراته المكتوبة، ومع ذلك فإن هذه التفاصيل لا تغني عنه؛ لأنه - في مجموعه - شيء نادر وفريد، ولا بد أن أفلاطون وجد مشقة في تدوينه؛ إذ يصفه في النهاية بأنه «أسطورة» «وتحسس للطريق» وكأنه لحن وقعه العازف الماهر فجأة وخرج به عن مجرى النهر المتدفق بالألحان.
تحيرنا العبارات الأولى من هذا الفصل؛ فهي تضع أدوات المعرفة أو سبلها المختلفة في صف واحد مع موضوع المعرفة نفسه. إنه سلم من الكيفيات المتفاوتة الدرجة. فأدناها وأقلها قيمة هو الاسم، يتلوه التعريف وبعدهما تأتي النسخة «التمثل أو النموذج» ثم المعرفة وفي نهاية السلم يشمخ المثال الذي تتطلع إلى معرفته. وإذا كان التعريف في محاورات أفلاطون المبكرة هو الذي يفتح لنا طريق المعرفة، فإن وضعه له هنا تحت النسخة أو التمثل لا يعني أنه يحط من شأنه.
وينتقل أفلاطون إلى مثال يبين ما يقصده بالأدوات الثلاث الأولى للمعرفة. أما الأداة الرابعة فيقول إنها تتعلق بهذه الأمور، أي بالدرجات الدنيا التي يوضحها المثل المضروب. ونحس في هذا الموضوع أن تجربة المعلم تفرض نفسها عليه، وكأنه يتحدث عن خبرته مع تلاميذه في الأكاديمية ومدى استيعابهم لأدوات المعرفة الثلاث. وينقسم المستوى الرابع إلى مستويات أخرى تندرج تحته، وهي بدورها مستويات متفاوتة، ولكنها جميعا تدور داخل النفس. ويقدم لنا مثلا جديدا يعلق عليه بقوله: «وإذا لم يتيسر لهم الأمور الأربعة الأولى مجتمعة، فلن يتمكن الإنسان أبدا من معرفة الخامس معرفة تامة. ومعنى هذا، بعبارة أخرى، أن المعرفة - بجانب الأدوات الثلاث الأخرى - هي التي تتيح معرفة الموضوع الخامس، إن صح أن المثال موضوع، أو أن طريقة معرفتنا له يمكن أن تسمى معرفة؛ «فهي لعمري شيء غير محدد، لا يمكن أن تنقله الكلمة أو تصفه، شيء أقرب للنظر أو الرؤية»، لا بل إن من شأنه أنه لا يكاد يرى (الجمهورية 517ب، 7). والحق أن أفلاطون لا يقدم لنا معنى محددا لمفهومه عن المعرفة؛ فهناك المعرفة التي تدل على تمثل النفس لأدوات المعرفة الثلاث، وإن تكن في نفس الوقت مجرد إعداد لمعرفة الخامسة، أي إن فعل المعرفة ينقسم في واقع الأمر إلى فعلين: أحدهما تمهيدي والآخر نهائي. والأهم من هذا كله أن أدوات المعرفة الأربع تعاني من ضعف مشترك. وهذا يذكرنا بمحاورات الشباب التي يعتب فيها سقراط على محدثيه؛ لأنهم يبحثون دائما عن الكيفية «الخير». ويخرج أفلاطون عن دور الناقد للمعرفة ليتحدث عن الكتاب المزعوم الذي أفضى به إلى الاستطراد في كلامه عن المعرفة، فيؤكد ما سبق أن قرره من سوء الظن بالكلمة والحرف المكتوب، وإيمانه بأن «المشكلات الأخيرة» تستعصي على التعبير والتدوين، وكل ما يكتبه الكاتب عنها لا يعدو أن يكون ظلا باهتا للتجربة الحية الكامنة في أجمل مكان من أعماقه:
ولهذا فلن يخاطر عاقل بوضع أفكاره في ثوب هذه اللغة الضعيفة، والأولى من ذلك ألا يخاطر بوضعها في ذلك الشكل الجامد الذي يميز كل ما يكتب بالحروف.
ويوضح أفلاطون قوله بمثال الدائرة. فكل الدوائر المحسوسة ظلال ونسخ باهتة من الدائرة في ذاتها. وكل أدوات المعرفة بما فيها المعرفة نفسها - لا تقدم للنفس المتطلعة للحقيقة إلا الصفات والكيفيات، سواء في صورة كلمات - بالاسم والتعريف - أو في صورة مادية محسوسة - بالتمثل أو النسخة - ومعنى هذا أنها لا تقدم للنفس إلا ما لا تريده! ومن السهل إثبات الخداع والضلال في مثل هذه المعرفة. وليس هذا بالأمر الخطير حين نكون بصدد موضوعات عادية لا نلتمس فيها الحقيقة المطلقة: «عندئذ لا نضع أنفسنا موضع سخرية السائلين، حتى ولو كانت لدى هؤلاء القدرة على نقد أدوات المعرفة الأربع وإثبات خطئها»، أما إذا أصر السائل على الحصول على جواب شاف عن «الخامس» - أي عن المثال لا عن الصفة والكيفية - فسوف يخرج من الحلبة منتصرا بعد أن يكتشف عجزنا عن تقديم مثل هذا الجواب. فليس الطريق إلى المثال سهلا ولا معبدا، ولا التفلسف - وهو الطريق الصاعد إليه - ميسورا لكل إنسان. لا بد إذا من محاولة الأدوات الأربع ومعاودة المحاولة - عندئذ يمكنها أن تهيئ للخير ولمعرفة الخير»، ولن يتيسر هذا أيضا بغير الجهد والصبر والعناء! لأن النفس الإلهية هي وحدها التي يمكن أن تقترب من المثال الإلهي. والشرط الأكبر هو هذا الخير. فإذا غاب عن إنسان - كما هو حال الكثرة من الناس - فلن يقدر «لينكويس» نفسه أن يعلمه الرؤية (ولينكويس هو زرقاء اليمامة في أساطير الإغريق!)، هذه «الخيرية» تقوم على الطبع الخير والموهبة. فإذا توفرتا لإنسان أمكنه أن يتفلسف. ولا شك أن هذا الإنسان نادر الوجود؛ فمعظم الناس قد تلفت نفوسهم، وامتلأت باللوم والغدر والحسد والغباء. قد يتعلم هؤلاء شيئا عن أدوات المعرفة الأربع، وقد يقرءون عنها أو يكتبون فيها آلاف الصفحات. ولكن هذا لن يغير من الحقيقة شيئا، والحقيقة أنهم أبعد الناس عن روح الفلسفة؛ لأنها لا تمد جذورها في طباع غريبة عنها، كما أن النفس التي تخلو من الخير والجمال لن تشعر بصلة القرابة بمثال الخير والجمال. ولن يزيد الذكاء وقوة الذاكرة أصحاب النفوس المطبوعة على الشر إلا قدرة على الشر. ولهذا كان أحد تعريفات الفلسفة عند أفلاطون هو هذا التعريف المشهور، التشبه بالله بقدر الطاقة، وهل يسعى إلى التشبيه إلا الشبيه؟ هل يحس صلة القرابة بالخير إلا خير؟ يكفي أن تتلفت حولك لتتأكد من صدق أفلاطون، فكم من مشتغل بالفلسفة أو العلم لم يزده ذلك إلا قدرة على الشر والغدر والتطاول والإيذاء!
ولكن ماذا يريد أفلاطون على وجه التحديد «بالأمور الحاسمة» أو المسائل الأولى والأخيرة التي تحتاج للجهد المشترك المتجدد، وتتطلب الاستعانة بأدوات المعرفة جميعا حتى يمكن بلوغ الهدف؟ وما هو هذا الهدف الذي يقصده؟
إنه المعرفة الممكنة بحقيقة الخير والشر. وأفلاطون يضيف الشر صراحة ليؤكد أن العلم به ضرورة لا غنى عنها، ولكنه لا يكتفي بهذا، بل يزيد عليها ضرورة العلم «بالمظهر والحقيقة في الطبيعة كلها». فهل معنى هذا أن الهدف من الفلسفة الطبيعية لا يقل أهمية عن الهدف الأخلاقي؟ الواقع أن هذه مسألة غامضة محيرة. وهي تقف بنا على أبواب منطقة مجهولة في فلسفته المتأخرة لا يساعدنا هو نفسه على الدخول إليها. ومع ذلك فقد يخفف من حيرتنا أن أفلاطون يهتم دائما بالطريق أكثر من اهتمامه بالهدف. وهو يفعل هذا في خطابه السابع وفي سائر محاوراته «لأن الفلسفة طريق، والحوار الحر السمح هو إيقاع الخطوات الجدلية على هذا الطريق!»، ومن الطبيعي أن يؤكد مشقة الجهد والوقت اللازم للسير عليه. وعندما يتم «احتكاك» أدوات المعرفة الثلاث بعضها ببعض، عندما تخضع لبحث «سمح» من أناس يتحاورون ويتبادلون الأسئلة والأجوبة «بلا حسد أو لؤم»؛ عندئذ يمكن أن يسطع في أنفسنا نور الفهم. ولا شك أن عودة أفلاطون إلى استخدام صورة النور لا يخلو من دلالة، ولا بد أنه يحمل نصيبا من خبرته في التعليم وتجربته مع الحياة والناس. فالنور لا ينبثق إلا بالجهد المتصل والتعاون السمح المشترك «الذي حرص عليه في أكاديميته!». وشرارة الفهم والمعرفة لا تنقدح إلا بالحوار لا بالكلمة المكتوبة والحرف الجامد. ولو بعث بيننا اليوم لفر مذعورا إلى قبره بمجرد أن يرى آلاف المذكرات المكتوبة ولا يلمح فيها شعاعا واحدا من النور، وآلاف الأدعياء والحاسدين ولا خير عندهم ولا فضل! ومن يدري؟ فربما صرخ بعبارته التي يختم بها حديثه في هذا الموضع من رسالته قبل أن يغلق عليه باب القبر، «ولهذا لن يفكر أي إنسان جاد في الكتابة عن الموضوعات الجادة حتى لا يجعل الحقيقة نهبا لحسد الناس وغبائهم»، وتسأل نفسك: ماذا يفعل إذن بالحقيقة إن لم يكتب عنها؟ ماذا يفعل إذا كانت الكتابات لا تجدي وإذا كانت الظروف لا تسمح بالجهر برأيه؟ ربما كان الجواب هو ما قاله أفلاطون نفسه: يحفظها في ركن ناء من أعماق القلب! •••
ما الذي يسترعي انتباهنا في تحذير أفلاطون من الكتابة والمكتوب؟ إنه شيء «لا عقلي»، قد نحسه ونتذوقه، ولكنه يستعصي على الفهم والتحديد. ومن الصعب أن ندرجه في الظواهر اللاعقلية المعروفة. فليس تصوفا صريحا لأنه ينطوي على هدف عقلي واضح للمعرفة العلمية. ولا هو مجرد تعبير عن فعل المعرفة الخالصة الذي يكون فيه طريق البحث عن الحقيقة أهم من الحقيقة نفسها كما حاولنا أن نفسره. ومع ذلك ففيه شيء من التصوف وشيء من مشقة الطريق وعناء الفعل.
والأمر المؤكد على كل حال أن اللغة - وهي وسيلة التعبير المألوفة عن المعرفة والحقيقة - تعجز عن توصيله. بل إن أفلاطون يقرر عجزها وقصورها، كما ينهى كل إنسان جاد من أن تحدثه نفسه بالكتابة عن «حقائق الأشياء». أهو تبرير لمنهج الحوار الذي سار عليه؟ أم تنبيه إلى جدية الموضوع وصون له عن طموح المتعجلين والأدعياء الذين يسارعون للكتابة في كل شيء، ويتوهمون أنهم فهموه وانتهوا منه بمجرد تقييده بالحروف الميتة؟ أم هو في النهاية درس استخلصه من تجربته مع تلاميذه في الأكاديمية؟ لن نستطيع أن نقطع بشيء في هذه المسألة. ويكفي أن نشعر بالتحذير ونخشع لرهبة النذير، فلعل هذا أن يمنعنا على أقل تقدير من الإسراف في الكتابة التي استشرى وباؤها في عصر الكتب المقررة والمذكرات الركيكة «والحكماء» الذين تبرأ منهم الحكمة ...
لا يكاد أفلاطون ينتهي من هذا الفصل الخاص بنظرية المعرفة حتى يرجع للكلام عن ديونيزيوس، وكأن ما جاء فيه لم يكن إلا محاولة لإقناعنا بأن كل من يكتب عن حقائق الطبيعة لا يفهم عنها شيئا، سواء أكان هو هذا الطاغية أم غيره! ولو حاولنا الاعتذار عنه بأنه أراد بتأليف كتابه أن يساعده على التذكر، فلن يكون ذلك إلا السخف بعينه. فالغرور هو الذي دفعه لما فعل، والتمسح في الفيلسوف أمام الرأي العام هو الذي جعله يقع فيما وقع فيه. وهل يكفي اللقاء الواحد الذي تم بينهما لتلقي العلم؟ ولماذا اكتفى بهذا اللقاء الوحيد لو كانت نيته خالصة له؟ الواقع أنه وجد نفسه عاجزا عن تغيير حياته وسلوكه بما يتفق مع الحكمة وواجباتها المضنية، ولو كان مخلصا - في زعمه - لما أمكنه أن يهين الرجل الذي هو الدليل والحجة في هذا الأمر.
وهكذا يستطرد أفلاطون في الرواية عن رحلته الثالثة إلى صقلية. ولا يحتاج هذا الجزء إلى شرح أو تفسير؛ فسيرى القارئ أن الخطر كان يهدده من كل ناحية، وأن تدخل أصدقائه الفيثاغوريين كان ضرورة ملحة، ثم يأتي الحديث عن لقائه بديون في أوليمبيا، ولا يستطيع الفيلسوف أن يحول بين ديون وحلفائه وبين اللجوء للقوة، ولكنه يمتنع عن تقديم أية مساعدة إيجابية. لقد جروا على أنفسهم كل الكوارث التي أصابتهم منذ ذلك الحين. بل إن الجناية لتعود في النهاية إلى ديونيزيوس؛ لأن ديون لم يكن يستحق المصير الذي انتهى إليه. كانت مقاصده نبيلة، ولم يكن مجرد مثالي أعمى. ولكنه أساء تقدير الواقع، واستهان بالأخطار المحدقة به: «لقد كان يعرف أن الذين تسببوا في سقوطه أشرار، أما مدى فظاظته وخستهم وجشعهم فذلك هو الذي غاب عنه»، وهكذا راح ديون شهيد الفلسفة ... حاول أن ينقذ البشر لكنهم عجزوا كالعادة عن إنقاذ أنفسهم ...
وتأتي الخاتمة فتحاول أن تبرر إقحام تجاربه في النصيحة الموجهة إلى أتباع ديون. ومع أنها نصيحة بلا أمل، فإن الأمل الوحيد الذي يعبر عنه في النهاية هو أن تكون مبررات «الورطة» كلها مقنعة ...
وهكذا تنتهي الرسالة السابعة المشهورة. فهل ينتهي معها الأمل في «الإنقاذ»؟ هل كتب على الفلسفة أن تحصد المر من صراعها الدائم مع الواقع؟ أم علينا أن نجرب المحاولة دون أن يخذلنا اليأس؟ هل نظل ننتظر «المنقذ» أم يجب علينا أن نبدأ بإنقاذ أنفسنا؟ وكيف ننقذها إن لم نتعلم كيف نغيرها ونحولها ونربيها على مشقة التفلسف وواجباته؟ ألم تكن هذه هي رسالة المربي اليوناني الكبير وغيره من المربين العظام؟ وماذا نفعل نحن اليوم بعد أن استفحلت الكارثة وأصبحت الفلسفة نفسها في حاجة إلى الإنقاذ من أيدي الأشرار الذين يتسلطون ويزورون ويغدرون باسمها؟ من ينقذها من التفاهة والعقم والخراب حتى يتسنى لها أن تنقذ المدينة وتحرسها؟!
وأخيرا فقد اعتمدت في هذا النص على الترجمتين الألمانية والإنجليزية اللتين قد قام بهما والتر هاملتون
5
وأرنست هوفالد،
6
وأشرت إلى الفروق الطفيفة بينهما كما أفدت من شروحهما وتعليقاتهما أعظم فائدة. وتجد النسخة الإنجليزية مرموزا إليها في الهامش بالحرف «ب»، والألمانية بالحرف «أ». وأما الأرقام المسلسلة المثبتة على هامش النص فتتبع ترقيم طبعة هنري أيتيين «هنريكوس أستيفانوس» التي يرجع إليها عادة في نصوص أفلاطون. وقد كان بودي أن أضاهي الترجمتين على النص الأصلي - كما فعلت مع نصوص أخرى للشاعرة سافو ولأرسطو وأفلاطون نفسه - ولكنني لم أستطع العثور على الأصل اليوناني أثناء العمل في هذا الكتاب.
الرسالة السابعة لأفلاطون
من أفلاطون إلى أقارب ديون وأصدقائه (323ه) كتبتم إلي في خطابكم تقولون إن علي أن أقتنع بأن آراءكم تتفق مع آراء ديون، ولهذا تحثونني على التعاون معكم بالقول والفعل بقدر ما أستطيع. (324أ) فإذا كانت آراؤكم وأهدافكم هي نفس آرائه وأهدافه فإنني أعدكم بالتعاون معكم، وإلا فإنني سأضطر إلى التروي والتدبر في الأمر. أما عن طبيعة معتقداته وغاياته، فإنني آنس في نفسي القدرة على الحديث عنها حديثا يعتمد على المعرفة الواضحة لا على الظن والتخمين،
1
فعندما وصلت لأول مرة إلى «سيراقوزة» - وكنت أبلغ من العمر حوالي الأربعين - كان ديون في نفس سن «هيبارينوس» الآن، وقد احتفظ منذ ذلك الحين وحتى يوم مماته بالعقيدة التي آمن بها، وهي أن أهل «سيراقوزة» يجب أن يعيشوا أحرارا في ظل أفضل حكومة ممكنة، ولهذا فليس من المستغرب أن تنعم مشيئة إلهية
2 (324ب) على «هيبارنيوس» باعتناق نفس الآراء التي اعتنقها ديون. أما عن نشأة هذه الآراء فلا شك أنها قصة تستحق اهتمام الشباب والشيوخ؛ ولهذا فسوف أحاول أن أرويها من بدايتها، لثقتي من أن هذه هي اللحظة المناسبة لذلك.
كنت لا أزال في ريعان الشباب عندما حدث لي ما يحدث - عادة - للكثيرين، فقد تطلعت إلى الإلقاء بنفسي في أحضان السياسة بمجرد بلوغي سن الرشد
3 (324ه)، وكانت هذه هي صورة الأحوال السياسية العجيبة التي سادت مسقط رأسي؛ فقد كان الناس ناقمين على الدستور القائم، وتمت ثورة نتج عنها تركيز السلطة في أيدي واحد وخمسين رجلا، كلف منهم أحد عشر رجلا «بتولي الوظائف العليا» في المدينة، وعين عشرة آخرون على بيرايوس، «وقد عهد إلى هذين المجلسين بالإشراف على مراقبة الأسواق وغيرها من الشئون الإدارية العامة»، أما الثلاثون الباقون فقد تولوا زمام السلطة المطلقة. وكان بعض هؤلاء يمتون إلي بصلة القرابة، وبعضهم الآخر من معارفي؛ ولهذا دعوني على الفور إلى التعاون معهم، وكأن اشتغالي بالسياسة أمر مفروغ منه. ولم يكن من المستغرب من شاب مثلي أن يتوقع منهم أن يحكموا المدينة حكما ينقلها من الظلم إلى العدل
4 (324د)؛ ولهذا رحت أرقب ما يفعلونه بعناية واهتمام بالغين. وسرعان ما اكتشفت أن هؤلاء الرجال قد استطاعوا - في أقصر وقت ممكن - أن يجعلوا الحكم السابق عليهم يبدو في صورة عصر ذهبي
5 (342ه)؛ فقد كان مما فعلوه أن أمروا بتكليف صديق شيخ عزيز - وهو سقراط الذي لا أتردد عن وصفه بأنه كان أعدل الناس في ذلك الزمان - مع نفر آخر من الرجال بالقبض على أحد المواطنين وإحضاره بالقوة لتنفيذ حكم الإعدام فيه. ولم يكن لهم غرض من ذلك بطبيعة الحال سوى إقحام سقراط في أعمالهم، سواء رضي عن ذلك أو لم يرض. غير أنه لم يخضع لأمرهم، وفضل أن يخاطر بكل شيء على المشاركة في جرائمهم، فلما رأيت هذا كله وما شابهه من أعمال لا تقل عنه بشاعة أصابني الاشمئزاز وابتعدت بنفسي عن تلك الأوضاع المشينة
6 (325أ)، ولم يمض وقت طويل حتى انهار حكم الثلاثين وانهار معهم نظام الدولة القديم كله. وما هو إلا أن عاودني الشوق إلى المشاركة في الحياة السياسية، وإن كنت قد شعرت به في هذه المرة شعورا أضعف، لم تكن الأمور قد استقرت بعد
7 (325ب)، وحدثت أيضا في تلك الفترة - التي جاءت في أعقاب ثورة شاملة - أشياء لا يملك الإنسان نفسه من السخط عليها، ولم يكن من الغريب في هذا العالم المضطرب أن يستغل بعض الناس الفرصة للثأر من أعدائهم على أبشع صورة، ومع ذلك فقد كان سلوك الحزب العائد «من المنفى» يتسم بقدر كبير من الاعتدال.
ثم شاء سوء الحظ مرة أخرى أن يقوم بعض رجال السلطة في ذلك الحين بتقديم صديقي سقراط إلى المحاكمة وأن يوجهوا إليه تهمة خسيسة هو أبعد الناس عنها، فقد اتهموه بالتجديف في حق الآلهة
8 (325ج)، وأدانته المحكمة وقضت عليه بالإعدام، وهو الذي رفض قبل ذلك الاشتراك في جريمة القبض على واحد من أنصار الحزب الحاكم الذي وجه إليه التهمة، في الواقع الذي كان فيه رجال هذا الحزب يقاسون الاضطهاد ويعيشون في المنفى. لما رأيت ذلك وتبينت نوع الرجال العاملين في السياسة وأخذت في ملاحظة القوانين والأخلاق السائدة، اقتنعت في النهاية بصعوبة الاشتراك في الحكم
9 (325د)، وازداد هذا الاقتناع قوة مع تزايد الملاحظة والتقدم في العمر. فقد بدا لي هذا الأمر مستحيلا بغير أصدقاء وحلفاء أوفياء، والعثور على أمثال هؤلاء من بين المعارف القدامى لم يكن بالأمر السهل؛ لأن مدينتنا لم تكن تعيش على المبادئ التي عاش عليها أجدادنا، كما أن الحصول على أصدقاء جدد لم يكن ليتم بغير صعوبات جمة. ثم إن فساد التشريع والأخلاق العامة قد استفحل من ناحية أخرى بصورة مخيفة؛ بحيث أصابني الدوار في النهاية أمام هذا الاضطراب الشامل، وأنا الذي كنت في البداية مفعم النفس بالتحمس للحياة السياسية. صحيح أنني لم أتوقف عن التفكير في طريقة إصلاح هذا الميدان بوجه خاص وإصلاح الأحوال السياسية بوجه عام
10 (325ه)، ولكنني ظللت أترقب الفرصة المواتية للعمل، حتى انتهيت أخيرا إلى الاقتناع بأن حالة الدول الحاضرة كلها سيئة، وأنها تحكم حكما يدعو للرثاء
11 (2) (326أ)، وأن دساتيرها المريضة لا يمكن أن يشفيها إلا إصلاح يتم بمعجزة يؤيدها حسن الحظ. وهكذا وجدتني مدفوعا إلى الاعتراف بقيمة الفلسفة الحقة والتأكد من أنها هي وحدها التي تمكن الإنسان من معرفة العدل «والصواب» الذي تصلح به الدولة والحياة الخاصة ، وأن الجنس البشري لن يتخلص من البؤس
12
حتى يصل الفلاسفة الحقيقيون الأصلاء إلى السلطة، أو يصبح حكام المدن - بفضل معجزة إلهية - فلاسفة أصلاء (326ب).
13
زيارة أفلاطون الأولى لصقلية
وصداقته لديون الذي دعاه لزيارة ديونيزيوس الثاني بعد توليه الحكم في سنة 367ق.م
كانت هذه هي آرائي وأفكاري
1 (326ج) عندما زرت إيطاليا وصقلية لأول مرة. وما كنت أصل إلى هناك حتى شعرت بنفور شديد من الحياة التي يعيشها قوم يوصفون هناك بأنهم سعداء، وهي حياة تقوم على ألوان الملذات
2 (326د) «الإيطالية» و«السيراقوزية»، لم يرق لي أن يعيش الإنسان لكي يملأ بطنه مرتين في اليوم، ولا ينام وحده أبدا بالليل، إلى غير ذلك من أمور تتفق مع هذا الأسلوب في العيش. فمن المستحيل على أي إنسان فان نشأ منذ حداثته في هذه البيئة أن يصبح حكيما - إذ لا يوجد إنسان بهذا التكوين العجيب - ولن يكون في إمكانه أن يبلغ الاعتدال والتدبر أو غيرهما من الفضائل. وكذلك لن تتمتع أية دولة بالطمأنينة «والسلام» - مهما يكن لديها من قوانين رائعة - إذا كان أهلها يؤمنون بأن عليهم أن ينفقوا كل ما يملكون على «الترف» والملذات، وأن يدخروا كل جهودهم للمأكل والمشرب والعشق. بل إن أمثال هذه الدول لا بد أن تقع دائما تحت سطوة طاغية فرد، أو بعض الأسر أو حكم الغوغاء
3 (236ه)، ولن تتحمل الدوائر الحاكمة فيها مجرد سماع كلمة «نظام الحكم العادل والديمقراطي»، هكذا توجهت إلى سيراقوزة حاملا هذه الأفكار إلى رأسي، بالإضافة إلى الاعتبارات الأساسية التي ذكرتها من قبل. ربما كانت المصادفة البحتة «هي المسئولة عن هذا»، والأرجح فيما يبدو أن يكون أحد الآلهة هو الذي حرك في ذلك الحين تلك الأحداث التي ألمت أخيرا بديون وسكان سيراقوزة، وربما يتسبب في وقوع أحداث أخرى إذا لم تستمعوا إلى نصيحتي التي أوجهها إليكم للمرة الثانية.
ما الذي أقصده من قولي بأن فترة إقامتي تلك في صقلية كانت وراء كل هذه الأمور؟
4 (327أ) يبدو أنني عندما التقيت بديون في ذلك الحين - وكان لا يزال شابا صغيرا - قد عملت دون قصد مني على انهيار الطغيان،
5
وذلك عندما أفضيت إليه بآرائي عن أفضل الأمور للبشرية وحثثته على اتباعه بصورة عملية. فقد تحمس ديون - الذي كان بطبعه سريع الفهم وبخاصة لما قلته له آنذاك - تحمسا شديدا فاق ما عرفته من كل الشبان الذين قابلتهم في حياتي، وقرر أن يعيش حياته الباقية بطريقة مختلفة عن أغلبية الإيطاليين والصقليين؛ إذ كانت الفضيلة عنده أسمى من الملذات والمباهج الحسية؛ ولهذا عاش حياة أثارت عليه حقد حاشية ديونيزيوس
6 (327ب)، وظل الأمر على هذه الحال حتى مماته «أي ديونيزيوس الأب ...» وعندما وقع هذا الحادث داخله الاعتقاد بأن الآراء التي اكتسبها من الفلسفة الحقة قد لا تقتصر عليه وحده، كما تأكد له بالفعل أنها قد انتقلت إلى الآخرين، صحيح أن هؤلاء لم يكن عددهم كبيرا، ولكنهم كانوا مجموعة من اناس على كل حال، وقد كان من رأيه أن ديونيزيوس الشاب يمكن أن يصبح بمعونة الآلهة واحدا منهم، وعندئذ تنعم حياته وحياة سكان سيراقوزة بسعادة تجل عن الوصف، ولهذا كان من رأيه أن أحضر إلى سيراقوزة بأي ثمن لأشارك في تحقيق هذا الهدف؛ إذ لم يكن قد نسي بعد أن لقائي معه قد بث في نفسه الحنين إلى أجمل وأنبل حياة ممكنة. ولقد عقد أكبر الآمال على نجاحه في التأثير على ديونيزيوس، واعتقد أنه لو وفق في مسعاه لاستطاع أن ينشر في ربوع البلاد حياة سعيدة تستحق أن تشرف اسمه
7 (327ج)، وذلك دون حاجة للقتل وسفك الدماء وغيرهما من أعمال العنف التي جرت بالفعل، هكذا تمكن بفضل هذه الأفكار الصحيحة من إقناع ديونيزيوس بأن يرسل في طلبي ، كما توسل إلي في رسائله بأن أبادر إلى الحضور بغير إبطاء، وذلك قبل أن يقع ديونيزيوس تحت تأثير بعض العناصر التي تنفره من الحياة الفاضلة وتغريه بالتحول عن هذا المثل الأعلى إلى حياة أخرى «فاسدة». وقد كانت هذه هي كلماته التي أجتزئ بذكر بعضها حتى لا تشغل حيزا كبيرا: «هل هناك فرصة أخرى أنسب من هذه الفرصة التي هيأتها العناية الإلهية؟» هكذا تساءل «في خطابه»، ثم استطرد في الحديث عن ضخامة المنطقة المحكومة
8 (327ه) في إيطاليا وصقلية، وعن وضعه هو نفسه في هذه المملكة، وعن شباب ديونيزيوس وشغفه بالمعرفة، كما أسهب في تأكيد استعداده للفلسفة والعلم، وأضاف إلى ذلك أن أولاد خئولته وعمومته
9 (328أ) وبقية أقاربه يمكن كسبهم بسهولة في صف المذهب الذي أعلنته واتباعه في الحياة العملية، وأنهم يصلحون أيضا على خير وجه لكسب ديونيزيوس نفسه إلى جانبه. عندئذ يمكن الآن أن يتحقق الأمل في الجمع بين الفيلسوف وحاكم دولة كبرى في شخص واحد.
هكذا أخذ ديون يلح علي بمثل هذه الحجج «والمزاعم المغرية»
10 (328ب)، وكنت أشعر من ناحية بالتخوف من الشباب وعواقب الأمور التي يتصدى لها - فسرعان ما تشتعل ميول الشباب للإقدام على عمل، وسرعان ما تنبو وتتجه إلى عمل آخر معارض له - وكنت أعرف من ناحية أخرى أن ديون خير بطبيعته
11 (328ج)، كما أنه كان يتمتع في ذلك الحين بمزايا العمر الناضج، ومع أنني ترددت بين قبول الدعوة أو عدم قبولها وأخذت أقلب الأمر من كل ناحية؛ فقد بدا لي في النهاية أن هناك أسباب كثيرة ترجح أمامي الآن وجود حالة يتحتم فيها الإقدام على المخاطرة، هذا إذا شاء أحد على الإطلاق أن يحاول وضع آرائه عن القانون ودستور الحكم موضع التنفيذ في الواقع الملموس، فقد كنت الآن بحاجة إلى إقناع إنسان واحد بآرائي لكي أحقق كل الخير الذي قصدت إليه.
هكذا غادرت وطني بعد أن شجعتني هذه الأفكار على الإقدام على المخاطرة، ولم تكن الدوافع التي حركتني إلى ذلك كما تصور بعض الناس، بل كان الدافع الأساسي هو خوفي من الشعور بالخجل من نفسي
12 (328د)، وخشيتي من أن أبدو في عيني مجرد رجل نظري
13
عاجز عن إنجاز فعل واحد، وأن أقع في شبهة الخيانة لوفاء ديون وكرم ضيافته، وذلك في الوقت كان فيه يتعرض لخطر لا يقل «عن الخطر الذي يمكن أن أتعرض له». ولو فرض أنه وقع في محنة أو اضطره ديونيزيوس وسائر أعدائه إلى مغادرة بلاده فجاء إلي وقال لي: «أفلاطون، ها أنت تراني منفيا، لا لأن «قوات» المشاة والفرسان كانت تعوزني لصد أعدائي، بل لأنني كنت أفتقر إلى الكلمات والحجج المقنعة التي كنت أعلم أنك أقدر الناس على استخدامها لهداية الشباب إلى الخير والعدل وتوثيق روابط الحب والصداقة بينهم في كل الأحوال، إن الذنب يقع عليك لأنك لم تسد حاجتي إليها؛ ولذلك اضطررت لمغادرة سيراقوزة لتجدني الآن أمامك ... وليس ما فعلته في حقي هو الذي يجلب العار، ولكن الفلسفة التي لا تكف عن ذكرها على لسانك ولا عن القول بأن بقية الناس تستهين بشأنها، هل تنكر أنك خنتها الآن بخيانتك لي؟ لو كنت من سكان «ميجارا» لاستجبت بالتأكيد لدعوتي إياك بمساعدتي والوقوف بجانبي، وإلا اعتبرت نفسك إنسانا نكص عن أداء واجبه. أما الآن فإنك تتصور فيما يبدو أن طول الرحلة ومشقة السفر بالبحر يمكن أن تكون عذرا لك، وأنك ستتمكن بذلك من الهرب من تهمة نسيان الواجب»
14 (329أ). ولكن هذا شيء مستحيل «لو أنه خاطبني بمثل هذا الكلام فهل سأجد عندي ما أرد به عليه؟ لا، لن أجد شيئا.» هكذا قررت أن أطيع دواعي العقل والعدل بقدر ما في طاقة الإنسان ومضيت إلى هناك. وكان ما ذكرته هو الذي جعلني أتخلى عن عملي في التعليم الذي كان أحب شيء إلى نفسي، وأن أحيا في بلد يسوده الطغيان الذي لم يكن يبدو أنه يتفق مع آرائي أو يوافق طبعي، وبهذا أديت واجبي نحو «زيوس» حامي الصداقة
15
وصنت الفلسفة من كل عيب يمكن أن يلصق بها
16
لو أني جررت العار على نفسي بجبني وإيثاري الراحة .
وعندما وصلت إلى هناك - وهذه هي خلاصة قصة طويلة - وجدت بلاط ديونيزيوس يموج بالدسائس، وكل ما فيه يفتري على «ديون» عند الطاغية الفرد، وقد دافعت عنه بقدر ما استطعت، ولكن قدرتي كانت محدودة. وبعد حوالي ثلاثة شهور
17 (329ه) من وصولي نفاه ديونيزيوس على أبشع صورة مخجلة، وأمر بوضعه على ظهر سفينة صغيرة، وذلك بتهمة التآمر والطمع في الحكم. وخفنا - نحن أصدقاء ديون - أن يتهم الواحد منا الآخر بالتحالف معه «في مؤامراته » وأن ينتقم منا أيضا. بل لقد انتشرت في ذلك الوقت في سيراقوزة إشاعة بأن ديونيزيوس أمر بقتلي بحجة أنني كنت السبب في كل ما جرى، ولكن ديونيزيوس لاحظ الحالة التي كنا فيها، وأحس بالقلق من أن تسوقنا مخاوفنا إلى اللجوء لعمل من أعمال العنف؛ ولهذا أذن لنا بمقابلته وتحدث معنا حديثا وديا، واختصني بمواساته وتشجيعه، وألح علي أن أبقى؛ لأن سمعته - فيما زعم - مرهونة ببقائي، ولو هربت منه لما استفاد من ذلك شيئا
18 (329د)؛ ولهذا تظاهر بالإلحاف علي في الرجاء، وإن كنا نعلم علم اليقين أن توسلات الطغاة تقترن دائما بالتهديد. وهكذا حال دون سفري لكي يحقق غرضه، وأمر بإسكاني في البرج
19 (329) الذي لم يكن قبطان سفينة ليجرؤ على أن يأخذني منه بغير إرادة ديونيزيوس، ولم أكن لأخرج منه إلا بإذن صريح منه. وكذلك لم يكن في استطاعة أي تاجر أو ضابط من حرس الحدود أن يتركني أغادر البلاد لو صادفني سائرا وحدي، بل كان الأولى أن يقبض علي ويسلمني لديونيزيوس، وخصوصا بعد أن تردد - خلافا للإشاعة السابقة - أن ديونيزيوس يعامل أفلاطون معاملة ودية للغاية
20 (330أ). «ولكن هل كانت هذه هي الحقيقة؟ إن مودته كانت تزداد مع مضي الزمن كلما ازداد قربا مني وإلفا لطبعي. ولكنه طلب مني أن أقدره أكثر مما كنت أقدر ديون، وأن يكون مني بمنزلة الصديق العزيز الذي كانه، وتلهف على بلوغ هذه الغاية تلهفا يفوق الوصف. غير أنه أجفل من سلوك السبيل الذي يكفل تحقيقها، إن كان إلى تحقيقها من سبيل، وهو أن يتتلمذ علي ويشارك في محاوراتي الفلسفية ليزداد قربا مني؛ وذلك خوفا مما حذره منه الوشاة والمرجفون، وهو أن يحاط به وتتعطل حريته، وبذلك يتحقق ما أراده ديون. وقد صبرت على هذا كله، مخلصا لهدفي الذي جئت من أجله، على أمل أن تخالجه الرغبة في الحياة الفلسفية، ولكنه ظل يقاوم إلى النهاية.»
نصيحة لحلفاء ديون
تلك كانت أسباب
1 (330ج) زيارتي الأولى لصقلية وفترة إقامتي فيها، بعد ذلك رحلت إلى وطني ثم رجعت إليها مرة أخرى تحت إلحاح ديونيزيوس. أما لماذا حدث هذا، وكيف يشهد كل ما فعلته على الحق والاستقامة، فسوف أقص عليكم قصته فيما بعد، لكي أشبع رغبة المتطلعين إلى معرفة قصدي من العودة إلى هناك. وسأبدأ بتقديم نصيحتي إليكم فيما ينبغي عليكم أن تفعلوه في الظروف الراهنة، حتى لا يشغلني موضوع جانبي عن الموضوع الأصلي، وإليكم ما أريد قوله:
إذا جاز لإنسان أن ينصح مريضا يحيا حياة مؤذية لصحته، فإن أول ما ينبغي عليه القيام به هو تغيير أسلوب حياته، والتأكد من استعداده لإطاعة تعليماته قبل المضي في تقديم النصح إليه. فإذا تبين له أن المريض لا يريد أن يطيعه، فسوف أصف الطبيب الذي يرفض الاستمرار في معالجته بأنه طبيب أصيل وإنسان مستقيم الخلق، أما الذي يرضى بذلك الوضع «ويستمر في تقديم نصائحه» فسيكون في رأيي إنسانا ضعيفا وطبيبا سيئا. ونفس الشيء ينطبق على الدولة، سواء كان على رأسها رجل واحد أو عدة رجال، فإذا كانت شئون الحكم
2 (330د) فيها تسير على الطريق الصحيح وسألت النصح والمشورة في أمر يمس مصلحتها، فإن من العقل في هذه الحالة أن يقدم النصح إلى أمثال هؤلاء الناس. أما إذا كانوا قد تنكبوا سبل الحكم الصحيحة وأصروا على عدم الرجوع إليها وطالبوا ناصحهم «والمشير عليهم» صراحة بألا يمس دستورهم، بل هددوه بالموت إن حاول أن يفعل، وفرضوا عليه أن يشير عليهم بأسرع وأيسر طريقة تمكنهم من الاستمرار في إشباع رغباتهم وشهواتهم؛ إذ حدث أن قبل أحد تقييد نصيحته على هذه الصورة فسوف أصفه بالجبن ، أما من يرفض قبولها فسوف أعده رجلا شجاعا. هذه هي عقيدتي، وكلما سألني أحد عن رأيي في مسألة هامة تتصل بحياته الخاصة، كأن تكون مسألة مالية أو موضوعا يتعلق بسلامة جسمه أو نفسه، قدمت إليه النصيحة عن طيب خاطر ولم أكتف بأداء الواجب أداء شكليا
3 (331ب)، وذلك إذا رأيت أنه يسير في حياته اليومية على مبادئ معينة أو ظهر لي على الأقل أنه على استعداد لسماع نصيحتي. أما إذا لم يسألني النصح على الإطلاق أو اتضح لي أنه لا ينوي الاستجابة لمشورتي فلن أفكر أبدا في أن أفرض عليه نصيحتي، بل لن أحاول أن أفرض رأيي حتى على ابني. ربما وجهت النصح لعبد ما، وربما لجأت إلى فرضها عليه إذا رفض أن يأخذ به. ولكنني أعتقد أن من الخطأ اللجوء إلى ذلك مع الأب والأم، اللهم إلا إذا كانا مريضين مرضا عقليا. أما إذا كانا يعيشان عيشة تعجبهما ولا تعجبني، فليس من الصواب أن أدفعهما إلى كراهيتي بتوجيه النصائح التي لن تجدي معهما، وليس من الصواب أن أدفعهما إلى كراهيتي بتوجيه النصائح التي لن تجدي معهما، وليس من الصواب أيضا أن أتملقهما بمساعدتهما على إشباع شهوات أؤثر أنا نفسي الموت على الجري وراءها. وينبغي على الحكيم أن يسلك نفس المسلك من مدينته، فإذا بدا له أنها تحكم حكما سيئا فعليه ألا يرفع صوته إلا إذا رأى أن كلماته لن تضيع سدى ولن تؤدي به إلى الموت، ولا ينبغي عليه أبدا أن يحاول اللجوء إلى القوة لتغيير الدستور. وإذا استحال إصلاحه «أي الدستور» بغير توقيع عقوبة النفي أو الموت على بعض مواطنيه، فمن الواجب عليه في هذه الحالة أن يلزم الهدوء ويفوض أمره وأمر مدينته للآلهة.
4
أريد الآن وفقا لهذه المبادئ أن أوجه إليكم النصيحة على نحو ما فعلت عندما اشتركت مع ديون في تقديم النصح لديونيزيوس. فقد أشرنا عليه بأن يبدأ بتنظيم حياته اليومية بحيث يتمكن من السيطرة على نفسه إلى أقصى حد ممكن ويكتسب أصدقاء أوفياء لكيلا يصيبه ما أصاب أباه؛ فقد عجز هذا - بعد استيلائه على مدن كثيرة سبق أن دمرها البرابرة تدميرا تاما - عن تعميرها وإقامة حكومات موالية فيها، ولم يستطع أن يجد الحلفاء الذين يديرون أمورها، لا من الأجانب ولا من بين إخوته الصغار الذين قام بنفسه على تربيتهم وبوأهم مقاعد الحكم وحولهم من الفقر إلى الغنى الفاحش، ولم يتمكن كذلك - على الرغم من كل الجهود التي بذلها - من إشراكهم معه في الحكم، لا بالإقناع والتوجيه، ولا بالصلات وروابط الدم. وهكذا أثبت أنه كان أسوأ سبع مرات من «داريوس»
5 (332أ)، الذي لم يكن لديه من يعتمد عليهم من أصدقاء أو أشقاء تولى بنفسه تربيتهم، وإنما اعتمد - على الرغم من ذلك - على أولئك الذين ساندوه في الإطاحة بالخصي الميدي، وقسم مملكته بينهم إلى سبعة أقسام، كل قسم منها أكبر من صقلية بأسرها. وأثبت هؤلاء الحلفاء ولاءهم له فلم يهاجمه واحد منهم ولم يعتد أحد منهم على الآخر. وهكذا قدم «داريوس» النموذج الأمثل لما ينبغي أن يكون عليه المشرع والملك، ووضع القوانين التي حافظت على الإمبراطورية الفارسية حتى يومنا الحاضر. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الأثينيين الذين وضعوا أيديهم على عدد كبير من المدن الإغريقية التي كان البرابرة (أي الفرس) قد غزوها من قبل، ولكنها كانت لا تزال آهلة بالسكان. ومع أنهم لم يؤسسوها بأنفسهم
6 (332ب)، فقد استطاعوا أن يحافظوا على سيطرتهم عليها سبعين سنة كاملة؛ إذ كان لديهم في كل مدينة منها أصدقاء أوفياء يتولون حكمها. أما ديونيزيوس
7 (332ج) الذي لم يكن يثق بأحد، فلم يستطع أن يثبت حكمه على الرغم من أنه قام بتوحيد صقلية كلها في «ظل» مدينة واحدة. لقد كان يفتقر إلى الأصدقاء الأوفياء الخلصاء، وامتلاك المرء لهؤلاء أو افتقاره إليهم هو أقوى دليل على قيمة الشخصية أو عدم قيمتها،
8
تلك كانت النصيحة التي قدمناها - ديون وأنا - إلى ديونيزيوس بعد أن رأينا أن أباه جنى عليه وتركه يعيش بغير تربية صحيحة، ولا أصدقاء مخلصين، ألححنا عليه أن يبدأ بإصلاح حياته الخاصة
9 (332د)، وأن يفتش بعد ذلك بين أقاربه ومعاصريه عن أصدقاء يشاركونه السعي على طريق الخير والفضيلة، وأن يهتم - قبل كل شيء - بأن يصادق نفسه؛ إذ كان يعوزه هذا إلى حد يدعو للدهشة. لم نقل له ذلك بطبيعة الحال بمثل هذا الوضوح - إذ لم نكن نأمن على أنفسنا من التعرض للخطر - وإنما اكتفينا بالإشارة إليه مؤكدين أنه هو الطريق الذي ينبغي أن يسلكه كل من يتولى الحكم ليحفظ نفسه ويحمي رعاياه، وأن كل طريق آخر لا بد أن يؤدي إلى الخراب التام
10 (332ه)، أما إذا اتبع الطريق الذي وصفناه له واهتدى بنفسه إلى التبصر
11
والتدبر فسوف يتمكن من إعادة تعمير المدن المهجورة «في صقلية»، والربط بينها بقوانين ودساتير تجعلها قادرة على مساندته والصمود لغارات البرابرة «أي القرطاجيين»، وبهذا يمكنه أن يوسع مملكة أبيه لا إلى الضعف بل أضعافا مضاعفة. ولو تيسر له هذا لأمكنه أيضا أن يخضع القرطاجيين لنير أثقل من ذلك الذي ناءوا به تحت حكم «جيلون»، وذلك بدلا من الاستمرار في دفع الإتاوة التي التزم بها أبوه نحوهم. كانت هذه هي الاقتراحات التي أوصينا بها ديونيزيوس، وأولتها الإشاعات والهمسات من كل ناحية بأننا نتآمر على حياته، حتى تمكنت من نفسه في النهاية وتسببت في نفي ديون وألقت بنا في حالة من الرعب والفزع. وأحب الآن أن أختم روايتي للأحداث الكثيرة التي تمت في فترة بالغة القصر فأقول: لقد رجع ديون من «شبه جزيرة البيلوبينيز»
12 (333ب)، ومن أثينا، ولقن ديونيزيوس درسا أبعد ما يكون عن الدروس النظرية
13 (333ج)، وبعد أن تم له تحرير المدينة مرتين وتسليمها لأهل سيراقوزة، وقف منه هؤلاء نفس موقفهم السابق من ديونيزيوس. فقد حاول ديون أن يتدخل في توجيه حياته كلها وأن يجعل منه حاكما جديرا بعرشه، ولكنه فضل أن ينضم إلى صفوف أعدائه الذين أوحوا إليه أن ديون لم يفعل كل ما فعله في ذلك الوقت إلا لرغبته في الانفراد بالحكم
14 (333ج)، وأن هدفه من تعليمه هو أن يوقعه في سحر الفلسفة فيهمل شئون الحكم ويعهد بها إلى ديون الذي يتمكن عندئذ من السيطرة عليها وحرمان ديونيزيوس من ملكه بحيلة لئيمة.
انتصرت هذه الإشاعات في ذلك الحين، ثم انتصرت مرة أخرى عندما انتشرت في سيراقوزة، غير أنه كان انتصارا بشعا ومخجلا لأولئك الذين تحملوا وزره، وينبغي أن يوضح أمره لهؤلاء الذين يسألونني النصح في الظروف الحاضرة. (333د) لقد حضرت من موطني أثينا إلى بلاط الطاغية كصديق وحليف لديون رغبة مني في إقرار المودة والصداقة بينهما بدلا من الشقاق والعداء، غير أنني انهزمت في صراعي مع الوشاة والمرجفين. وحاول ديونيزيوس بالهدايا والصلات وأسباب التكريم المختلفة أن يكسبني إلى جانبه وأن يقنعني بالشهادة «أمام الرأي العام» بأنه كان على حق عندما نفى ديون، ولكنه أخفق في محاولته إخفاقا ذريعا. وعندما رجع ديون بعد ذلك بفترة إلى سيراقوزة أحضر معه من أثينا «نفسها» أخوين،
15
كان قد كسب صداقتهما لا عن طريق الاهتمامات الفلسفية المشتركة بل عن طريق التعارف المألوف الذي تقوم عليه معظم الصداقات، ويتم عادة من خلال الزيارات المتبادلة والاشتراك في طقوس الأسرار الصغيرة أو الكبيرة، وأصبح هذان الأخوان صديقيه وحليفيه نتيجة الأسباب التي ذكرتها ولمساعدتهما له عند عودته. وعندما حضرا إلى صقلية ولاحظا أن أهلها الذين حررهم يشيعون عنه أنه يطمع في الحكم المستبد لم يكتفيا بخيانة الصديق الذي أسبغ عليهما كرم ضيافته، بل عمدا إلى اغتياله بأيديهما، وذلك عندما وقفا بجانب القتلة وأسلحتهم في أيديهم. ولست بحاجة إلى التعقيب على هذا الفعل البشع الخسيس؛ فهناك كثيرون غيري سيجعلون مهمتهم الآن وفي المستقبل أن يغنوا على هذا الوتر. ولكنني سأكتفي بالرد على نقطة واحدة لا يمكن السكوت عليها، وهي الزعم بأن مسلك هذين الرجلين قد لوث سمعة أثينا. وحسبي أن أشير إلى أن الرجل الذي رفض أن يخون ديون كان - كذلك - أثينيا، «وقد أبى أن يفعل ذلك» على الرغم من الثروة الطائلة والتكريم الذي كان يمكن أن يحصل عليه. فلم تكن الصداقة التي ألفت بينه وبين ديون صداقة عادية، وإنما قامت على المشاركة في الاهتمامات العقلية، ومثل هذه الصداقة هي التي ينبغي أن يعول عليها الإنسان العاقل، أكثر من أي صداقة قائمة على قرابة الروح
16
والجسم؛ ولهذا فليس من الإنصاف أن يقال إن قاتلي ديون قد لوثا سمعة أثينا، ومن يقول بذلك فإنما ينسب إليهما دورا لم يقوما به أبدا
17 (334ج).
لقد قلت هذا كله لكي أقدم النصح لأصدقاء ديون وأقاربه. فماذا بقي عندي لأنصحهم به؟ إنها نفس النصيحة ونفس الكلمات التي وجهتها لغيرهم في مناسبتين سابقتين، لا يجوز لصقلية ولا لغيرها من المدن أن تخضع للسلطة المطلقة،
18
بل يجب - في رأيي على الأقل - أن تخضع لحكم القانون. فالسلطة المطلقة مضرة بالحكام والمحكومين، وهي «مؤذية» لهم ولأبنائهم وأبناء أبنائهم؛ لأن مثل هذه التجربة لا بد أن تؤدي إلى الخراب. فالنفوس الصغيرة والطباع الدنيئة
19
هي وحدها التي تنقض على منافعها العاجلة،
20
وهي نفوس لا تعرف شيئا عن الأمور الإلهية والبشرية التي هي عدل وخير في الحاضر وعلى مدى المستقبل.
21
هذه هي الحقيقة التي سعيت أولا لإقناع ديون بها، ثم ديونيزيوس من بعده، وها أنا ذا أحاول أن أقنعكم بها، فاستمعوا إلي حبا في زيوس المنقذ الذي يشرب النخب الثالث تكريما له،
22
واعتبروا بمصير ديونيزيوس وديون. فالأول لم يستمع إلي، وهو إن كان لا يزال حيا، فإنه يحيا حياة شقية،
23
أما الآخر الذي استجاب لتعليمي فقد مات، ولكنه مات ميتة رائعة، وإنه لشيء جميل وجدير بالسعي إليه في كل الأحوال أن يتحمل المرء كل ما يصيبه به القدر من شقاء، مهما تكن وطأته ثقيلة، في كفاحه لبلوغ أسمى الخيرات لنفسه ووطنه. فما من أحد منا خالد، ولو قدر الخلود لأحد لما شعر بالسعادة كما يظن عامة الناس؛ ذلك أن الأجسام التي بلا نفوس لا تشعر بمعنى الخير والشر
24
وإنما تشعر بهما النفس وحدها، سواء كانت متصلة بالجسم أو منفصلة عنه. «أما فيما يتعلق بهذه النفس»، فيجب علينا دائما أن نصدق الأخبار القديمة المقدسة التي تؤكد لنا أن النفس خالدة وأنها ستخضع للحساب وتتحمل أقصى ألوان العقاب بعد انفصالها عن الجسد ؛ ولهذا السبب ينبغي علينا أن نعتبر تحمل الأذى والظلم الفادح أهون شرا من اقترافه. غير أن هذا شيء لا يكترث به الإنسان الذي يعدل جشعه «إلى الثروة» فقره الروحي، وإذا اكترث به تصور أن من حقه أن يهزأ به بينما ينهش بصورة مخجلة، كالحيوان، كل ما يعتقد أنه يمكن أن يشبع شهيته للطعام أو الشراب أو لتلك اللذة القبيحة المهينة التي نسميها ظلما باسم أفروديت. لقد غشيه العمى فلم يعد يبصر ألوان العذاب المترتبة على نهمه الكريه، «ولم يعد يحس» أن كل جريمة
25
تزيد من حمل الشر الذي لا بد أن يجره المذنب وراءه سواء طوال فترة تجواله على الأرض أو أثناء عودته المخجلة البائسة إلى العالم السفلي.
بهذه الأحاديث وأمثالها استطعت أن أؤثر على ديون، ولدي كل الأسباب التي تحملني على السخط على قاتليه وكذلك على ديونيزيوس. فقد أصابني كلاهما، ويمكنني القول بأنهما أصابا سائر البشر جميعا، بأفدح الضرر، أما القتلة فباغتيالهم الرجل الذي كانت لديه الرغبة الحارة في تحقيق العدالة، وأما ديونيزيوس فلأنه لم يشعر بهذه الرغبة لحظة واحدة أثناء حكمه الطويل، وهو الذي كان يقبض بيديه على زمام السلطة الجبارة
26 (335د)، ولو استطاع حقا أن يجمع الفلسفة والسلطة السياسية في شخص واحد لأثار اهتمام الناس جميعا من إغريق وبرابرة،
27
وبين لكل إنسان حقيقة
28
أنه لن يتيسر لدولة أو فرد أن «يذوق طعم السعادة» ما لم يقض حياته بحكمة «وتدبر» على هدى العدالة،
29
سواء كافح بنفسه في سبيل الوصول إليها أو نشأ على مبادئ الحق والعدل التي رباه عليها الصالحون. هذا هو الضرر الحقيقي الذي سببه ديونيزيوس (335ه)، وكل ما عداه من ألوان الأذى التي قاسيتها منه تعد تافهة بالقياس إليه، أما قاتل ديون فقد فعل نفس ما فعله ديونيزيوس دون أن يشعر. فأنا أعلم أن ديون - وذلك بقدر ما يسع الإنسان أن يؤكد عن إنسان آخر - أنه لو تمكن من تدعيم حكمه لبدأ على الفور - بعد إتمام تحرير مدينته سيراقوزة من نير العبودية وتطهيرها من أدرانها وخلع ثوب الحرية عليها - بتزويد مواطنيها بأفضل وأنسب ما يستطيع من قوانين، ولبادر بعد ذلك بالقيام بما يتصل بذلك من تعمير صقلية كلها وتحريرها من البرابرة، وذلك بطرد بعضهم وإخضاع بقيتهم، ولوفق في ذلك توفيقا لم يبلغه هيرون في الزمن القديم (336أ)، ولو قدر لهذا أن يتحقق بفضل رجل على حظ من العدل والشجاعة وضبط النفس، بجانب كونه فيلسوفا، لاستقر بين الناس احترام الفضيلة ولأمكن - لو قد كتب لي النجاح أيضا في إقناع ديونيزيوس - أن تعم الجنس البشري بأسره (وتضمن إنقاذه)،
30
ولكن يبدو - بعد أن تحولت الأمور إلى هذه الصورة - أن روحا شريرا (أو ربة من ربات الثأر)
31
قد هاجمنا
32 (336ب) واستطاع «بما جبل عليه» من احتقار للقانون والدين وبما هو أسوأ منهما من رعونة الغباء - وهو التربة التي تمتد فيها جذور الشر كله وتظل تنمو وتترعرع حتى تخرج في النهاية مر الثمر لغارسيه - أقول استطاع هذا الروح الشرير أن يقلب كل خططنا ويفسدها للمرة الثانية. فلنقدم الآن على المحاولة الثانية، ولنسكت عن كل كلام يمكن أن يجلب سوء الحظ عليها. على الرغم من كل ما حدث فإني أنصحكم، يا أصدقاء ديون، بأن تحذوا حذوه في حب الوطن وتقتدوا بحياته التي اتسمت بالبساطة
33 (336)، وضبط النفس، وتحاولوا تحقيق أهدافه في ظروف أنسب. أما طبيعة هذه الأهداف فقد شرحتها لكم الآن بوضوح. وأما عن حلفائكم فيجب عليكم أن تستبعدوا منهم كل من يخرج على «أسلوب» الحياة «الدورية» التي عاشها آباؤنا
34 (336د)، مؤثرا عليها حياة البدع الصقلية التي سار عليها قتلة ديون، ولا تنتظروا من مثله أنا يحقق عملا نافعا أو يخلص في شيء. فإذا تصديتم لإعادة تعمير صقلية كلها ووضع تشريع عادل «يكفل الحقوق المتساوية للجميع»، فعليكم أن تستدعوا لهذا الغرض رجالا من صقلية نفسها ومن «شبه جزيرة» البيلوبينيز كلها، بل لا تخشوا أن تلجئوا في ذلك لأثينا نفسها، فستجدون هناك رجالا ممتازين «يفوقون مواطنيهم همة ونشاطا»، ويستبشعون أعمال العنف التي تدفع البعض إلى قتل الصديق.
35
ولكن إذا كنتم ستنظرون في تنفيذ هذه الخطط في المستقبل، وكنتم تضيقون في الوقت الحاضر بتلك الصراعات المستمرة المتنوعة التي تنشب عادة في فترات الثورة كل يوم، ووجدتم من العقل أن يدرك بوضوح أن فظائع الحرب الأهلية لن تنتهي
36 (336ه) حتى يكف المنتصرون عن رد الظلم الذي حاق بهم من قبل بنفي خصومهم واغتيالهم، ويتخلوا عن فكرة الانتقام من أعدائهم «وشفاء أحقادهم القديمة عليهم»، ويلتزموا بدلا من ذلك بضبط النفس، ووضع نظام من القوانين يكفل الخير للجميع ولا يضيف إلى مصلحتهم الشخصية مقدار شعرة واحدة أكثر من الفريق المهزوم، وأن يحملوا خصومهم السابقين على طاعة القوانين «واحترامها» بوسيلتين (لا ثالث لهما) وهما الحياء والخوف؛ أما الخوف فلأنهم قد أثبتوا أنهم يفوقونهم قوة، وأما الحياء فلأنهم أقدر على ضبط أنفسهم «والتحكم في انفعالاتهم»، كما أنهم أقدر من غيرهم وأكثر استعدادا للخضوع للقانون. هذه هي الوسيلة الوحيدة التي لا يتسنى بغيرها أن تهدأ مدينة (أو دولة) مزقتها الحرب الأهلية،
37 (337أ)، «وإذا لم تلجأ إلى هذه الوسيلة» فستظل عرضة للتمرد والعداوات الشخصية والحقد والخيانة. وهكذا يتحتم على أولئك الذين استولوا على السلطة، إن أرادوا تحقيق الأمن «والإصلاح»، أن يتبادلوا المشورة فيما بينهم وينتخبوا رجالا يعلمون عنهم أنهم أفضل الرجال بين الإغريق، ويتوخوا فيهم قبل كل شيء أن يكونوا متقدمين في العمر، وتكون لكل منهم زوجة وأطفال، وأسلاف ماجدون مشهورون بقدر الإمكان، وثروة كافية معقولة - وفي مدينة يبلغ تعداد سكانها عشرة آلاف يكفي أن يكون عددهم خمسين رجلا - وعليهم أن يتوسلوا إليهم ويغروهم بأسمى آيات التكريم حتى يتركوا بيوتهم، فإذا حضروا تضرعوا إليهم أن يضعوا القوانين، وذلك بعد أن يأخذوا عليهم العهد «والقسم» بألا يحابوا فيها منتصرا ولا مهزوما، وأن يلتزموا فيها بالمصلحة العامة للمدينة كلها. فإذا وضعت القوانين فسوف يتوقف رخاء «المدينة» على استعداد الفريق المنتصر للخضوع للقانون أكثر من الفريق المنهزم، وعندئذ يتحقق الإنقاذ والهناء، ويتم الخلاص من كل شقاء،
38
أما إذا حدث عكس ذلك فلا يلجأ أحد إلي أو إلى غيري لمساعدة أولئك الذين لم يلتزموا بالمبادئ التي أوصيت بها؛ إذ إنها هي نفس المبادئ التي حاولنا، ديون وأنا، تحقيقها معا، مدفوعين بالحب لأهل «سيراقوزة». لقد كانت هذه هي محاولتنا الثانية. أما الأولى فكانت تلك التي قمنا بها مع ديونيزيوس وأملنا من ورائها توفير السعادة للجميع. غير أن قدرا يفوق قدرة البشر حال دون نجاح خطتنا. وعليكم الآن أن تبذلوا ما في وسعكم لعل المزيد من التوفيق أن يكون حليفكم، وأن تحظوا بعون من الله وتأييد من القدر (337ه).
زيارة أفلاطون الثانية لديونيزيوس الثاني
وبهذا أختم النصيحة التي أردت أن أوجهها إليكم، كما أختم قصة زيارتي الأولى لديونيزيوس. أما عن رحلتي الثانية فيستطيع كل من يهمه الأمر أن يرى «مما سأرويه الآن أنها تمت بصورة طبيعية ومعقولة، وأنني قمت بها مدفوعا بدوافع مثالية» (338أ).
1
مرت فترة إقامتي الأولى في صقلية على النحو الذي وصفته قبل أن أقدم نصيحتي لأصدقاء ديون وأقاربه. وقد بذلت كل ما في طاقتي لإقناع ديونيزيوس بإطلاق سراحي، ثم وصلنا في النهاية إلى اتفاق يقضي بأن يقوم باستدعائنا، ديون وأنا، مرة أخرى بعد أن تنتهي الحرب الدائرة آنذاك في صقلية «بعقد معاهدة سلام»
2 (338ب)، ويتم له تثبيت حكمه وتدعيمه. وقد طلب في نفس الوقت من ديون أن يعتبر أن ما حدث له لم يكن يقصد به نفيه بل تغيير إقامته. وعلى أساس هذه الشروط وعدته بالرجوع.
ولما استتب السلام أرسل ديونيزيوس يدعوني لزيارته، ولكنه طلب من ديون أن يؤجل حضوره سنة أخرى، بينما أخذ يلح علي في زيارته إلحاحا شديدا. كذلك حثني ديون على السفر؛ إذ أفادت التقارير العديدة الواردة من صقلية بأن ديونيزيوس قد تملكه من جديد حماس غير عادي للفلسفة؛ ولهذا السبب توسل إلي ديون أن أقبل الدعوة. وكنت من ناحيتي أعلم أن الفلسفة كثيرا ما تحدث هذا التأثير في الشباب، ومع ذلك فقد بدا لي من الأضمن - على الأقل في اللحظة الراهنة - أن أتغاضى عن ديون وديونيزيوس، وتسببت في سخطهما علي عندما أجبت الأخير بأنني قد أصبحت شيخا متقدما في السن، وأن ما يجري الآن يتعارض كل التعارض مع ما اتفقنا عليه (338ج).
ولكن يبدو أن أرخيتاس «التارنتي» زار ديونيزيوس بعد ذلك مباشرة «وكنت قبل رجوعي إلى الوطن قد توسطت في إقامة علاقات ودية بين أرخيتاس وحكومته
3 (338د) في تارنت من ناحية وبين ديونيزيوس من ناحية أخرى «وكان في سيراقوزة أيضا عدد من الناس الذين تلقوا شيئا من العلم من ديون، وعدد آخر أخذوه عن هؤلاء، ويبدو أن هؤلاء الناس الذين حشدوا رءوسهم بمعلومات فلسفية دارجة
4
قد حاولوا أن يتناقشوا مع ديونيزيوس حول هذه الموضوعات، اعتقادا منهم بأنه على دراية تامة بكل آرائي.»
5
والواقع أن ديونيزيوس - بجانب استعداده للتعلم - ليس خلوا من الموهبة، كما أنه يتميز بطموحه الشديد، وربما سره ما قيل عنه فخجل أن يلاحظ عليه أحد أنه لم يتعلم مني شيئا أثناء إقامتي في بلاطه،
6
ولهذا أحس في نفسه الرغبة في استيضاح هذه الأمور، كما دفعه في نفس الوقت إلى ذلك طموحه الشديد. أما السبب الذي جعله لا يتعلم مني شيئا أثناء فترة إقامتي الأولى فقد شرحته منذ قليل بالتفصيل.
وبعد أن رجعت سالما إلى وطني وبعثت إليه برفضي لدعوته الثانية - كما سبق أن قلت - شعر فيما يبدو بالقلق الشديد من أن يتصور بعض الناس أن رأيي في طبعه ومواهبه رأي سيئ - خصوصا بعد أن عرفت طريقة حياته عن قرب - وأن اشمئزازي منه هو الذي صدني عن زيارته (339أ).
إني أرى من واجبي الآن أن أروي الحقيقة وأتحمل أيضا ما يمكن أن يترتب عليها لو سمع أحد بما حدث فحاول أن يحتقر فلسفتي ويشيد بذكاء الطاغية. فقد بعث ديونيزيوس في طلبي للمرة الثالثة، وأرسل إلي مركبا بحريا «بثلاثة صفوف من المجاديف» لكي ييسر علي مشقة السفر بقدر الإمكان. وجاء معها «أرخيديموس» وهو أحد تلاميذ أرخيتاس وبصحبته عدد آخر من معارفي الصقليين، وقد أرسله ديونيزيوس لاعتقاده بأنني أقدره أكثر من أي إنسان آخر في صقلية
7 (339د)، وقد أخبرنا هؤلاء جميعا نفس الخبر، وهو أن ديونيزيوس قد حقق تقدما ملحوظا في الفلسفة . كذلك أرسل إلي خطابا مطولا؛ إذ كان يعلم مدى حبي لديون، كما يعلم مدى لهفته على سفري وعودتي لسيراقوزة. وقد دار الخطاب كله حول هذه النقطة، وبدأ بهذه الكلمات تقريبا: «ديونيزيوس يحيي أفلاطون»، وبعد التحية التقليدية انتقل بغير تمهيد إلى هذه العبارات: «إذا لبيت دعوتي ورجعت إلى صقلية، فسوف تسوى مسألة ديون على الوجه الذي يرضيك - وأنا متأكد أن مطالبك ستكون معقولة؛ ولهذا فلن أتردد في الاستجابة لها - أما إذا رفضت فلن يتم أي شأن من شئونه، وبخاصة شئونه الصحية، على الصورة التي تحبها». كانت هذه هي كلماته، والاستطراد في ذكر عباراته يستغرق وقتا طويلا ولا يفيدنا فيما نحن بصدده . وجاءتني كذلك خطابات أخرى من أرخيتاس والأصدقاء في تارنت. وكلها تشيد بتقدم ديونيزيوس في الفلسفة، وتشير إلى أنني إن لم أحضر على الفور فسوف أعرض للخطر الشديد علاقات الصداقة التي أقمتها بنفسي بينهم وبين ديونيزيوس، وهي - في نظرهم - علاقات ذات أهمية سياسية قصوى. فلما جاءت دعوة ديونيزيوس على هذه الصورة، ووجدت أن أصدقائي في صقلية وتارنت يشدونني من جهة، بينما يكاد أصدقائي في أثينا يتعجلون خروجي من البلاد بإلحافهم، واجهتني نفس الحجة التي واجهتها من قبل، وهي أنه لا يحق لي أن أتخلى عن ديون «أو أخون الأصدقاء والحلفاء في تارنت. وشعرت - فضلا عن ذلك - بأنه لا يستغرب من شاب»
8 (339ه) التقط بعض الأحاديث الجادة التي سمعها من هنا أو هناك أن تشتاق نفسه إلى اتباع أفضل سبل الحياة، وهكذا رأيت من واجبي أن أفحص الأمر من كل نواحيه بعناية شديدة، ورأيت ألا أرفضه منذ البداية لكيلا أستحق اللوم الذي سيوجه إلي لو صحت الأنباء التي وصلتني،
9
ومن ثم قمت برحلتي مستترا وراء الحجة التي ذكرتها،
10
ولكن قلبي كان مفعما بالقلق والهم، ولم يكن لدي - كما يمكن أن تتوقعوا ذلك بسهولة - أي أمل في النجاح، وعندما وصلت إلى هناك اكتشفت أن هذه الكلمة المأثورة تنطبق علي: الثالثة ثابتة،
11
إذ كان من حسن حظي أن أنجو مرة أخرى و«أرجع سالما إلى وطني»، وأنا مدين بالفضل في هذا - بعد الله - لديونيزيوس الذي أحبط محاولات الكثيرين للقضاء علي وأظهر في موقفه مني أنه لم يكن مجردا من الحياء.
وعندما وصلت إلى «صقلية» جعلت مهمتي الأولى هي التحقق من أن ديونيزيوس قد تملكه لهيب الحماس للفلسفة، وذلك كما أفادت الأخبار الكثيرة التي وردت إلى أثينا، أو أنه كان مجرد زعم لا أساس له من الصحة (340ب)، وهناك طريقة للتأكد من هذا وليس فيها أي جرح للكرامة، وهي طريقة تناسب الطغاة، خصوصا إذا كانت رءوسهم محشوة بالشعارات الفلسفية،
12
وهو الأمر الذي لاحظت بمجرد وصولي أنه ينطبق على ديونيزيوس.
والطريقة هي أن نبين لأمثال هؤلاء الناس طبيعة الموضوع بوجه عام، والصعوبات المرتبطة به «والمراحل المختلفة التي عليهم أن يجتازوها» (340ج)،
13
والجهد والمشقة اللذين يتطلبهما، فإذا استمع واحد منهم إلى هذا وكانت لديه الشرارة الإلهية التي تجعله جديرا بالفلسفة بدا له الطريق من الروعة بحيث يصمم على السير عليه بكل ما أوتي من قوة وإلا استحال عليه أن يعيش بعد ذلك. وعندئذ يحشد كل ما في طاقته وطاقة مرشده على هذا الطريق، ولا يتخلى عنه حتى يبلغ هدفه أو يأنس في نفسه القدرة على سلوك الطريق بنفسه بغير مرشد أو دليل. في مثل هذه الأفكار وحدها يعيش الموهوب للفلسفة؛ صحيح أنه يواصل نشاطه اليومي المعتاد، ولكنه يحرص بجانب ذلك على التمسك بالفلسفة وبأسلوب الحياة الذي يزيد قدرته على التذكر والتحصيل والتفكير، ويمكنه من التخلق بالقصد والاعتدال، أما الطريق المخالف لذلك فيكرهه كراهية تلازمه مدى الحياة (340د).
غير أن أولئك الذين لا يملكون الموهبة والاستعداد الحقيقي للفلسفة،
14
ولا يصيبون منها إلا حظا ضئيلا من المعرفة السطحية التي تشبه الاحمرار الذي يصيب جلود بعض الناس عندما يتعرضون لأشعة الشمس؛ فهم لا يلبثون أن يدركوا صعوبة المهمة، واستحالتها بالنسبة لهم، وذلك بمجرد أن يعرفوا مقدار ما يجب عليهم تعلمه، ومدى ما يتطلب منهم من مشقة، والاستقامة التي ينبغي عليهم أن يلتزموا بها في حياتهم. إنهم في الواقع عاجزون عن تنفيذ ما يطلب منهم
15 (341أ)، ويحاول بعضهم - مع ذلك - أن يقنع نفسه بأنه سمع ما فيه الكفاية عن الموضوع كله، وأنهم ليسوا بحاجة إلى مزيد من الجهد والعناء. هذا هو الاختبار الأكيد «المأمون» الذي يمكن تطبيقه على أولئك الذين يميلون إلى حياة اللذة والدعة، ولا يجدون في أنفسهم القدرة على العمل الشاق. وليس لأحدهم أن يلوم إلا نفسه إذا عجز عن النهوض بما يتطلبه منه الموضوع، ولا بد في هذه الحالة أن يعفي المرشد من المسئولية.
هذه هي الأفكار التي كنت أحملها في ذهني عندما قلت ما قلته لديونيزيوس، لم أتحدث إليه في كل شيء، ولم يسألني هو نفسه عن ذلك، فقد ادعى أن ما سمعه من الآخرين
16 (341ب)، قد أعطاه فكرة كافية عن الموضوع وجعله يحيط بأهم جوانبه. وقد بلغني بعد ذلك أنه كتب رسالة عما سمعه في ذلك الحين، وأنه صور الأمر كأنه رسالة من تأليفه وتعبر عن مذهبه لا عما سمعه. ولكنني لا أعرف شيئا مؤكدا في هذا الشأن. صحيح أنني أعلم أن هناك عددا آخر كتب في نفس هذه الموضوعات، ولكن كل الذين فعلوا ذلك لم ينتحلوا لأنفسهم صفة المؤلفين (341ج)،
17
بيد أني أستطيع، على كل حال، أن أحكم على أولئك الذين كتبوا بالفعل أو سيكتبون في المستقبل مدعين معرفة الأمور التي أوليها اهتمامي - سواء زعموا أنهم أخذوا العلم عني أو عن غيري أو وصلوا إلى الحقيقة بأنفسهم - بأن من المستحيل في رأيي أن يكونوا قد فهموا شيئا عن الموضوع، فلا يوجد عنه كتاب
18
من تأليفي ولن يوجد أبدا؛ لأنه ليس شيئا يمكن التعبير عنه بالكلمات كما هو الحال مع العلوم الأخرى، وإنما تنبثق حقيقته في النفس فجأة بعد مشاركة طويلة وتعاون مستمر في العكوف عليه كما ينبثق نور قدحته شرارة واثبة، وهناك يتغذى وينمو نموا مطردا. ثم إني أعلم علم اليقين أنه لو تسنى أن يوجد شيء مكتوب أو شفهي عن هذا الموضوع فإن من الأفضل أن أكون أنا صاحبه، كما أعلم أيضا أنه لو عرض عرضا سيئا فلن يضار من وراء ذلك أحد غيري. ولو دار بخلدي أن من الواجب أن يبلغ للرأي العام
19 (3421د) بطريقة وافية في صورة شفاهية أو مكتوبة، فهل كان يمكن أن أحقق في حياتي عملا أروع من هذا، وهل هناك أجمل من أن أقدم للبشرية مذهبا عظيما يصف لهم طريقة الخلاص والإنقاذ،
20
ويظهر حقيقة الأشياء ليراها الجميع؟ ولكنني لا أعتقد أن محاولة وضع هذه الأمور «البحوث» في كلمات يمكن أن تنفع الناس، اللهم إلا فئة قليلة جدا لن يستعصي عليها أن تجد الحقيقة بنفسها مع شيء قليل من التوجيه والإرشاد. أما بقية الناس فسوف توغر صدورهم على الفلسفة وتملؤها بالازدراء لها، أو تولد فيهم الغرور الأحمق الباطل الذي يصور لهم أنهم اطلعوا على سر رائع (341ه).
عجز الكلمات عن التعبير عن الواقع
أود الآن أن أتحدث عن هذه المسألة بشيء من التفصيل، فقد يزداد المعنى الذي أريده وضوحا. هناك حجة لا يمكن دحضها تقف في طريق كل من يتجرأ على كتابة أي شيء عن هذه الأمور، وهي حجة طالما استخدمتها في الماضي، ويبدو أن الضرورة تقتضي تكرارها في هذه المناسبة (342أ).
هناك ثلاث أدوات لا بد من توافرها لمعرفة أي شيء، تضاف إليها المعرفة نفسها كأداة رابعة، أما الخامسة فهي الموجود الحق وموضوع المعرفة نفسه، فأولها هو الاسم، وثانيها هو التعريف، وثالثها هو التمثل
1
ورابعها هو المعرفة. خذ لذلك مثلا واحدا إذا أردت أن تفهم ما أقول، ثم طبقه بعد ذلك على كل شيء. فهناك موضوع يسمى «الدائرة» واسمه هو الكلمة التي ذكرناها الآن، ثم يأتي تعريفه الذي يتكون من أسماء وأفعال (342ب)، فالعبارة التي تقول: «الشيء الذي يتساوى بعد أطرافه في كل اتجاه عن المركز»، ستكون هي تعريف الموضوع الذي نصفه بأنه مستدير ومتساوي الانحناء ودائرة، ثم يأتي التمثل في المقام الثالث، ويمكن أن يرسم ويمحى، وأن يخرط بالمخرطة ويدمر بعد ذلك (344ج).
ولكن هذه الأمور الثلاثة التي تتعلق بالدائرة لا تؤثر على الدائرة الحقيقية ذاتها التي تختلف عنها كل الاختلاف. وفي المقام الرابع تأتي المعرفة والفهم والرأي الصادق
2
عن هذه الأمور، ويجب أن تضم هذه الثلاثة في فئة واحدة؛ لأنها لا توجد في الأصوات «اللغوية» أو الأشكال المكانية وإنما توجد في النفس، ومن الواضح أنها مختلفة عن
3
ماهية الدائرة الحقيقية في ذاتها وعن الأدوات الثلاث التي ذكرناها في البداية. والفهم هو أقرب هذه الأدوات الثلاث إلى الموضوع الخامس؛ لما يربطه به من قرابة وتشابه، أما الأداتان الأخريان فهما أكثر بعدا عنه.
ويصدق نفس الشيء على الأشكال المستقيمة والأشكال والسطوح
4
المنحنية، وعلى اللون والخير والجمال والعدالة، وعلى كل الأجسام الطبيعية أو المصنوعة، وعلى النار والماء وما يشبههما «من العناصر»، وعلى كل الكائنات الحية والطباع الخلقية، وكل ما يفعله البشر أو ينفعلون به. وإذا لم يتيسر فهم الأمور الأربعة (342ه) مجتمعة، فلن يتمكن الإنسان أبدا من معرفة الخامس معرفة تامة، أضف إلى هذا أن هذه الأمور الأربعة - بسبب قصور اللغة وعجزها - تهتم ببيان خصائص أي موضوع معين بقدر ما تهتم بالكشف عن ماهيته الحقة. ولهذا فلن (343أ) يخاطر عقل بوضع أفكاره في ثوب هذه اللغة الضعيفة، والأولى من ذلك ألا يخاطر بوضعها في تلك الصورة الجامدة التي تميز كل ما يكتب بالحروف.
إن ما قلناه الآن يحتاج إلى مزيد من الشرح والتوضيح. فكل دائرة ترسم أو تخرط تمتلئ في الواقع بضد الحقيقة التي جعلناها الخامسة في الترتيب. فهي في كل نقطة منها تشارك في المستقيم، بينما الدائرة ذاتها - وهذا هو الذي نؤكده - لا تتضمن أي عنصر صغير أو كبير من طبيعة ذلك الشيء المضاد لها،
5
وفضلا عن هذا فليس لأي شيء اسم ثابت، فما من شيء يمنع (343ب) أن يطلق على ما يسمى الآن «دائريا» اسم «مستقيم»، أو على العكس من ذلك أن يسمى «المستقيم» «دائريا»، ولن يتأثر ثبات الأشياء «أو بقاؤها على طبيعتها الواقعية»، إن غيرنا أسماءها وأطلقنا عليها أسماء مضادة. ونفس الشيء ينطبق على التعريف، فهو مؤلف من أسماء وأفعال، وتبعا لذلك فهو أبعد ما يكون عن الثبات. ويمكننا أن نستخدم حججا لا حصر لها
6
لإثبات أن كل واحد من الأمور (أو الأدوات) الأربعة السابقة بعيد عن الدقة، ولكن أقوى هذه الحجج هو أن النفس - كما قلنا - تسعى إلى معرفة الوجود الحقيقي للشيء ولا تكتفي بمعرفة صفاته وخصائصه. بيد أن ما يقدمه لها كل واحد من الأمور الأربعة السابقة - سواء في صورة كلمات أو في صورة مادية «مرئية» - (343ج) ليس هو الذي تبحث عنه، بل هو شيء يمكن بسهولة أن تدحضه شهادة الحواس؛ ولهذا يمكن أن يخلق الحيرة «والارتباك» والغموض في «عقل» كل إنسان. وعندما نكون بصدد موضوعات لم نألف - نتيجة التعود السيئ - أن نبحث فيها عن الحقيقة، بل نقنع منها بالنسخ التي تمثلها، فإننا «في هذه الحالة» (343د) لا نضع أنفسنا موضع سخرية السائلين، حتى ولو كانت لدى هؤلاء القدرة على نقد أدوات المعرفة الأربع وإثبات خطئها. أما حين يتعلق الأمر بموضوعات نتطلب فيها الدليل الواضح على الوجود الحقيقي الذي يشغل المكان الخامس، فإن أي إنسان بارع في الحجاج والتفنيد سيخرج منتصرا وسيجعل المتحدث «الذي يعرض المذهب» - سواء لجأ إلى الكلام المتسق أو الكتابة أو صيغة السؤال والجواب - «سيجعله» يبدو في أعين جمهور المستمعين جاهلا جهلا تاما بالموضوع الذي يحاول أن يكتب فيه أو يتكلم عنه. قد يحدث أحيانا ألا يفطن الجمهور إلى أن الخطأ لا يرجع لنفس الكاتب أو المتحدث بقدر ما يرجع (343ه) لكل أداة من أدوات المعرفة الأربعة الناقصة بطبيعتها. ولكن التعمق المستمر فيها جميعا
7
بالتحرك صعودا وهبوطا من أحدها للآخر، هو السبيل الوحيد لتوليد المعرفة بما هو بطبيعته خير في نفس هي بطبيعتها خيرة، مع العلم بأن هذا أيضا يستلزم أكبر قدر من الجهد والعناء. أما إذا كان الإنسان سيئ التكوين، وكذلك أغلب الناس من الناحيتين العقلية والخلقية - وكم من نفس طيبة أصابها التلف - فإن «لينوكويس»
8
نفسه لن يستطيع أن يهبه القدرة (344أ) على البصر. وصفوة القول أن من لا يشعر نحو الموضوع بصلة القرابة الحميمة فلن تقربه منه سهولة التعلم ولا قوة الذاكرة؛ لأنه (أي الموضوع) لا يمد جذوره أبدا في طبائع غريبة عنه.
9
ولهذا فإن الذين لا تربطهم صلة القرابة أو الشبه بالعدالة والجمال بكل صوره وأشكاله مهما يبدوا من موهبة وقوة ذاكرة في أمور أخرى، والذين تتوفر لهم القرابة الطبيعية «بالموضوع»، ولكن تنقصهم الموهبة وقوة الذاكرة؛ كلا الفريقين لن يستطيع أحد منهما أن يتوصل إلى المعرفة الممكنة بحقيقة الخير والشر.
10 «وقد أضفت الشر»؛ لأنه يجب عليهم أن يعرفوهما معا كما يعرفون المظهر والحقيقة في الطبيعة كلها
11 (344ب)، ويبذلوا في سبيل ذلك من الجهد والوقت بقدر ما ذكرت في بداية حديثي. وعندما يتم احتكاك الأسماء والتعريفات والتمثلات والانطباعات الحسية بعضها ببعض
12
وتخضع جميعها لبحث تسوده السماحة وتبادل الأسئلة والأجوبة بغير حسد «أو لؤم»؛ عندئذ فقط تسطع شرارة الفهم والبصيرة لتضيء الموضوع قيد البحث، ويتوهج ضوءها بقدر ما في طاقة الإنسان. ولهذا السبب لن يفكر أي إنسان جاد في الكتابة عن الموضوعات الجادة حتى لا يجعل (344ج) الحقيقة نهبا لحسد الناس وغبائهم. والنتيجة التي نستخلصها مما سبق هي أننا إذا رأينا مؤلفا دونت فيه أفكار أحد الناس، سواء كان مؤلفا في القانون لأحد المشرعين أو في أي موضوع آخر، فيجب أن نعلم - إذا كان الكاتب إنسانا جادا - أن هذا الذي دونه لا يعبر عن أفكاره الجادة بحق، وإنما تظل «هذه الأفكار» كامنة في أجمل مكان في أعماقه.
13
وإذا صح أنه كان جادا بحق في تدوين فكره، فلا بد في هذه الحالة أن يكون الناس، (344د) لا الآلهة، هم الذين سلبوه عقله.
14
يتضح إذا لكل من تتبع بعناية هذا الحديث المتأني
15
أنه لو كان ديونيزيوس أو غيره - عظم شأنه أو قل - قد دون شيئا من الحقائق الأساسية للطبيعة،
16
فلا يمكن في اعتقادي أن يكون قد حصل أية معرفة سليمة عن الموضوع الذي كتب عنه، ولو تيسر له ذلك لشعر بنفس الإجلال الذي أشعر به نحو الحقيقة،
17
ولاستحال أن يعرضها للمهانة في عالم لا يلائمها ولا يليق بها. ولا يمكن أيضا أن يقال إنه كتب ما كتب ليعين ذاكرته «على الحفظ»، فمن المستحيل أن ينسى الإنسان الحقيقة بعد ما استوعبتها نفسه؛ لأنها (344ه) تكمن «هناك» في حيز صغير جدا.
18
والواقع أنه لو كان قد كتب شيئا على الإطلاق فإنما فعل ما فعله عن طموح فاسد «ملتو»، إما لادعاء أن هذه الأفكار هي أفكاره الخاصة أو الظهور بمظهر المشاركة في ثقافة
19
لم يكن جديرا بها؛ لأن هدفه منها لم يكن غير الشهرة «التي تصور أنه سيحصل (345أ) عليها عندما يذاع عنه أنه شارك فيها». أجل، لو كان ديونيزيوس قد توصل إلى هذه المعرفة من اللقاء الوحيد «الذي تم بيننا»
20
لما كان في الأمر ما يستغرب، ولكن كيف كان من الممكن أن يحدث هذا؟ هذا ما يعلمه الله، كما يقول أهل «ثيبة». ذلك لأنني تناقشت معه في الأمر - على نحو ما وصفت - مرة واحدة، ثم لم يدر أي حوار بيني وبينه بعد ذلك أبدا. وكل من يهمه أن يعرف كيف حدثت هذه الأمور ينبغي عليه أن يتدبر الأسباب التي منعتنا من تكرار الحوار
21
بعد ذلك مرة وثانية وثالثة أو أكثر من ذلك أيضا. هل تصور ديونيزيوس، بعد ذلك اللقاء الوحيد،
22
أنه قد اكتشف الموضوع بنفسه أو تعلمه قبل ذلك من غيري، أم تراه رأى أن مذهبي لا قيمة له، أم ثبت له - وهذا هو الاحتمال الثالث - أنه يفوق قدرته وأنه لن يستطيع أن يحيا حياة الحكمة والفضيلة؟ إن كان قد تصور أن ما قلته له شيء تافه، فسيكون عليه أن يستمع إلى كثيرين يؤمنون برأي يخالف رأيه ويصلحون أن يكونوا حكاما أكفأ منه في هذا الأمر. وإن كان قد اعتقد من جهة أخرى انه قد اكتشف بنفسه أو تعلم من قبل شيئا يصلح في ذاته لتربية إنسان يسعى إلى الحرية، فكيف تسنى له - بغير أن يكون إنسانا ملتويا
23
إلى أقصى حد - أن يهين الرجل الذي هو الدليل والحجة في هذا الأمر؟ لقد كان هذا - على التحقيق - هو الذي فعله، أما كيف أهانه فسوف أروي لكم الآن قصة ذلك.
آخر أخبار أفلاطون مع ديونيزيوس ورحيله عن سيراقوزة
لم يمض وقت طويل على الحادث الذي وصفته حتى أصدر ديونيزيوس الذي كان قد سمح قبل ذلك لديون بالتصرف في أملاكه والتمتع بدخلها
1
أوامره فجأة إلى المشرفين على إدارتها (أي الأملاك) بألا يرسلوا منه (أي من الدخل) شيئا إلى البيلوبينيز، وكأنه نسي تماما ما سبق أن قاله في خطابه. وزعم أن أملاك
2
ديون لم تعد من حقه، بل أصبحت من حق ابنه الذي هو في نفس الوقت ابن شقيقته؛ لذلك فهو الوصي عليه. كانت هذه هي الحالة (345د) التي وصلت إليها الأمور حتى ذلك الحين، ومنها عرفت مدى تحمس ديونيزيوس للفلسفة معرفة كافية، فلم يسعني إلا الغضب «والاشمئزاز». وكان فصل الصيف قد أقبل ومعه موسم إقلاع السفن. وبدا لي أنه ليس من حقي أن أسخط على ديونيزيوس لأنني أولى منه بالسخط على نفسي وعلى أولئك الذين اضطروني لعبور مضيق «سكيلا» للمرة الثالثة «وشق طريقي من جديد في (345ه) هاوية خاريبدس المخيفة؛
3
ولهذا قررت على كل حال أن أعلن ديونيزيوس باستحالة بقائي بعد تصرفه المخجل مع ديون. وحاول ديونيزيوس أن يهدئ غضبي وتوسل إلي أن أبقى، وصارحني بأنه تدبر الأمر ووجد أن موقفه سيزداد حرجا لو سافرت فجأة ومعي تلك الأخبار. (346أ) ولما عجز عن إقناعي وعدني أن يتولى بنفسه ترتيب سفري. كنت - في الحقيقة - قد عزمت على الرحيل مع أول سفينة تقلع من الميناء؛ إذ كان الغضب قد استبد بي وصممت على مواجهة أي شيء يمنعني «من تنفيذ ما عزمت عليه»، كما كان من الواضح للناس جميعا أنني الجانب المجني عليه. ولما لم يجد عندي أقل رغبة في البقاء، لجأ إلى هذه الفكرة لكي يحتجزني لما بعد موسم إقلاع السفن. فقد جاءني في اليوم التالي لذلك الحديث ومعه هذا الاقتراح المغري: «فلنحاول أن نتخلص من (347ب) الخلافات التي يسببها لنا ديون وشئونه المادية. وسوف أتصرف معه بهذه الطريقة إرضاء لك: سأسمح لك باسترداد ثروته على أن يبقى مقيما في البيلوبينيز لا باعتباره منفيا، بل باعتبار أن من حقه الرجوع إلى سيراقوزة إذا تم الاتفاق بيننا جميعا على ذلك.
4
وشرطي الوحيد هو ألا يتآمر علي، وأن تضمن لي ذلك أنت وأصدقاؤك وأصدقاء
5
ديون الموجودون هنا، وأن يلتزم نحوكم بهذا الوعد. أما كل المبالغ التي يستحقها من ثروته فسوف تودع في البيلوبينيز أو في أثينا عند أشخاص تثقون في أمانتهم وتختارونهم بأنفسكم. سيكون من حق ديون (346ج) أن يأخذ نصيبه من الفوائد، ولكن لا يجوز له أن يسحب شيئا من رأس المال بدون موافقتكم؛ ذلك لأنني لا أضمن سلامة تصرفه نحوي لو وضعت هذه المبالغ الضخمة تحت يده، أما أنت وأصدقاؤك فإنني أثق بكم أكثر منه. فكر في هذا الاقتراح، فإن أعجبك فابق معنا هذه السنة، ثم سافر في الربيع ومعك المبالغ المذكورة. (346د) أنا واثق من أن ديون سيعترف لك بالجميل لو رتبت أموره على هذه الصورة. انتابني الحنق والغضب عند سماع هذه الكلمات، ولكنني أجبته بأنني سأفكر في الأمر وأخبره في الغد بما استقر عليه رأيي. كان هذا هو الذي اتفقنا عليه. واختليت بنفسي وأنا في أشد حالات الاضطراب. وتزاحمت علي الأفكار وعلى (346ه) رأسها هذه الفكرة: «ألا يمكن أن يحنث ديونيزيوس بكل عهوده، فيحاول بعد رحيلي أن يكتب لديون ويسر إليه بالاقتراح الذي قدمه لي»، وذلك في خطاب باسمه أو خطابات أخرى يأمر أصدقاءه بإرسالها إليه، «ويصور له أنني - على الرغم من حسن نيته - لم أبد أي استعداد لمناقشة هذا الاقتراح ولم أكترث بمصالحه على الإطلاق؟ ألا يحتمل أيضا أن يرفض السماح بإطلاق (347أ) سراحي ويشيع بين قباطنة السفن أنه يعارض سفري - وهو يملك أن يفعل هذا بغير حاجة لإصدار أمر صريح - وعندئذ لا يمكن أن يجرؤ أحد منهم على أخذي من بيته»، وقد كنت لسوء حظي أسكن في الحديقة المحيطة بالقصر، ولم يكن في استطاعة البواب أن يسمح لي بالخروج بغير أمر صريح من ديونيزيوس نفسه». ولو أقمت طول هذه السنة لاستطعت من ناحية أخرى أن أعرف ديونيزيوس بموقفي وسلوكي. ولو حافظ ديونيزيوس على كلمته فسأكون قد حققت (347ب) شيئا لا يستهان به؛
6
لأن ثروة ديون لن تقل - إذا قيمت تقييما صحيحا - عن مائة تالنت
7
أما إذا تحققت مخاوفي وسارت الأمور سيرها المحتمل، فلا أدري عندئذ ماذا سيكون مصيري، وإن كان من الضروري أن أصبر عاما آخر لأكتشف نوايا ديونيزيوس السيئة «وأختبرها على ضوء التجربة العملية».
لما انتهيت إلى هذه النتيجة قابلت ديونيزيوس في اليوم التالي وقلت له: «لقد قررت البقاء. ولكنني أرجوك ألا تعتبرني مفوضا من قبل ديون لضمان (347ج) مصالحه، بل يجب علينا معا أن نبعث إليه كتابا نبلغه فيه بما اتفقنا عليه ونسأله إن كان راضيا عنه، فإذا لم يحز رضاه وكان لديه بديل آخر أو مطالب أخرى فعليه أن يكتب إلينا بذلك على الفور. أما أنت فتلتزم بألا تتخذ أي إجراء يمس شئونه حتى يصلنا رده.»
كان هذا هو ما قلته له وما اتفقنا عليه بنفس هذه الكلمات تقريبا. وحدث بعد ذلك أن أبحرت السفن، ولم يعد في إمكاني أن أرحل، وجاءني ديونيزيوس وأثار الموضوع مرة أخرى وادعى أن نصف الثروة فقط من حق ديون، والنصف الآخر (347د) من حق ابنه. كما أبلغني بعزمه على بيع الأملاك كلها وإعطائي نصف ثمنها لتسليمه لديون والاحتفاظ بالنصف الثاني لولده. زاعما أن هذا هو الحل الأمثل. أفزعتني هذه الكلمات فزعا شديدا، ولكنني وجدت من السخرية أن أعلق عليها بشيء. ومع ذلك فقد قلت له إن علينا أن ننتظر رد ديون ثم نبلغه بهذا الاقتراح الجديد. «وفوجئت» بعد هذا اللقاء مباشرة بأن ديونيزيوس باع أملاك ديون كلها بطريقة (347ه) طائشة، وذلك بالشروط التي راقت له وللمشترين الذين اختارهم بنفسه دون أن يقول لي عن ذلك كلمة واحدة. وقد رأيت من جانبي ألا أطرق الموضوع معه مرة أخرى؛ لأنني اقتنعت بأن ذلك لن يجدي شيئا.
هكذا حاولت أن أمد العون للفلسفة ولأصدقائي، ومنذ ذلك الحين (348أ) سارت حياتنا، ديونيزيوس وأنا، على هذه الصورة: كنت أشبه بطائر يطل من قفصه ويتوق للفرار، بينما راح هو يلتمس كل وسيلة لتخويفي
8
وإبعادي عن شئون ديون والاحتفاظ بأملاكه. ومع ذلك فقد ظهرنا أمام صقلية كلها بمظهر الصداقة «والتجانس في الآراء».
9
وحاول ديونيزيوس أن يخفض أجور قدامى المرتزقة «العاملين في جيشه»، وذلك على عكس السياسة التي كان يتبعها أبوه. وتظاهر الجنود الغاضبون معلنين عن (348ب) سخطهم، وأراد ديونيزيوس أن يؤدبهم فأمر بإغلاق أبواب القلعة،
10
ولكنهم هجموا على الأسوار وهم يتصايحون صيحات الحرب ويرددون أناشيدهم البربرية. واستولى الرعب على ديونيزيوس الذي رضخ لمطالب المتظاهرين، بل وافق على إعطائهم أكثر مما طلبوا.
وسرعان ما انتشرت إشاعة بأن «هيراكليدس» هو المسئول عن هذا التمرد، ولما شعر بأنه سينقلب عليه نجا بنفسه واختفى بعيدا عن الأنظار. وبذل ديونيزيوس كل ما في وسعه لإلقاء القبض عليه، ولكنه أخفق. ولذلك (348ج) استدعى «تيودوتيس» لمقابلته في حديقة القصر التي تصادف أن كنت في ذلك الوقت أتجول فيها. لا أدري ما الذي كانا يتحدثان عنه؛ لأنني لم أستمع إلى حديثهما، ولم أفهم - كذلك - منه شيئا.
ولكنني لا زلت أذكر ما قاله تيودوتويس لديونيزيوس على مشهد مني: «أفلاطون، إنني أحاول أن أقنع صديقنا ديونيزيوس بأن يسمع لهيراكليدس إذا نجحت في إحضاره للمثول أمامه والإجابة على الاتهام الموجه له، وإذا قرر إبعاده عن صقلية «أن يسمح له» بأخذ زوجته وابنه معه ليعيشوا في البيلوبينيز والحصول على ثروته كاملة بشرط ألا يقوم بأي إجراء من شأنه أن يضر بديونيزيوس. لقد أرسلت منذ قليل في طلبه، وسأبعث إليه مرة أخرى لعله يستجيب لدعوتي الأولى أو الثانية. ولكنني أستحلف ديونيزيوس وأتوسل إليه، في حالة العثور على هيراكليدس، هنا أو في الريف، ألا يعاقبه بغير النفي خارج البلاد، وذلك إلى أن يتدبر أمره ويتخذ قرارا آخر بشأنه.» ثم التفت إلى «ديونيزيوس» قائلا: «هل تتعهد بهذا؟» أجاب ديونيزيوس: «نعم، وحتى لو وجد في بيتك فلن يحدث له شيء يخالف ما تعاهدنا عليه.»
وفي مساء اليوم التالي هرع إلي تيودوتويس وأويريبيوس، وهما في حالة شديدة من الانفعال والاضطراب، وبدأ تيودوتويس قائلا: «أفلاطون، لقد كنت بالأمس شاهدا على التعهد الذي قطعه ديونيزيوس على نفسه بشأن هيراكليدس.» قلت: «أجل، كنت شاهدا عليه.» استطرد تيودوتويس قائلا: «والآن يفتش الجنود المنطقة بحثا عن هيراكليدس، ويبدو أنه موجود في مكان قريب؛ تعال معنا (349أ) بسرعة إلى ديونيزيوس لكيلا نضيع لحظة واحدة.» هكذا انطلقنا معا، وعندما مثلنا بين يديه أخذا يبكيان في صمت، فبدأت الكلام قائلا: «إن صديقي يخشيان أن تؤذي هيراكليدس خلافا لما اتفقنا عليه أمس؛ إذ يبدو أنه قد لوحظ وجوده هنا وأنه يختفي في هذه الناحية.» ولما سمع ديونيزيوس ذلك ثار ثورة شديدة وتغير لون وجهه، كما هي عادة من يستبد به الغضب. أما تيودوتويس فركع عند قدميه (342ب) وتناول يده وابتهل إليه والدموع في عينيه بألا يفعل شيئا من ذلك، وحاولت أن أواسيه فقاطعته قائلا: «تشجع يا تيودوتويس، فلن يحنث ديونيزيوس بالوعد الذي اتفقنا عليه أمس.» وعند ذلك نظر ديونيزيوس إلي نظرة طاغية أصيل وهتف قائلا: «أنا لم أعدك بشيء، لم أعدك بشيء على الإطلاق.» قلت: «بلى، الله يعلم أنك فعلت. لقد وعدت بألا تتخذ الإجراء الذي يتوسل إليك تيودوتويس الآن بألا تقدم عليه.» ثم استدرت وغادرت المكان. (349ج) وبعد ذلك واصل مطاردته لهيراكليدس، ولكن تيودوتويس بعث إليه رسولا يحذره ويلح عليه بالهرب، وأرسل ديونيزيوس تيزياس على رأس قوة للبحث عنه، غير أن هيراكليدس تمكن قبل وصولهم بساعات قليلة من اللجوء للقرطاجيين.
تذرع ديونيزيوس بهذه الحادثة للتنصل من وعده برد ثروة ديون إليه، كما وجد فيها مبررا كافيا لإظهار العداء لي. وبدأ بإبعادي من القلعة، بحجة أن الحديقة التي كنت أسكن فيها سيقام فيها حفل ديني نسائي
11
يستمر عشرة أيام. (341د) وأمر بأن أقيم في هذه الفترة خارج القلعة مع أرخيديموس. وأثناء إقامتي الأخيرة دعاني تيودوتويس لزيارته وأخذ يبدي استياءه من الأحداث التي وقعت ويصب شكواه المرة على ديونيزيوس. وبلغ ديونيزيوس أنني زرت تيودوتويس، فاتخذ من ذلك (341ه) ذريعة أخرى لتبرير أسباب القطيعة معي، وبعث يسألني إن كنت قد لبيت دعوة تيودوتويس، قلت للرسول: «هذا صحيح.» فأجاب بقوله: «لقد أمرني أن أبلغك بأن تصرفك هذا تصرف غير لائق؛ لأنه يدل على أنك تقدر ديون وأصدقاءه أكثر مما تقدره.» كانت هذه هي الرسالة التي أبلغها إلي، ولم يستدعني بعد ذلك أبدا إلى قصره، كأنما لم يبق لديه شك في صداقتي لتيودوتويس وهيراكليدس وعداوتي له. وفضلا عن هذا فقد سلم بأنه لم تعد لدي نية الحديث معه بعد أن تبددت ثروة ديون بأكملها، هكذا عشت منذ ذلك الحين خارج القلعة بين الجنود المرتزقة. وسعى لزيارتي عدد كبير من الناس وبينهم (350أ) بعض مواطني «الأثينيين» من أفراد الحاشية وملاحي السفن
12
وأبلغوني أن المشاة يفترون علي
13
ويهددون بقتلي إن تمكنوا من وضع أيديهم علي. وأخذت أبحث عن مخرج لتأمين حياتي حتى وصلت إلى هذه الفكرة. بعثت رسالة إلى أرخيتاس وسائر أصدقائي في «تارنت» أبلغهم فيها بالخطر المحدق بي. وما هو إلا أن وجدوا ذريعة لإرسال بعثة دبلوماسية من مدينتهم ومعها مركب بثلاثين مجدافا بقيادة واحد منهم يدعى «لامسكوس». وعندما وصل «إلى سيراقوزة» مثل بين يدي ديونيزيوس وتشفع لي عنده وأبلغه برغبتي في الرحيل ورجاه ألا يقف عقبة في طريقي. وقبل ديونيزيوس رجاءه، ووافق على أن أغادر البلاد مع المال اللازم للسفر. أما عن ثروة ديون فلم أسأل عنها ولا حاول أحد أن يسلمني شيئا منها.
وعندما وصلت إلى «أوليمبيا» في شبه جزيرة البيلوبينيز قابلت ديون الذي كان يزور احتفالات الألعاب الأوليمبية ورويت عليه ما حدث. أقسم بزيوس أن ينتقم (350ج)، ودعاني وأقربائي وأصدقائي أن نستعد لعقاب ديونيزيوس على ما اقترفه سواء بالتفريط في واجب الضيافة نحوي - وهذا هو الذي تصوره ديون وقاله - أو بالإجراء الظالم الذي اتخذه نحوه بطرده ونفيه. ولما سمعت هذا منه قلت له إنه حر في أن يدعو أصدقائي إذا شاءوا الاستجابة له، «أما من ناحيتي فقد أجبرتني أنت والآخرون على مشاركة ديونيزيوس في مائدته وبيته وطقوسه الدينية. ولقد صدق - فيما يبدو - تلك المزاعم والافتراءات التي جاءته من كل ناحية وصورت له أنني اشتركت (350د) معك في التآمر عليه وعلى حكمه المطلق، ومع ذلك فإنه لم يأمر بقتلي، بل تهيب من الإقدام على ذلك.
14
أضف إلى هذا أنني تقدمت في السن ولم تعد لدي القدرة على مساعدة أحد في أي عمل حربي، وإن كنت مع ذلك على أتم الاستعداد لأن أضع نفسي في خدمتكما إذا أردتما أن تكونا أصدقاء وتقدما الخير لبعضكما. أما إذا أصررتم على الإيذاء «والعدوان»، فعليكم أن تبحثوا عن غيري.
15
قلت هذا وأنا أشعر بالاشمئزاز من مغامراتي في صقلية والإخفاق الذي أصبت به. غير أنهم لم يستجيبوا لي ولم يتأثروا بعروض الصلح والتوسط التي تقدمت بها؛ ولهذا جروا على أنفسهم كل المصائب التي ألمت بهم. ولو أن ديونيزيوس (350ه) رد لديون ثروته أو تصالح معه لما حدث شيء من ذلك كله - وذلك بقدر ما يسع الإنسان من قدرة على التنبؤ بمسار الأمور - فقد كان في استطاعتي أن أمنع ديون «من اللجوء إلى القوة»، وكانت لدي الإرادة الطيبة والقوة التي تمكنني من التأثير عليه. غير أن الأمور سارت في طريق آخر، فشن كلاهما الهجوم على الآخر وجلبا الشقاء والخراب على كل شيء. (351أ) وعلى الرغم من ذلك كله يمكنني القول بأن آراء ديون
16
كانت هي نفس الآراء التي يفترض في وفي أي إنسان عاقل «مستقيم» أن يعتنقها، فمثل هذا الإنسان يضع نصب عينيه عندما يتعلق الأمر بالحياة السياسية التي يسير عليها هو وأصدقاؤه أو يتعلق بوطنه - أن يصل إلى السلطة وإلى أسمى الوظائف عن طريق التفاني في خدمة الصالح العام. وليس من خدمة الصالح العام في شيء
17
أن يعمد إنسان إلى إثراء نفسه وإثراء أصدقائه
18
ومدينته عن طريق الخبث وتدبير المؤامرات؛ لأنه في هذه الحالة إنسان مجدب
19
عاجز عن التحكم في (351ب) شهواته، يقتل أصحاب الثروة ويصفهم بأنهم أعداؤه، ويصادر ممتلكاتهم ويشجع حلفاءه وأتباعه على اقتداء به حتى لا يتهمه أحد منهم بأنه هو المسئول عن فقرهم،
20
وليس من الشرف أيضا أن يمتدح إنسان من «سكان» مدينته لأنه وزع ثروة القلة على الكثرة بحجة تنفيذ القرارات الشعبية، أو أنه ضم أملاك المدن الصغيرة إلى مدينته، وذلك إذا كان على رأس مدينة كبيرة تمد (351ج) نفوذها وسلطانها على مدن أخرى أصغر منها. ولا يمكن أن يسعى ديون أو أي إنسان آخر لديه القدرة على السيطرة على نفسه إلى الاستيلاء - بمثل هذه الطريقة - على سلطة يمكن أن تجلب اللعنة الأبدية عليه وعلى عائلته، بل الأولى أن يجعل هدفه وضع دستور حقيقي وإقامة قوانين طيبة وعادلة تنفذ بغير قتل أو إعدام أو نفي
21
على الإطلاق، كان هذا هو المثل الأعلى الذي وضعه ديون لنفسه، مؤثرا تحمل الظلم على اقترافه. ومع أنه قد احتاط لنفسه «من تحمل الظلم بغير داع»، فقد سقط في نفس الوقت الذي حقق فيه هدفه (351د) من الانتصار على أعدائه. وليس القدر الذي أصابه بالأمر المستغرب؛ فقد يستبعد على رجل خير مثله - يتمتع بحظ كاف من الذكاء والاتزان - أن ينخدع تماما في طبيعة الأشرار الذين يتعامل معهم، ولكن لا يستبعد عليه أن يتعرض لنفس المصير الذي يتعرض له ملاح بارع يعلم تمام العلم أن العاصفة آتية، ومع ذلك تداهمه بقوتها وعنفها المفاجئ فتغرقه. كان هذا هو السبب في سقوط ديون، فقد كان يعرف أن الذين تسببوا في سقوطه أشرار، أما المدى (351ه) الذي وصلت إليه فظاظتهم وخستهم وجشعهم، فذلك هو الذي غاب عنه. وهكذا راح ضحية انخداعه فيهم وجلب على صقلية الحزن والشقاء اللذين لا حد لهما. (352أ) لقد قدمت النصيحة التي كان علي أن أوجهها إليكم في أعقاب الحوادث التي وصفتها. ولهذا أكتفي بما قلت. ولقد رويت قصة زيارتي الثانية لصقلية؛ لأن الحوادث الغريبة غير المتوقعة التي ارتبطت بها فرضت علي ذلك. فإذا وجد أي إنسان أن الوصف الذي قدمته يجعل هذه الحوادث أقرب إلى الفهم ويبرر الظروف التي تحدثت عنها تبريرا كافيا؛ فقد تحقق الغرض من هذا العرض على أكمل وجه.
تعليقات
• (324ب) تتضارب الآراء منذ العصور القديمة حول اسم «هيبارينوس» ومصيره، وهناك اثنان يحملان نفس الاسم، الأول هو ابن ديون، والثاني ابن ديونيزيوس الأول من زوجته «أرستو ماخيه» شقيقة ديون، وبهذا يكون الأخ غير الشقيق لديونيزيوس الثاني. والأرجح أن يكون المقصود من هذه العبارة ومن المقارنة بين الأعمار هو ابن ديون لا ابن ديونيزيوس الأول الذي ورد ذكره في الرسالة الثامنة، واشترك مع أتباع ديون وحلفائه في إقصاء كاليبوس عن الحكم الذي استولى عليه في سنة 354ق.م بعد اغتيال ديون، «وكاليبوس هذا هو صديق ديون الذي صحبه من أثينا ثم غدر به، وهو الذي يتبرأ أفلاطون من خيانته ويحاول أن يبرئ منها مدينته». ومن العلماء من يؤكد من ناحية أخرى أن هيبارينوس المقصود لا يمكن أن يكون ابن ديون، وذلك استنادا إلى ما يقوله بلوتارك في تاريخ (ديون 55) من أنه مات قبل أبيه. ويبدو أن هذا الاضطراب في تحديد شخصيته كان إحدى الحجج التي اعتمد عليها المتشككون في أصالة الرسالتين السابعة والثامنة، على الرغم من تسليم جمهور العلماء بصحة نسبتهما إلى أفلاطون، وذلك منذ أن قدم العالم فيلاموفيتس (1848-1931م) الأدلة الكافية على أصالة الرسالة السابعة بوجه خاص. • (324ج) ولد أفلاطون في سنة 437ق.م وتمت الثورة التي تسلم بها الثلاثون مقاليد السلطة في صيف سنة 404ق.م والغريب في وصف هذه الثورة هو تقديم سلطتي الأمن والإدارة - اللتين عهد بهما إلى أحد عشر رجلا في أثينا وعشرة رجال في بيرايوس - على السلطة العليا التي كانت في يد الثلاثين. والأغرب من ذلك نسبة الرقابة على الأسواق إلى الأحد عشر الذين لم تكن هذه الرقابة تمثل مهامهم الحقيقية. ومع ذلك فربما ينطبق هذا على العشرة في بيرايوس أكثر مما ينطبق على الأحد عشر. • (324د) كلف الثلاثون سقراط وأربعة آخرين بإلقاء القبض على شخص من جزيرة سالاميس يدعى «ليون»، ولكن سقراط تجاهل الأمر. وقد وردت هذه الحادثة في (الدفاع، 32ج) حيث نجد أفلاطون يذكر على لسان سقراط «أنهم - أي الثلاثين - كلفوا عددا كبيرا من الناس بمثل هذه المهمة وذلك لإلقاء الذنب على أكبر عدد ممكن». • (326ب): يعبر أفلاطون في الجمهورية (373ج-د، 499د) عن رأيه المعروف بهذه الصيغة الشهيرة: «إذا لم يصبح الفلاسفة ملوكا على المدن أو لم يبدأ أولئك الذين يسمون الآن بالملوك والحكام في التفلسف الحقيقي ...»
ولكن هل كان أفلاطون يؤمن حقا عندما كتب هذه العبارة بإمكان تحقيق هذا المثل الأعلى؟ وهل كان يتصور إمكان الجمع بين الحاكم والفيلسوف في شخص واحد كما تخيل ديون عندما كتب إليه يتعجل زيارته لاغتنام الفرصة النادرة بعد تولي ديونيزيوس الثاني زمام الحكم، أم اقتصرت كل جهوده مع الملك الجديد على إقناعه بإصلاح الدستور والتمسك بسيادة القانون كما عبر عن ذلك في محاورته المتأخرة «السياسي»؟ يبدو على كل حال أن أفلاطون كان يتصور عند زيارته الأولى لصقلية أن الحكم الدكتاتوري المطلق يمكن أن يصلح أساسا لنظام الحكم العادل، نظرا لما يملكه المستبد «العادل!» من قدرة على الإصلاح والتغيير. ولعل صورة ديونيزيوس كانت في باله عندما تصور هذا وعبر عنه، وذلك قبل أن تثبت له التجربة فداحة خطئه (راجع كذلك: «القوانين»، 799 وما بعدها). أما عن زيارته الأولى لإيطاليا فقد تعرف فيها سنة 388ق.م على صديقه أرخيتاس حاكم تارنت - في جنوب إيطاليا - وفيلسوفها ورأس المدرسة الفيثاغورية فيها. وقد كان لهذا الملك الفيلسوف أثر كبير على التجارب التي مر بها أفلاطون في صقلية، وهو الذي توسط لدى ديونيزيوس الثاني لإنقاذه من الأسر ومن خطر الموت المحقق (راجع أيضا في هذه الرسالة، 388ج، 350ب)، وأما عن لذات الطعام والشراب السيراقوزية، فيبدو أنها كانت مضرب الأمثال في بلاد الإغريق. ويلاحظ أن أفلاطون يذكرها أيضا في محاورتي الجمهورية (4204) وجورجياس (518ب). • (326ج) يقول أفلاطون إنه يقدم نصيحته للمرة الثانية، وربما كانت المرة الأولى عندما حاول التأثير على ديونيزيوس الثاني. وهو يذكر في هذه الرسالة نفسها (324د) أنه قدم نفس النصيحة في ثلاث مناسبات مختلفة، لديون أولا، ثم لديونيزيوس الثاني، وأخيرا هذه النصيحة التي يقدمها في الرسالة السابعة لأصدقاء ديون وأتباعه. (327ج) لم يقف أفلاطون وديون وحدهما في محاولة إقامة نظام الحكم العادل الذي يسعد أهل صقلية ويقر بينهم الخير والفضيلة. فقد استطاع ديون أن يكسب إلى صفه عددا من أفراد البيت الحاكم نفسه وهم إخوة ديونيزيوس الثاني غير الأشقاء (من أبيه ديونيزيوس الأول وزوجته أخت ديون)، وفي مقدمتهم هيبارينوس الذي سبق ذكره. • (329أ): «لو كنت أعيش في ميجارا لأسرعت بمساعدتي»؛ لأن مدينة ميجارا التي تقع على خليج كورنثة شديدة القرب من أثينا. • (331ج) يتكرر هذا المعنى في محاورة كريتون، 51ج «أقريطون» التي نجد فيها هذه العبارة: «لا يصح أن يفرض المرء شيئا بالإكراه على أبيه أو أمه وأقل من ذلك أن يفرضه على بلده.» وأفلاطون ينصح للفيلسوف بأن يلتزم الهدوء ولا يرفع صوته إذا لم تسمح الظروف بأن يسمعه أحد، كما ينصحه بالبعد عن استخدام العنف لتغيير دستور الحكم إذا كان سيؤدي إلى تعرضه هو أو غيره من المواطنين للموت أو النفي. ونجد هذه النصيحة نفسها في محاورة الجمهورية (496) فينبغي على الفيلسوف أن يلزم السكينة والهدوء «كرجل يأوي إلى جدار يحميه من العاصفة ...» • (332أ) لا تفهم هذه العبارة إلا إذا وازنا بين وضع صقلية في عهد ديونيزيوس الأول وبين وضع أثينا التي كانت في ظروف أسوأ منها. فالأثينيون يحتلون مدنا آهلة بالسكان لا مدنا خربها البرابرة، مما يزيد من صعوبة حكمها والسيطرة عليها. أما داريوس فقد كانت ظروفه كذلك أصعب من ظروف ديونيزيوس. فقد عجز هذا عن حكم تلك المدن على الرغم من استناده إلى إخوته الأصغر منه، بينما نجح داريوس الذي اعتمد على تأييد المشتركين معه في قلب «الميدي» على الرغم من أنه لم يقم بتربيتهم ولم تربطه بهم علاقة الدم. ولو رجعنا إلى تاريخ (هيرودوت، 3، 61 وما بعدها) لوجدنا أن داريوس قضى على أحد الحكام الميديين الذي كان يدعى «سمبرديس» بمساعدة ستة من حلفائه وبذلك أصبح ملكا على بلاد الفرس، ويذكر هيرودوت أن داريوس قسم مملكته إلى عشرين ولاية، بينما يؤكد نقش وجد في مدينة «بيرسيبوليس» أنه قسمها إلى أربعة وعشرين ولاية.
وقد اتخذ بعض الباحثين من هذه الاختلافات التاريخية حجة على عدم أصالة الرسالة السابعة ، ولكننا نجد أفلاطون يذكر في القوانين (695ج) عدد الولايات التي يذكرها في هذا الموضع من الرسالة؛ إذ يقول إن داريوس قسم ملكه إلى سبع ولايات، كما يصف الحاكم الميدي بنفس التسمية التي يصفها بها هنا وهي الخصي. وغني عن الذكر أن الفيلسوف ليس مؤرخا دقيقا ولا يقلل من شأنه غياب بعض الحقائق التاريخية عنه، كما لا ينهض دليلا على زيف الرسالة التي نحن بصددها. • (332ب) المقصود بالبرابرة - في كلام اليونانيين بوجه عام - هم الفرس، وقد دامت الإمبراطورية الأثينية ما يقرب من سبعين عاما، وانتهت سنة 404ق.م. • (333أ) جيلون هو طاغية سيراقوزة الذي هزم القرطاجيين في معركة «هيميرا» سنة 480 ق.م وفرض عليهم الإتاوة. ويبدو أن تعبير أفلاطون عن خضوعهم لنيره فيه نوع من المبالغة، كما أن الكلام عن الإتاوة التي فرضها القرطاجيون على ديونيزيوس لم يرد إلا في هذه الرسالة. • (333ب) كانت المرة الأولى عندما حرر ديون المدينة من طغيان ديونيزيوس الثاني بعد رجوعه من بلاد الإغريق. أما في المرة الثانية فقد استدعي من مدينة ليونيتيني ليحميها من نيسيوس أحد قواد ديونيزيوس. • (333ه) الأخوان اللذان صاحبا ديون عند عودته إلى صقلية هما كاليبوس وفيلوستراتوس، (راجع: «تاريخ بلوتارك»، الفصل الخاص عن ديون ، 54)، ويلاحظ أن الأول يرد ذكره أكثر من مرة، وهو الذي قام باغتيال ديون أو على الأقل حمى قاتليه وتستر عليهم، وتبرؤ أفلاطون من القتلة ومن نسبتهم إلى وطنه أثينا تفيد اشتراك الأخوين في الجريمة ... • (336ب) هيرون هو شقيق جيلون، الذي سبق ذكره في تعليق سابق (333أ) وخليفته في حكم سيراقوزة. • (337ج) يرجح بعض الباحثين أن تكون هذه العبارة إضافة متأخرة إلى النص، كما يبدو أن هذا الرقم الكبير لا يتناسب مع عدد السكان. فنحن نجد في الرسالة الثامنة أن أعضاء هذه «اللجنة» المنتخبة يترك للاتفاق عليه، كما أن القوانين (704ج) تحدد عددهم بعشرة أعضاء فحسب. • (342ب) تذكر القوانين (895د) ثلاثة أشياء تنطوي عليها المعرفة بأي موضوع، وهي الموضوع نفسه وتعريفه، واسمه. ولما كانت «القوانين» تناقش في ذلك الموضع حقيقة النفس، لم يرد فيه ذكر «التمثل» أو النسخة المذكورة هنا لعدم ملاءمته له كما هو الحال هنا؛ حيث اختار أفلاطون مثال الدائرة الذي يمكن أن يمثل له بدائرة مرسومة، وقد أخذ استعمال أفلاطون لفعل الأمر بضمير المخاطب «خذ لذلك مثلا ...» إلخ، على أنه إضافة كاتب أراد أن يبين علمه بنظرية المثل، فأقحم على النص شاهدا ورد في سياق أفلاطوني آخر. وعلى الرغم من أن كل التفاصيل الواردة في الرسالة السابعة عن نظرية المثل أو غيرها من نظريات أفلاطون وآرائه موجودة ومثبتة بتفاصيلها في مواضع أخرى من محاوراته، فلا شيء يمنع من تكرارها في هذه الرسالة التي يحاول فيها أن يدافع عن فلسفته ويبررها في وجه المفترين عليه، ولا ضرورة أيضا لتصور إقحام هذا الجزء العسير بيد كاتب متأخر. • (343أ) يتكرر سوء الظن بالكلمات والحروف الجامدة وعجزها عن احتواء الأفكار والأحاديث الحية في محاورة فايدروس (275د) إذ يبدأ سقراط - في حديثه العذب مع فايدروس - في رواية أسطورة مصرية قديمة تحكي عن «توت» - كاتب الآلهة - الذي ينسب إليه اختراع الكتابة والحساب والأرقام والهندسة والفلك، ويذهب «توت» أو تحوت ليعرض اختراعاته على رب الأرباب آمون، مؤكدا أن أهمها هو اختراع الكتابة الذي يزعم أنه سيقوي ذاكرة المصريين. ويزيد من ذكائهم وحكمتهم! ...
غير أن آمون يصدمه بقوله: إن مكتشف فن من الفنون، يا عزيزي توت، ليس هو أفضل حكم على نفعه أو ضرره للذين سيمارسونه، وكذلك الشأن في هذه الحالة. فغرامك بالكتابة، وأنت أبوها، قد جعلك تنسب إليها عكس وظيفتها الحقيقية تماما. فالذين سيتعلمونها سيكفون عن استعمال ذاكرتهم ويصابون بالنسيان، وسيعتمدون على الكتابة لتذكر الأشياء عن طريق العلامات الخارجية بدلا من الاعتماد على مصادرهم الباطنة. إن ما اكتشفته يساعد الحفظ ولا يساعد الذاكرة. أما عن الحكمة فسيشتهر تلاميذك بها دون أن يكون لهم في الواقع منها نصيب، سيتلقون قدرا من المعلومات بغير علم صحيح، وسيظن الناس نتيجة لذلك أنهم على حظ كبير من العلم في الوقت الذي يكون فيه معظمهم جاهلين جهلا تاما ؛ لأنهم سيمتلئون بالحكم الزائفة بدلا من الحكمة الحقيقية، وسيصبحون عبئا على المجتمع ...»
ويدلل أفلاطون - على لسان سقراط - على رأيه عن تقدم الحديث الحي «المنقوش على صفحة الروح!» على الكلمة المكتوبة بأن الشيء يطوف بمجرد تدوينه بين الذين يفهمون موضوعه والذين لا يكترثون به؛ إذ لا تستطيع الكتابة ولا الكاتب أن يميز القراء الذين لا يناسبونه، وهي نفس الفكرة التي تتكرر في هذه الرسالة (341ه)، وإذا أسيئت معاملتها أو أسيء استخدامها فهي في حاجة دائمة إلى «أبيها» الذي يهب لنجدتها؛ لأنها عاجزة عن الدفاع عن نفسها!
وليس كذلك الأمر مع الحديث الحي؛ لأنه يعرف كيف يدافع عن نفسه، كما يمكنه أن يفرق بين أولئك الذين ينبغي أن يوجه إليهم وبين الذين ينبغي عليه أن يلزم الصمت في حضورهم ... ولهذا كانت الكتابة من الحديث الحي بمثابة الظل من الأصل. ولهذا أيضا كان صاحب المعرفة الأصلية بما هو حق وخير وجمال أشبه بالفلاح الجاد الذي يغرس بذوره في التربة المناسبة «لا في حدائق أدونيس أو الأوعية الضحلة التي كان الناس في الاحتفال بذكرى هذا البطل الجميل القصير العمر يغرسون فيها البذور لتزدهر سريعا قبل أن تمد جذورها في التربة»، ثم يفرح بجمع الحصاد بعد ثمانية شهور من غرسها. ولهذا لن يفكر صاحب علم أو معرفة حقة في اللجوء للقلم للكتابة على الماء أو غرس بذور الحق والخير والجمال في السائل الأسود الذي يسمى بالحبر ... ربما يسلي نفسه بتضييع الوقت في الكتابة والتدوين ليغرس «حدائق الأدب ...» ويحمي نفسه ومن يجيء بعده من عوادي الزمن حين يهاجم النسيان الشيخوخة ويتلف ملكة الحفظ والتذكر. فإذا سأل القارئ: ولماذا كتب أفلاطون كل ما كتب من محاورات ما دام هذا هو رأيه في الكتابة؟ هل نوجه إليه اللوم نفسه الذي وجهه إلى «ليزياس» في هذه المحاورة لأنه كان يدون أحاديثه وخطبه، كما وجهه إلى كل كاتب في الماضي أو المستقبل فكر - أو سيفكر - أن الحقيقة يمكن أن توجد في شيء مكتوب؛ لو سأل القارئ هذا السؤال لكان الجواب عليه هو نفس الجواب الذي قدمه منذ قليل. لقد كانت الكتابة في رأيه مجرد «تسلية» و«لعب»، كما كانت عونا لذاكرة الأحياء - في عصره أو بعد موته - على تذكر الحقيقة ... أما الحقيقة نفسها فلا بد أنها كانت «شرارة حية» تنقدح وتنبض في حواره الحي السمح مع تلاميذه وزواره في «الأكاديمية»، أو في حوار معلمه سقراط مع تلاميذه سواء في حياته وهو يجوب شوارع أثينا «حافي القدمين» أو وهو يتحدث بعد موته في محاورات أفلاطون ... ولا يصح أن ننسى أبدا أنها «محاورات» وليست بحوثا ولا رسائل عن الحقيقة، وأنه كان صادقا عندما قال في هذه الرسالة إنه لم يفكر أبدا ولا ينبغي كذلك لأي إنسان جاد أن يفكر في تدوين الحقيقة أو إضفاء ثياب الكلمات الجامدة عليها ... والدليل على هذا أنه لم يستطع أن يتكلم مثلا عن الخير الأسمى إلا عن طريق تشبيهه بالشمس، وأنه يردد كثيرا في الجمهورية (506 وما بعدها) وغيرها أن الفهم الكامل لمثال الخير لا يمكن توصيله للغير؛ لأنه أقرب إلى الرؤية أو التجربة الصوفية التي لا يمكن نقلها للآخرين ... والدليل على ذلك - أخيرا - أن أرسطو عند حديثه عن آراء أستاذه التي لم تكتب (الطبيعة 259ب، 15) يذكر أن نظرية المثل اكتسبت صورة رياضية شديدة التعقيد، وأنها تطورت مع أحاديثه مع تلاميذه في الأكاديمية (وبخاصة مع أرسطو نفسه!) تطورا تجاوز كل ما نعرفه عنها من المحاورات ... • (344ب) عن المواهب الطبيعية التي يجب أن يتحلى بها الفيلسوف، راجع كذلك (الجمهورية، 484 وما بعدها)، وكذلك (486د). • (345أ) هذا ما يعلمه الله، كما يقول أهل «ثيبة». ويرد نفس التعبير في محاورة «فايدروس» (62أ) على لسان كييس، أحد سكان ثيبة أيضا. ويبدو أن أفلاطون قد تعلم هذا المثل بلهجته الشعبية من بعض تلاميذه الذين ينحدر أصلهم من تلك المدينة. • (346ب) توحي هذه الفترة - لأول مرة في الرسالة - بأن أفلاطون حضر إلى سيراقوزة في صحبة بعض أقربائه الذين يشير إليهم ديونيزيوس في حديثه معه. ولعل أول من يخطر منهم على البال هو ابن شقيقته «سبويسيبوس » الذي خلفه في رئاسة الأكاديمية. • (348ب) كان هيراكليدس قائدا في جيش ديونيزيوس، وبعد فراره انضم إلى ديون الذي كان مقيما في بلاد اليونان، ورجع إلى صقلية على رأس قوة عسكرية بعد استيلاء ديون على سيراقوزة. ويروى أنه اشترك - بعد ذلك - في المؤامرات التي دبرت لديون وانتهت نهاية فاجعة باغتيالهما (راجع في ذلك الفصل الخاص عن ديون في «تاريخ بلوتارك»)، أما تيودوتويس فكان عم هيراكليدس. (تم بحمد الله وتوفيقه.)
نامعلوم صفحہ