منادلوجیا
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
اصناف
مات ليبنتز في هانوفر في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1716م بعد أن بلغ السبعين. مرض قبل موته بالنقرس، وامتلأت نفسه مرارة من جحود الأصدقاء والمعارف والزملاء، وبقيت معظم أعماله الفلسفية والعلمية شذرات ناقصة، وأخفقت أغلب مشروعاته السياسية والدينية. وكان أمير هانوفر - الذي اعتلى عرش إنجلترا قبل وفاة ليبنتز بسنتين وسمى نفسه جورج الأول - قد تخلى قبل ذلك عنه. وكانت صديقتاه وراعيتاه النبيلتان - الأميرة صوفي أم هذا الملك وشقيقته الملكة صوفي شارلوته - قد اختفتا من مسرح حياته التي لم تعد تحتمل بعدهما، وفكر في أيامه الأخيرة أن يغادر هانوفر، ولكن صحته كانت قد تحطمت. وعندما مات لم يمش في جنازته أحد من رجال الدين الذين اتهموه قبل ذلك بمقاطعة الكنيسة، ولقبوه «المؤمن بلا شيء»، ولا من رجال البلاط الذي وهبه أربعين سنة من عمره. وتجاهلت الجمعية الملكية البريطانية نبأ وفاته، وأهملته أكاديمية برلين التي أسسها، وكان أول رئيس لها. لم يشيعه إلى قبره سوى تابعه وسكرتيره الأمين اكهارت. وسار نعشه، كما قال أحد شهود العيان كأنه نعش لص أو قاطع طريق، وكأنه لم يكن زينة بلده. ولولا الخطبة البليغة التي نعاه بها فونتينيل - ابن أخ الشاعر المسرحي كورني - بعد موته بسنة كاملة أمام أكاديمية العلوم في باريس لأصابنا اليأس المطبق من قسوة الإنسان.
ولكن أعماله بقيت على الرغم من سوء الحظ الذي صادفه في أواخر حياته. وستضمن له المجد والخلود، إن كان في هذا العالم الشقي المظلم الذي أسرف في حسن الظن به شيء اسمه الخلود!
ثانيا: فلسفة ليبنتز (أ) العالم كل متجانس
ترجع فكرة «الجوهر» إلى أرسطو الذي ندين له بعدد ضخم من أفكارنا ومصطلحاتنا الفلسفية والجوهر عنده هو الماهية التي يقوم عليها وجود كائن فردي معين، هذه الماهية تظل ثابتة وإن تغيرت كل الخصائص الخارجية التي تميز هذا الكائن من حجم وكيفيات وعلاقات ... إلخ. وقد دارت مناقشات عديدة حول فكرة الجوهر الأرسطية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ووقف منها الفلاسفة بين مؤيد ومعارض. أصر التجريبيون على رفضها، وحاولوا أن يلغوها من الفلسفة إلغاء (فهيوم مثلا يقول إنها وهم، وأن الجوهر ليس إلا مجموع صفاته). ودافع عنها المدرسيون؛ لأنها كانت تمثل نقطة أساسية في مذهبهم الفلسفي، وعارضها العقليون مثل ديكارت وإسبينوزا، ولكنهم تمثلوها في صورة أخرى معدلة (فبينما يقول ديكارت بجوهرين مخلوقين هما الفكر والامتداد، إلى جانب الجوهر المطلق أو الله، يقول إسبينوزا بجوهر واحد لا متناه يمكن أن نسميه الله أو الطبيعة).
وقد احتفظ ليبنتز بفكرة الجوهر، بل جعل منها محور فلسفته، وجمع فيها بين عناصر قديمة من التراث الفلسفي إلى جانب أفكاره الخاصة؛ بحيث انتهى بها إلى تصور أصيل وجديد، واختار لها كذلك اصطلاحا جديدا هو «المونادة» لم يستخدمه إلا منذ سنة 1697م.
ويبدأ ليبنتز بالأجسام الطبيعية، فهذه الأجسام تقبل القسمة، وهي لهذا مركبة، أو هي على حد تعبيره الذي لم يوفق فيه «جواهر مركبة». ولما كانت هناك جواهر مركبة، فلا بد في رأيه أن تكون هناك جواهر بسيطة، هذه الجواهر البسيطة هي التي يسميها المونادات، وهي «الذرات الحقيقية التي تتكون منها الطبيعة».
ولكن وصف المونادات بأنها ذرات لا يخلو من إساءة الفهم؛ لأنها شيء مختلف عما نعرفه اليوم عن الذرات؛ ذلك أن ليبنتز لا يقصد منها أن تكون هي العناصر الطبيعية النهائية التي تنحل إليها المادة؛ ومن ثم فليست هي الذرات ولا الجسيمات أو الجزئيات الأولية التي تتكون منها الذرة، بل إنه لن يتردد في وصف الذرات والجزئيات التي تتكلم عنها الفيزياء الحديثة بأنها «جواهر مركبة»؛ لأن كل الأجسام في نظره تقبل القسمة مهما كانت صغيرة، وعملية القسمة هذه يمكن أن تمضي إلى ما لا نهاية. ولن تؤدي مناهج الفيزياء الحديثة إلى اكتشاف المونادة التي يتصورها؛ لأن المونادة لا يمكن تصورها إلا عن طريق الفكر، ولهذا فهي كما يدل اسمها بسيطة، ومعنى هذا في رأيه أنها لا تقبل القسمة، وليست مادية ولا شكل لها، وهي كذلك لا تتكون ولا تفنى، ومثل هذا الجوهر لا يمكن أن يكون موضوعا من موضوعات العلم الطبيعي الحديث.
وإذا كانت مناهج العلم عاجزة عن الوصول إلى فكرة المونادة، فهل يمكن أن تطبق عليها مناهج الرياضة؟ يحتمل أن تكون بحوث ليبنتز عن الكميات المتناهية في الصغر داخل حساب اللامتناهي الذي اكتشفه قد أثرت على آرائه الميتافيزيقية، ولكن لا ينبغي أن نبالغ في تقدير هذا الأثر، فالحقيقة أن المونادات ليست كميات متناهية في الصغر، بل ليست كميات على الإطلاق. وفكرة المونادة ليست فكرة رياضية؛ لأن ليبنتز يعترض صراحة على وصف المونادات بأنها نقط رياضية. لقد درس الفلسفة الفيثاغورية بغير شك، ولكنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه فيثاغورس وأتباعه من تفسير ماهية الواقع تفسيرا رياضيا؛ فالحقائق الرياضية في رأيه تفتقر إلى كل الخصائص الدينامية. إنها أفكار وليست قوى أو طاقات. والمونادات في حقيقتها مراكز حية للقوة أو الطاقة. وقد عبر عن هذه الفكرة الأساسية في تعريفه المشهور للجوهر، وهو الذي نطالعه في أول عبارة استهل بها كتابه مبادئ الطبيعة والفضل الإلهي: «إن الجوهر كائن قادر على الفعل.»
المونادات إذن مبادئ دينامية تدخل في الأجسام الواقعية (أو التجريبية) كما تنتج عنها هذه الأجسام. ويعتقد ليبنتز أن فكرة المونادة تقدم لنا المفتاح الذي نفسر به وضع النباتات والحيوانات والكائنات البشرية ومكانها من العالم الجسمي في مجموعه؛ ففي كل كائن حي فرد توجد مونادة رئيسية تتحكم في سائر المونادات التي يتألف منها. ويطلق ليبنتز على هذه المونادة الرئيسية اسما استعاره من المصطلح الأرسطي وهو «الأنتليخيا». فالمونادات «أنتليخيات»، ولكل نبات «أنتليخياه». والأنتيليخيا الموجودة في الحيوان تسمى «النفس»، والتي توجد في الإنسان تدعى «العقل».
وواضح أن فلسفة ليبنتز عن المونادات تحتفظ بالفكرة القديمة عن تسلسل الكون، أو تدرجه إلى طبقات يرتفع بعضها فوق بعض، فمونادات الأجسام تحتل أدنى طبقة، تعلوها المونادات التي تتحكم في النباتات، ثم تأتي مونادات الحيوانات التي ترتفع فوقها، إلى أن نبلغ المونادات التي تتحكم في الكائنات البشرية، وتتجاوز سائر الطبقات. ثم نجد أرواحا أسمى من الأرواح البشرية تتوسط بين الإنسان والله، وأخيرا نجد المونادة المركزية «المطلقة» الكاملة التي تعلو فوق سلسلة المونادات الفانية؛ ألا وهي الله.
نامعلوم صفحہ