1
ومن ذلك الحين بلغ في الأبهة والعظمة والكبرياء مبلغا كان يقابله من الناحية الأخرى اتضاع ملوك المسلمين واستكانتهم إذ لم يبق منهم أحد إلا بادر بإيفاد الوفود إليه يهنئونه ويحملون إليه الطرف والهدايا، وصرحوا له بأنهم يكونون داخل حدود سلطانه كجباة للأموال لتحصيل الضرائب ودفع الجزى، وكان الأذفونش - وهو ملك ملوك الديانتين الإسلامية والنصرانية - لا يعيرهم أدنى اهتمام لهوانهم عليه، حتى لقد كان يعلن الاستهانة بهم، ولا يخفي احتقاره لهم، ومن ذلك أن حسام الدولة ملك البرزاليين وفد عليه ليقدم إليه بنفسه هدية فاخرة، وصادف في اللحظة التي دخل عليه فيها أن كان أمامه قرد يرقصه رائضه لتسليته بتنزيته وألاعيبه، فقال له الأذفونش بلهجة هي غاية في الزراية عليه والسخرية منه: «دونك هذا القرد فخذه من هديتك عوضا.» وكان الأمير المسلم بعيدا عن الإحساس بهذه الإهانة، ورأى في القرد لهذه المناسبة ذريعة إلى اكتساب الصداقة، ودليلا على أن الأذفونش لا يريد أخذ بلاده.
وبعد طليطلة جاء دور بلنسية وكان ابنا عبد العزيز
2
يتنازعان الملك، وكل منهما له شيعة وأنصار، وهناك فريق ثالث كان يعمل على إعطاء بلنسية لملك سرقسطة، وفريق رابع يريد أن تعطى للقادر، وكان الفوز حليف الفريق الأخير دون هؤلاء جميعا، ولم يكن القادر حائزا على الصفات المطلوبة، وكان خلفه جيش قشتالي بقيادة أحد رجال الأذفونش لا يعوزه إلا أن يقوم أهل بلنسية بتقديم الطعام لجنوده، مما يكلفهم في اليوم الواحد ست مئة قطعة ذهبية نقدا، وحاولوا عبثا أن يقنعوا القادر بأنه ليس في حاجة إلى هذا الجيش ما داموا يشدون أزره ويقومون بنصرته بكل أمانة. •••
ولكن القادر لم يكن من السذاجة بحيث يثق بهذه الوعود، وهو يعلم أنهم يمقتونه ويبغضونه، وأن الأحزاب القديمة لم تنس بعد أمانيها، ولهذا عول على إبقاء الجيش القشتالي، ولكي يقوم بتوفير نفقات هذا الجيش أثقل كاهل المدينة، والقسم الذي تقع فيه بضريبة فوق العادة، وأخذ من النبلاء والعظماء مبالغ طائلة، وعلى الرغم من أعمال الاضطهاد والإرهاق الفظيعة جاءه قائد الجيش القشتالي، وطالبه - تحت تأثير ضغط شديد - أن يعطيه المتأخر من أعطيات الجند، ولم يكن في استطاعته أن يقوم بتحقيق هذا الطلب، فاقترح حينئذ أن يظل القشتاليون مقيمين داخل حدود المملكة في بسيط من الأرض يقطعه لهم، فقبلوا ذلك، وأخذوا يزرعون ما أقطعه لهم من هذه الأراضي الواسعة بواسطة العبيد، ثم دأبوا بعد ذلك على الغارة على البلاد المجاورة، واكتفوا بالغزو والسلب عن الزراعة واستنبات الأرض، وازداد عدد جنودهم بمن انضم إليهم من شذاذ العرب وحثالتهم، وبمن انضوى تحت لوائهم من جماعات الأرقاء والفسدة، ومعتادي الإجرام، وارتد الكثير منهم عن دينه، واعتنقوا الدين المسيحي، ولم يمض على هذه العصابات وقت طويل حتى اشتهرت بالفظاعة والقسوة شهرة تبعث على الأسف والحزن، فمن فظاعة هذه العصابات أنهم كانوا يقتلون الرجال، ويعتدون على أعراض النساء، وكثيرا ما كانوا يبيعون الأسير المسلم برغيف من الخبز، أو بجرعة من النبيذ، أو بشواء من السمك، وكانوا يمثلون بالأسير الذي لا يستطيع أن يفتدي نفسه بالمال تمثيلا فظيعا؛ فربما سلوا لسانه أو سملوا عينيه، أو أطلقوا عليه الكلاب الضارية فمزقت جسمه.
وكانت بلنسية في الحقيقة تحت سلطان ونفوذ الأذفونش ولم يكن للقادر سوى أن يحمل لقب ملك، مع أن قسما كبيرا من أرض المملكة كان ملكا للقشتاليين، وكان ضم هذه المملكة إلى ممالكه رهن كلمة واحدة ينطق بها فمه.
ويظهر أن سرقسطة أيضا أصبحت على شفا التسليم، فإن الإمبراطور حاصر هذه المدينة وأقسم ليستولين عليها.
وكان في الطرف الآخر من إسبانيا قائد من قواد الأذفونش اسمه «غرسية» مقيم في حصن لا يبعد كثيرا عن «لورقة» وهو يواصل غاراته على مملكة المرية ولم يغفل غزو غرناطة أيضا، بدليل زحف عسكر القشتاليين في ربيع عام (1085) حتى أصبحوا على بعد ميل من شرقي غرناطة وقد أجروا معارك مع المسلمين هناك، وأيا كان ذلك فإن الخطر كان عظيما، والبلاء كان محيقا، والقوة المعنوية عند المسلمين كانت تلاشت وذهبت، ولا يمكن أن يتكافئوا مع المسيحيين حتى ولا بنسبة خمسة من المسلمين إلى واحد منهم، ومن أمثلة ذلك أن كتيبة من عسكر المرية مؤلفة من أربع مئة جندي من صفوة الجند، ولوا الأدبار أمام ثمانين جنديا من جنود القشتاليين.
ومما لا ريب فيه أن عرب إسبانيا لو تركوا وشأنهم - مع ما وصلوا إليه من التفكك والضعف - لدار أمرهم بين أن يختاروا أحد أمرين: إما الخضوع للإمبراطور خضوعا يفقدون به كل شيء ، وإما الهجرة من البلاد طوائف وجماعات، وكان الرأي السائد في الواقع الهجرة من البلاد فرارا بالشرف والعرض والدين، وقد حرض على ذلك كثير من شعرائهم ونظموا القصائد في حض الناس على مغادرة البلاد وتحذيرهم أخطار البقاء، وما يعرضهم له من الهلاك الذي لا يرضاه لنفسه عاقل حصيف.
نامعلوم صفحہ