ثم مضى المعتمد في حياة الترف والمرح والسرور، لا يصرف في مهام الدولة إلا القليل من وقته، وقد كان يقول - في بعض شعره - ما معناه: «إن الإنسان إذا غالط نفسه، وأراد أن يكون عاقلا فلن يكونه.»
وكان السماط الممدود، والولائم الكثيرة تستنفدان كثيرا من وقته وماله، وكان يصرف ما بقي من وقته داخل قصره مع القيان، والغيد الحسان، وهذا ما كان يجعله دائما يظهر بمظهر أهل الظرف والخلاعة والعشق، وليس معنى هذا أنه زهد في حب اعتماد فقد كان على العكس من ذلك مفتونا بها مدلها بحبها.
ولكن تبعا للقانون الغريب الذي يخضع له الحب في البيئات الإسلامية يستطيع الرجل - إذا أراد ألا يرمى بالخيانة عند حظيته - أن يغضي لهذا الغرض عن بعض ميوله الغرامية، وأن يتصل بعشيقاته الفينة بعد الفينة، دون أن تجد ما تقوله أو توجه إليه فيه لوما، وهي مع هذا موقنة بأنها وحدها الحظية عند زوجها المهيمنة على قلبه.
وقد كانت زوجه الرومية المحبوبة الحسناء فاتنة بديعة، وكان إذا شرب معها وجد للنبيذ رائحة ونكهة لذيذة لم تجر العادة بها مع غيرها.
وكانت «لونان» تجلس إليه إذا فرغ من مجالس لهوه، وتفرغ لمطالعة أشعار المتقدمين أو أراد أن يقرض هو شعرا، فإذا أرسلت الشمس أشعتها من النافذة، قامت لتحول بينه وبين الشمس لعلمها - كما يقول الملك - «إنه لا يكسف الشمس من بين الكواكب غير القمر.»
ولما كانت هذه اللؤلؤة الثمينة، والحسناء الفريدة، صعبة المراس، شرسة الطبع، فقد كانت كثيرا ما تغضب ويتحمل المعتمد كل عناء في تسكين غضبها بتحقيق ما يوافق هواها، ويتفق مع مرامها، ومن ذلك أنها غضبت عليه مرة، فكتب يعتذر إليها، فردت عليه ردا حسنا ولكنها لم تضع اسمها في صدر الكتاب، كما يقضي به رسم الكتابة، فأسف المعتمد لذلك، وحكم بأنها لم تصفح بعد، وإلا لكانت بدأت الكتاب باسمها، طبقا لما هو معروف في العادة، وقال: إنها تعرف أنني أعبد اسمها، وأتعشق كل حرف من حروفه، فما بالها لم تصدر به جوابها إلي؟ إنها إذن لا تزال غاضبة علي، وقد قدرت في نفسها أنه سيقبل الاسم بمجرد رؤيته على الطرس، فاستحسنت ألا يراه؛ لأن في تقبيله شفاءه من سقم ألم به، وما أظرف أن تكون هذه الشيطانة الساحرة والغادة المحبوبة هي سبب الداء والدواء معا، فقد توجه الملك إلى مولاه بالدعاء، يرجوه أن يتفضل عليه بنعمة يعدها من أسبغ النعم، وهي أن يطيل سقمه، حتى يرى دائما عند سريره هذه الظبية الموردة الخدين، الأرجوانية الشفتين. (وبعد) فقد يكون مخدوعا من يخيل إليه أن المعتمد قد أغمض عينيه عن إتمام أعمال أبيه وجده؛ لأنه وإن لم يكن عنده من الأطماع ما عندهما، فقد عمل هو على الأقل ما حاولا عبثا أن يعملاه ففشلا، فمن ذلك أنه في السنة الثانية من حكمه، ضم قرطبة إلى مملكته، ولا ننكر أن والده هو الذي مهد له الطريق، وأن الظروف قد ساعدته كثيرا، ففي سنة (1064) أي فيما قبل ذلك بست سنوات تنازل رئيس الجمهورية أبو الوليد بن جهور - لشيخوخته - عن الرياسة لولديه عبد الرحمن وعبد الملك وعهد لولده الأكبر بكل ما يتعلق بالشئون المالية والإدارية، وعهد إلى ولده الثاني - الذي كان يعده ضعيفا - بالقيادة العامة، وقد نهج كل شيء منهجا حسنا طوال وزارة الوزير الماهر ابن السقا، فقد كان هذا الوزير رجل المملكة لهذا العهد، وكانت شخصيته تبعث الرهبة والاحترام في نفوس جميع أعداء الجمهورية الألداء، سواء أكانوا ظاهرين أم كانوا يعملون في الخفاء، وفي مقدمتهم المعتمد نفسه، الذي أدرك أنه لكي يصل إلى تحقيق غرضه يجب أولا أن يبدأ بإسقاط هذا الوزير. •••
فسعى بينه وبين عبد الملك بن جهور بأن جعله موضع ريبة يحول حوله كثير من التهم والشكوك، وقد نجح في هذه السعاية التي أفضت في النهاية بالقضاء على ابن السقا بالموت، وقد كان لهذا الحادث أسوأ الأثر، وأوخم العواقب على الجمهورية، حيث انفرط عقدها بخروج الموالين لابن السقا، من القواد والجند من الجيش، وأصبح عبد الملك ممقوتا عند الرعية، بغيضا إليهم لفظاعته وقسوته وتهاونه، وبقي يحتفظ بما بقي من نظم الجمهورية قائما على قديمه، إلى أن تزعزعت أركان سلطته فجاء المأمون صاحب طليطلة وحاصر قرطبة في خريف سنة (1070).
ولما لم يجد عبد الملك ما يدافع به عن نفسه لأنه أصبح بلا جيش، ولم يبق عنده سوى مئتي فارس في حالة سيئة للغاية، عمد إلى المعتمد يطلب نجدته، فحقق رغبته، وأرسل إليه نجدات كبيرة، اضطر معها جيش طليطلة للانسحاب، ولم يكن انسحاب عدوه فوزا، بل بالعكس كان خذلانا، فان رؤساء جند إشبيلية أخذوا يعملون في الخفاء على تنفيذ الخطط السرية التي أفضى المعتمد بها إليهم، وتم الاتفاق فيما بينهم وبين القرطبيين على خلع عبد الملك والاعتراف بسيادة ملك إشبيلية، واستمرت المؤامرة في طي الكتمان، وعبد الملك لا يدري ما بيته الجند له إلى أن حدث في صبيحة اليوم السابع من ارتداد المأمون بعسكره، وإعلان عسكر إشبيلية أنهم عائدون إلى بلادهم، أن تصاعدت صيحات الجنود وهم على أهبة الرحيل منذرة بالعصيان، وطرقت أذنيه لأول وهلة بوادر الشر، ونظر فإذا الجند الذين جاءوا لنجدته، قد أحاطوا هم وعامة الشعب بقصره، وفي أسرع من ارتداد الطرف قبضوا عليه وعلى أبيه، وسائر أفراد أسرته، ونادوا بالمعتمد ملكا على قرطبة وأخذ آل جهور أسرى، واعتقلوا في جزيرة «شلطيش» ولم يبق أبو الوليد الشيخ على قيد الحياة بعد هذه النكبة سوى أربعين يوما.
وقد تحدث الملك الشاعر عن هذا الفتح بحديث ملك شأي الملوك الصيد، وخطب قرطبة الحسناء بالبيض والأسل فلم تمتنع عليه كما امتنعت على غيره، وذلك حيث يقول:
من للملوك بشأو الأصيد البطل
نامعلوم صفحہ