5
الصغيرة، وهو أبو عبيد عبد العزيز البكري صاحب كتاب المسالك والممالك أنه قد حان وقته، وجاء دوره، ومع هذا فقد كان يؤمل أن ينقذ من الغرق ما يمكن إنقاذه، فكتب يهنئ المعتضد بانتصاره الجديد، ويطلب إليه أن يدخل في حلفه، ويكون تبعا له، وأن يتنازل له عن «ولبة» في مقابل أن يترك له «سالطس» ويشرح العلاقات الودية التي كانت بين أسرته وبين أسرة آل عباد، فقبل المعتضد ما تقدم به إليه، وتظاهر بأنه يريد مقابلته، والإفضاء إليه بحديث هام فسافر إلى «ولبة»، ولكن عبد العزيز رأى من الحكمة وصواب الرأي ألا يكون في انتظاره وأن يتحول عنها إلى «سالطس»، وجاء المعتضد فوضع يده على «ولبة» وقفل عائدا إلى إشبيلية، وترك هناك ثقة من رجاله ليحول دون أن يبرح عبد العزيز جزيرته، أو ينتقل أحد إليه.
ولما عرف عبد العزيز ما وصلت إليه حاله لاذ بالحكمة، وشرع يفاوض عامل المعتضد على «ولبة» يطلب السماح له بالسفر إلى قرطبة، وباع سفنه وذخائره الحربية للأمير الإشبيلي مقابل عشرة آلاف دوكا.
وقد أراد المعتضد أن يخونه ويستدرجه إبان سفره ليوقعه في الشرك كي يستولي على أمواله.
ولكن عبد العزيز فطن إلى قصده، وتمكن بواسطة حراس طلبهم من أمير قرمونة أن يصل إلى قرطبة دون أن يصيبه في طريقه مكروه.
ثم هاجم المعتضد بعد ذلك ولاية «شلب» الصغيرة، حيث كان يلي الحكم فيها العرب من بني مرين وهم الذين كان أجدادهم يملكون الجهات الممتدة في هذا الإقليم، وقد تولوا في عهد الأمويين المراكز المهمة، واستمات أمير «شلب» في الدفاع عن نفسه بكل إقدام وشجاعة، وقد صحت عزيمته على ألا يسلم أو يموت، ولكن جيش إشبيلية الذي كان يقوده محمد المعتمد قيادة اسمية فقط لبلوغه الثالثة عشرة من عمره بالغ في تضييق الحصار على «شلب» إلى أن استولى عليها عنوة. وكان ابن مرين اعتزم أن يفتك بأكبر رأس في الجيش، إلا أن المعتضد بعد أن تمكن منه وهب له حياته واكتفى بنفيه. وبعد أن تم الأمر بالاستيلاء على «شلب» أصدر أمره بالزحف على «شنتمرية» القريبة من الرأس الذي يسمى إلى اليوم بهذا الاسم، وهي كورة كان الخليفة سليمان أعطاها لسعيد بن هارون، وكان مجهول النسب لا يعرف أكان من العرب أم من البربر، والرجال المجهول أصلهم في العادة يكونون من الإسبانيين، سكان البلاد الأصليين. بقيت هذه الجهة مع سعيد هذا إلى أن انتقل سليمان إلى جوار ربه، فاستقل بها، ثم خلفه عليها بعد وفاته ابنه محمد، وحين دهمه عسكر إشبيلية لم تكن منه إلا مقاومة قصيرة المدى، ولما تم للمعتضد أخذ هذه الكورة، ضمها إلى «شلب» وأراد أن يلي الحكم فيها ابنه محمد (1052).
وبهذه الانتصارات السريعة اتسعت إمارة إشبيلية في الجهة الغربية من جزيرة الأندلس، أما الجهة الجنوبية فلم تكن قد اتسعت بعد؛ لأن أمراء الجنوب من البربر كانوا - في ذلك الحين - مسالمين للمعتضد في الغالب، معترفين بسيادته أو مقرين بخلافة هشام الثاني. •••
لم يقنع المعتضد بما أصاب من فتوحات اتسعت بها رقعة مملكته، وعد ما تم له من ذلك قليلا بالنسبة لما يطمح إليه، فسرت إلى نفسه فكرة قتل أولئك الأمراء، والاستيلاء على ولاياتهم، ولكي يكون نجاح أعماله السرية محققا رأى أن يسلك سبيل الاعتدال والحذر حتى لا يطوح بنفسه في محاولة جريئة، فذهب بعد غزوة «شلب» مع اثنين من الخدم لزيارة أميرين من أتباعه، وهما ابن نوح أمير بني مرين وابن أبي قرة أمير رندة دون أن يعلنهما أنه آت لزيارتهما، وإن مما يبعث على الدهشة أن يلقي المعتضد بنفسه بين مخالب هؤلاء، ويضع نفسه بدون تبصر تحت رحمتهم وهو يعلم ما يكنه له أولئك البربر من عداوة وحقد، والواقع أن المعتضد - في مثل هذه المواقف - لا تنقصه الجرأة والإقدام، وهو على الرغم من خيانته ومخاتلته للجميع، واثق من حسن نيات وتقدير الغير له، فقد قوبل عند بني مرين بكل حفاوة وتجلة، وأعرب له ابن نوح عن فرط سروره وغبطته بما هيأت له الظروف السعيدة من هذه الزيارة التي جاءت على غير انتظار، وأولم له وليمة فاخرة، وبالغ في إكرام وفادته، وحقق له من جديد أنه سيكون له التابع الوفي المخلص على الدوام، ولكن المعتضد لم يقدم على هذه الزيارة لسماع التحايا، وألفاظ التكريم والحب والولاء، بل كان يرمي إلى غرض آخر، وهو جس النبض ليعرف هل يستطيع أن يكسب إلى جانبه بعض أفراد من ذوي النفوذ والجاه؟ إذ قد لاحظ أن العرب يميلون من أعماق صدورهم إلى التخلص من نير البربر، وأنه لا يستطيع التعويل عليهم عند سنوح الفرصة.
وبفضل ما كان يحمله خادماه من الهدايا والتحف والأحجار الكريمة استطاع أن يرشو كثيرين من رجال البربر، دون أن يداخل ابن نوح أدنى ريب في دسائسه.
وبعد أن سر المعتضد كثيرا من نتائج هذه الزيارة استأنف سفره إلى «رندة» فقوبل بمثل ما قوبل به هناك من الإجلال والترحيب، ونجحت حيله السرية، وأعماله الخفية فيها كثيرا، لأن العرب هنا كانوا أكثر تذمرا من زملائهم بني مرين، وأشد رغبة في التحرر من حكم البربر.
نامعلوم صفحہ