وأما الذي كرهه العرب من آثار ذكائه الحقيقي فهي الخدمات العديدة التي أداها للأدب العبري، فقد نشر باللغة العبرية مقدمة للتلمود، وقعت في اثنين وعشرين جزءا جعلها خاصة بالغراماطيق، ومن أهم كتب الغراماطيق وأوفرها مادة «كتاب الثروة» صنفه قاض من أقضى القضاة، وأكثرهم ثقافة ودراية، كان على دين صمويل الذي ازدهر بالمعارف والبحوث في القرن الثاني عشر، وقد وضع هذا الكتاب في المرتبة الأولى من الكتب التي بحثت في الغراماطيق، كان هذا المؤلف شاعرا أيضا، وقد نسج على منوال المزامير، وابن سيراخ، ولما كانت أشعاره مفعمة بالكنايات وأمثال العرب والحكم المختلسة من أقوال الحكماء والفلاسفة، والمعاني الشعرية التي اخترعها الشعراء المجيدون، فقد أصبح من العسير - إلا على الخاصة - تفهم معانيه. على أن أكبر علماء اليهود كان يتعذر عليه فهم غوامضه ما لم يستعن بالمتون والشروح والتعليقات.
ولما كان التعمق والبحث في آداب اللغة العبرية أكثر شيوعا منهما في اللغة العربية التي هي صورة منها، ونموذجا لها، كان الغموض لا يعد نقصا وعيبا، بل يعد من الدراية والكفاية العلمية.
وكان صمويل يسهر على مصالح اليهود، ويعنى عناية أبوية بالشبيبة اليهودية، يتفقد رقيقي الحال منهم، ويمدهم بما يسد حاجاتهم - عن كرم وسخاء - وكان في خدمته كتاب ينسخون المشنا والتلمود، فكان يوزع نسخها جوائز على التلاميذ الذين لا يملكون شراءها، ولم تكن مكارمه وخيراته وإحساناته لتقتصر على أتباع دينه في إسبانيا فحسب، بل كانت تتعداهم إلى أمثالهم في إفريقية وصقلية وبيت المقدس وبغداد، وقد أصبح اليهود في كل صقع وبلد يعتمدون على معونته وكرمه.
لهذا عمد اليهود في غرناطة إلى أن يبرهنوا على إخلاصهم وحبهم وولائهم واعترافهم له بالجميل عليهم وعلى أبناء دينهم، فمنحوه لقب «ناغد» أي زعيم أو أمير يهود غرناطة.
ولما كان زعيم أمة ورئيس دولة فقد ضم إلى رجاحة العقل وتوقد الذكاء يقظة وتبصرا وحزما، وصفات خلقية ثابتة جعلته في مصاف كبار الزعماء والرؤساء، فكان يتكلم قليلا ويفكر طويلا، وهذه في العادة من أعظم صفات الرجل السياسي المحنك.
وكان يهتبل الفرص فلا يدعها تمر دون أن يستفيد منها عن حنكة وخبرة ودربة، وكان عليما بأخلاق الناس وميولهم، خبيرا بالوسائل التي يتغلب بها على رذائلهم وشرورهم، وكان - فوق هذا - جميل الهندام حسن الهيئة مشرق الطلعة، ففي مجالس الحمراء البديعة كان يبدو أنيقا رشيقا حتى ليخيل للناظر إليه أنه نشأ منذ نعومة أظفاره في أحضان الأناقة الفاخرة، ولم يكن أحد ليجيد الكلام بلباقة وحذق مثله، ولا ليفنن في التظرف في الحديث ويتملق محدثه ويتملك بقوة بيانه مشاعر محدثه مثله، ويندر فيمن أسرعت بهم عجلة الحظ فرفعتهم فجأة من الحضيض إلى ذروة المجد ألا يكونوا على نمط أولئك الذين كانوا فقراء، فأصبحوا أغنياء، فإن كثيرا منهم يغلب عليه طبعه الأول فينحط إلى درجة صعلوك وقح مفتون، وصمويل لم يكن على نمط أولئك، بل كان كمن نشأ في السيادة والمجد منذ ولادته.
ولما كان ذا عطف محبا للجميع، فقد أضاف إلى سجاياه الكريمة خلقا نبيلا، متأصلا في نفسه، هو التخلي عن صفة الادعاء الكاذب، فهو - بدلا من أن يخجل من عمله الذي كان يزاوله من قبل فيعمل على إخفائه - كان يعلنه لمحدثه ومن يعيبه عليه، وكان يعلن ذلك في صراحة وبساطة تقنع محدثه أنه يعتزي إلى عمل شريف. •••
وأما ابن عباس وزير زهير أمير المرية فقد كان رجلا فائق الشهرة عظيم الخطر، وقد قالوا عنه إنه اختص بأربعة أشياء لا يدانيه فيها غيره: (1)
الأسلوب الإنشائي (2)
الثروة (3)
نامعلوم صفحہ