وبقي مصير الحرب معلقا في كف الأقدار زمنا طويلا، حتى كشفت الخيانة عنه، فقد ارتشت أسرة من المدنيين ففتحت أحد أبواب المدينة لفرقة من جيوش العدو، فدخل السوريون وسمع أهل المدينة من خلفهم - فجأة - صيحات النصر من أفواههم، فضاع كل أمل لديهم في الفوز والغلبة، وأصبحت المدينة في قبضة العدو، وصار كل هجوم عبثا أو مستحيلا، على أن جمهرتهم لم تفكر في الخطر المحدق بها، فهجم أهل المدينة على أعدائهم فرادى وباعوا حياتهم بأغلى ثمن استطاعوا أن يبيعوها به!
وكان من بين القتلى سبع مئة من حفظة القرآن وأربعة وعشرون من الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة الذين حاربوا مع النبي قد حارب بعد أن نصروه في حرب بدر على المكيين حتى شهدوا هذا اليوم المشئوم.
ودخل المدينة فرسان سوريا فلما لم يجدوا مكانا يربطون فيه خيلهم ربطوها في مسجد المدينة - بين قبر النبي ومنبره - أي في نفس المكان الذي طالما سماه النبي نفسه: «جنة من جنان الفردوس ». •••
ثم نهبوا المدينة في ثلاثة أيام وسبوا كل من فيها من نساء وأطفال، ولم ينج أحد ممن بقي من أهلها - وقد فر أكثرهم - إلا بعد أن أقسم أن يكون عبدا من عبيد يزيد. وهكذا أقسموا جميعا على أن يكون الخليفة يزيد سيدهم ومولاهم، وأن يكون في حل من التصرف فيهم بما شاء، من عتق أو بيع، كما أقسموا أن يكون له الحق في كل ما تملك أيمانهم من نساء وأولاد وأزواج.
ولما رأى أبناء مؤسسي الإسلام أنهم مضطهدون معذبون وأن بني أمية قد أرهقوهم إرهاقا، لم يجدوا أمامهم وسيلة إلا المهاجرة، فهاجر الكثيرون منهم إلى حيث انضموا إلى جيش إفريقية، ثم انضم أغلبهم - فيما بعد - إلى جيش العرب في إسبانيا.
وكان «مسلم» مكلفا أيضا بإخضاع مكة، ولكن الموت عاقه عن تحقيق إربته، فأخذ «الحصين» - وهو أحد رجال جيشه - على عاتقه أن يحقق ذلك، فتولى قيادة الجيش، وبدأ يحاصر مكة ويقذف الكعبة بالحجارة والصخور، حتى حطم عمدها وقواعدها، ثم نجح أخيرا في إحراقها جملة، ولقي الحجر الأسود في هذه المرة أول نكبة حاقت به؛ لأنه لم يطق مقاومة النار، فتحطم أربعة أجزاء.
على أن مكة لم يتم إخضاعها، فقد حال دون ذلك موت يزيد وما أعقبه من الفوضى التي اضطرت الجيش إلى رفع الحصار والرجوع بالجيش توا إلى سوريا، وبهذا استعاد عبد الله بن الزبير قوته، واستتب له أمر الخلافة في مكة وخارجها أيضا.
ولكن الأمويين ما لبثوا أن تم لهم الأمر من جديد بعد أن تولى الخلافة عبد الملك وخضعت البلاد كلها له، ولم يتبق إلا مكة وحدها ثائرة، وفيها عبد الله بن الزبير فلما رأى عبد الملك ذلك وجه إليها جيشا بقيادة الحجاج، فذهب إلى تلك البقاع المقدسة، وحاصر المدينة، وطفق يرمي الكعبة بالصخور والحجارة ليدكها دكا، وبينما كان يقذفها بالنار - ذات يوم - هبت عاصفة شديدة فأحرقت النار اثني عشر جنديا، فرأى الجيش في ذلك عقابا من الله على انتهاك حرمة ذلك المكان المقدس، فأحجم رجال الحجاج وكفوا عن ذلك. •••
فاغتاظ الحجاج وخلع بعض ملابسه، وتقدم إلى المنجنيق فأخذ بيده حجرا ووضعه فيه، ثم حرك حباله بعد ذلك، وهو يقول: «لقد أخطأتم الفهم، فليس معنى ما حدث هو ما فهمتموه، ألا إنني لخبير بطبيعة هذه البلاد، ففيها ولدت، وكم رأيت لهذه العاصفة أشباها لا تحصى!»
وظل يشدد الحصار عليها بقوة عدة أشهر، ثم أخذت بعد أن مات عبد الله بن الزبير سنة 692م.
نامعلوم صفحہ