لماذا اخترتني لأكون بطل روايتك؟
المقهى
كل هذا لأجل الثبات
مراقبة
الميلاد
تفاصيل لا بد منها
اجهز الآن
زوجها العزيز
تجارب
في السيارة
نامعلوم صفحہ
أسرار
الوصية
جاكيت أسود
سؤال هادئ
قريب جدا منك يا أبي
رحلة مدرسية
لماذا اخترتني لأكون بطل روايتك؟
المقهى
كل هذا لأجل الثبات
مراقبة
نامعلوم صفحہ
الميلاد
تفاصيل لا بد منها
اجهز الآن
زوجها العزيز
تجارب
في السيارة
أسرار
الوصية
جاكيت أسود
سؤال هادئ
نامعلوم صفحہ
قريب جدا منك يا أبي
رحلة مدرسية
الملاحق
الملاحق
المسيحي الأخير
تأليف
هاني السالمي
هذه الرواية تدخلت في كتابتها وعدلت على جملها، هو أنا «ميشيل عواد» بطل الرواية؛ أنا شخصية خيالية صنعها الكاتب في لحظة تشابه الرحيل والهروب من واقعك إلى واقع آخر تظن أنه سيكون أفضل، أطلق الكاتب علي اسمين؛ اسم «ميشيل» في الهوية الشخصية، واسم «نضال رجعي» في الشارع.
في بداية الأمر كنت مستاء من اسم نضال، وكنت لا أطاوع الكاتب في الحركة والوصف، وأمتنع عن نطق الجمل في الحوار. حاولت مرتين أن أمد يدي من بياض الصفحة وأصفعه. محاولاتي بالرفض لأنه ظن أني دمية وهو قادر على تحريكي أين يشاء.
وقد تجد الكثير من لحظات التدخل مني في صياغة الجمل؛ لأن الكاتب متهور جدا، وليس عنده صبر في نطق الحكم على الآخرين.
نامعلوم صفحہ
لم يعن لي أن يترك شعري أشعث، أو يفتح أزرار قميصي العلوية ليظهر وشم صدري، وإصراره أن أرتدي اللون الأحمر؛ هذا اللون هو دم المسيح الذي يخلصنا من الخطايا. في أغلب المشاهد في الرواية يضع كئوسا فارغة فوق الطاولة مكسوة بقماش أزرق، ويعلق على الحائط صورا طويلة لقديسين في معظم المشاهد. (الكاتب يعتبر أن كل شخصية تضع طربوشا أحمر مميزا، وترتدي ثيابا تزهو باللون البني، ولها ذقن طويل وتحمل كتابا مخملي الغلاف، والسيف لا يكاد يظهر في اللوحة؛ يقول هذا قديس، وهو معجب بالقديس جاورجيوس الذي ولد سنة 280م في مدينة اللد في فلسطين لأبوين مسيحيين من النبلاء.
جاورجيوس توفي والده؛ فاعتنت به والدته وأنشأته في جو عائلي مسيحي، ولما بلغ السابعة عشرة دخل في سلك الجندية وترقى إلى رتبة قائد في حرس الإمبراطور الروماني دقلديانوس.
كان الرومان يضطهدون المسيحيين في تلك الفترة، لكن جرجس لم يخف عقيدته المسيحية رغم انضمامه للجيش الروماني، مما أغضب الإمبراطور دقلديانوس؛ فأخضع القديس لجميع أنواع التعذيب لرده عن دينه، لكن دون جدوى. العديد ممن شاهدوه معذبا تحولوا إلى المسيحية، حتى الإمبراطورة ألكساندرا زوجة الإمبراطور. بعد وفاته أعادت رفاته ليدفن في مسقط رأسه بمدينة اللد بفلسطين.)
في بعض الأحيان كان يطلق علي «القديس جرجس»؛ لأنه فلسطيني قاوم وظل في الوطن، وحتى إن الله اختار جسده أن يدفن في فلسطين (اللد)؛ لأن هذا القديس دافع عن بقائه.
وأنا بنظره روح جرجس التي نزلت بجسد نضال الرجعي؛ ليظل ثابتا. وكان يفجر رأسي بترديد كلمة الثبات، وكأنه طائر نقار الخشب يحطم ساق الشجرة ليبني عشا، أو يصطاد دودة. لا أعلم لماذا يردد كلمة الثبات؛ ليبني في رأسي فكرة، أو يخلص رأسي من شيء يراه خطأ في حياتي في غزة؟
ردد على مسمعي جملة «من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة.» وبعد ذلك سألته: من قال هذه الجملة؟ قال: «رسالة يوحنا.» «الرسالة التي اتفقنا أن تصل لكل العالم من هذا العمل، أنا بطل الرواية والكاتب؛ لا بد من المسيحي في غزة مقاومة الهجرة، مقاومة الاندثار، وليس تفضيل المسيحي في غزة عن غيره.» «بكل صدق إن أعداد المسيحيين في غزة تتناقص، وخاصة في أعياد رأس السنة؛ حيث يقدم الكثير للهجرة من غزة بحجة المشاركة في الاحتفال خارج غزة.»
وحين انتهت هذه الرواية، ودخن الكاتب سيجارة الانتصار على التفاصيل والقلق والقرف الذي لازمه عامين من الكتابة، وصارت المخطوطة بطريقها إلى النشر، بعد أن اتفق مع الناشر حول الغلاف وحجم الخطوط وشكل الرواية، وبعد تحول الكتابة من الورق الأبيض واللون الأزرق إلى نسخة إلكترونية؛ كنت أخرج من جهاز الحاسوب على هيئة الكاتب، وأفتح النسخة وأعدل بعض الأحكام والأحداث.
والسر الذي لا يعرفه الكاتب أني مسحت الجمل الطويلة، والجمل التي تحمل تفسيرين ؛ أنا لا أريد أن أقول بأن المسيحي في غزة مسكين أو ظالم، محظوظ أو شقي. «أعتقد يا كاتبنا العزيز، أن أصل الأشياء الروح؛ الأرواح تتقابل قبل الأجساد. أقصد بأنك تصر أنك قد رأيتني قبل أن نتقابل في هذا المكان.»
أنا أؤكد لك أننا في غزة لم نتقابل دونها. غزة «غزة رغم تفاصيلها؛ اكتظاظ الشعراء، انتشار المقاهي، حركة السيارات، انتشار الموضة، تزايد أعداد المدخنين، عشرات الملتحين، تجد نساء باللون الأسود وغيرهن يعتري قلوبهن السواد في شارع الجندي المجهول.
أسلاك الكهرباء المبعثرة في السماء، عدم التزام إشارات المرور بالإضاءة، بحر واحد ومئات القصص، بيوت رمادية اللون كأذرع الأخطبوط تمتص الأكسجين من رئة المارين؛ رغم هذا تبقى غزة صغيرة جدا، وأي شيء وارد فيها.»
نامعلوم صفحہ
هو حالنا في غزة، كلنا نحمل صفات النبوة، «كلنا أنبياء» بدون رسائل؛ يبدو لأن في فلسطين ولد، وعاش، ودفن، ومشى، وركض، وبكى، وانتصر، وانهزم بها الأنبياء.
وأعود لفعل دفن الأنبياء في أرضنا؛ غزة أرض الدفن، ونحن كالأشجار نمتص ماء الأرض. وقد اختلط ماؤها بأرواح من صار جزءا من أملاح ومعادن ورائحة التربة.
أقصد هنا لو مر رجل يضع عطرا، وحين تحضر للمكان تقول: ما أجمل رائحة هذا العطر! ونحن لا بد أن نعيش نلاحق الجمال فقط.
يوما بعد يوم يعيش أهل غزة على الخرافات والأسطورة؛ أذكر يوما خرج معظم الناس إلى الشوارع وقالوا: إن التربة تحت أشجار الزيتون مضيئة وتلمع كنجوم سماوية.
كان كاتب هذه الرواية أحد الذين نبشوا التربة ليتأكد من أنها تلمع كالنجوم، وتأكد من وجود هذه الظاهرة، وانتشرت الشائعات بأن هذا الضوء دم الصالحين النائمين تحت تراب غزة.
أنا أيضا ميشيل كنت أحد الذين غرفوا حفنة من تحت شجرة الزيتون. دققت النظر والبحث في حفنة التراب؛ وجدت بقايا جسد دودة منتشرة في التربة هي التي تعكس الضوء، وتجعلها تلمع، «وقتها كانت نساء المخيمات تفرك وجوهها بالتراب اللامع».
هن نساء غزة يبحثن عن الجمال، حتى حين يقترب موتهن يصبحن جميلات. ويذكرني هذا بجدتي؛ كانت تبحث عن أثواب الحيات (قشور الحية بعد أن تغير جلدها)؛ لتمسح عينيها به فتشعر بنفسها كليوباترا، وجدي أنطونيو.
نمتاز نحن في غزة بالتعايش مع القبح لنتجمل به. غزة قبيحة لكن نحن جميلون في وقت من الأوقات، والعكس مقبول.
أنا معتقد بأن وجودنا في غزة مهم جدا. رغم صغر مساحتها إلا أنها تجمعنا كلنا؛ إنها كبالون الأطفال الصغير جدا، كبير عند الحاجة يتسع كل هواء صدرك.
الشيء المزعج مئات الثمار كانت تزرع في غزة، وكنا نشبه هذه الثمار؛ بالشكل والرائحة، والمهنة، حتى صغارنا نطلق عليهم أسماء الثمار.
نامعلوم صفحہ
البرتقال المنتشر قديما في كل شوارعنا كان جزءا من ألواننا، رائحتنا، ومهنتنا. البرتقال حاول أن يقاوم القلع من الدبابات. قتلت ملايين من حبات البرتقال، لكن تجده في غزة موجود ويقاوم ويتعايش رغم الهواء الفاسد وأبواق السيارات التي تزعج نومه في أرضنا.
قال الكاتب لي: أنتم مثل بالون الأطفال، مثل حفنة التراب، مثل البرتقال في داخلنا، ولا بد أن تبقوا.
حدث هذا كله حين قابلني أول مرة؛ كان مندهشا، دار حولي بدوائر مرتبكة، كالثعلب حين يدور حول الدجاجة يريد اصطيادها دون أن يشعر به المزارع أو كلبه الخشن الصوت. كل مرة يحاول أن يطرق السؤال أنه يعرفني، لكنه يتراجع.
هذا وارد في الأرواح، لكن أنت لم ترن قط، ولكن ما حدث معك هو ظاهرة الديجافو
Dejavu
كلمة فرنسية تعني «قد حدث من قبل»، وتعني حرفيا بالإنجليزي
already seen ؛ وهي الإحساس بالألفة مع شيء يفترض أنه ليس كذلك.
أقصد لو أنك سافرت لمكان لأول مرة في حياتك، ودخلت مطعما مع أصدقائك، وتجلسون حول الطاولة، وتتناولون طعامكم بينما تتناقشون في موضوع ما، وفجأة دون مقدمات ينتابك الشعور بأنك قد مررت بهذه اللحظة (بكل ما فيها) من قبل في نفس المكان، نفس العشاء، نفس الموضوع، نفس الأوجه المحيطة بك ... كل شيء كأنه حدث من قبل، ولكن أين؟ متى؟ لا تتذكر!
وليس هذا فقط، ربما أنك قد تتذكر ما سيحصل في الثواني القادمة (كأن يسقط شيء أو يمر شخص ما أو أي شيء)، وفعلا يحدث !
الذي لا بد أن يعرفه من يقرأ الرواية الآن، بأن الكاتب مصاب بمرض «متلازمة الدهشة».
نامعلوم صفحہ
لماذا اخترتني لأكون بطل روايتك؟
قال لي: أنت تشبه اللعبة القديمة من السوق العتيق، تشتريها الأرملة لأولادها الثمانية. لعبة واحدة تكفيهم؛ شعرها من الصوف الإنجليزي الثقيل، جسدها مكسو بالقماش التركي الخشن، عيونها أزرار معطف فرنسي قديم. تصبح اللعبة الولد التاسع في البيت.
يتقاسمها الأولاد بالوقت والمكان، بالحياة؛ وهم يركضون فتركض معهم، وهم يستحمون في الوعاء الأحمر تقاسمهم فقاعات الصابون.
اللعبة لا تبرد ولا تمرض؛ الأولاد الثمانية يصلحون وجهها، ويحيكون لها كل يوم ثوبا جديدا من دفاتر المدرسة؛ تجدها يوما تلبس قميصا مرصعا بعبارات النحو والصرف، ويوما تجدها بثياب ورقية تعج بالمعادلات الرياضية.
تجدها تجلس فوق الخزانة. كل يوم لها اسم جديد حسب القصة التي ترويها أمهم قبل النوم.
تكتم أخطاءهم الصغيرة؛ من سرقة الكعك، من كسر الأقلام، من ضرب حجارة الشارع بالحذاء الجديد، المشي تحت المطر وتحطيم كل نصائح الأم بالحفاظ على ملابسهم لتصمد ليوم العيد ... هذا الولد التاسع هو بنك من الأسرار لتفاصيلهم الثمانية.
الجميل أن هذه اللعبة لا تموت؛ تورث كالأرض، كالبيت، كالبندقية المصرية التي حارب بها الأب أمام جيش الهاجانا أيام النكبة، تورث للأحفاد. (يذهب الأولاد الثمانية، وتبقى اللعبة (الولد التاسع) في شوارع الحي تتجول.)
رغم أن الألعاب البلاستيكية سهلة الشراء، يمكنك شراء ثماني قطع لولد واحد. يكون الأب سعيدا وابنه يحطمها واحدة تلو الأخرى.
يذكرني هذه التطور في الألعاب بسيدة تضع تسعة أجنة (أطفال الأنابيب)، كلها تتساقط إلا جنينا واحدا يشبه الولد التاسع (اللعبة القديمة). الحاجة وقتها لاقتناء هذه التحفة؛ تنفخ بها روح الصمود ومقاومة النخيل للريح.
أنت يا بطلي لا بد أن تكون مثل الولد التاسع.
نامعلوم صفحہ
عليك أن تتوقف عن سذاجة الانتظار، والبكاء على الأطلال والتحسر على ما فات وكان، فلا شيء يفيد حقا ولا ماضي سيرجع.
ولا وقت سيرسل عقاربه لتستند عليها مجددا؛ فالرحيل هو الرحيل، ولا تولد منه عودة.
سأحاول أن أفرغ الألم، وأفرغ ما بجعبتي من كلام بعد ثلاثين من السنين عشتها بكل ما فيها من ألم وهناء، حزن وفرح ...
أرى علامات استفهام كبيرة على رءوس من حولي تستفهم عما حصل بين أرواحنا وأجساد مختلفة.
نعم، ولكن الأرواح مترابطة، فبعض كلمات من أفواه غبية هدمت محبة وفسحات العيش داخل هذه البقعة الصغيرة.
قال لي أيضا: انتظرنا طويلا حتى تكبر، كما تنزع البذور عن نفسها قشورها، ثم تمضي قدما تشق طريقها في تحدي الصخور والأشواك؛ فتخرج على وجه البسيطة أشجارا باسقة قوية، كذلك أنت حين كنت تحبو على بلاط غزة. لم أتوقع منك الهروب أو التفكير في ذلك، وتتحول إلى ذاكرة للباقين، ينتظرون رسائلك وهداياك من أماكن بعيدة جدا، أماكن باردة والثلج يكسو أقدامك. كل ما أخشاه أن تتذكر غزة في يوم النكبة فقط.
كل ما ستفعله في هذا اليوم أن ترسل علم دولتك الجديدة كتذكار، أو ترسل مفتاحا من الكرتون لتقول لنا اصبروا. كل ما علينا وقتها أن نشم رائحة الخمر في هداياك، ونلاحق النساء بين كلماتك.
اعلم أني اخترتك لتكون بطلا لروايتي؛ لتتعلم الصبر الطويل وأنت تعد ظل الطائرات، وأنت تلملم صوت الرصاص من نافذة الجيران، أن تنظر كيف نقطر مياه البحر قطرة، قطرة، لتشرب بعد يوم طويل من الصيام في تموز.
نرغب في أن تجلس معنا على مائدة الإفطار، والجنود الغاضبون يقفون أمام البيت يبحثون عن طفل رشقهم بالحجارة. نرغب أن تشاركنا نصف الملح، ونصف الخبز الناشف. نرغب جدا أن تبقى عندنا لتشاركنا رائحة أحلامنا باللحمة المشوية.
راقبتك جيدا ودققت في تفاصيلك، وأعجبني منك هذا الموقف؛ حين أخذك أبوك إلى كنيسة المعمداني القديمة، كان الحاضرون يرتلون الآيات ويطيرون أرواحهم فوق أسوار الكنيسة بالخشوع والبكاء تحت صورة مريم وابنها.
نامعلوم صفحہ
وحدك أنت لم يغرك البكاء ولا الخشوع، كنت فقط تراقب زوج الحمام من نافذة الكنيسة وهما يغازلان بعضهما البعض. راقبت ذكر الحمام وهو يبني عشا في ثقوب الكنيسة. لأنك أحببت الحمام؛ وضعت بقايا الشمع وقصاصات الورق من كتاب نشيد الأنشاد المهترئة، بالقرب من النافذة لتساعدهما في بناء عشهما. حين أشار لك الأب بالوقوف «الآن وقت الدعاء»؛ رفعت يدك في وجه مريم وقلت: يا مريم، احمي الحمامتين وأخبريهما أن يطلقا اسمي على صغيرهما.
الزغلول يا ميشيل صار حمامة بيضاء كبيرة، ترك ريشه الأصفر فوق بقايا كتاب الأنشاد وغادر بعيدا. لكن حين قررت أنت الرحيل صارت نوافذ الكنيسة تنوح، وسقفها بدأ ينهار، والكتب احتلها الغبار، والكراسي بدأت تقدم نفسها كمذاق الانتحار للنار. هاجم الغراب كل الأعشاش وهاجر الحمام ولم يعد.
لا تقرر الرحيل؛ أنت مثل هذا الرصيف الصخري الممتد في مياه البحر العكرة. تسبح أسماك «البوري» في تفاصيل القوارب بين الطحالب الخضراء والأصداف الميتة.
أن تمشي في شوارعنا وتلتقط بقايا الخبز من تحت عجلات السيارات، وتضعه على الرصيف أو ترميه فوق سطح البيوت (القرميد القديم) لتأكل عصافير الدوري؛ هذا شيء عظيم لا تحرمنا منه. تحزن حين ترى أحدا يرمم ثقوب جدار البيت الخارجية، تقول وقتها: كم عصفور يفقد عشه! كم نحلة ستغادر المكان! وتحزن جدا حين ترى الطيور في الأقفاص، ولا تأكل العسل من الخلايا الصناعية. كل هذا أنت الوحيد يا ميشيل تفكر فيه وحدك.
عزيزي الكاتب، كل يوم يضيق الأفق علي؛ حياتي في غزة كياقة قميص ضيقة ومعلق بها ربطة عنق عريضة. أنا لا أجيد الانتظار مثل الميناء (لا تصف بالميناء إلا إذا رست به القوارب). الأشياء لا يكتمل وصفها إلا بمهنتها.
عزيزي الكاتب، أنا أيضا أعرفك جيدا؛ مصاب بمتلازمة الدهشة، يصفر صدرك حين تتحدث معي كأنك مصاب بداء في رئتك. رائحتك قريبة جدا للطين، أنفاسك خليط من نعناع ودخان خفيف، عيناك خضراوان كورق التين في الربيع، ترتدي قمصانا بأكمام طويلة وتغلق أزرارها.
حين تقدم النصيحة لي كأنك واثق من نفسك كوتد خيمة الرحيل تقاوم الشتاء والريح والعواصف والشمس، هذه الخيمة صمدت أكثر من ستين عاما وما زالت واقفة. تحب الجلوس على قارعة الطريق، لا تهرب حين ينزل المطر، تراقب الخنافس حين تعبر الطريق السريع وتصفق لها حين تنجو من سرعة الموت، تحب أكل السمك الصغير، وحين تنتهي تقول أنا لا أجيد التمييز بين أنواع السمك، كله في فمي طعم واحد.
تضع أي عطر، وتضعه حين تكون مسرعا فقط. تحلق ذقنك بماكينة حلاقة زرقاء رخيصة الثمن، مهندم دائما كأن عليك ميعادا مهما رغم أنك لا تجلس إلا معي في أواخر الشتاء، تنشط كقطط شباط في الكتابة. لم تحب كأي فتاة، هذا ما أخبرتني إياه لأنك تحب أن تمارس الحب من طرف واحد.
لا تعزف الموسيقى ولك تجربة وحيدة، حين أغراك البيانو الأسود الضخم المتروك في زاوية عملك القديم؛ مشيت إلى ناحية البيانو وفي وجدانك نغمة تريد أن تعزفها، حاولت أن تترك أصابعك تسبح على أزرار البيانو، وعزفت وصارت الأنغام تشبه صوت السعال الديكي الذي يصاب به الأطفال في فصل الشتاء، وقتها قامت سكرتيرة المدير بالصراخ عليك؛ فانسحبت وخجلت من نفسك لتدميرك مزاجها في السمع.
لا تحب أن تجوع، وتحب التقليل من الضحك لتخفي أسنانك المصابة بالتسويس من كثرة الشوكولاتة المصرية رخيصة الثمن.
نامعلوم صفحہ
حين اشتد الحصار على غزة، وشح الوقود من المحطات؛ صار أصحاب السيارات يستخدمون زيت القلي المستعمل لتشغيل السيارات. كنت في وسط ساحة غزة، تريد العودة للبيت، فدخل في رئتك عادم الزيت؛ منذ ذلك الوقت وأنت تستخدم البخاخة الزرقاء لتساعدك على التنفس، وعلى الكتابة أيضا.
لا تجيد التمييز بين النساء ولا العطر ولا السمك؛ تقول في النساء لا تعرف سوى زوجتك. خالك أخبر أمك: هل تريدون أن تزوجوه؟ قالت الأم: نزوجه. قال: عند جيراننا بنت جميلة. وبعد أسبوع صرت زوجا على مزاج خالك.
وبخصوص العطر المهم جميل، ولا يهمك علاقة العطر مع مكونات العرق.
السمك كنت تفضح كل المدعين أنهم خبراء في السمك، كنت تحضر أرخص الأنواع وتقدمه لضيوفك بشكل أنيق في أطباق مميزة، وتقول لهم: هذا السمك من أغلى الأنواع. كانوا يأكلون بشراهة دون تمييز، وفي آخر الجلسة تكشف لهم الخدعة.
لحبك للأطفال كنت تقتل كل فئران وصراصير الحي، وصرت صديقا للبيئة في نظر رجال بلدية المدينة، وشعرت بالخطيئة من قتلك الفئران والصراصير حين شاهدت مسيرة كبيرة على التلفاز بأوروبا لمناهضة عمل تجارب علمية على الحيوانات في سفن الفضاء التي تهبط على القمر. وقتها قلت: حتى الفأر يحترم ويقدم له الجبن المصنوع من حليب أنهاد نساء الوطن العربي. «كم أنت عظيم يا فأر!»
لم تشارك في المقاومة؛ كان رأيك كلنا نقاوم. رجال المقاومة يشبهون الباعة في سوق الأربعاء؛ الأكثر احتراما الذي يبيع اللحم والدم، كل المتسوقين يطرحون عليهم التحية الصباحية فقط.
لكنك اعترفت لي أنك كنت فضوليا لمرتين في المقاومة؛ مرة أحببت فكرة أن تضع قماشا أسود على رأسك أنت وأصدقاء الكرة، ففعلتها وصرت ملثما تركض في شوارع الحي، وكرهت هذا التجربة لأنك وقعت أكثر من مرة وأنت تركض؛ ضاق شهيقك وكنت سوف تختنق من اللثمة. كنت تحمل بيدك طلاء وفرشاة لتكتب كلمة «فلسطين». وقتها فقدت اللغة كما فقدت تنفسك الطبيعي؛ أخطأت عشرات المحاولات أن تكتب كلمة فلسطين على حائط شارع البحر، وقتها جاء طفل صغير وكتبها عنك.
الأخرى حاولت أن تشارك الطلاب في المدرسة برشق الحجارة على شاحنات الجيش الخضراء، رميت حجرا وحيدا ارتطم برأس سيدة تعبر الشارع، فيما بعد عرفت أنها كسرت جمجمة رأسها ودخلت غرفة العمليات. ذهبت أكثر من مرة إلى غرفتها في المشفى لتطمئن أنها ما زالت تملك ذاكرة.
كل من حولك هربوا حين ركض الجنود خلفهم، حاولت أن تركض وتجري بسرعة، لكن قدميك تحولتا إلى حجارة ثقيلة، وقتها لم تتحرك؛ فأمسك بك الجندي الروسي الضخم الأبيض، فصفعك على وجهك، فتبولت في سروالك (تبولا لا إراديا) وطحنك الجنود من الضرب. لكن هذه التجربة محبوبة عندك لأنك أول مرة ترى مجندة جميلة بزي عسكري في معسكر الجيش، وكانت لطيفة معك؛ قدمت لك الخبز الإسرائيلي (ليخم). •••
كلنا مخطئون لأننا نقطع على بعضنا الطرق، فأي طريق نختاره؟ الكل في المرصاد، وكأنه موسم الحصاد.
نامعلوم صفحہ
فلن يحلق أبدا أي منطاد. علينا الاعتراف جميعا أننا بلا إرادة، بلا حرية نموت لأجلها فتصبح عادة، وعلى رءوسنا تاج السيادة. نحن بلا قيادة، بلا ريادة. علينا أن نعترف بأننا في مأزق كبير في طريق معتم طويل، تائهين في غابة ملأى بفوضى التراتيل. صعب عليك النضال، فستكون طبلة في يد ألف طبال. صعب علينا الكفاح فالرياح في وطننا ليست كباقي الرياح.
ستصطدم بسيف أخيك من وطنك ينحرك لا يحميك، أخوك الذي من مدينتك لا يسقيك، من قريتك لا يلبيك. آه، ربما من أقربائك فينهيك.
يا عزيزي نحن في بحر عميق ضيعنا ضوء القمر. سفينتنا بلا قبطان، وكل منا يعبد على طريقته القدر. ليس عيبا علينا أن نعلن يوما أننا نشبه السراب، نشبه الخراب. نعم، كلنا نصلي ولا أحد منا وجهته نحو المحراب! كلنا نسينا أو تناسينا وحدة التراب. فهل صعب أن نبدأ من جديد، أن ينصهر هذا الوجدان الذي تحول إلى حديد؟ هل مستحيل علينا أن نعيد الحياة في الزغاريد؟! في أول لقاء لي في السماء؛ هل خلقنا كي نفترق، كي لا نتفق، كي نملأ الإبريق كلاما ومن ثم يندلق؟
كلنا مخطئون لأن القبلة واحدة وكل يصلي على ليلاه. كلنا مخطئون لأننا نلغي بعضنا، نهين أوساطنا، ننعزل في تفكيرنا.
كلنا مخطئون ولا داعي للمحاسبة، لا داعي للمعاتبة أو المضاربة، لا داعي للنميمة والمحاربة. كلنا أنبياء، وللمصادفة، لكل شخص منا كتاب يفتحه بمناسبة أو بدون مناسبة. نحن في غزة لدينا طباعنا المهذبة، وأحلامنا المرتبة، وانتصاراتنا المرطبة، وهزائمنا المقطبة، حياتنا كوفياتنا مشطبة.
أرجوكم لا تعلنوا، لا تفكروا بالأمر؛ فما يسترنا هو بعض الفشل والثياب. سامحوني إن أخطأت أيضا بحقكم، فكلنا مخطئون لأننا مسيرون لا مخيرون، وأنا يسيرني إلهام الشك والظنون.
المقهى
في تلك اللحظة التي تكون فيها كبيضة مشقوقة؛ نصفك حزين ونصفك الآخر يحاول أن ينتعش من الأخبار السيئة التي تدور حولك كدخان الأرجيلة (لونه أبيض جذاب، رائحة التفاح المعتق تبتلعك، لكنه خطير على الصحة والحياة الزوجية؛ حين تعود لبيتك ومسام جلدك تفوح بتفاح فاسد، من المؤكد أن زوجتك وأولادك، والكرسي والكئوس سترمقك بنظرة غريبة).
تجلس في مقهى المعهد الأزهري على بعد عشرة أمتار في قاعة تنتظر مفاجأة. النادل الواقف خلف مقلى الزيت الكبير ، يحرق أقراص الفلافل بالزيت الساخن، والأقراص تصرخ بصوتها ولا يرحمها (كأنه يوم القيامة)، لا يجلب لك القهوة.
تقف مجبرا عن الكرسي الأخير الوحيد الفارغ في المقهى لتجلب قهوتك. بعد التفاوض على مزاجك بالقوة، تكتشف بأن القهوة موجودة ومزاجك تحتفظ به لمرة أخرى.
نامعلوم صفحہ
تعود مسرعا إلى طاولتك، فليس من الأناقة أن تشرب قهوتك واقفا. تجد الكاتب (الراوي) يجلس على طاولتك، وكرسي فارغ.
إن الكاتب أصيب الآن بظاهرة الديجاوفو في مسافة جلبي لفنجان القهوة من النادل. لم يصبر ليتأكد أنه «أنا عبارة تخيل».
لكن احتل المكان وجلس، احتل القصة كلها، بل في أدق التفاصيل. وأنا أركض خلف ما يكتب عني وعن رحيلي، وأعالج كل تفاصيل المشاهد. بل علمني كيف أكون عبدا مطيعا ببشرة بيضاء. «هذه اللحظة تذكرني بالتاريخ حين احتل الجرمان الحضارة الرومانية على الرغم من تخلفهم، كان عندهم حضارة ولهم عاداتهم وتقاليدهم.
عندما سيطر الجرمان واطلعوا على هذه الحضارة العريقة والقانون الروماني؛ وقعوا في مشكلة، وهي كيف يتخلون عن حضارتهم؟ وكيف يستفيدون من الحضارة الرومانية؟ وقد حاول بعضهم إصدار قوانين مشتركة جرمانية رومانية لكن هذه المحاولة باءت بالفشل؛ ولذلك كان عليهم إما أن يعيشوا حياة مستقلة عن الرومان، وإما أن يمتزجوا مع السكان، ولكنهم اتخذوا الخيار الثاني؛ حيث تعلموا اللغة الرومانية بدلا من الجرمانية، وأخذوا يقلدون الرومان في الملبس وفي كل شيء.»
هل الكاتب هو الجرماني وأنا الروماني أم العكس في هذه اللحظة؟ أو الأحداث سوف تحكم من منا منتصر؟ لكن الفاشل هو من يحكم علينا أننا أهبلان بقميص أصفر. واللون الأصفر عند العرب يعبر عن الجنون. والغريب أن حكماء اليابان في وقت قديم كانوا يرتدون هذا اللون!
رفع إصبعه في وجهي وقال: لماذا أنت هنا في المعهد الأزهري؟
قلت له: أنت الكاتب وأنا بطل روايتك، وأنت الذي جئت بي إلى هذا العالم رغم أنك تعلم أني مسيحي يوشك على الرحيل من غزة. - أنت هنا في احتفال غريب من نوعه فيه نوع من الخسارة لكم، وانتصار لغيركم؛ احتفال بإسلام الفتاة (جان دارك). وكل ما حولها يقرعون الضحكات، كأنه شيء عظيم نزل عليهم من السماء كمائدة موسى، كخاتم سليمان، سعداء جدا كمتعة سيدنا نوح حين أبحرت سفينته إلى الجودي. - أنت تعلم أن هذا يغضبني. هل تريد أن تقول لي بأن المسيحيين في غزة خسروا حربا من حروب الثبات، أو لتعلمني كيف أنتقم من هذا الموقف؟ - ليس هكذا يا نضال. أريد أن تبحث عن النتيجة، وخذ منها تجربة وحاول أن تقاوم مثل شجرة البرتقال للبقاء. وهذا الاحتفال الذي يقرع قلبك، ويهزك، لا يعزز رحيلك عن غزة. إن جان دارك ما تغيرت إلا بعد أن أحبت شابا من غير سربها، وحين أخبرت أسرتها بأنه يريد زواجها؛ كان من الصعب عليهم القبول. لم يستطع حبيبها التضحية لأجلها، لكن جان دارك أعجبتها فكرة البقاء والثبات في غزة. - عزيزي، أنت تلعب بالنار. كيف تفكر بهذا المنطق؟ ولا يحق لك أن تلغي جهة من جهات الجغرافيا لأجل أن يهدأ الريح عنا. كم هي غريبة فكرة الثبات! - يا نضال، هما يخدمان بقاءنا في غزة وفي فلسطين. - لك أن تعرف أن النساء حين يذهبن إلى دكان العطر يشترين زجاجتي عطر؛ واحدة للجسد ولا يهمهن نوعها أو سعرها، والثانية تكون للروح لكن برائحة السر ...
تحرك نضال إلى قاعة الاحتفال تاركا وراءه الكاتب يتلاشى فوق الكرسي كقطعة ثلج صغيرة في يوم حار جدا.
كل هذا لأجل الثبات
هش بيده الوشوشة وكسر هذه الجملة من عقله، وقال: مجنون أنت يا عزيزي.
نامعلوم صفحہ
دخل القاعة وجلس في آخر مقعد. القاعة طويلة جدا والإزعاج ضخم جدا ويمنعك من الاستمتاع بالمشاهدة.
شيخ أنيق يجلس. ظهرت جان دارك مبتسمة، تحمل وردا، وترتدي منديلا، وحذاء غريبا، وفستانا مطرزا.
الحضور صفق. يذكرني هذا حين كانت تعرض المسرحيات، وهناك واجب عليك حين تنتهي المسرحية وتنزل الستارة، لا بد أن تصفق، أعجبتك أم لم تعجبك، مات البطل أو انتصر، المهم بروتوكول وفقط.
دعا عريف الحفل جان دارك بعد أن أطلق عليها اسم الأخت فاطمة؛ لتلقي كلمتها على الحضور.
فكر نضال؛ بماذا ستبدأ كلامها، بتحية حبيبها، أو بالتحية التي تعودت عليها؟ إن من عادات السيدات المسيحيات السكوت أولا ثم الكلام، لكن السيدات المسلمات يتكلمن ثم يسكتن.
وقتها سكت الجميع وراقبوا جان دارك ماذا ستقول. بكل هدوء يذكرني مشهد القاعة وهدوءها حين تكون جالسا في بيتك ويدخل عصفور ملون تائه ويرتطم بالجدران ثم بزجاج النافذة. الكل يتجمد في مكانه وفي لحظة كلنا نتحول صيادي عصافير، وفي أقل من ثانية يقفز الجميع ليلتقط العصفور. الغباء وحده الذي ينقذ العصفور من شهوتنا لحبسه؛ حين نتزاحم في مساحة الغرفة فيصدم الأب مع الصغير، والجد مع العم. غباؤنا وحده الذي أفلت شهوتنا للتطاير مع ألوان العصفور.
أمسكت جان دارك الميكروفون وبدأت تنطق أول حروفها، أول صرخة كأنها سقطت لتوها من رحم أمها، أول دهشتها حين ابتسم أول رجل في وجهها، أول وأعظم سعادة بأول راتب بعد انتظار سنوات من الشقاء والفقر.
كادت أن تصل حروفها الأولى لأذني كأني آدم ينتظر كلمات الغفران حين أخطأ ونزل يركض في الأرض.
لكن شيئا ما يخلص قلبي من البكاء عليك يا جان دارك. الميكروفون لم يعمل، لا صوت لك، الحضور شوش المكان، لا صوت لك يا جان دارك.
حاول الشيخ أن يصلح الميكروفون وأوشك على إصلاحه، لكن الكهرباء انقطعت كليا. الكهرباء في غزة تبدو أنها جندي يحارب، لم تقبل بهذا. جلالة هذا الموقف تجعلني أنكمش من كثير السعادة في قلبي، كأني قطة في شارع مظلم جدا وحولي عشرات الأطفال يحاولون تعذيبي، وفي لحظة يأتي رجل ويهش الصغار ويحملني للبيت مع نوم دافئ وزوجة صالحة.
نامعلوم صفحہ
من ذلك الرجل الذي يلوح لي من بعيد؟ دققت النظر به؛ يا للدهشة! إنه الكاتب يلوح لي حاملا بيده مفتاح الكهرباء. لقد غادر المكان مبتسما.
مراقبة
نضال يفتح فمه للهواء؛ ليصطاد ظل الغيوم الذي يركض فوق التراب، يلوكه ويقلبه بلسانه، ويصرك بأسنانه قبل أن يبتلعه.
مد يديه جانبا للريح، حرك رأسه على صدره من أعلى وأسفل ومن يمين إلى يسار كطواحين الرياح، لف ساقه بساقه. كان خلفه شجرة برتقال ضخمة، ظهر جسده كأنه مصلوب.
الفكرة التي طرحتها، وأنا أجلس كالطائر الحزين بالقرب منه.
هل سألت نفسك من أي وقت مضى، وفكرت أن تتجول في أزياء غريبة؟ أن تضع اليقطين المنحوت فوق رأسك وتركض في الشارع؟ أنك تكون مراقبا والكل يضحك عليك؟
سوف تتفق معي أن ما أقول هو الهالووين، وهو حقا. أنت تحتفل به في شوارع غزة. أعلم أنه أغرب أيام السنة، أليس كذلك؟ ربما كنت أتساءل؛ كيف يمكن الاحتفال بهذا اليوم من أي وقت مضى؟ - كثيرة هي الأشياء التي أود أن أحتفل بها تحت ضوء الشمس بعيدا عن برودة جدران كنيسة المعمداني. لماذا تبتسم وأنا أتحدث وأجيب عن سؤالك؟ - أنا كلما قفزت في رأسي فكرة مجنونة أبتسم. - وما هي فكرتك الضاحكة؟ - أن نراقب حياة جان دارك الجديدة!
ارتعش نضال من الفكرة «المراقبة». أكانت سعيدة في حياتها، أم كانت حزينة؟ كلها شقاء علينا. - اتفق معي يا نضال أن تتغير من مراقب إلى مراقب، من ضحية إلى سيد. - أنا أخاف أن أراقب الناس وأدخل في أسرارهم. - في هذه الأرض - أقصد غزة - وفي هذا اليوم، لتقف على العكس تماما من الخوف. إن لم تمارس تجربة تخويف الناس، إذا لم يكن كذلك، كيف تصل إلى ما تسعى له اليوم؟ في حين أنه لا يزال يمكن العثور على ضوء، أو أمل بسيط. إن جاك دارك قد تكون مخطئة! العثور على شيء يبقيك في غزة، وتزول الفكرة من رأسك. لو أقدمت على مراقبة جان دارك؛ أنا أضمن لك الشفاء من سوسة الأسنان المنتشرة في طواحينك الخلفية، التي تؤلم رأسك. - أنت شرير أيها الكاتب، ولا بد أن تموت أو تتوقف عن الكتابة. أنت تعلم أنه ليس لدي أي متعة في حالة وفاة من الأشرار. - لا يا عزيزي نضال، أنا لست شريرا بمحاولاتي تثبيتك على الأرض؛ لأن قاموس المعرفة في غزة يحمل معان كثيرة، وكنت أذهل حين أجد أي واحد يصرف المعرفة كما يريد. أما أنا الآن أقول عنك وعن الأفكار التي تدور برأسك من عدم مراقبة جان، يعني أنك مرفوض من الليلة المقدسة. - هل حين نقوم بدخول بيت جان الجديد أكون بنظرك مقدسا في ليلة مقدسة؟ - الليلة المقدسة هي الحقيقة، هي أن جان دارك لم تتغير وما زالت كما كانت. - بما أنك السيد الآن أقصد الكاتب، أنت من صنعتني بهذه الشخصية؛ سأوافق على المراقبة ودخول بيتها، لكن إذا رآنا أحد أو لحق رجال الشرطة بنا؛ أنت من سيحل هذه المشكلة؟ - لا تخف ولا تنس أني الكاتب، وأضع الأحداث كما أشاء. أنت بطل روايتي، ومن المنطقي أن تكمل الأحداث كلها في الرواية. آخر مشهد سوف أختار لك نهاية تناسبك. - من المؤكد أنه الموت. - الموت نهاية تأتي في السنة أربع مرات بعد كل فصل؛ الموت يقتل الشتاء، يقتل الخريف، يقتل الصيف، يقتل الربيع، لكن الموت لا يقدر أن يقتل الفصول داخلنا. - نحن قتلنا كل الفصول داخلنا سوى فصل الخريف، لا يهرم أبدا.
الميلاد
ميشيل: الرجاء الحضور غدا؛ أنت أخطأت كثيرا في الروح المقدسة، لذلك لا بد أن تولد من جديد، أو أزيل عنك هذه الأخطاء.
نامعلوم صفحہ
لم أرد عليه ولم أرفض، خوفا من كلمة مقدسة، هذه الكلمة التي تلاحقنا منذ ولادتنا؛ رضاعة مقدسة، ملابس مقدسة، شوارع مقدسة، أيام مقدسة، نساء مقدسة، عصير مقدس، لحم مقدس. كأن المولود على هذه الأرض يولد نكرة أو فاسدا، وأصحاب اللحى الطويلة يريدون تقديسه.
في الليل نمت تسع ساعات كأني في رحم أمي، لا أذكر أي حلم في تلك الساعات، لم أسمع سوى شخير الدم في عروقي، كأنها تتفتح، وكرات دمي الحمراء نشيطة في نقل الأوكسجين. الذي أذكره في الساعة الأخيرة شعرت بوجع خفيف في عظام جمجمتي العلوية، حين فتحت عيني وجدت قدمي معلقة على السرير ورأسي على الأرض. مشهد من مشاهد الولادة التي رأيتها كثيرا، لكن الآن أنا المولود. ما هذا السائل الذي يبلل ملابسي؟ كأنه خليط من العرق والمني برائحة العنب.
ركضت دون توقف، لم أنظف ما تركت ورائي من بقايا النوم، والسائل ما زال عالقا في ثغرات جلدي .
كلما مررت على أناس وأنا أركض، يحملقون بي ولا يرمشون، كأن على رأسهم الطير. لم أنتبه لنفسي أني عار جدا، فقط على رأسي قبعة حمراء.
وصلت في الميعاد الذي حدده، صفق لي وانحنى ترحيبا بي، تخيلت أني عظيم. هززت برأسي له، أمسك بيدي وسحبني كخروف العيد.
المكان يشبه ثقوب وخلايا النمل، مرعب كل ما حولك. شعرت أني فريسة للنمل؛ مثلي أبيض طري، سيلتهمني النمل بسرعة دون رحمة.
كلما أسأله سؤالا كان يعطيني ورقة معتقة قديمة صفراء اللون، تشعر أنها من بقايا تاريخ مر علينا.
لماذا اخترت مكان الولادة خلية نمل؟ مد ورقة ناحيتي، مكتوب فيها؛ النمل هذا المخلوق الصغير جدا، هو أول مخلوق علم البشر المقاومة وعدم الخوف، إن قصة سيدنا سليمان مع النمل تؤكد ذلك. هل تعلم أن النمل مخلوق من زجاج؟ لكلمة «لا يحطمنكم سليمان وجنوده». وفي آخر الورقة، ما زال النمل من زجاج، فلا بد أن تكون مشاهدة النمل للناس تختلف عما نتوقع، وأنا أتوقع أن تكون هناك عدسات في عيون النمل تصغر الأشياء؛ وهذا سبب منطقي لعدم خوف النمل من البشر. لو كنت في ريب مما ذكر، حاول أن تقترب من خلية النمل؛ سيهجم عليك ويقرصك.
رائحة النعناع تفوح في المكان. أيضا مرر علي معلومة جديدة؛ إن البعوض لا يحضر لمكان مزروع به النعناع، والشيطان يأتي للبشر ليمتص أفكارهم ويلوثها ثم يدفعها داخل رءوسهم. الشيطان أيضا مثل البعوضة يخاف من رائحة النعناع.
قلت في سري: كل المنازل والبيوت والمستشفيات والشوارع مزروع بها النعناع، فكيف يأتي الشيطان في غزة؟
نامعلوم صفحہ
صفعني بقوة، كاد رأسي يرتطم بالأرض. عرفت وقتها أنه لو الغاية من زراعته طرد الشيطان لن يأتي. كلمة «غاية» كانت صعبة جدا أن أفهمها وأنا أولد من جديد.
وقفت أمام وعاء كبير مليء بالماء، كنت عطشانا، دنوت لأشرب، كان مالحا؛ إنه ماء بحر. وهنا أيها الكاتب ما تفسيرك أنك تريدني أن أغتسل بماء البحر؟!
رد: البحر خلص سيدنا داود من دود الأرض، البحر من أعاد لزوجته شعرها، البحر وحده من يعيد لك أولادك الغائبين. والله اختارنا في غزة بالقرب من البحر لأننا من سيربح، سنصبر كصبر داود وسينهش القهر عظامنا، وفي النهاية ستمتلئ جيوبنا بالأسماء، وتتحول أكتافنا سفنا كبيرة.
قلت له: رغم كل الماء العذب الذي تصبه السماء في البحر إلا أنه يبقى مالحا! فلا ترهق نفسك، البعض لا يتغيرون مهما حاولت.
بعد أن خرجت من ماء البحر، جاء بالكلس الأبيض وصار يكومه علي، كان سريعا جدا، بعد لحظات صرت ككومة بيضاء كبيرة. أنا أشبه لحد كبير البيضة الكبيرة.
الاعتقاد أن أصل الحياة البيضة وليس الديك. حتى حين اختار الله آدم ليكون على الأرض، «كانت فكرة» والفكرة شيء مدور مثل البيضة. وحده الشر الذي لا يأتي من البيضة على هذه الأرض.
كأني محاصر من الكلس، وكلما مر الوقت عليه يصبح يابسا؛ أنا أفقد الحركة، أفقد التنفس، أرجوك خلصني من هذا البياض. وقتها جاء بمطرقة كبيرة، وكسر القشرة؛ بدأ النور يدخل علي، أنا الآن أخرج من البيضة. إننا نعتقد أن الدين أبيض، أن السفر أبيض، أن الحب أبيض، لكن هناك وقت نعذب باللون الأبيض.
أنا لا أنطق الكلام جيدا، أين نصف لساني؟ لماذا أخذته؟ كيف أكمل رحلتي دونه؟ عرفت الآن لماذا أخذت نصف لساني؛ إن أغلب كلام البشر من السماء، والكلام المقدس في حياتنا، هذا الكلام الذي سوف يقتلنا لأننا نقول ونمضي طوال حياتنا ونحن نردده على كل الأجيال، لكن نردد على مسامعهم ليموتوا. قد يندم الإنسان على الكلام، ولكنه لا يندم أبدا على السكوت. لو كل رجال الدين يصمتون لعشنا دون حدود، لعشنا في قرية كبيرة اسمها الأرض.
أرجوك أبعد هذه النار عني؛ أنا لا أحب فكرة الحرارة، أنا تعودت أن أستحم بماء بارد أو عادي في وقت الشتاء. المهم أنا أكره الشمس الحارقة.
الحرارة يا ميشيل هي أثيرك الداخلي؛ إذا أردت أن تعرف أنك جيد على هذه الأرض، فلا بد أن تمر من تحت النار أو تكون النار تحت. لم تسمع كلمات القصيدة «تقدموا» (للشاعر سميح القاسم ): «تقدموا ، السماء من فوقكم جهنم، والأرض من تحتكم جهنم. أنت لا تعلم، لا تفوح رائحة الكعك الزكية إلا حين تمسها حرارة الفرن. كذلك أحلامنا لن تنضج ما لم تمسها قسوة التجارب.»
نامعلوم صفحہ
وقتها مررت من تحت النار، بعجلة دون أن ألتف للخلف. أنا أكرهها. فاحت مني رائحة المر، الأقحوان، وشقائق النعمان، والمرمرية الجبلية، أنا أشبه رائحة الخشب العتيق.
هذه الرائحة تذكرني برائحة أبواب القدس القديمة؛ وقتها تذكرت زيارتي للقدس في المرة الوحيدة، ورغم أني مسيحي صليت تحت الصخرة المعلقة، لأن الرحلة كانت مع أصدقائي المسلمين في المدرسة. الجميع صلوا تحتها، وأنا قلدتهم.
أصدقائي اشتروا من شوارع القدس التماثيل الخشبية على أشكال الجمال، أنا وحدي الذي سرقت قطعة خشبية خضراء من أحد أبواب القدس، رائحتها لم تغادر أنفي طوال حياتي. وحين عدت إلى البيت، أعطيت قطعة الخشب لأبي؛ أخذها وأخفاها بين دفاتره المقدسة. «يبدو أن مشهد الولادة لم يكن جديدا علي أيها الكاتب.»
جاء وقت الاستجمام، أنتظره بفارغ الصبر، بعد كل هذا. اقترح بعد إذنك فندق المتحف على شاطئ بحر غزة؛ به آثار كل شوارع غزة. صاحب الفندق كان يجمع كل قطعة بنية أثرية من وراء الحفر في شوارعنا. المتحف مكتظ باللون البني وأشكال الطين، جميل لو ارتحت هناك.
وأنا أردد تخيلي لوقت الاستجمام جاء الكاتب يرتدي ثوبا أسود، كأنه حانوتي. هز برأسه لألحق به، أخذني لمقبرة الجنود الإنجليز المسيحيين، وهذه المقبرة موجودة في وسط قطاع غزة. كدت أعترض على هذا المكان، لكن خفت من الصفعة الثانية.
أخذت جولة بين القبور، والشيء الغريب الذي أراه على شواهد القبور أنه مكتوب عليها مات عن عمر يناهز «ناقص 60»، «ناقص 100»، «ناقص 10»، «ناقص 13». ما هذا العمر الجديد؟ وقعت أمامي ورقة مكتوب بها أن أعمار الناس في هذه المقبرة تحسب باحتياجك للأفكار. الجميع هناك ماتوا وتنقصهم الأفكار ليصلوا لمرتبة الأنبياء، وحدهم الأنبياء من يوضع على قبرهم «لا شيء». عزيزي ميشيل، أن تكبر بالعمر هو شيء إجباري، أما أن تكبر بالعقل فهو شيء اختياري.
البعض رغم صغر سنه يفاجئك بنضجه وأسلوبه، والبعض الآخر رغم كبر سنه، يناقشك فيصدمك بصغر عقله.
الشيء المغري؛ في هذا المكان وجدت رجلا يحفر قبرا جديدا، رغم أن هذه المقبرة مغلقة تماما، ومكتوب عليها للسياحة، ليس للدفن.
سألت الرجل: لمن هذا القبر؟ - جاء غريب وطلب مني حفر قبر بالقرب من الشارع. قال لي: إنه سوف يموت شخص يشبه الأنبياء؛ طري، ببشرة بيضاء. سيكتب على قبره «المسيحي الأخير، ناقص صفر». - من هذا الغريب؟ وما هي أوصافه؟ (حين سرد لي أوصاف الغريب، كانت تشبه لحد كبير الكاتب. قلت في نفسي: سأموت في آخر الرواية، لكن لا خوف أنا مجرد بطل على ورق.)
صرخت بصوت عال؛ لعل الكاتب يسمعني. سوف أقول لك معلومة، لا يدري المرء إن نام من الذي سيوقظه؛ أهله أم الملكان لسؤاله. فاللهم أحسن خاتمتي في هذه الرواية واصرف عني ميتة بطل الورق.
نامعلوم صفحہ
تفاصيل لا بد منها
وضعت في جيوب ملابسك أربعة فصول؛ في جيبيك الأماميين وضعت لك الربيع والصيف، وفي جيبيك الخلفيين وضعت أيضا الخريف والشتاء.
في غزة ما تراه من أفعال للناس هو تأثير الفصل عليهم. كثر من بداخلهم ربيعا وحين تراهم تشعر أنك تواجه صيفا حارا جدا. والذين يركضون في شوارع غزة تشعرهم مبللين بالمطر، لكن داخلهم خريفا يوزع اصفرارا في المدى، خريف يجعل زرقة البحر رمادية.
الفصول في جيوبك عبارة عن غبار، فقط عليك أن تنثره على من تشك في تصرفاته، انتظر برهة من الوقت سيظهر لك بحقيقته السليمة.
لا تحكم على الناس من ثقافتك، ولا تحكم على الناس من أفعالهم، احكم عليهم من دواخلهم. وهذا صعب، لكن في جيوبك الأمامية والخلفية مفتاح أسرار الناس في غزة.
سأخبرك اليقين؛ نحن في غزة كلنا نتبع الموضة، لا أقصد الموضة بالأزياء أو الألوان ولا الروائح، أقصد التقليد الأعمى.
في لحظة تجدنا مقاومين نحمل السلاح، صغيرنا قبل كبيرنا، النساء أيضا يفجرن أنفسهن ويقدمن أرواحهن مهرا للمقاومة. يصبح عندنا الموت كفاكهة الصيف تنتشر على أرصفة الشوارع، فكيف أصبح الجميع حملة سلاح؟ كيف أصبح أطفالنا مقاتلين وتركوا المراجيح ولعبة كرة القدم في الشوارع؟ كيف تركوا لعبة التزلج على رمال السوافي؟ كل يوم شهداء ومصابون للوطن، وأغلب من يدعي المقاومة لا يعرف كم هي عدد محافظات الوطن!
كل هؤلاء يظهرون كفصل الخريف، لكن لو نثرت عليهم غبار الربيع سيتحولون لقطط لطيفة بفراء أصفر ناعم جدا، تحملها أنى تشاء. وصغارنا (أقصد أطفال البندقية) ستجد جيوبهم محشوة بالبنانير (الجل الزجاجي)، يلعبون ساعات ويأكلون ساعات، وينامون بعد ضحكات طويلة.
خذ افتح هذا الصندوق، ستجد عدسات مخلقة من شفرات وراثية لزرقاء اليمامة، بعد أن تستخدمها سيتنبأ أهلها بالحروب القادمة، وأخطر مهمة أن تخبرنا عن الحروب الداخلية. نحن نتنبأ بالعظماء بجلب الحرب الخارجية لأنفسنا، لكن كلنا نكون بغفلة عما يحدث في جبهتنا الداخلية.
هذه شفرات زرقاء اليمامة، أرجوك حاول أن تخبرنا عما تخبئه لنا الحدود. إذا تحرك الشجر، أو كثرت أعداد العصافير على الحدود، أرجوك بلغنا، نحن بحاجة ماسة أن نموت ونحن نعلم وقت موتنا؛ نشعر أننا نجيد الاستغفار قبل الموت. حين ترى العدو يركض في شوارعنا قل بصوت عال:
نامعلوم صفحہ
خذوا خذوا حذركم يا قوم ينفعكم
فليس ما قد أرى م الأمر يحتقر
إني أرى شجرا من خلفها بشر
لأمر اجتمع الأقوام والشجر
تحسس الآن أذنك، هي الوحيدة التي لا تستطيع أن تعطلها بإرادتك؛ فأنت تستطيع أن تغمض عينيك أو تشيح بوجهك بعيدا إذا لم ترد رؤية شخص معين، وتستطيع ألا تأكل، فلا تتذوق، وأن تغلق أنفك عن رائحة معينة، أو لا تلمس شيئا معينا لا ترغب بلمسه، ولكن الأذن لا تستطيع تعطيلها حتى لو وضعت يديك عليها، حتما سيصلك الصوت؛ لذلك الآن سمعك مضاعف كالحسنات؛ حين يرتل أحدهم عليك آيات الدين ستسمع الكلمات وتسمع قلبه قبل أن يقولها، هكذا أنت بهذا السمع ستكون مميزا جدا. إن الشخص الذي يريد الحياة تسمعه ببساطة؛ لأن الحياة لها وجه واحد هو السعادة والحب، لكن الموت له مئات الطرق. والآن سوف تميز من هم رواد الحياة ورواد الموت.
عندما تنام يا ميشيل فإن الحاسة الوحيدة التي يمكن أن توقظك هي حاسة السمع؛ ولذلك أنا أتجول بجوارك وأنت نائم كما أشاء دون أن تنتبه، إلا إذا صدر مني صوت فإنه يكون كفيلا أن يغير حياتك. أنا حين أحضر لك حدثا جديدا في الرواية أقوله بصوت عال ثم أكتبه.
قبل أن تقرر الرحيل عن غزة كنت فقط تسمع صوت الشيطان في داخلك، كنت تقوم مفزوعا، تشرب كل مياه البيت ويظل حلقك كصحراء العرب جافا جدا. وحده الشيطان من تستطيع أن تسمعه في الليل. هل ضربك الشيطان يوما؟ هل أكل الشيطان معك يوما؟ هل نام الشيطان معك ليلة؟ نحن هنا نؤمن بهذا، لكن أنت الوحيد في هذه اللحظة سوف تسمع الشيطان داخلك، وستتحرر منه وأنت تنطلق في السماء بطائرة شراعية. اعلم يا عزيزي أن الشيطان لا يطير.
كما اعلم ما هو الشيطان هو «شحاذ في الليل» أو «الشيطان ليلة» (اسم مناسب). وليس هناك أي عجب لماذا نعلم أطفالنا عنه كلمة. بعد كل شيء، نحن في غزة نعرف أن الشياطين أو الأموات حقا لا تمشي على الأرض بهذه الطريقة. يقول لنا في الواقع إن الشياطين تفضل جسم الإنسان، وعلى الرغم من أنها قد تقبل على جثة حيوان.
لذلك إذا فعلوا المشي على الأرض بين هؤلاء الناس، فعلوا ذلك على الأرجح في جسد واحد من تلك الحلقة، الكهنة الذين بنوا النيران على «الشياطين»، استخدمها لترويعنا!
اعلم يا ميشيل أن الموت في غزة ناضج جدا، يرضع الطرق.
نامعلوم صفحہ