Mukhtasar Tuhfat al-Muhtaj bi Sharh al-Minhaj
مختصر تحفة المحتاج بشرح المنهاج
ناشر
مركز النور للدراسات والأبحاث
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م
اصناف
مُخْتَصَرُ تُحْفَةِ المُحْتَاجِ بِشَرْحِ المِنْهَاجِ
المؤلف: مصطفى بن حامد بن حسن بن سميط
الطبعة: الأولى، ١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م
نامعلوم صفحہ
تقريظ العلامة سالم بن عبدالله الشاطري مدير رباط تريم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رفع بالعلم أُنَاسًَا، وأذل بالجهل آخرين، وجعل علم الفقه عمادًا لهذا الدين، وعاملًا قويًا حافظًا للدين، نحمده على نعمه التي شملت العالمين، وأسأله أن يفتح علينا، وعلى كل طلاب العلم فتوح العارفين، ويفقهنا وإيِّاهم في الدين، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين القائل: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».
أما بعد: فقد سرحتُ نظري في هذا الكتاب المسمى «مختصر تحفة المحتاج» لمؤلفه الطالب النجيب البحَّاثة مصطفى بن حامد بن حسن بن سميط أحد المتخرجين من رباط تريم وكلية الشريعة بتريم، وقد رأيتُ ذلك الكتاب كتابًا نافعًا مفيدًا في بابه، وقد سهل الكثير من العبارات الصعبة، وجمع الكيثر من المسائل المتفرقة، وبيَّن المعتمد من غيره، وأشار فيه إلى المسائل التي خالف ابن حجر فيها غيره من علماء الشافعية في عصره؛ فيكون الكتاب بذلك من أحسن الكتب في الفقه وخُصوصًا لقُرَّاء المنهاج والتحفة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ونفع الله به الأمة، وجعله خالصًا لوجهه الكريم.
1 / 1
تقريظ الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ عميد دار المصطفى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن مما أبرز الله ﵎ في علم الفقه والشريعة الغراء والملة الحنيفية السمحاء الأئمة المجتهدون، وقد انتشر علم الأئمة الأربعة واشتهر، وقيّض الله له من يتوسع في أبحاثه ومداركه ويبني على أصوله؛ وكان مما اشتهر بين الشافعية في الفقه الإمام ابن حجر الهيتمي ﵀، ومن أعظم ما وقع موقِعًا حسنًا من كتبه بين فقهاء الشافعية؛ شرحه لمنهاج النووي (تحفة المحتاج)، ولم تزل محط عنايةٍ من أكابر الفقهاء وموضع اهتمام منهم وتسابق إلى تفهم عباراتها وإرجاع الضمائر إلى ما تعود عليه، واستيعاب دلائل العبارات التي رصفها الشيخ رصفا، واستعصت على كثير من الأفهام، ولم تزل تلك المنزلة المرموقة لذلك الكتاب، وقد وفّق الله ﵎ الراغب في تحقيق العلم وتحصيله السيد مصطفى بن حامد بن حسن بن سميط إلى اختصار ذلك الكتاب الكبير القدر، العظيم الموقع، فأجرى الله ﵎ من توفيقه على يده تقريبًا وتبينًا لعباراته وجمعًا لأهم مسائله وخدمة للوصول إلى الاستفادة من ذلك الكنز الدفين وتيسير الحصول على الفوائد منه بهذا التيسير والجهد الذي قام به في إبراز هذا العمل الطيب، وقد طالعه عدد من شيوخه وأهل الاشتغال بالتفقه فخرج بهذه الصورة الطيبة التي يرتجى عظيم النفع بها لطلاب العلم الراغبين في تحقيق علم الفقه على مذهب الإمام الشافعي ﵁؛ فالله يبارك في جهده ومسعاه، ويكسو ما جمعه بأنوار الإخلاص له والقبول لديه، ويكتب به النفع الواسع العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بتاريخ ٢٧/ شعبان ١٤٢٩ هـ.
1 / 2
تقريظ العلامة أحمد بن عبد العزيز الحداد مفتي دبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفق من أحبَّهُ للتفقه في الدين، وأكرم من أطاعه من عباده المؤمنين، وأضاء له طريق الحق المبين، فجعله من أهل اليمين.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الأنبياء والمرسلين، وسيد خلق الله أجمعين، الذي أنار لنا طريق الهداية، وحذرنا من طرق الغواية، فكانت قدوتنا به خير غاية، وعلى آله وصحبه وتابعيهم إلى يوم النهاية.
أما بعد: فإن التفقه في الدين منة الله تعالى على من أراد الله تعالى به الخير من المؤمنين، به يُستنار الطريق، ويقوم دين الله تعالى على التحقيق، وتفتح به آفاق الدنيا، ويدرك به نعيم الآخرة، كما يشير لذلك قوله سبحانه ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ التوبة: ١٢٢؛ فجعل الفقهاء منذرين كما كان رسول الله ﷺ بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وقد خلفه في هذه المهمة فقهاء الأمة، الذين يبصرون ويرشدون، ويرغبون ويبشرون وينذرون، فكانوا خلفاء رسول الله ﷺ على التحقيق كما قال ﵊: «.. إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا، ولا درهما، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»؛ لذلك كانت منزلتهم عند الله كبيرة، ومكانتهم في المجتمعات خطيرة، فقد جعلهم الله تعالى في مصاف الملائكة الكرام في الاستشهاد، فشهدوا له بالوحدانية بغير عناد، وكانوا أهل خشيته من العباد، وميَّزهم عن غيرهم من سائر السواد، فكانوا أكرم الخلق على الله؛ لأنهم أهل تقواه، وورثة مصطفاه، لاسيما أهل الفقه منهم، الذين لهم مزية الخيرية على لسان خير البرية؛ لما لهم من إدراك الحقائق، والسير على أقوم الطرائق، وما لهم من شديد العلائق بكل
1 / 3
الخلائق؛ لأنهم يبينون لهم الأحكام، ويميزون الحلال من الحرام، ويحذرون من الآثام ويدعون إلى دار السلام، لهم قصب السبق في العلماء، ومداد محابرهم أفضل من دماء الشهداء؛ لما لهم من أثر صالح، وطريق ناجح، وحاجة الناس إليهم كحاجتهم إلى الطعام والشراب بل أشد، وهدايتهم إلى الخير كهداية نجوم السماء بل أسد، فكم صنفوا من كتب الهداية، كالتحفة والنهاية، والروضة والغاية، كانت سببًا لبقاء الأحكام الشرعية، وهداية البرية، وحفظا للملة الحنيفية، فلا ترى مصليًا ولا مزكيًا، ولا صائمًا ولا حاجًا أو معتمرًا ولا بائعًا أو مشتريًا، ولا مزارعًا أو صانعًا، ولا ناكحًا أو قاضيًا، ولا شاهدا أو مزكيا، ولا غير ذلك، إلا كانت هدايته من تلك الكتب النيرات، والمؤلفات الصالحات، التي تفرقت في الأمصار، ووصلت ما بلغ الليل والنهار، فكم من قارئ لها وحافظ، وكم من شارح لها وفائض، لاسيما منهاج الطالبين وعمدة المفتين للإمام الحافظ الحجة ولي الله تعالى وقطب الوجود: يحي بن شرف النووي، المتوفى سنة ٦٧٦ هـ، الذي هو متن المذهب وعمدته، والذي تبارى في خدمته أئمة الشافعية، فلا يحصى كم شارح له وناظم، ومختصِر له أو محش عليه أو على شروحه أو مدلل لأحكامه، كان من أجلها جلالة وأكثرها دلالة: تحفة المحتاج بشرح المنهاج للإمام أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي المصري الشافعي الصوفي الأشعري، المتوفى سنة ٩٧٤ هـ، الذي وُصف بأنه خاتمة أهل التصنيف، وخطيب ذوي التأليف، إمام العلماء المحققين، ولسان الفقهاء المدققين، الذي أتى فيها بما لذ وطاب، من الفقه المستطاب، فكانت عمدة المتأخرين، من الفقهاء والمحدثين؛ لما فيها من إحاطة نصوص الإمام الشافعي، إمام المذهب رحمه الله تعالى، مع مزيد تتبع لأقوال أئمة المذهب بتحقيقاته وترجيحاته وتخريجاته، فأصبحت عمدة العلماء ومرجع الفقهاء، حتى قال بعضهم:
فإننا عن قول غير ابن حجر … حذام هذا الفن قاطعوا النظر
1 / 4
ومع ذلك فإنها تحير النجباء، وتستوقف العلماء؛ لما فيها من كثرة التفريعات، وبعد الإشارات، فيكل الجهد عند قراءتها، وتمل النفس عند استصعاب مسائلها، فتقل الفائدة من فيض فوائدها، لاسيما مع فتور الهمم وكثرة الشغل، وكما قيل:
لكن من التطويل كلت الهمم … فصار فيه الاختصار ملتزم
نعم لقد صار الاختصار ملتزما خدمة للعلم وأهله، وللمذهب ورجاله، وللدين وفقهه، ولكن من الذي يتطاول على ذلك الجبل الشامخ، في عصر ظُن أن رجال العلم قد تقاصرت مداركهم عن فهم كتب المتقدمين، فكيف باختصارها أو شرحها أو التعليق عليها، فضلا عن مجاراتها؟! وما يُدرى أن لله رجالا أخفياء، بهم يحفظ دينه، وينصر شرعه، ويعلي كلمته، لا سيما من العترة الطاهرة التي حفظ الله بها الدين والمؤمنين، ولا تفترق عن القرآن المبين، كما شهد بذلك سيد المرسلين، ﷺ، فخبأ الله تعالى هذه المهمة الجلّى، لذي همة مثلى، في آخر الأزمان الذي أصبحت المادة فيه طاغية، والحياة لاهية، فقل فيه العلم بل ضاع، واتسعت فيه الأطماع.
وقد كان ذلك الرجل الذي تصدر لهذه المهمة العظيمة، بالهمة العالية والحكمة البالغة؛ الحسيب النسيب العلامة النحرير والبحاثة القدير السيد مصطفى بن حامد بن حسن بن سميط، العلوي الحضرمي اليمني الذي جمع من الفضائل ما لم يدركه الأوائل، وخزائن أسرار الله في خلقه لا تنفد، وما دام الليل والنهار يتجدد، ولا ريب فكم ترك الأول للآخر! فقد غاص هذا الشاب الهمام، والماهر الإمام، في قاموس التحفة، فأخرج من لجُها درر الأبحاث العلمية، والنكات الفقهية، والمسائل الفرعية، وهذب أبحاثها، وحرر ألفاظها، ودقق في دلالتها، واقتصر من أبحاثها على ما لا بد للفقيه والقارئ منه، وترك ما في تركه غنية عنه، فجاء المختصر معتصرا، فيه لذيذ المسائل، وقريب الدلائل، فقرب منها ما بعد، ويسر ما عسر، فكانت خلاصته شرحا وافيا، ومتنا صافيا، ومعينا كافيا، فلله دره من همام وعلامة
1 / 5
إمام، كيف وهو قد عاصر النهضة العلمية، والثروة المعلوماتية، فاستفاد من تقنيات العصر، وواكب نوازل الدهر، وشارك في حل المسائل العويصة، ودقق في عبارات فقهائنا المنيفة، وحرر كثيرا من مسائل الخلاف، في المعاملات المالية الحديثة بإنصاف لا بإجحاف، فجمع بين أصالة الأقدمين، وفكر المحدثين، بثوابت تأصيلية وقواعد تنويرية، فكانت أبحاثه وافية، وعباراته ضافية وصافية، ليس فيها حشو المتأخرين، ولا تعقيد المتقدمين، فما أوفى أبحاثه! وما أدق مباحثه! وما يقدر على هذا الاختصار، إلا من كان سالكا هذا المضمار، وليس هذا بمقدور إلا من له عناية من الفاتح، سبحانه، وله صلة بالقاسم المانح، فاغترف من فيوضات العلم الرباني، وتشرف بالنسب العدناني صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، فهنيئا له بما قدم وأنجز، وشكرا له على ما اختصر وأوجز، وبحث وعزز.
والله أسأل أن يعم النفع بهذا المختصر المفيد، كما نفع بأصله التليد، إنه الحميد المجيد، المبدئ المعيد الفعال لما يريد.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وكتبه الفقير إلى عفو الله تعالى
أحمد بن عبد العزيز بن قاسم الحداد
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي
عفا الله تعالى عنه
غداة يوم السبت الثاني والعشرين من شهر شعبان من عام ١٤٢٩ هـ
الموافق ٢٣ من أغسطس من عام ٢٠٠٨ م بمنزلي بدبي المحروسة
1 / 6
تقريظ العلامة حسن مقبولي الأهدل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلقد اطلعت على ما كتبه الشيخ العلامة الفقيه مصطفى بن حامد بن حسن بن سميط من جهد قام به وبحث مفيد، وهو اختصار تحفة المحتاج بشرح المنهاج للإمام العلامة الفقيه المجتهد الشيخ أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، المتوفى سنة ٩٧٤ هـ.
وهذا المختصر الذي بأيدينا مختصر مفيد مُحَرَّرٌ يحتاج إليه طالب العلم اقتصر فيه الباحث على إبقاء المسائل المعتمدة في المذهب فلم يحذف منها شيئا، وقد قرَّب الباحث بهذا العمل المادة العلمية المعتمدة في المذهب في هذا السفر الجليل، ويعتبر هذا الاختصار عملًا عظيمًا مفيدًا في بابه لا يجرؤ عليه إلا الراسخون في العلم المحققون في مذهب الشافعي والمحررون لأقواله وأوجهه المعتمدة، وحيث أن هذا الكتاب المختصر من أهم الكتب المعتمدة في مذهب الشافعي عند المتأخرين فقد كان للباحث السبق في العناية بهذا الكتاب وتسهيل عبارته مع استيعاب المادة العلمية بأوجز عبارة وأقل جهد مع التحقيق وحسن الاختيار لما أبقاه وما تركه، وهو يستحق بهذا العمل الشكر والتقدير على ما قدمه، ونسأل الله أن يأجره على هذا الجهد ويجزل له الثواب ويرزقه التوفيق والسداد، وأن ينفع بعلمه الإسلام والمسلمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه أ. د. حسن محمد مقبولي الأهدل
رئيس قسم أصول الفقه والحديث
كلية الشريعة جامعة صنعاء
1 / 7
تقريظ العلامة شيخنا محمد بن علي بن باعوضان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنفرد بالكمال المعروف بكل نوال، المحمود على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الكبير المتعال، سبحانه من أبرز لكلِّ زمان فئة من الرجال، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صادق القول والفعال وعلى آله وصحبه خير صحب وآل.
أما بعد: فقد طلب مني السيد النجيب والطالب اللبيب مصطفى بن حامد بن حسن بن سميط أن أنظر في الربع الثالث من الأحكام الفقهية التي اختصرها من تحفة المحتاج بشرح المنهاج للشيخ المحقق شهاب الدين أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى، فلم أجد بُدًَّا من ذلك فأجبته خدمة للدين وتشييعا لطلابنا المتخرجين من رباط تريم وكلية الشريعة بتريم في المضي قُدُمًَا في مثل هذه الخدمة المباركة فسرحت نظري فيها، وبذلت جهدي في تصحيحها.
وقد لاحظت عليه ملاحظات البعض منها وافقني عليه فصححه، والبعض الآخر راجعني فيه فوافقته عليه، فبقي صحيحا، وما راجعناه وصححناه نرجو من الله تعالى أن يوافق الصواب.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الفقير إلى ربه المنان: محمد بن علي بن فرج باعوضان، ١٤٢٦ هـ.
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المختصر
الحمد لله رب العالمين الذي هدانا لعبادته واتباع شريعته، وجعل الطريق إلى ذلك التفقه في الدين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير المرسلين، وأصدق العابدين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتزكى بنوره إلى يوم الدين.
أما بعد فلطالما خامر البال خدمةُ شيءٍ من كتب أئمتنا الشافعية ﵃ حتى أشار عليَّ بعض الشيوخ بتصنيف مختصر لطيف لتحفة الشيخ أحمد بن علي بن حجر الهيتمي ﵀ باسطا لغامضها قابضا لإطنابها فامتثلت وشرعت فيها مستخيرا مستمدا العون من المولى ﵎ خير معين فوجدت أنِّي أمام طود شامخ من العلم قد أتقن الشيخ ابن حجر ﵀ بناءه، فالتحفة كثيرة المباحث والاستطرادات مترامية الأطراف محبوكة العبارات، وكان القصد تيسيرها بعض الشيء بحيث يفهم ما فيها متوسط الفهم، وليس هذا مِنِّي إلا جهد المقلّ وتطفلٌ على ذلك البحر المتلاطم فما وافق الصواب فمنِّة منه ﵎، وما وُجد بخلاف ذلك فسوء فهم أو تقصير مني، فليعذر المطلع على
1 / 11
نقص أو تقصير، وأرجو منه التنبيه على ذلك مأجورًا، وليلتمس لي العذر لأني كتبت ذلك على عجل وانشغال بغير الفقه، ولعل لي أن أقول:
وَلِبَنِي خَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ سَنَهْ … مَعْذِرَةٌ مَقْبُوْلَةٌ مُسْتَحْسَنَهْ
وليعلم الواقف على هذا الكتاب أنَّ ملخص طريقي في كتابته التالي:
أولًا: تلخيص المباحث، واعتماد ما توصَّل إليه الشارح آخر البحث، ولا أعدل عن عبارة الشارح إلا لغموض فيها، وقد أبدلها من كلام الشُّرَّاح أو المحشيين، فإن لم أجد ما يفي بالمراد أبدلتها بعبارة من عندي حسب ما يظهر لي.
ثانيًا: غالبا لا أحذف شيئا من المسائل والفروع الفقهية، نعم قد أقدمه أو أخِّره لمناسبة تقتضي ذلك، وأكثر المحذوفات هي مباحث حديثية أو أصولية أو نحوية أو بلاغية، وقد جمعت كثيرا من ذلك كلًا على حدته مع كتاب في القواعد الفقهية المذكورة في التحفة أسأل الله المعونة في تحقيقه.
ثالثًا: كثيرا ما يحيل الشارح على ما قدمه أو ما يأتي في التحفة، أو ما يذكره في كتبه الأخرى، وقد حاولت أن أحقق ذلك، وأرجو إن استقرت طباعة هذا الكتاب أن أشير إلى ذلك بالصفحات، نعم كثيرا ما يحيل الشارح على الإمداد والعباب ولم أجد من ذلك إلا ما ينقل عنهما، وإلا مجلد يحتوي على أكثر العبادات من الإمداد.
1 / 12
رابعًا: اعتمدت من اصطلاح الشارح المختلف فيه على ما استقرت عليه الفتوى من اصطلاحه، ومنه أن المعتمد ما عبرَّ فيه الشارح «بكما»، وما عبر فيه بلكن، فإن اجتمعا قُدِّمت كما، نعم محل ذلك إن لم يكن في كلامه اعتماد أو توجيه وإلا فالمعتمد ما اعتمده الشارح أو ما استوجهه. أما ما تبرأ منه الشارح فالمعتمد مقابل ذلك التبري، نعم قد أذكر كلامه في فتح الجواد في اعتماد التبري أو مقابله.
خامسًا: أشير إلى كلام الشارح أيضا في فتح الجواد والإمداد -فيما تيسر لي منه- فيما يتردد الشارح في اعتماده أو يذكر احتمالين فيه.
سادسًا: كثيرا ما يذكر الشارح مسائل في غير بابها لمناسبة أو تقييد أو استطراد أو تنظير، وقد حاولت أن أردَّ تلك المسائل إلى مظانها وأشير إلى ذلك في الحاشية، وغالبا ما أجمع ما تناثر من أقوال الشارح في المسألة الواحدة في موضع واحد.
سابعًا: تعرضت في الحاشية أيضا إلى خلاف أهم من خالفهم الشارح أو خالفوه، وهم الخطيب الشربيني في كتابه المسمى مغني المحتاج والجمال الرملي في نهاية المحتاج، ووالده الشهاب الرملي، والشيخ زكريا الأنصاري، وقد اعتمدت في نقل ذلك على حاشية الشيخ عبد الحميد الشرواني، وقد أشرت للخطيب والجمال الرملي بضمير التثنية، ولهما مع الشيخ زكريا بضمير الجمع، ثم إن كان الخلاف يفهم من المفهوم لم أفصله وإلا ذكرت نص الخلاف، وقد أعبر عن الشيخ ابن حجر بالشيخ أو الشارح.
1 / 13
ثامنًا: تعرضت في الحاشية للكلمات الغامضة وإيضاحها وضبط المشكل منها في الأصل، وقد يجوز في بعض الكلمات أكثر من ضبط فأضبطها بذلك؛ ليكون دليلًا على جواز الضبطين أو أكثر.
تاسعًا: قمت بضبط المختصر بعلامات الترقيم، وقد أتَّسع في استعمال بعضها، وقد أضع خطين بين كلامين للإشارة للترابط بينهما.
عاشرًا: ما أذكره مخالفا لظاهر التحفة أو مخالفا لبعض حواشيها كتبت رسالة صغيرة في إيضاحه وأرجو الله التوفيق لإتمامها.
ومما يجدر التنبيه عليه أن هذه النسخة قد راعيتُ فيها تصحيح الأخطاء المطبعية التي وقفت عليها من النسخة الشهيرة المطبوعة أصلا بالمطبعة الميمنية الواقعة في عشرة مجلدات مع حاشيتي عبدالحميد وابن قاسم، والتي تبلغ الأخطاء التي وقفت عليها قرابة الألفين ما بين مخلٍّ بالمعنى وغيره.
وقد أتحفني بعض الأخوان بنسخة قابلها من المنهاج فوضعتها في أعلى المختصر لتتميم الفائدة.
هذا ومما من الله علي به أن قرأ هذا الكتاب مفرقًا مجموعةٌ من شيوخي وإخواني حفظهم الله (^١)، ومن أجلِّهم سيدي الشيخ محمد بن علي الخطيب والشيخ
_________
(^١). ومنهم السيد عمر بن حامد الجيلاني والحبيب علي المشهور بن محمد بن سالم بن حفيظ، والدكتور محمد بن عبدالعزيز الحداد والدكتور حسن مقبولي الأهدل والدكتور أمجد رشيد، والأخ عمر بن حسين الخطيب والأخ عمر بن أبي بكر الخطيب والأخ عبدالرحمن بن عبدالله السقاف والأخ عبدالله ابن عبدالقادر العيدروس والأخ عبدالرحمن بن طه الحبشي وغيرهم.
1 / 14
محمد بن علي باعوضان حفظهم الله وأدامهم عُمَدًا للمذهب، وقد نبهوني وأتحفوني بالكثير، فجزاهم الله خير الجزاء.
كما أتقدم بالشكر أيضا لمركز النور للدراسات والنشر على ما قدمه إلي من خدمات في إخراج هذا الكتاب.
وعلى الله الكريم اعتمادي وإليه تفويضي واستنادي، وأسأله النفع لي به ولسائر المسلمين ورضوانه عنِّي وعن والديَّ وعن أحبائي وجميع المؤمنين.
كتبه الفقير إلى مولاه: مصطفى بن حامد بن سميط
حرر بتاريخ ٢٠/ ربيع الأول/ ١٤٢٤ هـ
1 / 15
ترجمة الشيخ ابن حجر ﵀
اسمُه ونَسَبُه
هو الإمامُ شيخُ الإسلام، وبركةُ الأنام، العلامةُ الشهير، وكعبةُ التحقيق والتحرير، خاتمةُ أهل الفُتيا والتدريس، وناشرُ علومِ الإمام محمدِ بن إدريس، إمامُ الحرمين بإجماع، وناصرُ السنة والأصحاب والأتباع، الفقيهُ النبيهُ البارع، والمحدثُ الحافظُ المطلعُ الجامع، والأصوليُّ المتفنن المتقن اللامع، صاحبُ الزهد والشرف، الصالحُ الناسكُ على طريقة السلف، شهابُ الدين أبو العباس أحمدُ بن بدرِ الدّين محمّدِ بن شمسِ الدين محمدِ بن نورِ الدّين عليِّ بن حجرٍ السَّلَمُنْتيُّ أصْلًا، والهَيْتَمىُّ مَوْلدًا، والأزهريُّ مَرْبًا ومنشأً، والصّوفيُّ إرشادًا، والجُنَيْديُّ اتباعًا وانقيادًا، والأشعريُّ اعتقادًا، والشّافعيُّ مَذْهبًا، والوَائليُّ السَّعْدِيُّ الأنْصَاريُّ نَسَبًا، والمكيُّ مَدْفَنًا.
وجدُّه: شمس الدّين محمد بن بدر الدّين علي، عاشَ وعُمِّرَ حتى بلغ مائةً وعشرين سنةً ولم يخرف، وكانت له آنذاك عباداتٌ كثيرة، رآه الشيخ وقد جاوز المائة والعشرين وأمن الخرف وكانت له في هذا السِّنّ عبادات خارقة، وهو الذي كفل الشيخَ ابن حجر بعد وفاة والده.
السَّلْمُنْتي: نِسبةً إلى أصْل وطنه «سَلْمُنت» بالفتح ثم السكون وضم الميم وسكون النون وتاء مثناة، وهي موضع قريب من عين شمس من نواحي مصر، مِن بلاد بني حَرام بمصر، عاش فيها جَدُّهُ ثمّ لما كثرت الفتن في تلك البلاد انتقل منها إلى الغربيّة، فَسَكنَ مَحَلَّة أبي الهيتم واستوطنها استراحةً مِنْ شَرِّ أهل الشرقيّة وفِتَنِهم، وتَعَرُّضِ السَّلاطين لهم لتعرُّضهم لهم.
الهَيْتَمي: نِسبةً إلى محلة أبي الهيتم بالتاء المثناة الفوقيّة.
قال نجم الدين الغزي: «وأمّا ما يقع لبَعْض المُتَشَدّقين مِنْ قراءته بالمثلثة فلم أقف عليه في كلام أئمة المنقول». ويُقالُ: إنها بالمثلثة فَغَيّرتْها العامّة.
ومحلّة أبي الهيتم هذه من إقليم الغربية بمصر. فيها وُلد الشهابُ ابنُ حجر بعد انتقال أهله عن بلدِهم الأصلي «سَلْمُنْت». وكان أهلُ هذه المحلّة على غاية من الدّيانة واتباعِ طريق الصّوفية وفيهم حفّاظُ كثيرون للقرآن العظيم، مداومون لقراءته، ولذا آثرَ جدُّه الاستيطانَ بها.
السَّعْدي: نسبةً إلى بني سَعْد بإقليم الشرقيّة من مصر.
الأنصاري: باعتبار المشهور في بني سَعْد أنهم من الأنصار؛ لكنّ ابن حجر كان يمتنع من كتابة «الأنصاري» تورُّعًا، قال الفاكهي: «ولم يمتنع عند الضرورة من الانتساب إليهم في مقام المحاورة قمعًا لمن تنقصه وتوسعًا كما اتفق له ذلك بمحضر جمع في محاورة بمكة المشرفة».
1 / 19
ابن حجر: اشتهر الشهابُ بذلك نِسْبةً إلى أقرب أجداده كان قد اشتهر بـ «الحجر» وسببُ ذلك: أنه كانت له شهرةٌ بين قومه بأنه من أكابر شجعانهم وأبطال فرسانِهم، ومع ذلك كان ملازمًا للصَّمْتِ لا يتكلمُ إلاّ لضرورة، وإلاّ فهو مشغول عن الناس بما مَنَّ الله عليه به، فَشَبّهوه بحجر مُلْقى لا ينطق فقالوا: حجر، ثمّ اشتهر بذلك.
قال الفاكهي: «حتى حقَّت هذه الشهرةُ بشيخنا؛ لأنه في حَجْر تحصيله على فوائد العلم حَجَر؛ ولأنه من المتلقب بهذه الشهرة شيخ الإسلام صاحب «فتح الباري» شارح البخاري العسقلاني، أخذ شبهًا قويًا في معرفة الخبر والأثر، ويزيد عليه في الفقهيات والتفرد في الإفتاء كما يدركه أهل النظر …».
وقد يقع التمييزُ بين الإمامين المذكورين فيقال في حقّ العسقلاني: الحافظُ ابن حجر. وفي حقّ الهيتمي: الفقيهُ ابنُ حجر؛ إذ الأوّل جُلّ صناعته الحديث، والثاني جُلُّ صناعته الفقه، مع مشاركة كلّ منها في فَنِّ الآخر.
وقد بالغ العلامةُ عبدُ القادر العيدروس مؤلف النور السافر فجعل مترجَمَنا ابنَ حجر الهيتمي أعلى كعبًا من الحافظ العسقلاني في علم الحديث.
مولدُه
وقع اختلافٌ بين المترجمين لابن حجر في تعيين سنة ولادته، وهي بحسب الأسبقية:
الأوّل: أنها سنة تِسْعٍ وتسعين وثمانمائة للهجرة، وذلك في رجب كما ذكره الفاكهي.
الثاني: أنها سنة ثمانٍ وتسعمائة للهجرة، كما ذكره الغزي قولًا.
الثالث: أنها سنة تِسْع وتسعمائة للهجرة، كما جزم به تلميذه باعمرو وعبد القادر العيدروس وذكره الغزي قولًا.
الرابع: أنها سنة إحدى عشرة وتسعمائة للهجرة، كما ذكره الغزي قولًا.
والصحيحُ من هذه الأقوال هو الثالثُ القائل بأنه وُلِدَ سنةَ تِسْعٍ وتسعمائة هجرّية.
زوجاته: وزوجاته أربع كما ذكرهن الفاكهي، وهنَّ:
الأولى: بنتُ ابن عمّه شقيق أبيه، وقد كان زواجُه منها بمصر سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة للهجرة، وذلك أنّ شيخه الشناوي ألزمه بالزواج فقال ابن حجر: لا أمْلك شيئًا. فقال شيخه: هي بنتُ أختي والمهُر مِن عندي. فزوّجه بها.
والثانية: بنتُ شيخِ سدنة الكعبة المشرفة آنذاك، وهم من بني شيبة من بني عبد الدار.
1 / 20
الثالثة: بنتُ أحدِ قُضاة مكة المكرمة من بني ظهيرة القرشيين المخزوميين، وهم أحدُ كبار فقهاء بيوت مكة المكرمة كما قال الفاكهي.
الرابعة: بنتُ أحدِ بيوتات الطبريين أئمة الشافعية بمكة.
أولاده:
ذكر الفاكهي أن الشيخ ابن حجر ﵀ مات عن تسعة من الأولاد من صلبه، خمسة ذكور وأربع إناث، أشهرهم:
أبو الخير محمّد، ووجيهُ الدين عبد الرّحمن الهيتمي، وأبو الفتح ابن أحمد بن حجر، ووالدةُ العلامة عبد العزيز الزمزمي سبط ابن حجر.
طلبه للعلم وتصدره للفتوى والتدريس
تقدّم أنّ والدَ الشيخ ابن حجر مات وولدُه صغير، فكفله جَدُّه المُعَمَّر، وكان قد حفظ القرآن الكريم و«المنهاج» للإمام النووي، ثمّ لما مات جدُّه كفله شَيْخا أبيه الإمامان العارفان شمس الدين ابن أبي الحمائل وشمس الدين الشناوي فبَالغا في رعايته.
ثمّ نَقله شيخُه الشّناوي إلى مقامِ الإمام العارفِ بالله السَّيد أحمدَ البَدّوي في طنطا، فقرأ هناك مبادئ العلوم على عالمين كانا به.
وفي سنةِ أربعٍ وعشرين وتسعمائة نَقَلَه الشناوي إلى الجامع الأزهر، وسنُّه إذاك نحو أربعة عشر سنة، وسلَّمه لرجلٍ صالحٍ من تلامذته فحفظه حفظًا بليغًا، وأقرأه متنَ «المنهاج» للإمام النووي وغيره، وجمعه بعلماء مصر مع صغر سنه.
وقرأ هناك أيضًا «مختصر أبي شجاع» المعروف بمتن «الغاية والتقريب» على شيخه أبي عبد الله محمّد الجويني ولازمه مدّة كما ذكر هو ذلك.
وفي الأزهر الشريف نبغ الشهابُ ابن حجر، حيث جَدَّ فيه واجتهد قراءةً وتحصيلًا على أئمته وعلمائه ممّن طبقت شهرتُهم الآفاق، فدار على حلقاتِ كثيرين منهم، طالبًا جميع ما اشتُهر تدريسُه من العلوم، ومن أعظم من اجتمع به وأخذ عنه شيخُ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري، وكان الشيخ زكريا يدعو له كلّما لقيه، قال ابنُ حجر: «ما اجتمعتُ به قطُّ إلاّ قال: أسألُ الله أنْ يفقهك في الدّين». وقّدْ حقّق الله تعالى هذه الدّعوةَ فيه حتى صار أفقهَ أهل عصره ومقدّمًا فيه، عمدةَ الشافعية في أبحاثه وفتاويه.
1 / 21
اشتغالُه بالفقه:
ثمّ بعد تحصيله الحديثَ على هؤلاء الأجلّة اشتغل بالفقه ودراسة متونه، فبذل فيه جُهْده وفرّغ إليه وقته، فقرأ فيه على جماعة كثيرين قال فيهم الشيخ ﵀: «تفقهتُ بجماعة كثير لا يحتمل الزمانُ ذكرهم على سبيل الاستيعاب».
ومن هؤلاء: الإمامُ شهاب الدين أحمد الرّملي، والإمام ناصر الدين الطبلاوي، وتاج العارفين الإمام الكبير أبي الحسن البكري، وغيرهم.
قال الفاكهي: «اشتغل بحلِّ متونه، فبذل فيه جهده وماء عيونه، حتى أجازه المذكورون وغيرهم في أواخر سنة تسعٍ وعشرين بالإفتاء والتدريس وعمره دون العشرين من غير سؤال منه في ذلك».
وقد ذكر الفاكهي أيضًا: أن أكثر من انتفع به الشيخُ ابن حجر في الفقه من مشايخه المذكورين هو شيخه الطبلاوي الشافعي، قال: حتى قيل: «هو الذي حنكه بلبان التعليم، ودرجه في مدارج التفهم والتفهيم، وبلغه في الفقه أشده». لكن بمعونة المطالعة لدروس التقسيم على الشهاب العالم الصالح البلقيني في عنفوان الطلب القديم.
ثم قال: «ثم أكثر مَن لازمه بعد أن تميز بالفضيلة وبلوغ الأشد شيخاه الجليلان الذي أحدهما كالساعد والسعد، والآخر كالسيد والعضد الشيخ أبو الحسن تاج العارفين البكري الصديقي الشافعي فريد عصره في الحفظ والفصاحة والعرفان، الذي كاد أن يفصح إن لم يكن أفصح أنه مجتهد الزمان، وشيخه الشيخ شهاب الدين الرملي الأنصاري الشافعي فقيه مصر المتقدم في كلام شيخنا أنه من أجل جماعة شيخ الإسلام زكريا ولعل ذلك لا يختلف فيه اثنان.
غير أن شيخه التاج البكري أعانه على الطلب وقوام الأود أو بعضه وأنزله في منزله وجعله من خواص أتباعه وأهله بأهله …».
1 / 22
قراءتُه في بقية العلوم:
وقد قرأ الشيخ ﵀ في شتىّ العلوم غير الفقه والحديث الأشياءَ الكثيرةَ على أئمة كبار ومن ذلك:
قراءته للحديثَ الشريفَ وفنونَه، والتفسير، علم الكلام أصول الدين، وعلم أصول الفقه، والنحّو، والصّرف، والمعاني والبيان، والمنطق، والفرائضَ والحِسَاب، والطّبَّ، والتصّوف.
والحاصلُ: أنَّ مقروآته كثيرة لا يمكن تعدادُها، وأما إجازاتُ المشايخ له فكثيرة جدًا استوعبها في «ثبته ومعجم شيوخه».
وهكذا ما زال ابنُ حجر ينتقل في الأزهر من درس إلى درس، ويدور على شيوخه، طالبًا تحقيق العلوم، وتحرير هاتيك الرّسوم، كلُّ ذلك مع دِقّة الفَهْم والملاحظة، وجودة ما رُزق منَ الحافظة، فأكمل الطلب وأجاد، مع علوّ الكعب والإسناد، فما وَسع شيوخه إلا إجازتهُ، بكلّ ما يخصُّ أو يعُمُّ نفعُه وحاجتُه.
هذا هو حال ابنُ حجر في تحصيل العلوم، وقد كان ﵀ خلال ذلك يُقاسي شدائد الفقر وحَسَدَ الأقران.
أما الأول؛ فإنه يقول: «قاسيتُ في الجامع الأزهر من الجوع ما لا تحتمله الجبلة البشرية، لولا معونة الله وتوفيقه، بحيث إني جلستُ فيه نحو أربع سنين ما ذقت اللّحم إلاّ في ليلة دُعينا لأكلٍ فإذا هو لحمٌ يوقَدُ عليه، فانتظرناه إلى أن ابهارَّ الليل، ثمّ جيء به، فإذا هو يابسٌ كما هو نيءٌ فلم أستطع منه لقمةً».
ويقول: «وكابدت في أربع سنين بالجامع الأزهر ما لا يطيقُ الغير مكابدته في عشرين سنة».
وقال: «ما كان قوتي في أيام الطلب إلا من قشر الحبحب والخبز المتناثر، كنت ألتقطها من جامع الأزهر واجعل عليها قشر الحبحب وأبتلع بها، ولم تطب نفسي لأن أقتات من جراية المسجد».
أما حَسَدُ أقرانه وإيذاؤهم له فيقول: «وقاسيتُ أيضًا من الإيذاء من بعض أهل الدروس التي كنا نحضرها ما هو أشدُّ من ذلك الجوع، إلى أن رأيتُ شيخَنا ابنَ أبي الحمائل السابق قائمًا بين يدي سيدي أحمد البدوي فجيء باثنين كانا أكثر إيذاء لي فضربهما بين يديه بأمرين فمزقا كل ممزق».
1 / 23
ابتداءُ رحلاته إلى بلد الله الحرام وما وقع له فيها من الحوادث:
وفي سنةِ ثلاثٍ وثلاثين حجَّ هو وشيخه الإمام أبو الحسن البكري، وجاورا بمكّة سنة أربعٍ وثلاثين، وخطر له أنْ يؤلّف في الفقه، فتوقف إلى أن رأى في النوم الحارث بن أسد المحاسبي المتوفى سنة ٢٤٣ هـ وهو يأمره بالتأليف فاستبشر وألف.
قال الشيخ ﵀: «وأذكرني ذلك ما كنتُ رأيتُه أيام الطلب، فإني رأيت امرأةً في غاية الجمال كشفت لي عن أسفل بطنها وقالت: اكتب على هذا متنًا بالأحمر وشرحًا بالأسود. ثم انتبهت ففزعت، حتى قيل لي في تعبيره: ستظهر مؤلفاتك في الدنيا بعد خفائها الكلي ظهورًا عظيمًا. فاستبشرتُ وابتدأتُ في (شرح الإرشاد).
ثمّ رجع من مكة إلى مِصْر، وعمل على اختصار «الروض» للإمام ابن المُقري اليمني، وشَرَحَهُ.
وفي سنة سبع وثلاثين حجّ بعياله بصحبة شيخه البكري أيضًا، وجاور سنة ثمانٍ، أتمَّ فيها شرحَه على مختصر «الروض».
وفي سنة أربعين حجّ أيضًا بعياله هو وشيخه المذكور، وجاور سنةَ إحدى وأربعين.
ثمّ عزم شيخُه على العود إلى مصر، وأقام هو بمكة، ونوى الاستيطانَ بها من ذلك الزمن، وأخذ يؤلف ويفتي ويدرّس.
زيارتُه للمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام:
ثمّ من مكّة ابتدأ زيارته للدّيار المنوّرة على ساكنها ومنوّرها أفضلُ الصّلاة والسَّلام. فجاورَ بها سنةَ خمسين.
ثمّ أنشأ زيارةً ثانيةً في يوم السبت ثامن عشر شوّال سنة ستٍّ وخمسين، فلما وصَلَ صبيحةَ الأحد إلى وادي مَرِّ الظهران خطر له أنْ يجعل وسيلته إلى المثول في تلك الحضرة النبوية تأليف كتابٍ في ذلك الشأنِ فَصَنّف «الجوهرَ المنظم في زيارة القبر المكرّم».
وله زيارةٌ ثالثةٌ أيضًا سنة تِسْع وخمسين. وكان ﵀ في تلك الزياراتِ والمجاوراتِ مقدّمًا في الخاصّة والعامّة تأتيه العويصاتُ والمشكلاتُ من المسائل والفتاوى فيتصدّى للجواب عنها.
وكان مِن أهمَّ ما وَرَدَ عليه ثَمَّ ما سأله عنه بعض أكابر فضلاء المدينة عمّا إذا اختلف ترجيح المتأخرين والشيخين فما المعتمدُ عليه في ذلك؟ وقد أطال السائل في الاحتجاج والانتصار لاعتماد ترجيح المتأخرين فأجابه ابن حجر بجوابٍ مبسوط متكفل برَدّ جميع ما أطال فيه. وقُرئ ذلك الإفتاءُ بحضرة فضلاء المدينة المشرّفة فلم يمكنْ أحدًا منهم أنْ يبديَ فيه شيئًا بل وافقوه وعلموا أنّه الحقّ.
1 / 24