آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (٧)
مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول ﷺ
لشيخ الإسلام ابن تيمية
اختصره
العلامة محمد بن على بن محمد البعلي الحنبلي ت (٧٧٨)
تحقيق
علي بن محمد العمران
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
1 / 1
راجع هذا الجزء
محمد أجمل الإصلاحي
1 / 3
مقَدّمةُ التَّحقيق
نحمدك اللهم على ما أنعمتَ به علينا من بِعْثة هذا النبي الأُمِّي الخاتم، الرؤوف الرحيم، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)﴾ [التوبة: ١٢٨]، فاللهم إنا نشهد أنه أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، وقام في أمته أصدق قيام:
فما حملتْ من ناقةٍ فوقَ رحلها ... أبرَّ وأوفى ذمةً من محمد
فَتَرَكَنا على طريقٍ سويٍّ، ومحجَّة بيضاء، وصراطٍ مستقيم، فاجْزِه اللهمّ خير ما جزيتَ نبيًّا عن أُمته.
ثم نحمدك على ما يسَّرت على يديه من الهدى بعد الضلال، والنور بعد الظلام، والرَّشَد بعد الغواية، والعلم بعد الجهالة، والرِّفعة بعد الذلة، والتبصُّر بعد العماية.
أما بعد؛ فمن واجبات الدين المتحتِّمات تعزير نبيِّنا وتوقيره ومحبته وطاعة أمره، بل لا يكمل إيمانُ المرء حتى يكون هو "أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". كما أوجب علينا أيضًا أحكامًا أخرى في عقوبة من سبَّه أو أهانه أو استهْزَأ به، أو خالف أمره، أو ابتدع طريقة غير طريقته = حمايةً لجنابه الكريم، وتقديسًا لذاته الشريفة، وتنزيهًا لعِرْضه النقي، وصيانة لجاهه العَلِيّ، وحِياطة للشريعة التي جاء بها.
وهذه الأَحكام جميعها بيَّنها العلماءُ في بحوث مستفيضة في مصنفاتهم الفقهية في (أبواب الردة) وفي كتب العقائد، وفي مصنفاتٍ
1 / 5
مستقلة. وكان من أعظم هذه التصانيف - إن لم يكن أعظمها مطلقًا - كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول ﷺ"، لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية (٧٢٨) - رحمة الله عليه - وكان تصنيفه له عام ٦٩٣ لحادث اقتضى ذلك (^١).
وقد نثر ﵀ كنانته في جميع مباحث الكتاب ومسائله؛ فحقق وحرَّر، وناقش ودلَّل، وتوسَّع في نقل المذاهب واستطرد، وأتى بما أعجز العلماء عن الدفع والرد، فرجَّح واختار واحتج، فحدِّث عن البحر ولا حرج.
ولعل في الحادثة المشار إليها قريبًا التي اقتضت تأليف الكتاب حافزًا قويًّا لهذا التوسُّع والاستطراد.
وعليه؛ فالكتاب بحاجة إلى شيءٍ من التهذيب والانتقاء حتى يتسنَّى لعموم الناس الانتفاع به والإفادة منه بأقرب طريق، وذلك بتقريب مسائله، وإبراز مقاصده، وتقليل صفحاته (^٢).
فاعتنى بهذا الأمر الشيخُ العلامةُ الفقيه محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي المتوفى سنة (٧٧٨). والبعليُّ أدرك من حياة شيخ الإسلام بضع عشرة سنة على أقل تقدير، بل تتلمذ لمن توفي قبله مثل اليونيني ت (٧٢٦)، إلا أن الجزم بأنه أخذ عنه أو لقيه بعيد، ولئن فاته ذلك إلا أنه قد أخذ عن تلاميذ شيخ الإسلام مثل ابن القيم وابن عبد الهادي - كما سيأتي - فهو سليل تلك المدرسة المباركة.
_________
(^١) انظر الخبر مفصلًا في "الجامع لسيرة شيخ الإسلام": (ص/ ٣٤٤ - ٣٤٥).
(^٢) ومما يؤيد هذه الحاجة: أن الدكتور صلاح الصاوي قد اختصر الكتاب، ولم أقف عليه.
1 / 6
وللبعلي - أيضًا - عنايةٌ خاصة بكتب شيخ الإسلام واختصارها، فقد اختصر أربعة من كتبه هي "الفتاوى المصرية"، و"الصارم"، و"الاقتضاء"، و"إبطال التحليل" كما سيأتي في ذكر مصنفاته.
وقد وقفت - بحمد الله - على مجموعٍ نفيس يضمُّ هذه المختصرات بخط مؤلفه، فكان من المحفِّزات على صرف شيءٍ من الوقت للعناية بها، فبدأت بهذا المختصر، وثنَّيتُ بمختصر "الاقتضاء" المسمَّى: "المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم". وثلَّثت بـ "مختصر الإبطال" المسمَّى: "شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل"، أما "مختصر الفتاوى" فهو مطبوع وإن كان بحاجة إلى مُعَارضته بأصل مؤلفه.
وقد قدمت له بمقدمة لخَّصْتُ فيها فصلًا في تكفير السابّ والمستهزئ بالله أو رسوله، والرد على شُبه المرجئة وأتباعهم، وترجمتُ للمؤلف، وعرّفت بالكتاب وعملي فيه، أسأل الله أن ينفع بهذا المختصر كما نفع بأصله، وأن يكتب الأجر للجميع، مؤلفه ومختصره والمُعْتني به، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
عليُّ بن محمد العمران
١٩/ ٢/ ١٤٢١
في مكة المكرمة حرسها الله تعالى
ص. ب (٢٩٢٨)
1 / 7
فصل: في كفر الساب والمستهزئ بالله أو رسوله والرد على المرجئة وأتباعهم
من المسائل المهمة التي حرَّرها شيخ الإسلام في "الصارم" مسألة السبّ (سبّ الله أو رسوله) وأنه كُفْرٌ ظاهرًا وباطنًا، سواءٌ اعتقدَ السابُّ تحريم ذلك أو استحلاله، أو كان ذاهِلًا عن اعتقاده.
قال شيخ الإسلام: "وهذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة، القائلين بأن الإيمان قولٌ وعمل".
ثم ذكر بعض نصوصهم في إثبات ذلك، ثم أجابَ عن شُبَه من قال: إنما يكفر مُسْتحلُّ السبِّ، وبيَّن أن هذا قول الجهميَّة الإناث والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو مجرَّد التصديق بالقلب وإن لم يُقارنه قولُ اللسان، ولم يقتضِ عملَ القلبِ والجوارحِ.
ولأهمية هذه المسألة، ولانزلاق بعض العصريين فيها، ومتابعتهم لقول أهل البدع من المرجئة والكرّامية، وعدم فهمهم لمذهب أهل السنة والجماعة بسبب هوًى أو شبهة = نلخِّص ما ذكره الشيخ في الأصل - إذ اختصره المصنّف - لعل الله أن ينفع به من شاء من عباده.
قال الشيخ ما ملخصه مع بعض التصرُّف (^١): وهذا موضع لا بدَّ من
_________
(^١) البحث في "الصارم": (٣/ ٩٦٠ - ٩٧٦).
1 / 8
تحريره، ويجب أن يُعْلَم أن القولَ بأن كفر السابِّ في نفس الأمر إنما هو لاستحلالِه السبَّ زلةٌ منكرةٌ وهفوةٌ عظيمةٌ ... وإنما أوقع من وقع في هذه المهواة ما تلقَّوْه من كلامِ طائفةٍ من متأخري المتكلِّمين الذين ذهبوا مذهبَ الجهمية الأولى ...
وليس الغرض استيفاء الكلام، وإنما الغرضُ التنبيهُ على ما يخصُّ هذه المسألة، وذلك من وجوه:
أحدها: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء: "أنه إن كان (أي: السابّ) مُسْتحلًّا كفر وإلا فلا"، ليس لها أصلٌ، وإنما نقلَها القاضي (يعني: أبا يعلى) من كتاب بعض المتكلمين الذين حكَوْها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريًا في أُصولهم، أو بما سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يُعَدّ قولُه قولًا ... فلا يظن ظانٌّ أن في المسألةِ خلافًا يجعلُ المسألةَ من مسائل الخلافِ والاجتهاد، وإنما ذلك غلط، لا يستطيع أحدٌ أن يحكيَ عن واحدٍ من الفقهاء وأئمة الفتوى هذا التفصيلَ أَلْبتةَ.
الوجه الثاني: إذا كان سبب الكفر هو الاستحلالُ، فلا فرقَ في ذلك بين سبِّ النبيَّ وبين قذفِ المؤمنين والكذبِ عليهم والغيبةِ لهم، إلى غير ذلك من الأقوال المعلوم تحريمها، فإن من فعل شيئًا من ذلك مُسْتحلًا كَفَر.
الوجه الثالث: إذا كان ذلك كذلك، فلا أثر إذن للسَّبِّ في التكفير وجودًا وعدمًا، فالمؤثِّر - على ما زعموا - هو الاعتقادُ والاستحلالُ. وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء؛ إذ أجمعوا على كفر السابّ استحلّ أو لم يستحلّ.
1 / 9
الوجه الرابع: أن يقال: إذا كان المكفِّر هو اعتقاد حِلِّ السبِّ، فليس في مجرَّد السبِّ استحلالٌ، فينبغي - على قولهم - ألا يُكفَّر، خاصةً إذا قال: أنا أعرفُ أنه حرامٌ، لكن قلتُه عبثًا ولعبًا، أو غيظًا وسَفَهًا (^١).
فيقال لهم: ما تقولون في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾. فإن قالوا: لا يكفرون، قلنا: هذا خلاف نص القرآن، وإن كفَّرتموهم، فهو تكفير بلا مُوْجِب إذا لم يُجعل نفسُ السبِّ مكفِّرًا، وكذا في قوله: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ كفَّرهم بذلك القول الذي صدر منهم، ولم يقل: قد كذبتم في قولكم: ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾.
فتبيَّن أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة (أي: السب) في نفسها كفر، استحلَّها صاحبُها أو لم يستحلَّ، والدليل عليه جميع ما قدمنا في المسألة الأولى (^٢) من الآيات والأحاديث، فإنها أدلة بيّنة على أن نفس أذى الله ورسوله كُفْر، مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودًا وعدمًا.
ثم ذكر الشيخ ﵀ منشأ هذه الشبهة عند المتكلمين أو من حذا حذوهم، فذكر شبهتين:
١ - أنهم رأوا أن الإيمان هو التصديق، وأن اعتقاد صدقه (أي: الرسول) لا يُنافي السبَّ والشتم، فإن الإنسان قد يهينُ من يعتقد وجوب
_________
(^١) أو سوء تربية، على قول البعض.
(^٢) في "الصارم": (٢/ ٥٨ - ٣٧٨)، و"المختصر": (ص / ٣١ - ٧٧).
1 / 10
إكرامه، كما يترك ما يعتقد وجوب فعله، ثم رأوا أن الأمة قد كفَّرت السابّ، فقالوا: إنما كَفر لأن سبَّه دليل أنه لا يعتقد أنه حرام، واعتقاد حلِّه (أي: السبّ) تكذيب للرسول فكَفَر بالتكذيب لا بالإهانة، والإهانةُ دليل التكذيب، فإذا فُرِض أنه في نفس الأمر ليس بمكذِّب كان في نفس الأمر مؤمنًا، وإن كنَّا نحكم عليه بالظاهر. فهذا مأْخَذ المرجئة والكرّامية.
٢ - وللجهمية مأْخَذٌ آخر، وهو أنه (أي: الساب) قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فإذا كان فيه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن.
وجواب الشبهة الأولى من وجوه:
الأول: أن الإيمان أصله تصديق القلب، وهذا التصديق لا بد أن يُوْرث حالًا له وعملًا، وهو تعظيمُ الرسول وإجلالُه ومحبتُه، وذلك أمر لازم كالتألُّم والتنعُّم عند الإحساس بالمؤلم والمنعم، كالنُّفْرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي. وإن لم تحصُل هذه الحال لم ينفع ذلك التصديق شيئًا. وإنما يمنع حصوله وجودُ المعارِض من حَسَد الرسول أو التكبُّر أو نحوه، بل يكون ذلك المعارِض موجبًا لعدم المعلولِ الذي هو حال القلب، فيزول التصديق الذي هو العلَّة، فيذهب الإيمان بالكلية من القلب، وهذا الموجب لكفر من حَسَد الأنبياء أو تكبَّر عليهم.
الثاني: أن يقال: كلامُ الله خَبَر وأَمْر، فالخبر يستوجب التصديق، والأمر يستوجب الانقياد والاستسلام، فإن حصل التصديق والانقياد حصلَ أصلُ الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار.
1 / 11
فإذا تقرَّر ذلك؛ فالسبُّ إهانة واستخفاف، ومُحالٌ أن يُهينَ القلب أو يستخف بمن انقاد له وخَضَع واستسلم، فإذا حصل في القلب استخفافٌ واستهانة امتنع أن يكون فيه إيمان. وهذا بعينه كفر إبليس، إذ هو لم يُكذِّب خبرًا، ولكنه لم ينقد للأمر بل استكبر عن الطاعة.
قال شيخ الإسلام: وهذا موضع زاغ فيه خلقٌ من الخَلَف!
فإذا تقرَّر أنه لا بدَّ من اجتماع التصديق بالخبر والانقياد للأمر الذي هو موجبُ التصديق ومقتضاه وثمرتُه، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذِّب له أو ممتنع عن الانقياد لربِّه، وكلاهما كفر صريح. ومن استخفَّ به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقادًا لأمرِه، فالانقياد إجلال وإكرام والاستخفاف إهانة وإذلال، وهما ضِدان، فمتى حصل في القلب أحدُهما انتفى الآخر، فَعُلِمَ أن الاستخفاف والاستهانة والسبّ تنافي الإيمان منافاة الضدِّ للضدِّ.
الثالث: التفريق بين من يفعلُ الذنبَ تشهِّيًا من غير معاندة أو جحودٍ أو استكبار، وبين من يفعله جُحودًا ومعاندةً.
ثم الامتناعُ والإباءُ من الفعل إما لخللٍ في اعتقاد حِكْمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفةٍ من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدِّق به تمرُّدًا أو اتباعًا لغرض النفس، وحقيقته كفرٌ. هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكلِّ ما أخبر به ويصدِّق بكلِّ ما يصدِّق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويُبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومُشْتهاه، ويقول: أنا لا أقرُّ بذلك ولا ألتزمه، وأُبغض هذا الحق وأنفر عنه. فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلومٌ بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع، بل عقوبته أشد.
1 / 12
أما إهانةُ الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما؛ فلأنه لم يُهن من كان الانقياد له والإكرام شرطًا في إيمانه، وإنما أهان من إكرامه شرطٌ في بره وطاعته.
وجانب الله ورسوله إنما كَفَر فيه؛ لأنه لا يكون مؤمنًا حتى يصَدِّق تصديقًا يقتضي الخضوعَ والانقياد، فحيثُ لم يقتضِه لم يكن ذلك التصديقُ إيمانًا.
أما جواب الشبهة الثانية فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يلزم على قولهم هذا أن من تكلَّم بسائر أنواع الكفر والتكذيب والجحود يجوز أن يكون مؤمنًا في نفس الأمر! وهذا لا يقوله إلَّا من خلعَ رِبْقة الإسلام من عُنقه.
ثانيها: أن الذي عليه أهل السنة والجماعة أن ما في القلب من المعرفة لا ينفع العبدَ ما لم يتكلَّم بالإيمان، فالقولُ من القادر عليه شرطٌّ في صحة الإيمان، فأهل السنة مطبقون أن الإيمان قولٌ وعملٌ.
ثالثها: قال الله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)﴾ [النحل: ١٠٦].
فالمعنى: أن من تكلّم بكلمة الكفر فعليه غضبٌ من الله وله عذابٌ عظيم، وأنه كافر بذلك إِلا من أُكْرِه وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المُكْرَهين فإنه كافرٌ أيضًا، فصار كلُّ من تكلَّم بالكفر كافرًا إلا من أُكْرِه، فقال بلسانه كلمةَ الكفر، وقلبُه مطمئن بالإيمان.
1 / 13
إذن فلم يُرد بالكفر هنا اعتقادَ القلب، لأن ذلك لا يُكْرَه عليه الرجل، وإنما يُكره على القول فقط.
ومثله قوله تعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: ٦٦] فبيّن أنهم كفار بالقول.
وأخيرًا اعلم بأن الإيمان وإن قيل: هو التصديق، فالقلب يُصدِّق بالحق، والقول يصدق ما في القلب، والعمل يصدِّق القولَ، والتكذيب بالقول مُسْتلزم للتكذيب بالقلب، ورافعٌ للتصديق الذي كان في القلب، إذ أعمال الجوارح تؤثر في القلب كما أن أعمال القلب تؤثِّر في الجوارح، فأيهما قامَ به كُفْر تعدَّى حكُمه إلى الآخر (^١).
انتهى ملخَّصًا، وفيه غُنْية لمن ألقى السمعَ وهو شهيد، والحمد لله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء وما ربك بظلَّامٍ للعبيد.
* * *
_________
(^١) راجع لمزيد من التأصيل والاستدلال، والمناقشة والرد، وتفصيل ما أُجْمِل كتابَ "الإيمان الأوسط" لشيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -.
1 / 14
• ترجمة المؤلِّف (^١)
* اسمه ومولده ونشأته
هو: محمد بن علي بن محمد (^٢) بن عمر بن يَعْلى البَعْلي الحنبلي، بدر الدين أبو عبد الله، الشهير بابن أسبا سلار (^٣).
هذا أتم سياق لنسبه، ساقه ابنُ حجر في "الدرر".
وزاد في "الإنباء": "اليونيني" نِسبةً إلى "يُونين" ويقال: "يونان"، وهي إحدى قرى بعلبكّ.
_________
(^١) * مصادر ترجمته
"معجم ابن ظهيرة - إرشاد الطالبين": (ق/ ١٣٨)، "الدرر الكامنة": (٤/ ٨٤)، "إنباء الغمر": (١/ ٢٢٣)، "تاريخ ابن قاضي شُهْبة": (١/ ٢٤٢)، "المنهج الأحمد": (٥/ ١٤٦ - ١٤٧)، "مختصره": (٢/ ٥٥٨ - ٥٥٩)، "الجوهر المنضَّد": (ص/ ١٤٤)، "شذرات الذهب": (٦/ ٢٥٤ - ٢٥٥)، "السحب الوابلة": (٣/ ١٠١٦ - ١٠١٧)، "الأعلام": (٦/ ٢٨٦)، "معجم المؤلفين": (١١/ ٤٦)، "التسهيل": (مخطوط).
(^٢) غيَّره الزركلي في "الأعلام" إلى "أحمد"، وقال: إنه رآه بخطه كذلك! أقول: الزركلي متثبِّت في هذه القضايا، إلا أنني رأيتُ اسمه بخطه الواضح الذي لا لَبْس فيه هكذا: "محمد بن علي بن محمد الحنبلي" انظر المجموع الخطي الذي اعتمدنا عليه في إخراج هذا المختصر: (ق/ ٢٠ ب، ١٤٣ أ، ١٧٧ أ).
(^٣) تعددت التحريفات في هذا اللقب؛ ففي "الدرر": "اسبهادر"، و"الإنباء": "اسلار"، وفي "السحب": "الباسلار"، وفي "إرشاد الطالبين": "المعروف بابن أفهلار"، ويشبه هذا التركيب لقب "اسْفَهْسِلار" ومعناه: مُقَدَّم العسكر، وهو مركب من لفظ فارسي، وهو "أسْفَه" ومعناه مقدَّم، ولفظ تركي وهو "سلار" ومعناه عَسْكَر، فلعله مصحف عنه، انظر "صبح الإعشى": (٦/ ٧).
ثم وجدت البرزالي قد قال - كما نقله عنه ابن رافع في وفياته: ١/ ٤٠٤ -: "اسفاسلار بقلعة بعلبك" فالله أعلم.
1 / 15
ووقع في "الجوهر المنضد": "محمد بن حسن ... " ولقبه: "شمس الدين"! وهذا خلاف ما أجمعت عليه مصادر ترجمته، ولعله تحريف إما من ناسخ الكتاب أو مؤلِّفه، بدليل ما نقله المؤلفُ نفسُه عن ابن قاضي شُهْبَة في "تاريخه".
قال ابنُ المَبْرَد: ""اسْبَا سلار" اسمٌ أعجمي ذكره الشيخ تقي الدين الجُراعي في "شرح التسهيل" مثل بهاء الدين ونحوه" اهـ
ولد المؤلف بالشام في مدينة بَعْلَبَكّ كما قال ابن ظهيرة، ولم ينص أحدٌ على تاريخ ولادته إلا الحافظ ابن حجر، فإنه قال في "إنباء الغمر": "ولد سنة أربع عشرة وسبع مئة".
وتوجَّه أبو عبد الله للطلب مبكِّرًا؛ إذ أخذ عن الشيخ المحدِّث المؤرِّخ قطب الدين أبي الفتح اليونيني، بَلَدِيِّه، المتوفى سنة (٧٢٦)، بل أكثر عنه، فإن صحَّ ما قاله الحافظ ابن حجر في تاريخ ولادته، فإنه يكون قد لازم اليونينيَّ وهو دون العاشرة!
وقد سمَّى لنا ابنُ ظهيرة بعضَ مرويَّاته عن اليونيني، فذكر "جزء مطَيَّن" عن ابن رواح، و"جزءًا من حديث ابن زبر" قال: وغيرهما.
كما سمع - أيضًا - من جماعة من شيوخ بلده وغيرهم، فسمع من الحجَّار المُسْنِد المتوفى (٧٣٠)، وتفقَّه بابن عبد الهادي ت (٧٤٤)، وابن القيم ت (٧٥١) وكتب بخطِّه كثيرًا من العلم.
ويبدو أنه بدأ بسماع الأجزاء والعوالي ليدرك عُلوِّ الأسانيد ومشايخ الرِّواية، على طريقة العلماء في ذلك، ثم توجَّه إلى الفقه، فتفرَّغ له فَبَرَع فيه. وقد أثنى عليه العلماء - كما سيأتي - ووصفوه بالإمامة في الفقه
1 / 16
والفتوى، وتصدَّر لذلك، فأقْرَأ ببلده - بعلبكّ - بالجامع، بل أصبح عالمَ الحنابلة هناك وشيخَهم، وعليه مدار الفتوى، فسمعَ منه الكثيرُ من الفضلاء، وحدَّث، وممن أخذ عنه ابن ظهيرة (^١) وغيره.
وَوُصِف بأنه "مُفيد النوريَّة" (^٢).
* صفاتُه وثناءُ العلماء عليه
وُصف بأنه: طويل الروح، حسن الشكل، طوال، يخضِبُ بالحِنَّاء، فاضل، كثير الاستحضار، حسن العبارة.
ومن ثنائهم عليه:
قال ابن ظهيرة (٨١٧) - تلميذه -: "الإمام العلّامة، شيخ الحنابلة ببعلبكّ ... وكان إمامًا عالمًا، عليه مدار الفتوى ببلده"، ومثله قال ابنُ حجر.
وقال ابنُ قاضي شُهْبة (٨٥١): "الشيخ الإمام العالم المفتي".
وقال ابن المَبْرَد (٩٠٩): "الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه الزَّكي المحصِّل".
وقال مجير الدين العُلَيمي (٩٢٨): "الشيخ الإمام العالم العلامة البارع الناقد المحقق ... أحد مشايخ المذهب"، ومثله ابن العماد (١٠٨٩) وابن حميد (١٢٩٥) في "السحب".
_________
(^١) ذكره في معجم شيوخه "إرشاد الطالبين".
(^٢) انظر عن المدرسة النورية "الدارس": (١/ ٩٩). ومصطلح "المفيد" عند المحدثين في مرتبة دون الحافظ وفوق المسْنِد.
1 / 17
* مصنَّفاته
١ - " التسهيل" (^١)
مختصر في الفقه على الفتوى - في مذهب الحنابلة -، عبارته وجيزة مفيدة، وفيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره من المطوَّلات، أثنى عليه العلماء. قاله العُليمي.
وقال ابن المَبْرَد "وهو قولٌ واحدٌ في مذهب أحمد، لم يذكر فيه خلافًا إلا في باب صلاة الجماعة، فإنه جمع مسائل وأطلق فيها الخلاف (^٢) " اهـ
والكتاب طبع عام ١٤١٣ بتحقيق د. عبد الله الطيار، ود. عبد العزيز الحجيلان، عن نسخته الوحيدة المُصورة بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، المجلوبة من بعض جمهوريات السوفيت - سابقًا -، ويعود الفضل لاكتشافها للأستاذ عبد الرحمن العثيمين، على ما ذكر في هامش "الجوهر" و"السحب"، وذكر هناك أيضًا أن صديقه سليمان التويجري يعمل عليه.
ووهم الزركلي في "الأعلام" إذ جعل "التسهيل" هو نفسه مختصر الفتاوى المصريَّة وتَبِعَه عمر رضا كحالة في "معجمه" - كعادته -!
٢ - شفاء العليل في اختصار "إبطال التحليل" لابن تيمية.
منه نسخة بخط المؤلِّف في المجموع الذي اعتمدنا عليه (ق/ ١٤٣ أ - ١٧٦ أ) انتهى من كتابته في التاسع والعشرين من صفر سنة سبع مئة وخمس وخمسين.
ومنه نسخة أخرى في مكتبة برلين رقم ٤٦٦٥ في ٢٣ ورقة، كُتبت سنة ١١٠٠، انظر "فهرس المكتبة": (٤/ ١٧٨).
_________
(^١) تحرّف في بعض المصادر إلى "الترتيل"! و"السرقيل"!
(^٢) هناك مسائل أخرى ذكر فيها الخلاف، انظر مقدمة تحقيق "التسهيل": (ص/ ٢٥).
1 / 18
٣ - "القواعد النورانية مختصر الدرة المضيَّة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"
هكذا سمَّاه مؤلِّفه بخطه، وهو مطبوع بعنوان "مختصر الفتاوى المصرية"، طبَعَه حامد الفقي، ثم عبد المجيد سليم شيخ الأزهر، عن نسخة دار الكتب.
ومنه نسخة بخطِّ المؤلف، ضمن المجموع المتقدِّم (ق/ ٢١ أ - ١٤٢ ب)، فإعادة إخراجه على هذه النسخة له أهميته، وخاصَّة أن فيه بعض الزيادات التي ظهرت لي أثناء المعارضة.
وتقدم ما وهم فيه الزركلي عند رقم (١).
* مختصر الفتاوى المصرية = القواعد النورانية.
٤ - "مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول ﷺ" لابن تيمية.
وهو كتابنا هذا، وسيأتي الحديث عنه.
٥ - "المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم" لابن تيمية.
منه نسخة بخط المؤلف ضمن المجموع السابق (ق/ ١٧٧ أ - ٢١ ب) ولم يحدد فيه تاريخ انتهائه.
وقد عملت على إخراجه وسيطبع قريبًا إن شاء الله تعالى.
* وفاته
أجمع من ترجم له أنه توفي في ربيع الأول سنة سبع مئة وثمانية وسبعين، إلا ابن العماد في "الشذرات" فإنه جعله في وفيات سنة سبع وسبعين وسبع مئة، ولا يُعْلَم مستنده في ذلك!
* * *
1 / 19
• التعريف بالكتاب، وعملي فيه
الكتاب مختصرٌ للصارم، وهو تَبَعٌ لأصله، والأصلُ بناه مؤلفهُ على أربع مسائل هي:
الأولى: في وجوب قتل من سبّ النبي ﷺ.
الثانية: في وجوب قتل الساب الذمي.
الثالثة: في وجوب قتله وعدم استتابته مسلمًا كان أو كافرًا.
الرابعة: في بيان السبّ والفرق بينه وبين الكفر.
وكان جلُّ عمل المؤلف هو الحذف والانتخاب، مع المحافظة على عبارات شيخ الإسلام، وعدم التصرّف فيها إلا بما يقتضيه الاختصار من ترابط الكلام وانسجامه.
فمثلًا يسوق شيخ الإسلام الدليلَ من رواياته المتعددة ويذكرها بألفاظها، كما في قصة كعب بن الأشرف: (٢/ ١٤٥ - ١٨٨) فاستغرقت نحو أربعين صفحة، بينما اقتصر في المختصر على موضع الشاهد منها في صفحة واحدة، انظر ص/ ٥٤.
وقُلْ مثل ذلك في اختلافات الفقهاء والتوسع في سَرْدها، والخلاف بين أصحاب المذهب الواحد، واعتراضاتِ كلٍّ، وغيرها، فقد أجرى المؤلف عليها يدَ الاختصار والانتقاء.
1 / 20
فكان الاختصار في نحو الخُمُس مقارنةً بالطبعة القديمة، وفي نحو العُشر على الطبعة الجديدة.
ومما ينبغي ملاحظته أن المؤلف كان عَجِلًا في اختصاره، ولأجل ذلك ربما سقطت عليه نصف الكلمة أو آخر حرفٍ منها، كما في (ص/ ٤٣، ٤٩، ٦٢، ٦٦ وغيرها). وأحيانًا يحصل له وهم في فهم كلام المؤلف - مع قِلته - مثل دمج حديثٍ في آخر، أو إغفال ما لا يستقيم النص بدونه من كلام المؤلف، مثل (ص/ ٣٩، ٥٤، ٧٤ وغيرها).
كما تتضح عجلته عند مقارنة خطه في هذه المختصرات، وخطه في آخر المجموع للرسالتين في طواف الحائض، والماء المائع ... إذ نجد الفرق واضحًا جليًّا في الوضوح والإعجام والنَّقْط ... وغير ذلك.
وكان عملي يتلخص فيما يلي:
١ - نسختُ المخطوط وقابلته مرة أخرى.
٢ - علقتُ عليه باختصار؛ تخريجًا لأحاديثه وعزوًا لنقوله ... وغيرها مما يكمِّل فوائده.
٣ - أصلحت ما سها فيه المختصِر من إسقاطٍ أو تغيير أو نحوه؛ فرأبْتُ صدعَه وجَبَرتُ كسرَه، وليس هذا من التَّسَوُّر على أصل المؤلِّف في شيءٍ، إذ قد علمنا غرضَه، وهو محاكاةُ أصلِه، فلا التفاتَ إلى سهو البصر أو طغيان القلم، وقد أذكر نصَّ كلام الشيخ في الحاشية، لمزيد البيان.
٤ - قابلتُ النصَّ بأصله المختصَرِ منه، معتمدًا في ذلك الطبعةَ التي حقَّقها الشيخان محمد الحلواني ومحمد شودري (الطبعة الأولى،
1 / 21
١٤١٧، رمادي للنشر)، وهي أجود طبعة للكتاب، ولا يُضيرها ما وقع فيها من سهو أو خطأ (^١)، إذ المحقق الذي لا يخطئ لم يولد إلى الآن.
وقد استفدت من عملهما في الكتاب، وإن لم أتابعهما فيه، بل زدْتُه فوائد، خاصة في الحكم على الأحاديث، وعزو بعض النقول.
* * *
_________
(^١) وقد نبَّهت على ما لا بد منه في الهامش.
1 / 22