ـ[مختصر سنا البرق الشامي]ـ
المؤلف: الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني، أبو إبراهيم (المتوفى: ٦٤٣هـ)
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع]
نامعلوم صفحہ
سنا البرق الشامي
تضم المكتبة السليمانية باستنبول النسخة الوحيدة من سنا البرق الشامي برقم أسد أفندي ٢٢٤٩.
ويقع سنا البرق الشامي في تسع وسبعين ورقة من القطع الكبير من ١٦٣ب: ٢٤٢ أ. وقد وجدته مجلدًا مع كتاب حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة لجلال الذين السيوطي. وعلى الصفحة الأولى من المخطوط (كتاب حسن المحاضرة في تاريخ مصر القاهرة ويليه الجزء الأول من كتاب سنا البرق الشامي لعماد الدين الكاتب الأصفهاني) ويبدأ بمقدمة كتبها البنداري ويذكر انه انتهى من اختصاره للبرق عام ٦٢٢هـ ١٢٢٤م وباستعراض الموضوعات الواردة في الأوراق الاثنتي عشر الأولى يتضح لنا عدم انتظامها وعدم تتابعها ففي ورقة ١٦٤ب يذكر وصول العماد إلى الشام في ٥٦٢هـ ١١٦٦م، ويتبع ذلك وصول شاور إلى دمشق عام ٥٦٣هـ ١١٦٧م ثم يذكر حملة اليمن، وفجأة يذكر موت نور الدين محمود ٥٦٩هـ ١١٧٤م.
ويأتي خلال ذلك إشارة إلى بعثة ابن القيسراني إلى مصر ويلي ذلك مؤامرة عمارة اليمني ضد صلاح الدين عام ٥٦٤هـ ١١٦٨م.
وربما حدث ذلك خلال اختصار البنداري للنص، أو ربما وقع من الناسخ خلال كتابته له في عصر لاحق.
وينتظم بعد ذلك المخطوط إلى أن يصل إلى الأوراق الثلاثة الأخيرة فنجد أن المادة التاريخية بها غير منتظمة، وغير مترابطة.
والمخطوط على العموم مكتوب بخط غير جميل، وهناك كثير من الفجوات، والأخطاء الإملائية ربما حدثت خلال النسخ وكان هدف التحقيق هو تصحيح وضبط النص.
وقد شكى الفتح البنداري وغيره من المؤرخين صعوبة أسلوب العماد وطوله وإسهابه، وتعقيده.
فقد ذكر الصفدي أن شعره ألطف من نثره لأنه أكثر الجناس فيه وبالغ حتى يعود كلامه كأنه درب من الرقي والعزايم وقد عاب الناس ممن له ذوق ونظرة سليمة كثرة الجناس لأنه دليل التكلف.
وقد ذهب ابو الشامة نفس المذهب في وصفه لأسلوب العماد فقال بأنه مسهب مطنب يصيب الإنسان الكلل والملل من قرأته أما ياقوت وابن خالكانى فقد ذكروا أن العماد والقاضي الفاضل كانا يميلان إلى التلاعب بالألفاظ مثال ذلك (سر فلا كبا بك الفرس)، (ودام علا العماد) ومثل هذه العبارات يمكن قراءتها من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين.
ومما هو جدير بالإشارة أن البنداري حين اختصر البرق كان أمينًا، ولم يحاول التغيير في الأسلوب والتزم بخطة واضحة طوال النص.
أما مصادر التحقيق فقد تمثلت بالضرورة في الجزئيين الثلث والخامس من البرق الشامي الأصل وقد شكل هذان الجزءان مصدرًا هامًا من مصادر التحقيق خاصة في غياب نسخة تفيد في المقارنة.
كذلك كان للمقتطفات التي وردت في كتاب الروضتين لأبي شامة أهمية كبيرة فقد ملأت العديد من الفجوات وساعدت في ضبط الكثير من أجزاء النص وقد اعتبرت ما تبقى من البرق بالإضافة إلى مقتطفات أبى شامة أصلًا ثانيًا للتحقيق.
هذا بالإضافة إلى الاستعانة بالمصادر اللاحقة على البرق الشامي كالكامل في التاريخ لابن الأثير، ومفرج الكروب لابن واصل، والخطط لتقي الدين المقريزي، وكلها قد أفاد كاتبوها من مؤلفات العماد الكاتب لا سيما البرق الشامي. كذلك اعتمدت على بعض المصادر غير المنشورة كتاريخ ابن ابي الهيجاء، والعسجد المسبوك، ورسائل القاضي الفاضل.
وتجب الإشارة إلى أن البنداري ذكر في مقدمته انه سوف يذيل مختصره بمقتطفات من رسالتي العماد العقبي والعتبي، وخطفه البارق وعطفه الشارق إلا انه لم يفعل. وريما كان سبب ذلك انه لم يستكمل البرق، فيقول العنوان الجزء الأول من سنا البرق الشامي، إيماء إلى انه سيكون هناك جزء ثان، ولكننا لم نعثر عليه.
[مقدمة المؤلف] وما توفيقي إلا بالله (١١٦٣) لنا بعد حمد الله على نعم نافحة الرياض، ونح طافحة الحياض، ونرتع في سارحها ليلًا ونهارًا، ونكرع في شارعها سرًا وجهارًا، ونلبس فضفاضها سائغًا ونرد غياضها سابغًا ثم الصلاة والسلام على سيدنا محمد صفوة الأنام المطل من المجد على الغارب والسنام، الملحى بأنوار هدايته ظلم ليالي الباطل المحلى بقلاليد رسالته بحر الزمان العاطل وعلى آله وأصحابه مصابيح الرحمة ومجاديع الحكمة ومفاتيح الجنة.
[مقدمة المؤلف] وما توفيقي إلا بالله (١١٦٣) لنا بعد حمد الله على نعم نافحة الرياض، ونح طافحة الحياض، ونرتع في سارحها ليلًا ونهارًا، ونكرع في شارعها سرًا وجهارًا، ونلبس فضفاضها سائغًا ونرد غياضها سابغًا ثم الصلاة والسلام على سيدنا محمد صفوة الأنام المطل من المجد على الغارب والسنام، الملحى بأنوار هدايته ظلم ليالي الباطل المحلى بقلاليد رسالته بحر الزمان العاطل وعلى آله وأصحابه مصابيح الرحمة ومجاديع الحكمة ومفاتيح الجنة.
1 / 1
فأني لما رأيت أبلغ المراتب وأنجح الوسائل إلى خدمة مولانا السلطان الملك المعظم ملك ملوك العرب والعجم أبي الفتح عيسى بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب لا زالت سماء الجلالة موشحة بدراري سيره الزاهرة ومطالع الإقبال منورة بأشعة مكارمه الباهرة، والتمسك بعصم العلوم وأهداب الآداب والتوسل بإخراج درر الكلم من لجج الحكم الطامية العباب. حبست نفسي ووقفت نفسي مشيعًا مآثر حضرته العالية، سالكًا مناهج الإخلاص في السريرة والعلانية. فالجنان يضم الولاء النافع، واللسان ينشر الثناء الشايع، والبنان يحرر بل يجيز من مدحه الوشايع أفرغ الاستطاعة جريًا على مقتضى الخدمة والطاعة فيما يرجع بتخليد آثار بيته الكريم، ويعود بأعلى صيته العظيم في نظم تطبق فضائله اللآفاق وتملأ بمناقبه خراسان والعراق، ونثر ينشر حلل معاليه في محافل السلاطين وأندية الملوك، ويبث عرف أياديه وينظم عقد مساجيه مثل العنبر المفروك والجوهر المسلوك.
ولما ترجمت لخزانته العالية كتب شهنامة التي توجت فيه سير الملوك والسلاطين الأقدمين يغير مفاخرة وفضلت قلايد مناقبهم وعقود مكارمهم بزهر مآثره نظرت في الكتاب الموسوم بالبرق الشامي للأمام السعيد عماد الدين الأصفهاني فوجدت عمايمه تتدفق بأنواع الفوايد، وكمايمه تتفتق عن أنوار الفوايد، تحتوي من البلاغة على إبكارها وعونها، وتشتمل من البراعة على غررها وعيونها، فيه من السير السلطانية الناصرية والعادلية وساير الدوحة الكريمة الأيوبية ما ينطبق على مثله كثير من الكتب المصنفة في التواريخ والسير القديمة منها والحديثة. لكنني وجدت درر مقاصدة مكنونة في بحار أسجاعه المتلاطمة الأمواج، ورأيت غرر فوايده مغمورة في غمار أوصافه المتتابعة الأفواج ما بين قراين تشابكت قرون لواحقها في إصلاء سوابقها، وأفانين تشاجرت فنون أغصانها في أرجاء حدايقها، فشذبت شجيراتها أدنيت جنا جناتها لقاطفيها وجناتها، واقتصرت منها على ألفاظ هي كالمعارض لخرايد معانيها الرايقة، وكالواسطة في قلايد قراينها المتناسقة، وكشفت أطباق حجبها بل استار سحبها عن محتلى دراري سماتها، وأرحت قساطل خيلها وغياطل ليلها عن مطالع مسمياتها، وتباشير أسمائها ولم أحم من الكتب النشأة في الوقايع المذكورة إلا حول جهة من الكلم الجليلة الفاضلية، ونبذ من الكتب البديعة العمادية سالكًا مسلك الاختصار وناهجًا منهج الاقتصار ثم وقفت له رسالتين في ثلاث مجدات وسم احدتهما بالعقبى والعتبى وهي مشتملة على ما جرى بعد الأيام الصلاحية مدة ثلاثة سنين، ووسم الثانية بخطفة البارق وهي محتوية على الوقايع التي جرت من مفتتح سنة ثلاث وتسعين إلى رمضان سنة سبع وتسعين وفيها تصرمت أيامه ﵀.
(١١٦٤) فرأيت أن أذيل بما أنتخبه منهما هذا المختصر لاشتمالهما على طرف من السير الكريمة العادلية أنار الله برهانها ولمع من مطالع أنوار دولة السلطانين العادلين مولانا الملك الكامل ومولانا الملك المعظم خلد الله سلطانهما وأعز أنصارهما وأعوانهما ونتف في مدايحهما الزاهرة ومحامدهما الباهرة ونبذ من أحوالهما في مفتتح جلالهما ومقبل إقبالهما وريعان سلطانهما وعنفوان شأنهما خدمة منى للمواقف الكريمة والعتبات العالية وقضاء لبعض حقوق نعمهما العايدة البادية وأياديها الرابحة العادية وسميته سنا البرق الشامي واستعنت في ذلك وفي جميع أموري بالله ﷾ وهو حسبي ونعم الوكيل.
[مقدمة العماد الأصفهاني]
قال الأمام العالم ذو البلاغتين عماد الدين ابو عبد الله بن محمد بن محمد ابن حامد الكاتب الأصفهاني ﵀ في صدر كتابه الموسوم بالبرق الشامي وبعد فإن الكريم من عرف حق المنعم عليه وشكر فضل المحسن إليه وإذا خدم مخدومًا أوجد كرمه بذكره وان صار معدومًا وعرف من بين ما عرفه ما كان مكتومًا ومن استكفاني بالإنشاء لتنفيذ أوامره في حياته كافية بالأحياء في إنشاء مفاخرة في مماته وهو الملك الناصر صلاح الدنيا والدين ابو المظفر يوسف بن أيوب ﵀. فأني صحبته فكان خير مصحوب، وخطبت وده فألفيته الآن مخطوب، ولما انقضى عصره وانقضت عمره
1 / 2
خشيت أن ينقرض ذكره فأنشأت هذا الكتاب وأعطيته من البلاغة حظًا وأعرته من الفصاحة لحظًا وافتكرت وابتكرت صياغته معنى ولفظًا وسميته البرق الشامي لأني وصلت في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة في دولة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سقى الله عهده عماد الرحمة فصادفت الدولة في أيامه والأيام الصلاحية إلى السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين متناسقة المحاسن وهيبتها بطيبها مستمرة على حسنها مستقرة، ثم التفت فإذا هي كبرق ومض وطرف غمض وما أسرع ما انقضت وانقرضت تلك الليالي والأيام والشهور والأعوام.
وقد انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام. قال وأنا أقدم في هذا الكتاب ذكر نبذ من أحوالي مع السلطان ثم أبتدئ بذكر معرفتي به وخدمتي له وأضف مبادئ دولته إلى أن وصل إلى الشام وحضرت خدمته، وأصف سيره كل سنة وآتى بشرح حسناته بكل حسنة.
قال: ولم يزل قلمي لسيفه مشاركًا ولملكه مداركًا هذا للرزق وذاك للأجل، وهذا للأمن وذاك للوجل. وكان السلطان يعتمد على قلمي وينصر كتابته وهو يقول: الحمد لله الذي لم يضع على العماد اعتمادي وحاط إلى سداده سدادي ثم ما وفي أحد بعهده وفائي بعهده من بعده فأني سيرت معاني معاليه بالنازي الفاضلة وخلدت ذكره في مصنفاتي إلى قيام الساعة وأحييت ذكره بالوفاء وأهديت له حياة ثانية بعد الحياة. ولما نقله الله الكريم إلى جناب جناته واقتسم أولاده ممالكه قلت يسلكوا وينسكوا مناسكه وانهم يعرفون مقداري ويرفعون مناري ويشرحون صدري ولا يضعون قدري فأخلف الظن حتى قطعوا رسومي ومنعوا مرسومي وغوروا منابعي وكدروا مشارعي. قال ومما كتبته في كتاب يتضمن شكوى الحال ما حال ما غصبت أملاكه إملاكه ونصبت إشراكه فكتبت إلى المولى الفاضل في فصل يسلم فيه على ولدي القاضي الولد مقبل العين ويحييه إلى أن تصل القبل إلى اليدين والى أن يسر والده إذا هما في الفضل ثاني اثنتين وما أحسن قول سيدنا غصبت أملاكه ونصبت إشراكه إشراكه واستحسنت ازدواج هاتين الكلمتين ووقعتا مني بموقع بمشاركتي له في المكروهين قال وتمام هذا الفصل من الكتاب الفاضلي وقد شرح من أحواله واعتزاله وصبره واحتماله وتلطفه في تجويز الوقت واحتياله وشكره لقوم لا على إيصال ما لهم إليه ولكن على إيصاله إلى ماله ما ذكرني بابن حيوس وقد مطله صاحب دار الوكالة ببيع بضاعة له.
مضى الكرماء صانوا ماء وجهي ... بجود لا برفق بالسؤال
وما أنا بعد هم في الناس أبغى ... كريمًا يشتري حمدي بمالي
قال ومما كتبته إلى الأجل الفاضل في شكوى قصيدة منها:
دمشق تقصد عظمي ... بعرقه أي عرقه
إخفاقه لرجائي فيها ... وللقلب خفقه
أقمت فيها وحيدًا ... كالدر ضمته حقه
[دولة نور الدين زنكي]
ذكر الوصول إلى الشام في سنة اثنتين وستين وخمسمائة
قال: وصلت إلى دمشق في أيام جلاء حسنها وانجلاء حزنها وغناء أفنانها بالأغاريد وانتشاء إنشائها بالأناشيد فقدمتها في أطيب زمان ونزلت من المدرسة التي وليتها في أحسن مكان. وكان ملكها والذي يتولى ممالكها الملك العادل نور الدين ابو القاسم محمود بن زنكي وأعف الملوك واتقاهم وأثقبهم وأصلحهم عملًا واحجهم أملًا وأرجحهم رأيًا وأوضحهم أيا. وهو الذي أعاد رونق الإسلام إلى بلاد الشام فاستفتح معاقلها واستخلص عقايلها وكانت للفرنج في أيام غيره على بلاد الشام قطايع فقطعها وعفى رسومها ومنعها ونصره الله عليهم مرارًا حتى أسر ملوكهم وبدد سلوكهم وصان الثغور منهم وحماها عنهم وأحيا معالم العلوم الدوارس وبنا لمذاهب السنة والجماعة المدارس وانشأ الخانكات للصوفيه وكثرها في كل بلد وكثر وقوفها وأجد الأسوار والخنادق وأمر في الطرقات ببناء الربط والخانات وهو الذي أعان على فتح مصر وأعمالها وأنشأ دولتها ورجالها.
وكان صلاح الدين أحد خواصه وأخلص ذوي استخلاصه ولد نجم الدين أيوب من أكابر أمرائه لا يفارقه راكبًا في ميدانه ولا جالسًا في إيوانه يقف على رأسه ووالده من جلاسه وقد اقتدى به في جميع ما اتصف به من التقى والعفة والنزاهة والنباهة وآداب الملك وأحكام السلطنة فتلقن منه مبادئ الخيرات ثم جاوز بها في أيامه الغايات.
1 / 3
وكانت بيننا وبين نجم الدين أيوب معرفة قديمة من تكريت حيث كان بها واليًا وسببه أن عمي العزيز أحمد بن حامد ودعه السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه في قلعة تكريت إشفاقًا عليه من قصد من صار في منصبه فجد في نصيبه وبذل فيه ثلثمائة ألف دينار ليعتقل ويحضر هو ما بذله ويعجل فمال إلى المال وسير العزيز إلى تكريت برسم الاعتقال وذلك في سنة خمس وعشرين وخمسمائة فسعى ذلك الوزير في قتل السلطان بالسم واجلس أخاه طغرل في السلطنة وتفرد بالحكم فعلق رهن العزيز ودأب مرارًا إلى تكريت من يباشر قتله فلم يقبل واليها نجم الدين خدعه وقتله وتولى أخو الوالي أسد الدين شيركوه صوته ولم يزل في حمايته وعونه. قال وسمعت أسد الدين في سنة اثنتين وستين وهو يحكي إلى نصرته لعمي فلما كنت جالسًا في المحراب يومًا عنده وهو يقرأ من القرآن ورده فسمعت هاتفًا يقول: قد جعلك الله عزيزًا كما دافعت عن العزيز فالتفت غلي وقال: أعمل وأعلم. قال أسد الدين: فمن ذلك اليوم سمت همتي وتمت عزمتي وبدهاء عمك العزيز طمعت في مصر وان أصير عزيزها وحرصت على أن أملكها وأحرزها.
ذكر سبب وصولي إلى دمشق
قال: وكان انصرافي من بغداد ووصولي إلى الشام لا لقصد أحد من الكرام ولكن استوحشت هناك لفارط الاستدراك وذلك أن الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن هبيره مال لفضله إلى فضلي واقتطعني إليه وولاني نيابته بالبصرة تارات وبوسط كرات وعرفت به فلما توفي في سنة ستين أقمت بغداد بعده وكل من هو إليه منسوب مكبوت ومكبوب وما طرقتني بحمد الله آفة ولا عرتني مخالفة وأنا إلى الفقهاء منقطع، وبالمناظرة وبالمباحثة معهم منتفع، ومنهم فقيه من أهل دمشق يصف طيب رياضها وبهجة جواهرها وأعراضها وصحة هوائها وقلة أمراضها فراقتني معرفته وشاقتني صفته فقلت أجعلها سنة فرجة أسافر لأسفار صبحي بسري دجله وأقصد إيناس قلبي وتنفيس كربي ورافقني وما فارقني حتى وصل بي إلى قرب دمشق فانقطع عني وساء بعد الإحسان به ظني فلم أدر في أي مطار طار والى أي مصير صار فبقيت غريبًا وحيدًا ولقيت من استيحاشي هما شديدًا وقلت لأصحابي: أضربوا لي خيمة عسى أن نعرف أحدًا يسدي يدا فقد رضينا بمصيف ومقيل بلا قيل وظل ولو انه غير ظليل.
وقد نمى خبري إلى بعض الصوفية فدخل إلى القاضي كمال الدين ابي الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهروزي وهو يومئذ قاضي دمشق وقال له فلان قد ورد البلد فبينا نحن في تحير وتفكر وتوهج وتسعر إذا جاء خواص القاضي وحجابه وعدول مجلسه ونوابه يعتذرون عن تأخره لأمر أناله وانه يخفي عنك سؤاله ويقول انزل حيث تختار النزول بالمدرسة فنزلت في المدرسة التي أنا الآن مدرسها وترددت إلى القاضي في محافل علمه ومجالس حكمه واستددلت واعترضت في الأصول والفروع على الأئمة الفحول. وعرف (١١٦٥) الأمير نجم الدين بالوصول فبعثته معرفة العم العزيز على التعرف بي فبكر إلى منزلي لتبجيلي وتحقيق تأميلي واستقبلته وأسرعت إلى بساط الأدب فقبلته وخدمته بهذه القصيدة في أواخر شوال سنة اثنتين وستين وأخوه أسد الدين شيركوه وولده صلاح الدين يوسف قد توجها في هذه السنة إلى مصر وهي النوبة الثانية.
قلت وأول القصيدة:
يوم النوى ليس من عمري بمحسوب ... ولا الفراق إلى عيشي بمنسوب
لم أنس أنسى بكم والشمل مجتمع ... وعيشتي ذات تطريز وتذهيب
أرجو إيابي إليكم ظافرًا عجلًا ... فقد ظفرت بنجم الدين أيوب
ومنها في ذكر أخيه وابنه وما تفرس من ملك مصر وقد تم ذلك بعد سنتين.
غدًا يشبان في الكفار نار وغى ... بلفحها يصبح الشبان كالشيب
ويستقر بمصر يوسف وبه ... تقر بعد التنائي عين يعقوب
ويلتقي يوسف فيها باخوته ... والله يجمعهم من غير تثريب
فأرجوا الإله فعن قرب بنصرته ... سيكشف الله بلوى كل مكروب
فصل
1 / 4
قال: كان شاور وزير مصر في أيام العاضد قد وصل إلى دمشق في سنة ثمان وخمسين يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول ملتجأ إلى نور الدين فنصره على عدوه وسير معه أسد الدين شيركوه يوم الخميس العشرين من جمادى الأول سنة تسع وخمسين على قرار عينه وأمر بينه فمضى معه ونصره واسترد له موضعه وإعاده إلى مجلسه عادته وأظهره بعدوه فلما تمكن من منصبه قال لأسد الدين: اذهب فقد وقع عنك الغنى وغدر بعهده واخلف في وعده فأنف أسد الدين وأقام يتأسد ويبرق ويرعد. وكان شاور قد شاور الفرنج وهداهم في حرب الإسلام النهج فوصلوا بحميتهم وجمرتهم فتحصن شيركوه ومن معه بمدينة بلبيس وشاور في جنود مصر وحشودها والفرنج في قوامصها وكنودها. حاصروا ثلاثة أشهر فيها وهو يحميها حتى فلت جدودهم وملت جنودهم فبذلوا له قطيعة يأخذها منهم وينفصل عنهم وكانت المحاصرة في مستهل شهر رمضان إلى مستهل شهر ذي الحجة.
قال: وفي تلك السنة اغتنم نور الدين خلو الشام من الفرنج وقصدهم واجتمعوا على حارم فضرب معهم المصاف ورزقه الله الانتقام منهم وقتلهم وأسرهم ووقع في الاسار ابرنس انطاكية وقومص طرابلس وابن جوسلين ودوك الروم وذلك الحادي العشرين من شهر رمضان سنة تسع وخمسين وتسلم منهم بانياس. وعاد أسد الدين إلى الشام وجرى على عادته في خدمة نور الدين وفي قلبه من شر شاور الاحن وكيف تمت بغدره تلك المحن إلى أن دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة فجمع وسار في أمل ووصل في سادس شهر ربيع الآخر إلى أطفح وعبر منها إلى الجانب الغربي وأناخ بالجيزة أقام عليها نيفًا وخمسين يومًا على محاذاة مصر واستعان شاور بالفرنج واستنجد بالكفر وفسح لهم في طروق الديار وجوس خلال الأمصار ورتبوا لهم بالقاهرة سوقًا أشاعوا كفرًا وفسوقًا وعبر بهم من البلاد الغربية إلى الغرب وساقوا لموافقته على الحرب فلما عرف أسد الدين عبورهم رحل قدامهم فقربوا منه في موضع يعرف بالبابين فعبى صفوفه أطال في الملتقى وقوفه وحشًا قلبه بأثقاله وجماله وطبوله وأعلامه ووقف جانبًا برجاله وأبطاله وظنوا انه في القلب وساق أكثرهم وراء المنهزمين ووقف الباقون وقوف المغيرين. وكان صلاح الدين واقفًا في صحبه في أبطال من حزبه فاغتنم خلو العرصة وانتهز بدو الفرصة وحمل على القوم وهم المقدمون فكسرهم وأسرهم وركب أكتاف فتاكهم وأعرى بيضه وسمره بهلاكهم وكان فيهم ملكهم وقد كاد يدركه ويدركهم. واجتمع إلى صلاح الدين من المفلولين جماعة فما شعروا إلا بالفرنج من وراء المنهزمين عايدة وكان ملك الفرنج في نفريسير وشاور معه وكاد يظفر به العسكر الإسلامي لكن الأصحاب (١٦٥ب) رأوا الفرنج عايدة اشتغلوا بهم وقتلوا منهم ومن تبعهم من المصرية ألوفًا وضايقوهم وأوسعوهم حتوفًا وحصل سبعون فارسًا من فرسانهم في الإسار وقيدوا في خرايم الذل والإقتسار ولما تمت لصلاح الدين النصرة أقام وجمع الفل وجاء عمه أسد الدين وساروا بمن معهم إلى الإسكندرية ودخلوها ووجدوا مساعدة أهلها وحلوها ثم قال أسد الدين: أنا لا يمكنني أن أحصر نفسي وجماعتي في البلد فأخذ العسكر وسار إلى بلاد الصعيد واستولى عليها وجبى خراجها وصام بها وأقام إلى انقضاء العيد، وأقام صلاح الدين بالإسكندرية متصنًا بها.
وأما شاور والفرنج فما كانت سلم منهم لمن سلم منهم قوة ولا نهضة وراء القوم مرجوة فعادوا إلى القاهرة وصمموا على قصد الاسكندرية فحاصروا صلاح الدين ودام الحصار شهورًا فما زاد المحصور على الحاصر الظهور وبلغ الحصار أربعة شهورًا وقوى أسد الدين بقوص واستنهض لقصد القوم العموم والخصوص فسمح الفرنج ذلك فرجعوا عن الحصار للخوف والاستشعار مما هو عليه من الاستظهار. وكان شاور قد استمال جماعة من التركمان الذين كانوا معه بالدينار. فلما راسلوا في المهادنة أجاب إلى القرار وطلب منهم عوض ما غرمه فبذلوا له خمسين ألف دينار ورجع صلاح الدين من الإسكندرية فقفلوا إلى دمشق ودخلوها بكرة يوم الاثنين ثامن عشر ذي القعدة وعادوا إلى عادة السعادة من الخدمة النورية والحسنى والزيارة.
1 / 5
قال: ولما دخل أسد الدين إلى دمشق عرف خبري فحضرت عنده للسلام وتلقاني بالإكرام والاحترام وكان يجلس كل ليلة للأفاضل وأكثر حديثه معي في تقريظ عمي العزيز وتأبينه ووصلني بمعرفته ومعروفه وخصني من عموم بره بصنوفه فخدمته بهذه القصيدة ليلة الجمعة السابع والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وستين.
بلغت بالجد مالا يبلغ البشر ... ونلت ما عجزت عن نيله القدر
إسكندر ذكروا أخبار حكمته ... ونحن فيك رأينا كل ما ذكروا
ورستم خبرونا عن شجاعته ... وصار فيك عيانًا ذلك الخبر
يستعظمون الذي أدركته عجبًا ... وذاك في جنب ما ترجوه محتقر
قال: واتصلت بيني وبين صلاح الدين مودة ولم يزل يستهديني نظمي ونثري وأول ما خدمته بهذه الكلمة قلت ومن سردها:
نار قلبي لضيف طيفك تبدو ... كل ليل فيهتدي ويزور
كيف يصحو من سكره مستهام ... مزجت كأسه الحسان الحور
أورثته سقامًا الحدق النجل ... وأهدت له النحول الخصور
ولكم عودة إلى مصر بالنصر ... على ذكرها تمر العصور
فاستردوا حق المامة ممن ... خان فيها فانه مستعير
قال: وكان صلاح الدين في خدمة نور الدين المساعد والمعين وبهذه المعرفة السالفة من الأسلاف خصصت منه أيام دولته بالإسعاد والإسعاف.
ذكر دخولي في خدمة نور الدين
قال: عرفني إليه القاضي كمال الدين الشهروزي ورغبه في استثباتي وقرر لديه من حساب آمالي ما لم يكن في حسابي. وقال: لا بأس بان تكتب إليه أبياتًا ونحن نرجو لك في دولة ثباتًا وفي روضته نباتًا فأنشأت هذه القصيدة وعرضت من جانب القاضي وهي التي أولها
لو حفظت يوم النوى عهودها ... ما مطلت بوصلكم وعودها
ماذا جنت قوبنا حتى غدا ... في النار من شوقكم خلودها
لم أنسها إذا نثرت دموعها ... في خذها ما نظمت عقودها
إذا قربتني للوداع نحوها ... فبان في وصلها صدودها
كأسهم الرامي متى قربها ... يكون في تقريبها بعيدها
(١١٦٦) قال فرتبني في ديوانه منشيًا وذلك لاستقبال سنة ثلاث وستين قال: ودخلت سنة ثلاث وستين ورحل لملك العادل نور الدين ﵀ أقام بحمص أياما، ورتب بها أسبابًا وأحكاما، وخرجت معه ورآه ورحلت معه إلى حماه وأنزلني أسد الدين شيركوه في حماه وضرب لي خيمة بقربه وأنا أمضي كل يوم إلى الديوان مبكرًا ومما أقدم عليه فمن خدمة لا دربة لي بها مفكرًا على أن أهل ديوانه ينظرونني شذرًا ويعدون كثير ما عندي من الفضل نزرًا وكنت أظن أن صناعة الكتابة لا سيما الإنشاء صعب حتى قرأت كتب المصار والمراسلات الواصلة من ساير الأقطار فوجدتها في غاية من الركة وياليتها كانت بعبارات معسولة فتجرأت على الكتابة وغيرت تلك الأوضاع الوضيعة واخترعت أسلوبًا ما عرفوه والفت مصنوعًا ما ألفوه ووفيت بالبلاغتين، ونفيت الغش عن الصياغتين، وكتبت إلى الأعاجم وصارت نواب ديوانه يستغربون ويستهزئون ويهزمون وأرشدتهم من ضلالتهم فحكت نسج المداراه وما سلكت نهج المماراة حتى جرى بسكوني وسكوتي قلمي وعلا بمنار علمي ورجعوا إلي واجتمعوا على ولنا على مر الجديدين أتجدد في بناء النباهة واجعلوا بأسراري أسارير وجه الوجاهة وزاد نور الدين دنوي نورًا وملأت صبح دولته ووجه مملكته بما أمليه أسفارًا وسفورًا وتأكدت رغبته وتمهدت محبته وتكررت موهبته.
ولما أراد قصد حلب حل أسد الدين شيركوه قبله بأيام فوصى بي ابن أخيه صلاح اليدن وترك الخيمة المضروبة لي بما فيه من جميع الآلات فاقمت مدة مقامه أرافقه ولا أفارقه حتى مضى نور الدين إلى حلب ونزل في قلعتها في ذروتها ونزلت في مدرسة ابن العجمي وكان الشتاء كالحًا يابسًا ووجه الدهر عابسًا وكنت أتردد إلى صلاح الدين في منزله واسترسل إليه في تفاصيل أملي وجمله واستدعى مني أن اعمل له أبياتًا في الشوق يرصع بها كتبه إلى من يشتاقه ويحبه فمنها ما نظمته له:
وحرمة الود الذي بيننا ... ومالنا من كرم العهد
ما نفضت عهدي لكم جفوة ... ولا أحالت حالة ودي
ولا تغيرت ويأبى الهوى ... ذلك في قرب وفي بعد
1 / 6
عاد الحديث إلى ما تجدد لنور الدين قال: واتفق أن صاحب منبج ابن حسان ارتكب العصيان إليه من حاصره وانتزعها منه ثم تمكن عنه وتوجه إليها لتهذيب أحوالها وترتيب أعمالها وسار منها إلى قلعة نجم وعبر الفرات إلى الرها وانتظم بأمرها وكان بها قطب الدين ينال بن حسان عم غازي صاحب منبج فنقله إليها مقطعًا وواليًا وأعاد ذلك الصفح بايالته حاليًا وأقام بها مدة في قلعتها ومدحته بهذه الكلمة وتحجب لي في عرضها عنده صلاح الدين وتحجب لي في عرضها عنده صلاح الدين قلت ومن هذه الكلمة قوله:
ماصين عنك الصين لو حاولتها ... والمشرقان فكيف منبج والرها
ماللملوك لدى ظهورك رونق ... فاذا بدا شمس الضحى خفى السها
قال: وعدنا إلى حلب في شهر رجب وضربت خيمة نور الدين في رأس الميدان الأخضر، وكان مولعًا بضرب الكرة وربما دخل الظلام فلعب بها بالشموع ويركب صلاح الدين مذكرًا كل بكرة وهو عارف بآدابها في الخدمة وشروطها المعتبرة. واقطعه في تلك السنة ضيعتين إحداهما من ضياع كفر طاب مدكين والأخرى من ضياع حلب وزردنا وزعم انه بلغ به المنهى في المنى.
ذكر أسد الدين والأنعام عليه بحمص
قال: ولما كان ثغر حمص اخطر الثغور تعين أسد لدين لحمايته وحفظه ورعايته لتفرده بجده واجتهاده وبأسه وشجاعته فانعم نور الدين عليه بها فسار إليها وضبط أمورها وكان (١٦٦ب) نور الدين قد جدد سورها وسأله في السلو عن حب مصر وشرط على نفسه الحمل في كل سنة وكان لما أراد أسد الدين الانفصال عن الديار المصرية وصلاح الدين عن الإسكندرية اجتمع الكامل بن شاور بشهاب الدين محمود خال صلاح الدين وقال له: أوصل إلى نور الدين سلامي وعرفه شغفي بخدمته وغرامي وأنا أتوسط في جمع الكلمة ورد هذه القلوب المتبددة إلى عقود القلوب المنتظمة، والتكفل بما احمله من مالي على وجه الهدية اقصد بها سلامة البلاد والرعية فلما وصل شهاب الدين محمود أعاد على نور الدين مقاله وذكر سؤاله وسأله مكاتبة الكامل والرضا بما التزم به التزام الكافي وكان دخولي إليها يوم الأربعاء ودخلناها يوم الخميس.
ذكر توجه فخر الدين شمس الدولة تورانشاه بن أيوب
من مصر إلى بلاد اليمن مستهل رجب سنة تسع وستين قال كان فخر اليدن اخوة صلاح الدين وقد شاع صيت مروته، وكان لا يفي موجود مصر بجوده ورأى أن حظه من قوص منقوص ولم يرضه ارض تضيق عن سما سماحته فسمت همته وتصممت عزيمته، وكان بمصر شاعر من اليمن يقال له عمارة ولم يزل يمدحه ويكثر فيه المدح ويحثه على ملك اليمن ويرغبه فيه. ولما اشتد عزمه واحضر عسكره ورحل مستهل رجب ووصل السير باليسرى وفلا الفلا وجاز أجوازها وعان بالوصول إلى مكة ثم خلف وراءه غور الأرض ونجدها وحجازها واستدل بسعادته ونحا البيد نحو زبيد فغلب عليها وقبض على عبد النبي الخارجي وسلمه إلى نايبه الأمير سيف الدولة المبارك بن منقذ فرأى أن مصلحة الملك في هلكه فأراده وشمس لدولة غايب، ومضى إلى عدن وفيه ياسر الأمير عز الدين عثمان الزنجيلي واستنابه وفتح القلاع ومنح ملكًا عظيمًا وفتح اقليمًا وافترع بكرًا وخلف ذكرا.
قال: واما سيف الدوية ابو الميمون المبارك بن كامل بن منقذ المستناب في زبيد فانه كان من الكرماء الكفاه وذوي الآراء والدهاة والحمس الكماة ولم يزل بشيمته متكرمًا وبحسن الذكر متوسمًا دأبه والفضل شرعه والأفضال صنعه ومن شعره.
لما نزلت الدير لصاحبي ... قم فاخطب الصهباء من شماسه
فأي وفي يمناه كأس خلتها ... مقبوسة في الليل من نبراسه
وكأن ما في كأسه في خده ... وكأن ما في خده من كأسه
قال: وفي هذه السنة كان تسيير نور الدين المهذب أبا الحسن على ابن عيسى بن النقاش إلى الديوان العزيز للأعلام بمسير شمس الدولة إلى اليمن لأخذها والبشارة بكسر الروم ثانية وفقدهم كلمان وكان قديمًا أسيرا عند نور الدين من نوبة حارم وفداه بخمسة وخمسين ألف دينار وخمسمائة وخمسين ثوب أطلس وهو أسير من أسيرا معه إسراء في الروم وذلك في شعبان سنة تسع وستين.
1 / 7
قال: وكان المهذب النقاش كنعته مهذبًا وبآرائه للدول مرتبًا، وهو من أهل بغداد وقد سافر إلى الشام وشاع صيته بالفضل لا سيما في علم الطب ومعرفته ونفق عليه نور الدين وأقطعه ضيعة وملكه أخرى، وكل طبيب في الشام يستحجج الآن بأنه تلميذه، وعرض جاهه وتقاصر عنه أشباهه ونجح سعيه لنور الدين في مرضاته ونجح سؤله للفوز بمرضاته وصار له عنده وخروج دخول ورأى مقبول وسعى بالنجاح مكفول فندبه نور الدين في هذه السنة للسفارة.
قال: وكلف نور الدين في هذه السنة بإفادة الألطاف والزيادة في الأوقاف وتكثير الصدقات، وتوفير النفقات وتعفير آثار الأيام وإسقاط كل ما يدخل تحت شبه الحرام. وأمر تكتب مناشير لجميع البلاد بإطلاق الطراف من الرسوم والتلاد فما أبقى سوى الجزية والخراج وما يحصل من قسمة الغلات على قوايم المنهاج. وحسبنا ما تصدق به على الفقراء في تلك الأشهر فزاد على ثلاثين ألف دينار من الذهب الأحمر قال: وكان إذا أمر بصدقة غلة أو ذهب تقدم خازنه بإحضار جماعة من أماثل البلد وعدوله من أهل كل محلة فيقول لكل واحد: كم تعرف في جوارك من ذي إضافة وصاحب فلقه (١١٦٧) ومستحق ومقتر ومعيل وغيرهم فيقول: أعرف كذا وكذا فيسلم إليه صدقات أولئك الأعداد حتى يستقرئ بالسؤال جميع الحاضرين من الأمجاد ثم يأتيه كل منهم ثبت بما فرقه.
قال: وكان برسم نفقته الخاص في كل شهر من جزية أهل الذمة مبلغ ألفى قرطيس في كسوته ونفقته ومأكوله ومشروبه وحوائجه المهمة حتى أجرة خياطه وخيطه وإبرته وجامكية طباخه وقدره ومعرفته من ذلك المقرر المعين النزر ثم يستفضل ما يتصدق به في آخر الشهر ويفضه على المساكين وأهل الفقر. وأما ما يهدى له من الثياب والألطاف والبرود والأفواف وهدايا الملوك من المناديل والسكاكين والمهاميز والدبابيس وكل كثير وقليل ودقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه بل يعرض بنظره عنه وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصل أثمانها الموفورة ويصرفها في عمارة المساجد الهجورة. وأمر بإحصاء ما في محال دمشق من مساجد هجرت وخربت فأفاق على مائة مسجد وموضع يتبرك به ومشهد فأمر بعمارة ذلك كله وعين له وقوفًا وأدنى له من جهات استثمرها قطوفًا. قال: ولو اشتغلت بإحصاء وقوفه وصدقاته في كل بلد لطال الكتاب ولم أبلغ إلى أمد ومشاهدة أبنيته الدالة على خلوص نيته يغني عن خبرها بالعيان، ويكفي أسوار البلدان فضلًا عن المدارس والربط. وواظب على عقد مجالس الوعاظ وأكبرهم قطب الدين النيسابوري وهو شغوف ببركة أنفاسه المنبر وشاقه وعظه وراقه لفظه، وكذلك وفد إليه الفقيه شرف الدين عبد المؤمن بن شوروه ونال منه الحظوة وما أيمن تلك الأيام وأبرك تلك الشتوة.
قال: وفي يوم الاثنين رابع شهر رمضان ركب نور الدين على العادة وكنا نحن في إيوانه وكل منا متفرغ لشغله آخذ في شأنه فجاءني من اخبرني أن نور الدين نزل إلى المدرسة التي تتولاها وبسط سجادته في قبلتها لسنة الضحى وصلاها فقمت في الحال فلقيته في الدهليز خارجًا لما رآني توقف فقلت له: أن الموضع قد تشرف أما تراه انه من أيام الزلزلة كيف تشعث فقال: نعيده إلى العمارة، ثم حملت إليه وجوه سكر وشيئًا من ثياب وطيب وعنبر وكتبت معها.
عند سليمان على قدره ... هدية للنمل مقبولة
لا تقصر الملوك عن نملة ... عندك والرحمة مأمولة
رقى لمولانا وملكي له ... وذمتي بالشكر مشغولة
قال: ورأى محراب المدرسة غير مفصصة فنفذ لعمارتها فصوصًا مدهبة وذهبا ثم حم مقدور حمامه دون إتمامه. ووقعت إلى الموصل فرأيته ليلة في المنام يقول: الصلاة فلما انتبهت عرفت انه أشار إلى المحراب وانه الآن على هيئة الخراب فكتبت إلى الفقيه الذي كان الذهب عنده مودعًا أن يشرع في عمارته مسرعًا فلما عدت إلى دمشق في الأيام الصلاحية دخلتها يوم فراغ الصانع من عمارة المحراب وفزت من الغنيمة بحسن الإياب.
ذكر تفويض شحنكية دمشق
إلى القاضي كمال الدين الشهرزورى ﵀
1 / 8
قال: ولما اسقط نور الدين الجهات المحظورة عزل الشحن وصرف عن الرعية بصرفهم المحن وقال للحاكم انظر أنت في العوادي وما يجري فيها من الدعاوى وميز بين المحاسن والمساوئ واحمل الأمور فيها على الشريعة فرتب على بابه حاجبه أبا نصر وأمره بما يصلح في كل أمر وحمل للخزانة من عنده من الأطلس مائة ثوب وأراد الخالص فلم يخل من شوب، ولم يكن كمال المواريث الحشرية حاصل ولا لديونه طائل فجعل نور الدين ثلث ما يحصل من الحشرى للقاضي كمال الدين فوضحت حواده وصحت مواده وكان من قبل لا يخلو الحشرى من وصية يثبت محضرها وقضية يحرر موردها ومصدرها، ودين يدعى وجانب يرعى فلما صار ثلثه للقاضي أزال نوابه نوايبه وصرفوا عنه شايبه ووفروه وكثروا وأعذبوه عده (١٦٧أ) وأعزروه وما كان نور الدين يحاسب القاضي على الوقوف وقال: أنا قد قلدته أن يتصرف بالمعروف وما فضل من مصارفها وشروط واقفها يأمره في بناء الأسوار وحفظ الثغور وكانت دولته نافذة الأوامر منتظمة الأمور.
عاد حديث مصر وما دبره صلاح الدين قال: ولما رسول نور الدين وهو الموفق خالد أطلعه على كل ما فيه، أحصى له الطريف والتالد وقال: هؤلاء الأجناد فأعرضهم واثبت أخبارهم وتأمل اعتبار إقطاعياتهم ومقادير واجباتهم ولا يضبط مثل هذا الإقليم إلا بآمال العظيم، وشرع في جمع مال يسيره ويحمله بجهد ويبذله وقال: الموارد مشفوهة والشدايد مكروهة وحصل لخالد ما لم يحصل في خلده وجاء مطرف غناه أضعاف متلده.
قال: واجتمع جماعة من دعاة الدولة المصرية وتوازوا واعتقدوا منية عادت عليهم بالعقبي منية، وعينوا الخليفة الوزير، وأحكموا الرأي والتدبير وكان عمارة اليمني الشاعر فيهم عقيدتهم ودعا للدعوة قريبهم وبعيدهم وكانوا قد ادخلوا عدة من أنصار الدولة الناصرية في جملتهم وكان الفقيه الواعظ زين الدين علي بن نجا يناجيهم فيما زين لهم من أعمالهم ويدخلهم مطلعًا على أحوالهم فجاء واطلع صلاح الدين على فسادهم وطلب ما لابن كامل الداعي من العقار والدور وكل ماله من الموجود والمدخور فبذل له صلاح الدين كل ما طلبه وآمره بمخالطتهم فصار أمرهم يقوى وحديث حادثهم يروى فأمر صلاح الدين بإحضار مقدميهم واعتقالهم لإقامة السياسة فيهم. وصلب يوم السبت ثاني شهر رمضان جماعة منهم عمارة ورجل يعرف بالعويرس وآخر بعبد الصمد وآخرون وانقطع حديثهم وهلك جريرهم وبعيثهم. وكان منهم داعي الدعاة ابن عبد القوي وكان عارفًا بخبايا القصر وكنوزه وخفايا السر ورموزه فهلك دون إخفائها وباد ولم يسمح بإبدائها وبقيت تلك الخزائن مدفونة وتلك الدفاين مكنونة وقد دفن دافنها وخزن تحت الثرى خازنها إلى أن يأذن الله في الوصول إليها والاطلاع عليها.
قال وهذه لمع من شعر عمارة فمنها قوله في قصيدة:
ملك إذا قابلت بشر جبينه ... فارقته والبشر فوق جبيني
وإذا لثمت يمينه وخرجت من ... إيوانه لثم الملوك يميني
ومنها قوله في شمس الدولة تورانشاه بن أيوب من قصيدة.
لي في هوى الرشاء العذري عذرًا ... لم يبق لي مذ أقر الدمع أزكار
لي في القدود وفي لثم الخدود وفي ... ضم النهود لبانات واوطار
هذه اختياري فوافق أن رضيت به ... أو لا فدعني وما أهوى واختار
أول كتاب فاضلي من صلاح الدين إلى نور الدين: أدام الله تعالى سلطان المولى الملك العادل نور الدين وحرس من النعم ما خوله وأنهضه بالأمر الذي حمله وحمى من الكدر منهله وصان من الغير منزلته ومنزله ولا زالت الأيام مطايا إلى بلوغ الأماني واكتب تتفاتح إليه بمعاني التهاني وزمانه مسفرًا عن نيل المراد في أهل الإلحاد وإقامة حدود الله فيهم بالغرامات الشدد والسيوف الحداد.
قال: وأمر نور الدين ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر واحتفلنا لهذا الأمر وغلقت محال دمشق أيامًا وبنيت القصور طباقًا وكل منهم رتب المغاني بأغاني وطيب الأوطان بتهادى التهاني وعاش معبد والغريض وشاع النشيد والقريض واتفق الطهر في أيام الورد وعصر طرده للبرد.
قال: ونظمت في الهناء بالطهر والعيد قصيدة أولها.
عيدان فطر وطهر قريب ونصر ... كلاهما لك فيه حقًا هناء وأجر
1 / 9
قال: وفي يوم الأحد ركب نور الدين على الرسم المعتاد والقدر يقول له هذا آخر الأعياد ووقف في الميدان الأخضر الشمالي لطعن الحلق ورمى القبق وحوله كماة الكفاح ورماة الحدق والأكابر تحت ركابه وقوف والعساكر للمثول ببابه صفوف والسوابق مضمرة والبيارق مشهرة (واليوم يوم الزينة) والنظارة أهل المدينة، وكان قد ضرب خيمته في الميدان الأخضر (١١٦٨) وأمر بوضع المنبر وخطب له القاضي شمس الدين بن الفراش قاضي العسكر وعاد إلى القلعة طالع البهجة بهيج الطلعة وانهب سماطه العام على رسم الأتراك وأكابر الأملاك ثم حضرنا على خوانه الخاص وما وضح بشره وأوضع نشره وأضحك سنه وأبرك يمنه وفي يوم الاثنين ثاني أيام العيد بكر وركب وكان الفلك بتيسييره جار والطود الثابت (يمر مر السحاب في وقار ودخل الميدان والعظماء يسايرونه والفهماء يحاورونه وفيهم همام الدين في كلامه عظة لمن يغتر بأيامه: ترى نكون ههنا في مثل هذا اليوم من العام القابل فقال نور الدين ما معناه قل هل نكون بعد شهر فان السنة بعيدة فجرى على منطقهما ما جرى به القدر الساكت فان نور الدين لم يصل إلى العام.
ثم شرع نور الدين في اللعب بالأكرة مع خواصه فاعترضه في حاله أمير آخر برتقش وقال له: باش فأحدث له الغيظ والاستيحاش واغتاظ على خلاف مذهبه الكريم وخلقه الحليم وزجره ونهره وساق ودخل القلعة ونزل واحتجب واعتزل ولا شك أن المريض تمكن منه وهو واكب عن إظهار ما به ناكب فبقى أسبوعًا في منزله مشغولًا بنازله والناس لا هون بالختان فما انقضت تلك الأفراح إلا بالأتراح وما انقضى ما أتيح من السرور إلا بظهور القضاء المتاح وما نهض الجناح إلا منهاض الجناح وما صلح الملك بعده إلا بالملك الصلاح.
ذكر وفاة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر
﵀ بقلعة دمشق قال: واتصل مرض نور الدين وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبًا فما روجع وانتقل يوم الأربعاء حادي عشر من شوال من مرتع الفناء إلى مرتع البقاء ولقد كان من أولياء الله المؤمنين وعباده الصالحين وكانت له صفة في الدار التي على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال وكان جلوسه عليها في جميع الأحوال فلما جاءت سنة الزلزلة بنى بازاء تلك الصفة بيتًا من الأخشاب فهو يبيت فيه ويصبح ويخلو بعبادته ولا يبرح فدفن في ذلك البيت الذي اتخذه حمى من الحمام وأذن بناؤه لبانيه بالانهدام. واخرجوا يوم وفاته الملك الصالح وهو مجزوز الذوايب مشقوق الجيب حاف حاسر وأجلسوه في الإيوان الشمالي على التخت والدست الباقي من عهد تاج الدولة تتش فوقف الناس يضطربون ويضطرمون ولما كفن ودفن حضر القاضي كمال الدين وشمس الدين محمد بن المقدم وجمال الدولة ريحان وهو أكبر الخدم والعدل ابو صالح بن العجمي أمين الأعمال والشيخ خازن بيت المال وتحالفوا على أن تكون آراؤهم واحدة وأيديهم متساعدة وان ابن المقدم مقدم العسكر.
قال: وأنشأت في ذلك اليوم كتابًا عن الملك الصالح إلى صلاح الدين ترجمته ولده إسماعيل بن محمود ومفتتحه أطال الله بقاء مجلس سيدنا الملك الناصر السيد الأجل وأدام سموه وعظم أمراء الحضرة ومماليك الدولة وإنشاء النعمة وأولياء الطاعة وأرقاء الخدمة على البيعة المؤكدة والإيمان المغلظة والمواثيق المستحكمة بعقائد متعاقدة على الصفاء وأعضاد متعاضدة بالوفاء وحلف الأصاغر والغيب والحاضر وأذعنت الرؤوس (وعنت الوجوه) وسكنت النفوس وعمت بركات الوالد السعيد ﵀ في ثبات ملكه أو أن زلزال طوده الشامخ وسكون الدهماء بعد حال تخلخل عزه الباذخ. ومنه وما ههنا ما يشغل السر غير شغل الفرنج خذلهم الله وقد عرف السيد أدام الله علوه ما يتعين عليه في مثل هذا الخطب الملم واليوم الدلهم من كل ما يعرف من خصوص وفائه وخلوص ولائه وطيب المحتد وزكائه وكرم النجر وسنائه فما كان اعتماد مولانا السعيد الملك العادل رضى الله عنه إلا عليه وسكونه إليه إلا لمثل هذا الحادث الكارث فقد أدخره لكف أنياب النوايب وأعده لحسم أدواء المعضلات اللوازب وأمله ليومه وغده ورجاء لنفسه وولده ومكنه قوة لعضده وأيدا ليده.
1 / 10
قال: واتفق نزول الفرنج بعد وفاة نور الدين على الثغر وقصدهم بانياس ورجوا أن يتم لهم الأمر ثم ظهرت خيبتهم وبان الياس وذلك أن شمس الدين بن المقدم خرج وراسل الفرنج وخوفهم بقصد صلاح الدين (١٦٨ب) بلادهم وانه قد عزم جهادهم وتوصلوا وتكلموا في الهدنة وقطع مواد الحرب والفتنة وحصلوا بقطيعة استعجلوها عدة من أساري الفرنج استطلقوها وتمت المصالحة وعقدت المصافحة.
قال: أنشأت في ذلك كتابًا إلى صلاح الدين بما تم من المصالحة في ثالث ذي الحجة في الاعتذار عن ترك أعلامه بالحال ومنه. اتفق عند الصدمة الأولى من الحادثة الكارثة نزول الفرنج على بانياس في أعداد من الخيل والرجل خارجة عن حد القياس على حين غفلة من أهلها وقلة من ذخيرتها وخيموا على حزنها وسهلها ولم يسع الوقت لمكاتبة المجلس العالي ثانية وظننت أن الأولى كافية ولأعنة عزايمة إلى نجدتنا ثانية فأخبار الكفار ليست بخافيه.
كتاب بالإنشاء الفاضلي عن الملك الناصر تعزية للملك الصالح بوفاة والده ﵀ أوله
"لقد كان لكم في رسولي الله أسوة حسنة" انزل الله الصبر وضاعف التأييد والنصر بالجناب العالي الملكي الصالحي وبيته في محل الامتحان والاختيار وبصره بحجة التذكر والاستبصار وأخلصه بخالصة ذكرى الدار والهمة تدرس قوله (إنما هذه الدنيا متاع وان الآخرة هي دار القرار وهنأه بالمملكة التي اقتعد ذروتها وعلا محلها واحتلي عقيلتها وكان كفوها وبعلها وأورثه سريره وسريرته وكان أحق بها وأهلها أن تعاطي الخادم الإبانة عما دهمه من ألم الفجيعة الفظيعة والمصيبة التي رمت القلوب بالسهام المصيبة احتاج إلى خاطر حاضر وبنان جار وبيان محار وهيهات فالقلوب بأسرها في أسرها والعقول بجمعها معقولة من سمعها والصدور بالهموم مملوءة والوجوه بالوجوم ممنوه ليوم سرت الحادثة فيه مسرى الزلزال هز أعطاف كل بلد وطلع مطلع الكسوف بذ الأنوار عن كل عين ويد واستولى الخلق فيه فمن المعزى واعتدى الحق فيه بين الحزن المجتمع والشمل المجزي ياله ناعيًا فجع الإسلام باسكندره فتوحًا وجنودًا وبحضرة ذكر مثله في الطيب وخلودًا (أنا لله وإنا إليه راجعون) قول من عز عزاؤه وصدع قوله وتفرقت أجزاؤه وصبر مغلوبًا ويرجو أن يكون على الله جزاؤه، ولو وقى من الحمام واق أو أخر أحد من العمر فوق المقسوم قدر فواق لوفي تلك الروح الكريمة ذلك الفعل الكريم، وتلك اليد التي ما أظلم الخطب البهيم إلا طلعت بيد كيد الكريم ولكنه القدر الذي يتجرأ على الجازع والصابر والمشرع الذي يؤلف بين الوارد والصادر والقضاء الذي يسوق الخلق إلى الصعيد الواحد والمواعد الذي لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والد حتى يرث الله الأرض ومن عليها ويعيد الخلق منها إليها، وإذا ودعنا الدارج رضوان الله عليه بلا حول ولا قوة إلا بالله فانا نستقبل القايم بالحمد لله شكرًا على بقاء من وهب وصبرًا عن لقاء من ذهب، فان قضى أجل فقد قضى أمل، وان صدع القلوب وجل فقد جبرها جذل، وان خر جبل فقد علا والحمد لله جبل، وان ثلم جانب من المجد فقد سلم جانب، وان أفل طالع من سماء المجد فقد طلعغارب، وان فارقنا العز فقد وهن منه العظم فقد استأنفناه عقد قد راق منه النظم، وان استقل سرير الفنا بمودعه راحلًا فقد استقبل بمودعه نازلًا لا جرم انه سد ثلم الرزية واطلع التهنية آخذه باعناق التعزية يلتقي اللفظان فيصطرعان ويحل الضدان في القلب وعجبًا لهما في محل واحد كيف يجتمعان حتى إذا تؤمل ثواب الله الذي قدم عليه القادم وسلطان الله الذي قدم إليه القايم زادت السلوة ورجحت واحتجبت الأيام به ونجحت وكادت العيون تسترجع ماءها الذي سمخت والقلوب تنسخ آية السلو التي قال قايل إلا إنها نسخت وهذه الخدمة نايبة عنه في العزاء بهذه النيابة وفي الهناء بالموهبة الثانية وللدولة من الخادم يدان فان انقبضت فعلى قايم سيف نصرها وان انبسطت فبالعطاء الذي به قيام أمرها، وعينان عين تكلؤها على البعاد وعين لولا استزادة طيف مفقودها ما صافحت يد الرقاد.
1 / 11
ومنه أصدرت هذه الخدمة يوم الجمعة التي أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم وصرح فيه بذكره في الموقف العظم والجمع الذي لا لغو فيها ولا تأثيم وأشبه يوم الخادم أمسه في الخدمة ووفي ما لزمه من حقوق النعمة وجمع كلمة الإسلام عالمًا أن الجماعة رحمة والله تعالى يأخذ ملك المولى الملك الصلاح ويصلح به (١١٦٩) وعلى يديه ويؤكد عهود العلماء الراهنة لديه ويجعل للإسلام باقية واقية عليه، ويوفق الخادم لما ينويه من توثيق سلطانه وتشييده ومضاعفة ملكه ومزيده وييسر منال كل أمل صالح وتقريب بعيده.
قال: ولما وصل صلاح الدين ما كتب إليه من الكتب الصالحية لم يعجبه ما جرى مع الفرنج من المهاداة والمهادنة وتأثر قلبه بما آثرته قلوبهم وكيف اندملت ندوبهم إلى جماعة من الأعيان بالشام كتبًا دالة على التوبيخ والملام.
قال: ولما توفي نور الدين ﵀ اختل أمري وأعتل سري وفاض دمعي وغاض بحري وغلب حسادي وبلغ مرادهم أضدادي. وكان لملك الصالح صغيرًا فصار العدل ابن العجمي وزيرًا وتصرف المخالفون في الخزانة والدولة كما أرادوا وولوا وصرفوا ونقصوا وزادوا واقتصروا بي على الكتابة محروم الدعوة من الإجابة فمشيت أمرهم على عرج وتجلدت على كربهم منتظر فرج وفي عزمي العود إلى العراق وشاقني إليه لاعج الأشواق ومما نظمته في تلك الأيام قبل الخروج من دمشق في العشرين من ذي الحجة في الشوق والحنين نور الدين:
ترى يجتمع الشمل ترى يتفق الوصل ... ترى العيش الذي مر مريرًا بعدهم يحلو
ترى من شاغل الهم فؤادي المبتلى يخلو ... بغيري شغلوا عني وعندي بهم شغل
وكانوا لا يملون فما بالهم ملوا ... وراموا سلوة المغرم والمغرم لا يسلو
ترجى يرجع من طيب زماني ذلك الفضل ... أخلائي ببغداد وهل لي غيركم خل
هبوان الفيه منكم فبالأرواح ما تعلوا ... أعيذوني من الهجر فبهجركم قتل
لفقد الملك العادل ... يبكي الملك والعدل
وقد أظلمت الآفاق ... لا شمس ولا ظل
فأين الكرم والعدل ... وأين النافل الجزل
قال: وكانوا لضعف وثوق بعضهم ببعض يتبعون ما أبرموه أمس في يومهم بنقض ولهم كل يوم قسم جديد على قسم حدوده ويمين يمين الحالف بها لا محالة بما شروطه فيها من المقال أكدوا وكم عقدوا ما حلوه وحلوا ما عقدوه.
قال: وكان الأمير كمشتكيين النايب قد سمع بمرض نور الدين فأخفاه واستأذن في الوصول إلى الشام فأذن له سيف الدين غازي وخرج وسار مرحلتين وسمع النعي فأعذ السير ونجا بماله وندم صاحب الموصل على الرضا بترحاله وكان عنده بوفاة عمه بشارة وظهرت على صفحاته منها أمارة فنودي في الموصل يوم ورود الخبر بالفسحة في الشرب جهارًا وزال العرف وعاد النكر وأنشد قول ابن هانئ:
فلا تسقني سرًا ... فقد أمكن الجهر
وقيل انه اخذ المنادى على يده دفًا وعليه قدح وزمر وزعم انه خرج بها أمر فلا حرج على من يغنى ويشرب ويسكر ويطرب وعادت الضرائب والمكوس.
وأما كمشتكين فانه وصل إلى حلب واجتمع هناك بالأمير شمس الدين علي وأخيه مجد الدين ابي بكر وهو رضيع نور الدين وقد تربى معه ففوض إليه جميع مقاصده وحكمه في ملكه وكانت حصونه به محصنة ومعاقد معاقله بشره مبرمة وكان يسكن معه في قلعة حلب، وشيزر مع أخيه شمس الدين علي، وقلعة جعبر وتل باشر مع سابق الدين عثمان، وحارم مع بدر الدين حسن وعين تاب وعزاز نوابه فيها وهو يصونها ويحميها، وهم أعيان الدولة وأعضادها وأبدال أرضها وأوتادها فلما توفي نور الدين ﵀ لم يشكوا في أنهم يكفلون بولده فأقام شمس الدين علي وهو أكبرهم وأنبههم وأجودهم وأوجوههم ودخل قلعة حلب وسكنها وعرف ما جرى بدمشق من الاجتماع واتفاق ذوي الأطماع فكاتبهم وأمرهم بالوصول إليه في خدمة الملك الصالح ونفذ ثم استقر الأمر المحوط واستحكمت الأسباب والشروط وحمل المال وحسنت الأحوال واستمر الأمر وسكن الدهر إلى أن قصد الفرنج تلك الديار وسيأتي شرح ذلك في موضعه أن شاء الله تعالى.
ذكر تيسير فتح قلعة جعبر
1 / 12
قال: كان صاحبها شهاب الدين مالكبن علي بن مالك من آل عقيل من بنى المسيب نازلا في مناط الكوكب سامي المرقى (١٩٦ ب) والمرقب وهي التي قتل زنكي بن آقسنقر وهو على حصارها وتحقق عند الناس أن القدر من أنصارها. فاغتر برقدات عيون الليالي عنه ونزل فيها مسترسلًا وقصد أن يتصيد فتقتنصه ينو كلب وتقربوا به إلى نور الدين وذلك في رجب سنة ثلاث وستين فلم يزل عنده بحلب محبوسًا وبعين حفظه محروسًا فتارة يرغب وآونه يرهبه، مرة يعده يوعده. وسير فخر الدين بن مسعود الزغفراني فحصرها ودام الحصار وأبطأت في استفتاحها الأقدار ومضى مجد الدين أبو بكر أكبر أمراء نور الدين وهو رضيعه وصنيعه فلم ير له في فتحها مجالا فلم يزل يتوسط مع صاحبها حتى أصحب بعد جماحه واشتط فيما اشترطه من اقتراحه وهو سروج بأموالها والملوحة وأدوم والباب بأموالها وعشرون ألف دينار فإذا تعجل له ذلك كله وحصل من اليمن على استظهار سلم القلعة عن اختبار منه وإيثار فأخذ جميع ما شرط وسلم القلعة في صورة مكره في صورة مختار.
قال: ودخلت سنة أربع وستين وخمسمائة وتسلم مجد الدين قلعة جعبر وصعد إليها يوم السبت منتصف المحرم ووصل كتابه إلى حلب فسار نور الدين وأنا في خدمته وطلع إلى القلعة يوم الخميس العشرين من محرم فأنشدته هذه القصيدة قلت ومنها.
اسلم لبكر الفتوح مفتوحا ... ودم لملك البلاد منتزعا
كان قيمًا منها على الفلك الأعلى ... شهابا بنوره صدعا
لكنما الشهب ما تنير ... إذا لاح عمود الصباح فانسطعا
يدفعها طايعا إليك وكم ... عنها أبا بجهده دفعا
ذكر مسير الفرنج إلى مصر
1 / 13
قال: كانت الفرنج في النوبتين اللتين استعان بهم شاور على أسد الدين قد شاهدوا الديار المصرية واطلوا على العورات وكشفوا المستورات وطعموا في البلاد وتجمعوا لها بالأحشاد وتوجهوا إليها سايرين وشايعتهم على قصدهم من أعيان مصر جماعة ما كانت للمصرييين طاعة وشاوروا الفرنج على شاور لأنهم اعداؤه وقد أعياهم دواه وهم ابن الخياط وابن قرجلة وأمثالهم وتوجهوا من عسقلان في النصف من المحرم ووصلوا إلى بليس أول يوم من صفر واستولوا على أهلها قتلا وأسرا وأقاموا بها خمسة أيام ثم أناخوا على القاهرة في عاشر صفر وأحرق شاور مصر اليوم التاسع منه وخاف عليها من الفرنج وبقيت النار تعمل فيها إلى خامس شهر ربيع الأخر وكان غرضه أن يأمن عليها من العدو الكافر ثم ضاق الحصار وعرف شاور أنه يضعف عن الحماية وأن مبدأ الحفظ لا يصل إلى الغاية فشرع في تمحل الحيل فأرسل إلى ملك الفرنج يبذل له المودة وقال أمهلني حتى أجمع لك الدنانير وأطعمة في ألف ألف دينار معجلة منجمة ثم قال له: ترحل عنا وتوسع الخناق وتظهر الأرفاق وعجل له مائة ألف دينار حيلة وخداعا وواصل بكتبه إلى نور الدين مستصرخًا ومستنفرًا وبما نال الإسلام من الكفر مخبرا وسير الكتب مسودة بمدادها كاسية لباس حدادها وفي طيها ذوايت مجذوذة ظن أنها من شعور أهل القصر للأشعار بما عراهم من بليه الحصر وأرسلها تباعًا ورادف بها نجابين سراعا وعامل الفرنج بالمطال وبالارسال حتى أتى الغوث ولما سمع أسد الدين بخبر الفرنج ساق من حمص في ليلة واحدة إلى حلب وقال لنور الدين أن الفرنج قد استحكم في البلاد المصرية طمعهم، وليس سواك في الوجود من يزحمهم ومتى تجمع العسكر وكيف تدفعهم فقال له: أن خزانتي لك فخذ منها ما تريد وأطلق في العاجل مائتي ألف دينار وأمر خازنه ولى الدين إسماعيل بأن يوصل إليه كثير ما يلتمسه والقليل. فمضى نور الدين لتسلم قلعة جعبر ومضى أسد الدين وحشد التركمان ولما عاد استقل نور الدين إلى دمشق وقدم صلاح الدين إليها السبق وكان وصوله إليها بكرة الأحد التاسع والعشرين من صفر وخرجنا إلى الفور وأسد الدين هناك في العسكر الجرار وأطلق لكل فارس عشرين دينارًا وعرضنا أكثر من خمسة آلاف (١١٧٠) من الرجال الأبطال وأضاف إليهم نور الدين ألف فارس من أمراء مماليكه عز الدين جرديك وغرس الدين قلج ومن أمراء خواصه عين الدولة ابن كوخات وينال بن حسان ومن شذ عني ذكرهم واجتمع في يوم كتاب الديوان والبيوت والأمراء وركبت العساكر في تلك الصحراء في عددهم الموفورة وألويتهم المنشورة فعرضناهم في ساعة واحدة بأقلام متعددة ورحلوا على قصد مصر في نصف شهر ربيع الأول وخيم نور الدين فيمن أقام معه برأس الماء نازلًا بمنزلة الفقيع على تلها مقيمًا إلى أن يأذن الله في تلك العقدة بحلها فوصل المبشر برحيل الفرنج من القاهرة عند وصول خبر وصل العسكر فسيرنا كتب البشاير بالفتح والظفر.
ذكر ما اعتمده أسد الدين عند وصوله إلى مصر
وكأن وصوله إليها في سابع عشر ربيع الآخر قال: ولما سمع الفرنج نهوض عسكر الإسلام أجفلوا إجفال النعام ورحل ملكهم إلى بلبيس ثم عاد إلى الساحل ودخل أسد الدين في التاسع منه إلى الإيوان وخلع عليه وفي العاشر منه نزل أهل مصر وسكنوها وتودد شاور إلى أسد الدين وتردد وتجدد بينها من الوداد ما تأكد فقال صلاح الدين هذا أمر يطول ومسألة فرضها يعول ومعنا هذا العسكر الثقيل ولا استيلاء شاور ولا سيما إذا راوغ وغارر فأنفذ أسد الدين الفقيه عيسى إلى شاور وقال: أخشى عليك ممن معي من الناس فلم يكترث بمقالة وركب على سبيل انبساطه واسترساله فاعترضه صلاح الدين في الأمراء النورية فبغته وشحته وقبضه وأثبته ووكل به في خيمة ضربها له وحاول إمهاله فجاء من القصر من يطلب برأسه، جاء الرسول وأبوا أن يرجعوا إلا بنجح السؤل فحم حمامه وحمل إلى القصر هامة وذلك يوم السبت سابع عشر ربيع الآخر وتقلد أسد الدين الوزارة واستقل بأوزارها وعاد بالقاهرة إلى دارها ونعت بالملك المنصور ولما جاء المبشر إلى الشام كتبت إليه أهينه بقصيدة أولها:
بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم راحة جنيت من دوحة التعب
أفخر فإن ملوك الأرض قاطبة ... أفلاكها منك قد دارت على قطب
1 / 14
فتحت مصر وأرجو أن يصير بها ... ميسرا فتح بيت القدس عن كثب
وكتبت إلى صلاح الدين كلمة أولها:
لو أن عذرى لك يالاح لاح ... ما كنت عن سكري يا صاح صاح
وما شقائي وسقامي سوى ... لواحظ الغيد المراض الصحاح
قال: وكتب لأسد الدين منشورًا من القصر كتب العاضد في طرته بخطه هذا عهد لا عهد لوزير بمثله وتقلد أمانة رآك فلان أهلا لحملها فخد كتابك بقوة واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة واتخذ للفوز سبيلًا (ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) .
ذكر وفاة أسد الدين
يوم الأحد الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وولاية صلاح الدين في الخامس والعشرين منها قال: ولما تسنى أمر أسد الدين وعلا سنا سلطانه وملك بملكه زمام زمانه وقر غرار الكرى وغرار الظبي في أجفانه فاجأه القدر وجاءه الكدر في صفائه وقضى القضاء لأمل بانقضائه فخمدت ناره وغاض ماؤه وتوفى يوم الأحد الثاني والعشرين من جمادى الآخرة.
ولما فرغ العسكر بعد ثلاثة أيام من التعزية اختلفت آراؤهم واختلطت أهواؤهم فاجتمعت الأمراء النورية على كلمة واحدة وأيد متساعدة وعقدوا لصلاح الدين وقالوا هذا مقام عمه وألزموا صاحب القصر بتوليته ونادت السعادة بتلبيته. وشرع في ترتيب الملك وترتيبه، وفض ختوم الخزائن وفرق ما جمعه أسد الدين في حياته، ورأى أولياءه تحت ألويته وراياته وأحبوه ولم تزل محبته غالبة على مهابته وهو يبالغ في تقريبهم كأنهم ذوو قرابته وما زاده الملك إلا ترفعا وما زاده إلا تأصلا في السماح وتفرعا. وكتب له العاضد من القصر منشور الوزارة (١٧٠ب) ولقبه بالملك الناصر ومن ألفاظ هذا المنشور في مخاطبته صلاح الدين: فيومك واسطة في المجد (بين يديك) فامسك وكل ناد من أندية الفخار لك أن تقول فيه ولغيرك أن يمسك فبشراك أن أنعمة موصولة بوالد وولد وأن شمس ملكه بكم كالشمس أقوى ما كانت في بيت الأسد.
قال: وكان بالقصر أستاذ له على حكم القصر ستحوز وبدا من شرار شره دخان ومن رشاش كيده رذاذ، وتآمر هو ومن شايعه على أن يكاتبوا الفرنج فكتبوا ملطفات بالاستدعاء وسيروها على سبيل الخفاء فأتفق أن رجلًا من التركمان عبر بالبيضاء فرأى نعلين جديدين مع إنسان فأخذهما على سبيل الامتحان. وقال: لو أنهما للبسة لكان بهما أثر استعمال فأخدهما وجاء بهما إلى صلاح الدين ووصف الحال فأمر بنقبهما ووجد في طيهما أحرفا مكتوبة وتأملها فإذا هي الفرنج من القصر وكان مقصودهم أن صلاح الدين إذا سمع بخروج الفرنج خرج إلى القتال ويخرجون وراءه لانتهائه ويقدم الفرنج على لقائه ويأخذون أمامه والمصريون من ورائه فأخذ الكتاب وقال: دلونى على كاتب هذا فدلوه على يهودي من الرهط فلما أحضروه ليسألوه ويعاقبوه قدم التلفظ بالشهادتين والدخول في عصمة الإسلام ثم اعترف بما جناه وأن الآمر به مؤتمن الخلافة فرأى إخفاء هذا السر واستشعر الخصى فما صار يخرج من القصر مخافة وإذا خرج لم يبعد مسافة وصلاح الدين عليه مغضب وعنه إلى أن استرسل. وكان له قصر يقال له الخرقانية فخلا فيه يوما للذة له ولم يدر أنه يوم ذلته فانهض إليه صلاح الدين من اخذ رأسه ونزع من حياته.
لباسه وذلك في يوم الأربعاء العشرين من ذي القعدة سنة أربع وستين ولما قتل ثار السودان وثأروا يوم الخميس يوم قتله وكانوا أكثر من خمسين ألف من كل أخضر ينظر من عينه الموت الأحمر، وأغبر لا يجلوه إلا اليوم الأغبر. وكانوا إذا قاموا على وزير قتلوه فحسبوه أن كل بيضاء شحمه وأن كل سوداء فحمة فأقبلوا ولضرامهم حجمه ولضرابهم فحمه فقال أصحابنا: هذا مبدأ الروع وريعانه وعنفوان العنف وعنوانه فهاجموا إلى الهيجاء وكان المقدم الأمير أبو الهيجاء السمين فاتصلت الحرب بين القصرين وأحاطت العسكرية بهم من الجانبين ودام الشر يومين حتى أحس الأساحم بالحين كلما لجأوا إلى محله أحرقوها عليهم وحووا ما حواليهم أحرجوا وأخرجوا إلى الجيزة وأذلوا بالنفس عن منازلهم العزيزة وذلك يوم السبت الثامن والعشرين من الشهر فما خلص السودان بعدها من الشدة ولم يجدوا إلى الخلاص سبيلا وأين ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا.
1 / 15
وسير نور الدين الأمير فخر الدين تورانتشاه بن أيوب أخا صلاح الدين إلى مصر وكان خروجه من دمشق عاشر شوال ووصوله إليها ثالث ذي القعدة ورأى أن يمده به ويشد به أزره ويصون مصر بصفوة فخره ويستدسم على الكفر والبدعة ظهوره قال: وكثرت كتب صلاح الدين إلى أصدقائه بالشام فمنها كتاب وضمنه هذا البيت.
انثر الدمع من قبل أبيضا ... وقد حال مذ بنتم فأصبح ياقوتا
ومنها كتاب آخر ضمنه هذا البيت.
ما كنت بالمنظور أقتنع منكم ... ولقد رضيت اليوم بالسموع
قال: وفي هذه السنة قتل العاضد بالقصر ابني شاور وعمهما يوم الأثنين رابع جمادى الآخر وذلك أنه لما قتل شاور عادوا بالقصر وكانما نزلوا في القبر.
قال: ودخلت سنة خمس وستين ونزل الفرنج مستهل صفر على دمياط وأحاطوا بها بحرًا بمراكبهم وبرًا بكتايبهم فوقع اليأس والبؤس وقنطت النفوس فسبق إليها تقى الدين بن أخي السلطان وشهاب الدين خاله وتوافد إليها الأمراء فرجع إليها بعد الأشقاء الرجا. وأقام صلاح الدين بالقاهرة في دار ملكة ينهض إليها المدد بعد المدد واتصل الحصار واستشرى الشر لكن الأصحاب أولياء أولياء الله صبروا وصابروا وتزاوروا وأمسوا على القتال وأصبحوا وتاجروا لله وربحوا وهدوا بنيان الكفر المرصوص المرصوف وأهلكوا بالعشرات الألوف وأقاموا على دمياط أحدا وخمسين يوما ودب فيهم الفناء (١١٧١) وهب عليهم البلاء (وذهب عنهم الرجاء) ورحلوا بالذل الأكمل والصغار الأشمل.
ولما وصل الخبر إلى الشام أغتنم نور الدين وأمر الأمير قطب الدين خسرو الهذباني أن يسير بالعسكر ويخوض بهم العجاج الأكدر فوصل قبل رحيل الفرنج بأسبوع فوقع روعه من الكفر في كل روع فان للنجدة قليلة كانت أو كثيرة صيتًا يورث شمل العدد تشتيتًا وحبل ذي العتد تبتيتًا.
قال: وكتبت عن الملك العادل نور الدين إلى العاضد كتابًا منه: أطال الله بقاء فلان ولا زالت عوادي نعمة محدقة بأوليائه إحداق الأجفان بالأحداق، وعوادي نقمة محرقة لأعداءه إحراق النيران أهل الشقاق وما أعلت رايات النصر للدين وتليت آيات الذكر المبين الخادم يهنئ بما أسناه الله من الظفر الذي أضحك سن الأيمان وحصل أهل الشرك في شرك الخذلان وأعاد جيش الكفر وأهي الجأش وبدا الضلالة بادية الارتعاش حتى عاد حزب الشيطان مخذولا وسيف الله في رقاب أعدائه مسلولا وذلك ببركات الدولة التي سطع فخرها ولولا صدق اهتمامه بأهل الإسلام وحفظ الأولياء الذين يذبون عن الدين ويحافظون على الذمام لكاد ركن الحق يميل لكيد الباطل فوفق الله فلانا وأيده بنصره وأجرى قضاه وقدره على وفق أمره ورد كيد العدو الكافر في نحره.
قال: وفي هذه السنة كنت رسولا بخلاط عن نور الدين وخرجت من دمشق ضحوة نهار الأربعاء تاسع ذي الحجة ومتوليها حينئذ ظهير الدين سكمان المعروف بشاه أرمن ودخلت خلاط ثاني صفر وعدت على طريق ماردين ومتوليها البى بن تمر تاتش بن الغازي ابن ارتق المنعوت بنجم الدين وعدت إلى دمشق في ربيع الأول أول فصل الشتاء وعدت إلى عادتي في الإنشاء وكانت سفرتي في الرسالة ممزوجة لم يف بشكايتها شكرنا.
قال: وفي أول هذه السنة خرج نور الدين إلى داريا فأعاد عمارة جامعها وتبرك بضريح أبي سليمان الداراني ﵀ عليه وعمر مشهده وأعاد إلى الحالة الحالية مسجده وشتا بدمشق. ولما دخل فصل النيروز استأذن الأمير نجم الدين أيوب في قصد ولده والخروج من دمشق إلى مصر بأهله وجماعته وسبده ولبده. وسار ووصل إلى مصر في السابع والعشرين من رجب وقضى العاضد من حقه ما وجب، وركب لاستقباله. ولما عزم التوجه إلى مصر شرع في تفريق أملاكه وتوفير ماله فيه شركة على إشراكه، ولم يستصحب شيئًا من موجودة وجعله نهبه جودة.
1 / 16
وكان نور الدين لما برز نجم الدين خرج إلى رأس الماء بعسكره وخيامه وأرهف للجد في الجهاد حد أغرامه ثم أقام بعد توديعه والوفاء بحق تشييعه إلى أن اجتمعت عليه عساكره ثم توجهنا إلى بلاد الكرك مستهل شعبان ونزلنا أيامنا بالبلقاء على عمان، وكانت الشعاب معشبة والمراعي ممرعة، ثم سرنا على طريق الوالة إلى الكرك وأقمنا أن نبلغ الغرض ونؤدي في فتحها المفترض لكن وصل الخبر بأن الفرنج قد اجتمعوا ووصلوا إلى ماعين فقال نور الدين نرى أن نصرف اعنتنا إليهم وبالله نستعين فرحلنا ومعنا ومعنا أمراء بنى ربيعة وقد استصحبوا من العرب المشيخة المطيعة ومقدما الفرنج هنفري وفليب بن الرقيق في مائتي رمح وألف فارس من التركبولية وراجل كثير من السرجندية فلما رأوا مثار عجاجنا ولوا مدبرين وقالوا: قد حصل مقصودنا من رحيلهم عن الحصن ولما عدنا وصلنا إلى حوران واستقبلنا شهر رمضان فختمنا بعشترا وادينا فرض الصيام.
ذكر الزلزالة التي عمت بلاد الشام
قال: وأصبحنا يوم الاثنين الثاني عشر من شوال وانا في خيمتي جالس فأحسست بالارض تحتى تموج كالبحر إذا عصفت به الرياح الهوداج فما أروعها زلزلة وأصدعها آية من الله منزلة وتواصلت الأخبار من جميع بلاد الشمام بما أحدثته من الإنهداد والانهدام وأن معاقد معاقلها انحلت واختلت (والتقت ما فيها وتخلت) فرحل نور الدين من عشترا يوم الثلاثاء ووصل إلى بعلبك يوم الأربعاء وسقنا وراءه ووصلنا يوم الخميس. وقد شرع نور الدين لما تهدم (ب) من بنيانها في التأسيس وكانت قلعتها تعلقت فأقام بنية تشييد أركانها ثم أتها الخبر بما تم على حمص وحماه وبعرين وحلب لأن أمر الله لا سيما بحلب غلب نزع عمارتها وسلب السلب فتقدم بترتيب أمور العمارة، وسلم إلى الثقات مالًا ووكل بالعمل صناعًا ورجلًا ثم سار إلى حمص وأظهر للم شعثها الحرص. وأما حصن بعرين فقد كان بيد الأمير زين الدين عمر بن لاجين فلما وقع سيبه وأخذ الله الأمير الكبير عين الدولة بن كوخات في خمسمائة فارس فإنه كان من الفرنج على خطر فجعلهم من مجاورته على حذر. وكان الهم الكبير في حلب لانهدام مبانيها وانهداد مغانيها فوصل نور الدين إليها وجد في عمارتها وأقبل عليها ورد إلى احكم القواعد بنيانها وأما سور البلد فإنه جدد منه المنهدم وكان بذلك مغرمًا فلم يستكثر المغرم وأخذ له في كل بلد مجلسًا حتى يكون من الزلزلة بعون الله مصونًا.
قال: من مكاتبة أنشاتها إلى المواقف المقدسة المستنجدية في المغنى قد أحاط العلم الشريف أجله الله بهذه الحادثة التي ألمت بالشام من الزلزالة التي تداعت له الثغور بالائتلام والمعاقل والحصون بالانهداد والانهدام ولم يكن إلا (عبرة لأولى الأبصار) موعظة وآية من الله لعبادة منذرة موقظة وقد عمت حتى عطلت كل حال وشغلت كل بال والحقت كل جديد ببال والحمد الله على كل حال وما سكنت النفوس من رعبها إلا بما دهم الكفار من أمرها فأنها وافقت يوم عيدهم وهم في الكنائس فأصبحوا للردى فرايس (شاخصة أبصارهم ينظرون) (فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) ولولا اشتغالهم بما عراهم حيث انقلعت كل قلعة لهم من أساس بنيانها ورجف كل بلدة في أيدهم بهلاك سكانها لم تؤمن في نوبة هذه النبوة معرتهم ولم تخش بعد هذه المضرة إلا مضرتهم وأن بالثغور الإسلامية شدة افتقار إلى تحصينها وإعادة أبنية حصونها قبل أن يستفحل الداء ويتفرغ لشغلها الأعداء وما أولى المواقف المقدسة بإيلاء الأيادي وإسدائها وإعانة من تكفل بسد ثغور الإسلام وصد أعدائها وما أحوج الخادم إلى نظرة شافية وعازفة لهذا المذور كافية ولا ينهض بعبء هذه النوبة إلا بما يرفد به من المعونة وبما يشمله من بركات الأيام الزاهرة الميمونة.
ذكر توجه نور الدين
إلى الموصل بعد وفاة أخيه قطب الدين
1 / 17
قال: فوصل الخبر بوفاة قطب الدين مودود بن زنكي بالموصل فأشفق من أمرها المهمل أن الخادم المنعوت بفخر الدين عبد المسيح قد تعرض للحكم وأقام أحد أولاده وهو سيف غازي مقام أبيه ليتحكم في الموصل وفيه فقال نور الدين أنا ولي بالبلاد والشفقة على الأولاد وسار حتى عبر الفرات عند قلعة جعبر واستصحب العسكر واد لج ليلًا وسار وأسرى وأصبح على الرقة وفيها أمير يسمى كردك فتمنع فأخذ منه البلد عنوة بالسلم شبيهه وأطاعه لما عجز ولم يلق كريهة. قال ودخلت سنة ست وستين: يوم نزلنا على الرقة ونور الدين ساطع النور جامع الأمور مصمم العزم آخذ بالحزم جار من عدله وإحسانه على الرسم قال: واستدعاني نور الدين ونحن بظاهر الرقة وقال: قد أنست بك وأمنت إليك وأنا غير مختار للفرقة لكن المهم الذي عرض لا يبلغ فيه غيرك الغرض فتمضي إلى الديوان العزيز جريدة وتؤدي عني رسالة سديدة سعيدة وتنهي أني قصدت بيتي وبيت والدي ومعي طريقي وتالدي فأمضي وخذ لي أذنًا في ذلك. وأمر ناصر الدين محمد بن شيركوه أن يسير بي إلى الرحبة في رجال مأموني الصحبة وسرت منها على البرية غربي الفرات بخفير من بنى خفاجة وعبرت على هيت ثم عرسنا بالأنبار ورحلنا منها وجزنا على نهر شيلا وعقرقوف فلما وصلنا إلى قرب بغداد سيرت غلامي إبراهيم ليخبر الديوان العزيز بالوصول وانتظرت ما جرت به العادة في تلقي الرسول فجاءوا وعبروا بي إلى الديوان العزيز وخصوني باسباب (١١٧٢) التمييز واجتمعت بالوزير شرف الدين بن البلدي وكانت بيني وبينه صداقة صادقة في أيام الوزير ابن هبيرة فإنه كان نايبه بواسط وأنا مشرفة ثم انتقل هو إلى الديوان الشريف بها ناظرًا ونبت عن الوزير فمن هناك تأكدت الصداقة فما صدق كيف رآني وبحبه وحباته حباني وقرظني عند امير المؤمنين وقال له بمثله لا نسمح بل يكرم ويخدم ويشرف ويمنح فاحتبسني عنده شهرين يعدني من الأمام بأجل منصبين من الإنشاء والنيابة وشفع سؤلى في حق مخدومي بالإجابة والإصابة فقلت له إذا قضيت حق الرسالة عدت إلى عدتك في الحيلة والحالة فلما مرض المستنجد بالله ورأيت مبادئ وهنه تتجدد على مر الجديدين استأذنه في العود فأذن وسير معي في الرسالة الفقيه مجد الدين اليزدى المدرس الحنفي وذلك في العشر الأخير من شهر ربيع الأول فسلكنا الشهباء على النهج الأسهل وجينا إلى سنجار ونور الدين على حصارها وهدم أسوارها ولما فتح البلد دخله وملك من ذخره منتخبه ومنتحله ثم سلم البلد إلى ابن أخيه عماد الدين زنكي بن مودود ولم يزل فيه لكونه خصه مخصوصًا بكل مقصود ومطلوب ثم رحل نحو الموصل وقصد بلد واستوضح منها الجد ونزل هناك في دجلة على مخاضته فاستسهل من خوضها العبور فيها ما ظن متصعبًا. وجاء دليل تركماني قدامنا وهو يقطع دجلة تارة طولًا وتارة عرضا أمامنا ونحن وراءه كخيط واحد حتى عبرنا إلى الجانب الشرقي برجالنا وأثقالنا وأقمنا بقية ذلك اليوم حتى تم عبور القوم ثم رحلنا فنزلنا على الموصل من شرقها وخيمنا على تل توبة فاستعظم أهلها تلك النوبة فما خطر ببالهم أننا نغير بغير مراكب وأنا نأخذ عليهم ذلك الجانب فعرفوا أنهم محصورون مقهورون وانقطعت عنهم السبل من الشرق، وتعذر عليهم الرقع لاتساع الخرق، وبسط العطاء وكشف الغطاء وتكلما في المصلبحة والمصالحة الوسطاء ومد الجسر وقضى الأمر وأنعم نور الدين على أولاد أخيه ومثلوا بناديه وأقر سيف الدين غازي على قاعدة أبيه والبسه التشريف الذي وصل من أمير المؤمنين المستضيء وأعاده إلى البلد ثم دخل قلعة الموصل من باب السرو وأقام بها سبعة عشر يومًا وحدد مناشير أهل المناصب وتوقيعات ذوي المراتب فأمضى قضاء القاضي حجة الدين بن نجم الدين الشهروزر على قاعدته ونظر في أحوال الموصل بمعاملاتها ووجوه أموالها جباتها فألفى معظمها محظورًا محذورًا فتقدم بإسقاطها وإطلاق قناطها وأمرني فكتبت بذلك منشورًا.
ذكر الشيخ عمر الملاء
1 / 18
قال: كان بالموصل رجل من شيوخ الصالحين وأئمة العارفين يعرف بعمر العلاء وكان العلماء بل الملوك والأمراء يزورونه في زاويته وله كل سنة دعوة في أيام مولد النبي ﷺ يحضره فيها صاحب الموصل ويحضر الشعراء وينشدون في ذلك المحفل في مدح النبي ﷺ وكان يخرج لهم جوايزهم. وكان نور الدين من أخلص محبيه وأحب مخالصيه وكان يستشيره ويكاتبه، وكان بالموصل خربة واسعة متوسطة للبلد وقالوا ما شرع في عمارتها إلا من ذهب عمره فأشار الشيخ عليه بابتياعها وبنائها جامعًا تقام فيه الجمع والجماعات فانفق فيها أمولًا جاوزت حد الغزارة ووقف عليها ضيعة من ضياع الموصل. وكان الفقيه عماد الدين النوقاني الشافعي تلك السنة من الوافدين إلى الشام وكان من أكابر علماء الإسلام من أصحاب محمد بن يحيى ومعاصريه فسأله أن يكون مدرسًا في هذا الجامع فقال: وكتبت له منشورًا عند عودنا إلى دمشق بذلك في سنة سبع وستين. قال وحضر مجاهد الدين قايماز صاحب اربل في الخدمة النورية بالموصل وذلك في مستهل جمادى الآخرة وزخرت الموصل بأمواج هداياه الزاخرة. قال: وولى نور الدين سعد الدين كمشتكين بقلعتها نابيًا وأر فخر الدين عبد المسيح بأن يكون له في خدمته مصاحبًا واقتطع عن صاحب الموصل حران ونصيبين والخابور والمجدل وعاد إلى سنجار واعاد عمارة أسواها. ونزلنا بحران في خامس عشر (١٧٢ب) جمادى الآخرة ثم رحلنا على قصد حلب ووصلنا إليها في خامس رجب قال ونظمت هذه الأبيات على مذهب لزوم ما لا يلزم.
أحمد لله فزنا وللمطال حزنا ... حزنا السرور ومات الحسود هما وحزنا
إن الأعادي ذلوا بنصرنا وعززنا ... وعاد سهلًا من الأمر كل ما كان حزنا
قال: وفرض القضاء والحكم بنصيبين وسنجار إلى الشيخ شرف الدين أبي سعد بن أبي عصرون فولى بها نوابه وحكم فيها أصحابه.
ذكر وفاة الأمام المستنجد بالله وولاية الإمام المستضيء
أبي محمد الحسن ووصول رسله إلينا قال: ووصل الخبر بوفاة المستنجد بالله وجلوس الأمام المستضيء بأمر الله وقد بويع يوم السبت تاسع ربيع الآخر سنة ست وستين وكان الوزير أبو جعفر المعروف بابن البلدي ركب يوم وقوع الإرجاف في عدة معه وعدة من الأمراء فلما لم يصح الخبر تفرقوا إلى منازلهم ورجع الوزير إلى داره وقيل أن أمير المؤمنين خف ما به فأغلق أستاذ الدار باب العامة فأحس الوزير حينئذ بزوال السلامة وقرع سن الندامة وجاءه أحد الحجاب يعزيه وللحضور في المشايعة يستدعيه فمضى ومعه زعيم الدين أبو جعفر صاحب الخزن فلما دخل صرف به إلى موضع كان فيه مصرعه وأمضه بالسيف من دمه تجرعه وشفع عماد الدين بن عضد الدين رئيس الرؤساء في الزعيم فبقى على سننه القويم وتولى عضد الدين الوزارة وأخرج جميع من في الحبوس ومن جملتهم مخلص الدين بن الكيا الهراس فإنه اعتقل من مبتدأ خلافة الأمام المستنجد إلى منتاها وعاش بعدها حياة في عطلة ما اشتهاها. وقيل قتل في ذلك اليوم في الحبس جماعة لم يؤثر الوزير ظهورهم ومنهم عز الدين محمد بن الوزير ابن هبيرة وغيره. وجاءنا رسل الخلافة ونحن بشرقي الموصل قصد تل توبة مبشرين بخلافة الأمام المستضيء بأمر الله واتفق ذلك اليوم عبور دجلة واجتاب نور الدين تشريف الإحتباء وركب يوم النزول عن التل في الأهبة السوداء واليد البيضاء وذلك بمرأى ومنظر من أهل الموصل الحدباء وأمرني بإصدار خدمة إلى الوزير يشكر الآلاء والأمتثال للأوامر الشريفة بإقامة الدعوة الهادية في جميع الأقطار والأمصار والخطبة على منابرها ونقش سكة الدرهم والدينار.
1 / 19