مُقَدّمَة
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة أقضى الْقُضَاة عَلَاء الدّين أَبُو الْحسن على بن عَبَّاس البعلى الحنبلى رَحمَه الله تَعَالَى ورضى عَنهُ
الْحَمد لله الْجَاعِل التَّقْوَى أصل الدّين واساسه الْمُبين معنى مُجمل الْكتاب والمبدع أَنْوَاعه وأجناسه الْمَانِع أولى الْجَهْل من اتِّبَاعه والمانح الْعلمَاء اقتباسه
وَأشْهد أَن لَا اله إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة عبد أدأب فى طَاعَة مَوْلَاهُ جوارحه وأنفاسه وَأشْهد أَن معمدا عَبده وَرَسُوله الذى طهر باتباعه الْمُؤمنِينَ وأذهب عَنْهُم كيد الشَّيْطَان وأرجاسه صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه صَلَاة دائمة تبوىء قَائِلهَا اتِّبَاع الْحق وتوضح لَهُ التباسه
أما بعد فَهَذَا مُخْتَصر فى أصُول الْفِقْه على مَذْهَب الإِمَام الربانى أَبى عبد الله أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل الشيبانى رضى الله عَنهُ أجتهدت فى اختصاره وتحريره
1 / 29
وتبيين رموزه وتحبيره مَحْذُوف التَّعْلِيل والدلائل مُشِيرا الى الْخلاف والوفاق فى غَالب الْمسَائِل مُرَتبا تَرْتِيب ابناء زَمَاننَا مجيبا سُؤال من تكَرر سُؤَاله من إِخْوَاننَا وَالله سُبْحَانَهُ المسؤول أَن يَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم نَافِعًا صَوَابا وَأَن يثبت أمورنا وَيجْعَل التَّقْوَى شعارا لنا وجلبابا بمنه وَكَرمه فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
أصُول الْفِقْه مركب من مُضَاف ومضاف اليه وَمَا كَانَ كَذَلِك فتعريفه من حَيْثُ هُوَ مركب إجمالى لقبى وَبِاعْتِبَار كل من مفرداته تفصيلي
فأصول الْفِقْه بِالِاعْتِبَارِ الأول الْعلم بالقواعد الَّتِى يتَوَصَّل بهَا الى استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية عَن أدلتها التفصيلية وبالثانى الْأُصُول الآتى ذكرهَا
وهى جمع أصل وأصل الشىء مَا مِنْهُ الشىء أَو مَا اسْتندَ الشىء فى وجوده اليه أَو مَا ينبنى عَلَيْهِ غَيره أَو مَا احْتِيجَ اليه أَقْوَال
1 / 30
وَالْفِقْه لُغَة الْفَهم والفهم إِدْرَاك معنى الْكَلَام بِسُرْعَة قَالَه ابْن عقيل فى الْوَاضِح
وَالْأَظْهَر لَا حَاجَة الى قيد السرعة وحد الْفِقْه شرعا الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة الفرعية عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال
والفقيه من عرف جملَة غالبة وَقيل كَثِيرَة مِنْهَا عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال
واصول الْفِقْه فرض كِفَايَة
وَقيل فرض عين حَكَاهُ ابْن عقيل وَغَيره
1 / 31
وَالْمرَاد الِاجْتِهَاد قَالَه ابو الْعَبَّاس وَغَيره
وَأوجب ابْن عقيل وَابْن الْبَنَّا وَغَيرهمَا تقدم مَعْرفَتهَا
وَأوجب القاضى وَغَيره تقدم معرفَة الْفُرُوع
1 / 32
الدَّلِيل لُغَة المرشد والمرشد الناصب والذاكر وَمَا بِهِ الْإِرْشَاد
وَاصْطِلَاحا مَا يُمكن التَّوَصُّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ الى مَطْلُوب خبرى عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم
قَالَ أَحْمد رضى الله عَنهُ الدَّال الله ﷿ وَالدَّلِيل الْقُرْآن والمبين الرَّسُول ﷺ والمستدل أولو الْعلم هَذِه قَوَاعِد الاسلام
وَقيل يُزَاد فى الْحَد الى الْعلم بالمطلوب فَتخرج الأمارة وَجزم بِهِ فى الْوَاضِح
وَذكره الآمدى قَول الْأُصُولِيِّينَ وَأَن الأول قَول الْفُقَهَاء
1 / 33
وَقيل قَولَانِ فَصَاعِدا يكون عَنهُ قَول آخر
وَقيل يسْتَلْزم لنَفسِهِ فَتخرج الأمارة
وَالنَّظَر الْفِكر الذى يطْلب بِهِ علم أَو ظن
وَالْعلم يحد عِنْد أَصْحَابنَا قَالَ فى الْعدة والتمهيد
1 / 34
هُوَ معرفَة الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ
وَالأَصَح صفة توجب تمييزا لَا يحْتَمل النقيض فَيدْخل إِدْرَاك الْحَواس كالأشعرى وَإِلَّا زيد فى الْأُمُور المعنوية
وَقيل لَا يحد قَالَ أَبُو المعالى لعسره قَالَ لَكِن يُمَيّز ببحث وتقسيم وَمِثَال
1 / 35
وَقَالَ صَاحب الْمَحْصُول لِأَنَّهُ ضرورى من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن غير الْعلم لَا يعلم أَلا بِالْعلمِ فَلَو علم الْعلم بِغَيْرِهِ كَانَ دورا
والثانى أَن كل أحد يعلم وجود ضروره
وَعلم الله تَعَالَى قديم لَيْسَ ضَرُورِيًّا وَلَا نظريا وفَاقا
وَلَا يُوصف سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ عَارِف ذكره بَعضهم إِجْمَاعًا وَوَصفه الكرامية بذلك
وَعلم الْمَخْلُوق مُحدث ضرورى ونظرى
وفَاقا فالضرورى مَا علم من غير نظر وَالْمَطْلُوب بِخِلَافِهِ ذكره فى الْعدة والتمهيد
1 / 36
وَالذكر الحكمى إِمَّا أَن يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض بِوَجْه أَولا والثانى الْعلم
وَالْأول إِمَّا أَن يحْتَمل النقيض عِنْد الذاكر لَو قدره أَولا والثانى الِاعْتِقَاد فَإِن طابق فَصَحِيح وَإِلَّا ففاسد
وَالْأول إِمَّا أَن يحْتَمل النقيض وَهُوَ رَاجِح أَو لَا وَالرَّاجِح الظَّن والمرجوح الْوَهم والمساوى الشَّك
وَقد علم بذلك حُدُودهَا
وَالْعقل بعض الْعُلُوم الضرورية عِنْد الْجُمْهُور
قَالَ احْمَد الْعقل غريزة يعْنى غير مكتسب
قَالَه القاضى
وَذهب بعض النَّاس الى أَنه اكْتِسَاب
وَبَعْضهمْ أَنه كل الْعُلُوم الضرورية
وَبَعْضهمْ أَنه جَوْهَر بسيط
وَبَعْضهمْ أَنه مَادَّة وطبيعة
وَالْعقل يخْتَلف فعقل بعض النَّاس اكثر من بعض قَالَه أَصْحَابنَا
1 / 37
وَخَالف ابْن عقيل والمعتزله والأشعرية
وَمحله الْقلب عِنْد أَصْحَابنَا والأشعرية وَحكى عَن الْأَطِبَّاء حَتَّى قَالَ ابْن الأعرابى وَغَيره الْعقل الْقلب وَالْقلب الْعقل
واشهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد رَحمَه الله تَعَالَى هُوَ فى الدِّمَاغ
وَمن لطف الله تَعَالَى إِحْدَاث الموضوعات اللُّغَوِيَّة لتعبر عَمَّا فى الضَّمِير
وهى أفيد من الاشارة والمثال وايسر فلنتكلم على حَدهَا واقسامها وَابْتِدَاء وَضعهَا وَطَرِيق مَعْرفَتهَا
الْحَد كل لفظ وضع لِمَعْنى
أقسامها مُفْرد ومركب
والمفرد اللَّفْظ بِكَلِمَة وَاحِدَة
1 / 38
وَقيل مَا وضع لِمَعْنى وَلَا جُزْء لَهُ يدل فِيهِ
والمركب بِخِلَافِهِ فيهمَا
فنحو بعلبك مركب على الأول لَا الثانى وَنَحْو يضْرب بِالْعَكْسِ
ويلزمهم ان نَحْو ضَارب ومخرج مِمَّا لَا ينْحَصر مركب
وينقسم الْمُفْرد الى اسْم وَفعل وحرف
ودلالته اللفظية فى كَمَال مَعْنَاهَا دلَالَة مُطَابقَة
وفى بعض مَعْنَاهَا دلَالَة تضمن كدلالة الجدران على الْبَيْت
وَغير اللفظية دلَالَة الْتِزَام كدلالته على المبانى
وَلم يشْتَرط الأصوليون فى كَون اللَّازِم ذهنيا واشترطه المنطقيون
والمركب جملَة وَغير جملَة
فالجملة مَا وضع لإِفَادَة نِسْبَة
وَلَا يتاتى إِلَّا فى اسْمَيْنِ أَو فعل وَاسم
وَلَا يرد حَيَوَان نَاطِق وَكَاتب فى زيد كَاتب لِأَنَّهَا لم تُوضَع لإِفَادَة نِسْبَة
1 / 39
وللمفرد بِاعْتِبَار وحدته ووحدة مَدْلُوله أَرْبَعَة اقسام
فَالْأول إِن اشْترك فى مَفْهُومه كَثِيرُونَ فَهُوَ الكلى
فَإِن تفَاوت كالوجود للخالق والمخلوق فمشكك والا فمتواطىء
وَأَن لم يشْتَرك فجزئى
وَيُقَال للنوع أَيْضا جزئى
والكلى ذاتى وعرضى
والثانى من الْأَرْبَعَة متقابلة متباينة
الثَّالِث إِن كَانَ حَقِيقَة للمتعدد فمشترك والا فحقيقة ومجاز
الرَّابِع مترادفة
وَكلهَا مُشْتَقّ وَغير مُشْتَقّ صفة وَغير صفة
مَسْأَلَة الْمُشْتَرك وَاقع عِنْد أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة
وَمنع مِنْهُ ابْن الباقلانى وثعلب
1 / 40
والأبهرى والبلخى
وَمنع مِنْهُ بَعضهم فى الْقُرْآن
وَبَعْضهمْ فى الحَدِيث ايضا
قَالَ بعض أَصْحَابنَا وَلَا يجب فى اللُّغَة
وَقيل بلَى
مَسْأَلَة المترادف وَاقع عِنْد أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة خلافًا لثعلب وَابْن فَارس مُطلقًا وَللْإِمَام فى الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة
1 / 41
وَالْحَد والمحدود وَنَحْو عطشان نطشان غير مترادفين على الْأَصَح
وَيقوم كل مترادف مقَام الآخر إِن لم يكن تعبد بِلَفْظِهِ خلافًا للْإِمَام مُطلقًا وللبيضاوي والهندى وَغَيرهمَا اذا كَانَا من لغتين
مَسْأَلَة الْحَقِيقَة اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فى وضع أول
وهى لغوية وعرفية وشرعية كالاسد وَالدَّابَّة وَالصَّلَاة
وَالْمجَاز اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فى غير وضع اول على وَجه يَصح
وَلَا بُد من العلاقة
1 / 42
وَقد تكون بالشكل كالانسان للصورة
أَو فى صفة ظَاهِرَة كالاسد على الشجاع لَا على الأبخر لخفائها
أَو لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا كَالْعَبْدِ على الْعَتِيق
أَو آئل كَالْخمرِ للعصير
أَو للمجاورة مثل جرى الْمِيزَاب
وَلَا يشْتَرط النَّقْل فى الْآحَاد على الْأَصَح
وَاللَّفْظ قبل اسْتِعْمَاله لَيْسَ حَقِيقَة وَلَا مجَازًا
وَيعرف الْمجَاز بِوُجُوه
بِصِحَّة النفى كَقَوْلِه للبليد لَيْسَ بِحِمَار عكس الْحَقِيقَة وبعدم اطراده وَلَا عكس
وبجمعه على خلاف جمع الْحَقِيقَة كأمور جمع أَمر للْفِعْل وَامْتِنَاع أوَامِر وَلَا عكس
1 / 43
وبالتزام تَقْيِيده مثل جنَاح الذل ونار الْحَرْب
وبتوقفه على الْمُسَمّى الآخر مثل ﴿ومكروا ومكر الله﴾
والحقيقة لَا تَسْتَلْزِم الْمجَاز
وَبِالْعَكْسِ الْأَصَح الاستلزام
مَسْأَلَة وَالْمجَاز وَاقع خلافًا للاستاذ وأبى الْعَبَّاس وَغَيرهمَا
وعَلى الأول الْمجَاز أغلب وقوعا
قَالَ ابْن جنى أَكثر اللُّغَة مجَاز
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمَشْهُور أَن الْحَقِيقَة وَالْمجَاز من عوارض الْأَلْفَاظ
1 / 44
وَهُوَ فى الْقُرْآن عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم
قَالَ إمامنا فى قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّا نَحن﴾ هَذَا من مجَاز اللُّغَة
وأوله أَبُو الْعَبَّاس على الْجَائِز فى اللُّغَة وَمنع مِنْهُ بعض الظَّاهِرِيَّة وَابْن حَامِد وَحَكَاهُ الْفَخر إِسْمَاعِيل رِوَايَة وَحَكَاهُ أَبُو الْفضل التميمى من أَصْحَابنَا
وَحكى عَن ابْن داؤود مَنعه فى الحَدِيث ايضا
وَقد يكون الْمجَاز فى الاسناذ خلافًا لقوم
1 / 45
وفى الْأَفْعَال والحروف وفَاقا لِابْنِ عبد السَّلَام والنقشوانى
وَمنع الإِمَام الْحَرْف مُطلقًا وَالْفِعْل والمشتق الا بالتبع
وَلَا يكون فى الْأَعْلَام قَالَ ابْن عقيل فى الْوَاضِح خلافًا للغزالى فى متلمح الصّفة
وَيجوز الِاسْتِدْلَال بالمجاز ذكره القاضى وَابْن عقيل وَابْن الزاغونى
1 / 46
وَلَا يُقَاس على الْمجَاز فَلَا يُقَال سل الْبسَاط ذكره ابْن عقيل
وَذكر ابْن الزغونى فِيهِ خلافًا عَن بعض أَصْحَابنَا بِنَاء على ثُبُوت اللُّغَة قِيَاسا
مَسْأَلَة إِذا دَار اللَّفْظ بَين الْمجَاز والاشتراك فالمجاز اولى ذكره بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم
وفى تعَارض الْحَقِيقَة المرجوحة وَالْمجَاز الرَّاجِح أَقْوَال ثَالِثهَا مُجمل وَاللَّفْظ لحقيقته حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز
مَسْأَلَة الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة وَاقعَة عندنَا وَقيل لَا شَرْعِيَّة بل اللُّغَوِيَّة بَاقِيَة وزيدت شُرُوطًا فهى حَقِيقَة لغوية ومجاز شرعى
مَسْأَلَة فى الْقُرْآن المعرب عِنْد ابْن الزاغونى والمقدسى ونفاه الْأَكْثَر
مَسْأَلَة الْمُشْتَقّ فرع وَافق أصلا
وَهُوَ الِاسْم عِنْد الْبَصرِيين
وَعند الْكُوفِيّين الْفِعْل بِحُرُوفِهِ الْأُصُول وَمَعْنَاهُ كخفق من الخفقان فَيخرج مَا وَافق بِمَعْنَاهُ كحبس وَمنع وَمَا وَافق بحزوفه كذهب وَذَهَاب
1 / 47
والاشتقاق الْأَصْغَر اتِّفَاق الْقَوْلَيْنِ فى الْحُرُوف وترتيبها
والأوسط فى الْحُرُوف
والأكبر اتِّفَاق الْقَوْلَيْنِ من جنس الْحُرُوف كاتفاقهما فى حُرُوف الْحلق
وَقد يطرد الْمُشْتَقّ كاسم الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَالصّفة المشبهة بهما وَقد يخْتَص كالقارورة والدبران
مَسْأَلَة إِطْلَاق الِاسْم الْمُشْتَقّ قبل وجود الصّفة الْمُشْتَقّ مِنْهَا مجَاز ذكره جمَاعَة إِجْمَاعًا وَالْمرَاد إِذا أُرِيد الْفِعْل فَإِن اريدت الصّفة المشبهة بالفاعل كَقَوْلِهِم سيف قطوع وَنَحْوه فَقَالَ القاضى وَغَيره هُوَ حَقِيقَة لعدم صِحَة النفى وَقيل مجَاز
فَأَما أَسمَاء الله تَعَالَى وَصِفَاته فقديمة وهى حَقِيقَة عِنْد إمامنا وَأَصْحَابه وَجُمْهُور أهل السّنة
وَحَال وجود الصّفة حَقِيقَة إِجْمَاعًا
وَالْمرَاد حَال التَّلَبُّس لَا النُّطْق قَالَه القاضى وَأَبُو الطّيب
1 / 48