87

مختارات

مختارات من مقالات أمرسن

اصناف

ومن المستحيل أن نبين حدود التأثير الشخصي؛ لأن الأشخاص أعضاء ذوو قوى معنوية وخارقة. وقوى الأشخاص لا يمكن أن تكون موضعا للحساب تحت سلطان فكرة تستولي على عقول الجماهير، كالحرية المدنية، أو العاطفة الدينية. إن أمة أبناؤها يميلون بالإجماع نحو الحرية، أو الغزو، تستطيع بسهولة أن تحير حساب الإحصاء، وتنجز أعمالا مسرفة، لا تتناسب البتة وما لديها من وسائل، كما فعل الإغريق، والعرب، والسويسريون، والأمريكان، والفرنسيون.

وكذلك لكل ذرة من ذرات الملكية جاذبيتها الخاصة. ويمثل السنت كمية معينة من القمح أو غيره من السلع، وقيمته في ضرورات الجانب الحيواني من الإنسان. إنه يساوي قدرا معينا من الدفء، ومن الخبز، والماء، والأرض. وقد يفعل القانون ما يشاء بصاحب الملك، ولكن قواه العادلة سوف تظل ملتصقة بالسنت. ويستطيع القانون في صيحة جنونية أن يقول إن لكل شيء قوة ما خلا أصحاب الملك، لن تكون لهم أصوات. غير أن الملكية بقانون أسمى - بالرغم من ذلك - سوف تدون، عاما بعد عام، دستورا شاملا يحترم الملكية، وسوف يصبح غير المالك مسجلا للمالك. وما يريد الملاك أن يفعلوه سوف تفعله قوى الملكية بأسرها، سواء عن طريق القانون، أو عن طريق مخالفة القانون. وإني طبعا أتحدث عن كل الملكيات، ولا أتحدث فقط عن الضياع الكبرى. وإذا ما غلب الأثرياء في الانتخاب، كما يحدث غالبا؛ فإنما يكون ذلك لأن ملكية الفقراء المشتركة تفوق ما جمع الأثرياء، فإن كل فرد يملك شيئا ما، حتى إن كان بقرة، أو عربة، أو أسلحته، ولذا فإن لديه هذا الملك يتصرف فيه.

والضرورة عينها التي تضمن حقوق الأشخاص والملكيات ضد خبث الحاكم وحماقته، تحدد صورة الحكم ووسائله، التي تلائم كل أمة، وطرق تفكيرها، ولا يمكن نقلها إلى ألوان أخرى من المجتمع. ونحن في هذا البلد فخورون جدا بنظمنا السياسية، التي تتفرد بأنها نشأت - في حدود ما يذكر الأحياء من الرجال - عن صفات الشعب وظروفه، التي ما زالوا يعبرون عنها بإخلاص كاف. ونحن نظهر إيثارنا لها على غيرها مما رواه التاريخ. إنها ليست أحسن، ولكنها أشد ملاءمة لنا فحسب. وقد يكون من الحكمة أن نفرض في العصور الحديثة مزايا الشكل الديمقراطي. ولكن في ألوان أخرى من المجتمع، التي يقدس فيها الدين الشكل الملكي، كان هذا الشكل دون غيره هو اللائق بها. الديمقراطية خير لنا لأن العاطفة الدينية في العصر الحديث أكثر اتفاقا معها. ولما كنا ديمقراطيين مولدا، فلسنا أهلا للحكم على الملكية، التي كانت صحيحة نسبيا عند آبائنا الذين عاشوا في الفكرة الملكية. غير أن نظمنا - رغم تطابقها مع روح العصر - لا تخلو البتة من العيوب العملية التي وصمت بها الأشكال الأخرى؛ فكل دولة تفسد عند تطبيقها. والرجال الصالحون لا ينبغي لهم ألا يخضعوا للقانون خضوعا تاما. وأية سخرية من الحكومة يمكن أن تساوي قسوة النقد الذي تتضمنه كلمة «السياسة» التي كانت تدل لعدة عصور خلت على «المكر»، مشيرة إلى أن الدولة إن هي إلا خدعة وحيلة؟

وهذه الضرورة البريئة عينها وهذه الإساءة في التطبيق ذاتها تظهر في الأحزاب التي تنقسم إليها كل دولة، من معارضين ومؤيدين لإدارة الحكومة. والأحزاب تقوم كذلك على الغرائز، ولها مرشدون خير من حكمة زعمائها يقودونها إلى أغراضها الخاصة المتواضعة. وليس في نشأتها أي اعوجاج، ولكنها تحدد في شيء من الجمود نوعا من العلاقة الواقعية الدائمة. ولا نعدو الحكمة إذا نحن أنحينا باللائمة على حزب سياسي لا يستطيع أعضاؤه، في الأغلب، أن يبرروا موقفهم، ولكنهم يقفون موقف الدفاع من تلك المصالح التي يجدون أنفسهم في غمارها، إلا بمقدار ما نعدوها إذا أنحينا باللائمة على الرياح الشرقية أو الصقيع، إنما يبدأ نضالنا معهم حينما يهجرون هذا الأساس الثابت الطبيعي بإشارة من زعيم، وعندما يخضعون للاعتبارات الشخصية فيتشبثون بالمحافظة على أمور معينة والدفاع عنها، أمور لا تتعلق البتة بمبادئهم. إنما تفسد الأمور الشخصية الحزب دائما.

وقد نبرئ الجماعة من الخيانة، بيد أنا لا نستطيع أن نشمل الزعماء بهذا التسامح عينه؛ فهم يحصدون مزايا الانصياع والحماسة عند الجماهير التي يوجهونها. وأحزابنا في العادة أحزاب ظروف لا أحزاب مبادئ، كالصراع القائم بين مصلحة المزارعين ومصلحة التجار، وبين أصحاب رءوس الأموال والعمال، وهي أحزاب متفقة في صفتها المعنوية، ويمكنها بسهولة أن تتبادل الأوضاع في تأييد الكثير من أعمالها. أما أحزاب المبادئ، مثل الطوائف الدينية، أو حزب حرية التجارة، أو الانتخاب العام، أو إلغاء الرق، أو إلغاء حكم الإعدام، فهي تنحدر إلى خلافات شخصية، أو توحي بالحماسة.

إن عيب أحزابنا الرئيسية في هذا البلد (الذي يمكن أن تذكر مثالا حسنا لهذه الجماعات الفكرية) هو أنها لا تستند إلى الأساس المتين الضروري الذي ينتمي كل منها إليه، ولكنها تتحمس أشد الحماسة لاتخاذ إجراء محلي وقتي، لا يفيد المصلحة العامة في شيء. أما عن الحزبين الكبيرين اللذين يكادان في هذه الساعة أن يقتسما الأمة بينهما، فإني أقول إن أحدهما يضم أحسن المبادئ، ويضم الآخر خير الرجال. يود الفيلسوف والشاعر ورجل الدين بطبيعة الحال أن يدلي بصوته للديمقراطي، ولحرية التجارة، والانتخاب العام، وإلغاء القساوة الشرعية في قانون العقوبات، والتيسير بكل الوسائل للشباب والفقراء بالظفر بمصادر وسائل الثروة والنفوذ، ولكنه قلما يقبل الأشخاص الذين يقترحهم له ما يسمونه بالحزب الشعبي ممثلين لهذه الحريات؛ فهم لا يؤمنون بقلوبهم بالأهداف التي تعطي كلمة الديمقراطية ما تنطوي عليه من معاني الأمل والفضيلة. إن روح الراديكالية الأمريكية هدامة لا ترمي إلى غرض. إنها لا تحب، وليست لها أهداف بعيدة أو مقدسة، ولكنها هدامة فقط لما تنطوي عليه من كراهية وأنانية. والحزب المحافظ من ناحية أخرى يتألف من أكثر السكان اعتدالا وقدرة وثقافة، ولكنه جبان، لا يهمه إلا أن يدافع عن الملكية. إنه لا يبرر حقا، ولا يتطلع إلى خير حقيقي، ولا يصم جرما، ولا يقترح سياسة كريمة، إنه لا يبني، ولا يكتب، ولا يحمي الفنون، أو يحتضن الدين، أو يؤسس المدارس، أو يشجع العلم، أو يحرر العبيد، أو يصادق الفقير، أو الهندي، أو المهاجر. ولا يتوقع العالم من أي الحزبين - حينما يظفر بالسلطة - نفعا في علم أو فن أو إنسانية، نفعا يتفق وموارد الأمة.

ولست من أجل هذه العيوب يائسا من ديمقراطيتنا. لسنا تحت رحمة أية موجة من موجات المصادفة؛ ففي نضال الأحزاب الكاسرة تجد الطبيعة الإنسانية دائما نفسها معززة، كما وجد أن أطفال المجرمين في خليج بوتاني لهم من الإحساس الخلقي السليم ما لغيرهم من الأطفال.

إن المواطنين في الولايات الإقطاعية يزعجهم أن تهوي مؤسساتنا الديمقراطية إلى الفوضى. وقد تعلم الشيوخ والحذرون منا عن الأوروبيين أن ينظروا بشيء من الفزع إلى حريتنا المضطربة. يقال إنا في تسامحنا في تفسير الدستور، وفي استبداد الرأي العام، لا نرسو على مرفأ. وقد يظن مشاهد أجنبي أنه يجد صمام الأمن في قدسية الزواج عندنا، ويظن غيره أنه واجدها في مذهبنا الكلفني. أما فشر آمز، فقد عبر عن الضمان الشعبي بطريقة أحكم حينما وازن بين الملكية والجمهورية فقال: «إن الملكية كالسفينة التجارية، تشق الأبحار، ولكنها قد ترتطم أحيانا على صخرة وتهوي إلى القاع، في حين أن الجمهورية كالعوامة، لا تغطس أبدا، غير أن قدميك تكونان في الماء دائما.» لا يمكن أن تكون للأشكال أهمية خطرة، ما دامت قوانين الأشياء تصادقنا، ولا يهمنا البتة كم طنا يكون ثقل الجو الذي يضغط على رءوسنا، ما دام في داخل رئتينا ضغط مساو له يقاومه. إنك إن ضخمت الكتلة ألف ضعف فلن تسحقنا ما دام رد الفعل يساوي الفعل.

إن حقيقة القطبين، والقوتين، الطاردة والجاذبة، قاعدة عامة، وكل قوة بفعلها الخاص تنمي القوة الأخرى . الحرية الهمجية تقوي الضمير الحديدي. وانعدام الحرية - بتقوية القانون والتقاليد - يميت الضمير، ولا يسود الحكم العرفي إلا إذا زادت شدة الزعماء وقدرتهم على الاحتفاظ بذواتهم أكثر مما ينبغي. ولا يمكن أن يدوم حكم الرعاع؛ فإن مصلحة كل فرد تتطلب زواله، ولا يرضي الجميع سوى العدالة.

يجب أن نثق ثقة لا حد لها في الضرورة النافعة التي تضيء خلال جميع القوانين. إن الطبيعة البشرية تعبر عن نفسها فيها تعبيرا مميزا كما تعبر عن نفسها في التماثيل أو الأغاني أو الخطوط الحديدية، وخلاصة قوانين الأمم ليست سوى تسجيل للضمير العام. إن الحكومات قد نشأت عن تشابه الناس في التفكير؛ فالسبب عند أحدهم سبب عند الآخر، وعند كل من عداه. وهناك طريق وسط يرضي جميع الأحزاب، مهما كثر عددها، ومهما اشتد تعصبها. يجد كل فرد تصديقا لأبسط مطالبه وفعاله في قرارات من عقله يسميها «الحق» و«العدل الإلهي». ويجد جميع المواطنين اتفاقا تاما في هذه القرارات، وفيها وحدها، لا فيما يطيب أكله أو ارتداؤه، وفي حسن استخدام الوقت، وفي مساحة الأرض أو المعونة العامة التي يستحق أن يطالب بها كل فرد. وسرعان ما يحاول الناس تطبيق هذا الحق وهذه العدالة على قياس الأرض، وتقسيم الخدمات، وحماية الحياة والملك. وليس من شك في أن محاولاتهم الأولى ملتوية معوجة، ومع ذلك فالحق المطلق هو الحاكم الأول، أو قل إن كل حكومة هي حكومة دينية لا تخلو من الشوائب. إن الفكرة التي تهدف كل جماعة إليها كي تسن قانونها وتعدله هي إرادة الرجل الحكيم. ولا تستطيع الجماعة أن تجد الرجل الحكيم في الطبيعة، فهي تبذل جهدا ملتويا وإن يكن جادا كي تحقق حكمه بالحيلة، وذلك مثلا بأن تدفع الشعب كله إلى التصويت على كل إجراء، أو بالانتخاب على مرتين تجريه كي تحصل على من يمثل الجميع، أو بانتخاب خير المواطنين، أو بالحصول على مزايا الكفاية والأمن الداخلي بتخويل الحكم رجلا واحدا يستطيع أن يختار بنفسه معاونيه.

نامعلوم صفحہ