63

مختارات

مختارات من مقالات أمرسن

اصناف

كل رجل عاقل سرعان ما يدرك هذا السر، وهو أن وراء طاقة عقله الواعي الذي يملكه، قدرة على طاقة أخرى (كأنها العقل يتضاعف)، يحسها إذا خلى بين نفسه وبين طبائع الأشياء. وفوق قدرته الخاصة كفرد قدرة عامة عظمى، يستطيع أن يستمد منها إذا هو خاطر بفتح مغاليق أبوابه الإنسانية، وتعرض للتيارات الأثيرية التي تدور وتتغلغل في نفسه. إنه عندئذ ينخرط في سلك حياة «الكون»، فيصبح كلامه رعدا، وفكره قانونا. ويفهم العالم كله كلماته كما يفهم النبات أو الحيوان. لا يدرك الشاعر أنه يحسن الكلام إلا حينما يصدر عنه الكلام على سجيته أو عندما يتكلم ب «زهرة العقل»، ولا يتكلم بالعقل كعضو، وإنما يتكلم به متحللا من كل غرض، ومتخذا وجهته من حياته السماوية، أو - كما اعتاد القدماء أن يعبروا عن أنفسهم - لا يتكلم بالعقل وحده، ولكن بالعقل أسكره شراب الآلهة. وكما أن المسافر الذي ضل طريقه يلقى الصرع على ظهر جواده، ويستسلم لغريزة الحيوان كي يجد طريقه، فكذلك ينبغي لنا أن نفعل مع الحيوان المقدس الذي ينطلق بنا خلال هذا العالم؛ لأننا إن استطعنا بأية وسيلة أن ننبه هذه الغريزة تفتحت لنا في الطبيعة طرق جديدة، وانطلق العقل في الأشياء وخلالها مهما شقت وعلت، وأصبح التحول من حال إلى حال ممكنا.

من أجل ذلك أحب الشعراء الخمر، والشراب المعتق، والمخدرات، والقهوة والشاي والأفيون، ودخان خشب الصندل، والتبغ، وكل ما يجلب البهجة والسرور. وكل إنسان ينتفع بمثل هذه الوسائل ما استطاع كي يضم إلى قدرته الطبيعية هذه القدرة الخالقة. ولتحقيق هذا الغرض تراهم ينشدون الحديث، والموسيقى، والصور، والتماثيل، والرقص، والتمثيل، والأسفار، والحرب، والجماهير، والنيران، والألعاب، والسياسة، والحب، والعلم، وما يسكر الجسم، وكلها أشياء مصطنعة آلية - غلظت أو رقت - نستعيض بها عن الشراب الإلهي الصادق، وهو فتنة العقل بزيادة القرب من الحقيقة. إنما هذه الأشياء مساعدة لما عند الإنسان من ميل شديد إلى الخروج عن نفسه ، وإلى انتقاله إلى الفضاء الحر الفسيح. وهي تعاونه على الفرار من سجن ذلك الجسد الذي يحتبس فيه، ومن سجن العلاقات الفردية الذي يضمه. ومن ثم كان عدد كبير ممن احترفوا التعبير عن الجمال، كالمصورين، والشعراء، والموسيقيين، والممثلين، يميلون أكثر من سواهم إلى أن يعيشوا عيشة المتعة والاستهتار. كلهم ما خلا القلة التي تناولت الشراب الإلهي الخالص. وحيث إن وسيلتهم كانت وسيلة زائفة لبلوغ الحرية، وحيث إن تحررهم لم يكن نحو السماء، وإنما حرية نحو الأماكن السفلى، فقد لاقوا عقوبتهم من أجل تلك الميزة التي ظفروا بها، وذلك بتشتيت أذهانهم وتأخرهم، ولكن الطبيعة لا يمكن أن تستل منها المنفعة بالعصا. إن روح الدنيا، وحضرة الخالق الهادئة الجليلة، لا تخرج إلى سحر الأفيون أو الخمر. إنما الرؤيا السامية تأتي إلى الروح الطاهرة الساذجة في الجسم الطاهر العفيف. وليس وحيا ما نستمده من المخدرات، وإنما هي إثارة حسية وفورة زائفة. يقول ملتن إن الشاعر الغنائي يستطيع أن يشرب الخمر ويعيش عيشا كريما، ولكن شاعر الملاحم، الذي ينشد نشيد الآلهة، ويغني قصة هبوطهم إلى الإنسان، يجب أن يشرب الماء من وعاء خشبي؛ لأن الشعر ليس «خمر الشيطان» ولكنه خمر الآلهة. وما أشبه ذلك بلعب الأطفال. إننا نملأ أيدي الأطفال ودور حضانتهم بكل أنواع العرائس، والطبول، والخيول، فنجذب أعينهم بعيدا عن وجه الطبيعة الصبوح وما فيها من أشياء تكتفي بذاتها، كالشمس والقمر، والحيوان والماء والحجر، التي ينبغي أن تكون اللعب التي بها يلهون. وكذلك عادات الشاعر في حياته ينبغي أن تتبسط حتى تبتهج نفسه لكل مؤثر عادي. يجب أن يكون ابتهاجه هبة الشمس المضيئة، ويجب أن يكفي الهواء لإلهامه، ويجب أن يسكره الماء. إن الشراب الذي يكفي القلوب الهادئة، والذي يبدو أنه يأتي إليها من كل رابية جافة من الحشائش الذابلة، ومن كل ساق مبتورة من سوق الصنوبر، ومن كل حجر نصف مطمور، تسطع عليه شمس مارس الفاترة، هذا الشراب يأتي إلى المسكين والجائع، وإلى أصحاب الأذواق الساذجة. وإذا أنت ملأت عقلك بشراب بوسطن ونيويورك ، وبالطرز الجديدة والشهوات، وآثرت حواسك المنهوكة بالنبيذ والقهوة الفرنسية، لما وجدت شعاعا من الحكمة في بيداء الغابات الصنوبرية المنعزلة.

وإذا كان الخيال يسكر الشاعر، فهو ليس عديم الأثر في غيره من الناس. إن التحول من صورة إلى أخرى يشيع السرور في نفس المشاهد، ولاستخدام الرموز قدرة خاصة على التحرير وعلى إدخال البهجة إلى قلوب الناس جميعا؛ فكأن عصا سحرية تمسنا، وهذه العصا تجعلنا نرقص ونعدو مرحين كالأطفال، ونكون كمن يخرج من كهف أو غار إلى الهواء الطلق. هذا هو أثر الاستعارات والأساطير والكهانة وكل الصور الشعرية فينا. ومن ثم فإن الشعراء آلهة تحررنا، فيتكون لدى الناس فعلا إحساس جديد، ويجدون داخل دنياهم دنيا أخرى أو مجموعة من الدنى؛ لأننا لمجرد رؤية التحول نتنبأ بأنه لن يقف عند حد. ولن أذكر الآن مقدار ما يخلفه ذلك من سحر في علم الجبر والرياضيات، التي لها كذلك مجازها، ولكننا نحسه في كل تعريف، نحسه مثلا عندما يعرف أرسطو «المكان» بأنه وعاء ثابت يحتوي الأشياء، أو حينما يعرف أفلاطون «الحظ» بأنه النقطة المتحركة، أو «الشكل» بأنه تحديد الجسم الصلب، وما إلى ذلك. ما أشد سرورنا بالإحساس بالحرية عندما يعلن فتروفيس رأي الفنانين القدامى بأن مهندس البناء لا يستطيع أن يجيد تشييد بيت من البيوت إذا لم يعرف شيئا عن علم التشريح. وعندما يخبرنا شارميديز أن الروح تشفى من أمراضها بتعاويذ خاصة، وأن هذه التعاويذ أسباب جميلة يتولد عنها الاعتدال في الأرواح، وحينما يسمي أفلاطون الدنيا حيوانا، ويؤكد تيميس أن النباتات كذلك حيوانات، أو يؤكد أن الإنسان شجرة سماوية، ينمو هو وجذره - وهو الرأس - إلى أعلى، أو كما يقلده جورج تشايمان فيقول:

كذلك في شجرتنا الإنسانية،

التي تظهر شعيرات جذورها أعلاها ...

وحينما يتحدث أورفيس عن بياض الشعر كأنه «تلك الزهرة البيضاء التي تتميز بها الشيخوخة»، أو حينما يسمي بروكلس الكون تمثال العقل ، أو حينما يقارن شوسر - في ثنائه على دماثة الأخلاق - الدم الطيب في الظروف السيئة بالنار التي - حتى إن انتقلت إلى أظلم بيت بين هذا المكان وجبال القوقاز - سوف تحتفظ دائما بوظيفتها الطبيعية، وتحترق لامعة كأن عشرين ألف رجل يشهدونها، أو حينما رأى حنا في سفر الرؤيا خراب الدنيا عن طريق الشر، والنجوم تهوي من السماء، كما تنبذ شجرة التين فاكهتها في غير إبانها، أو حينما يصور أيسوب العلاقات العادية اليومية كلها على لسان الطير والوحش. إننا نتلمس الدلائل البهيجة التي تنم عن جوهر الإنسان، كما تنم عن تشكل هذا الجوهر في أشكال مختلفة وتحوله من حال إلى حال، أو كما يقول الغجر عن أنفسهم: «من العبث أن تشنقهم، فإنهم لا يموتون.»

فالشعراء إذن آلهة للتحرير. وقد كان المنشدون البريطانيون القدامى يطلقون على طائفتهم «أولئك الأحرار في الدنيا بأسرها». إنهم أحرار، وهم كذلك محررون. والكتاب الخيالي يؤدي لنا خدمة أول الأمر - عن طريق إثارته لنا بما فيه من استعارات - أكثر بكثير مما يؤدي لنا فيما بعد حينما نصل إلى المغزى الحقيقي الذي هدف إليه المؤلف. ولا أحسب في الكتب شيئا قيما سوى ما تومئ إليه مما يفوق العقل ويخرج عن المألوف. فإذا ألهبت الفكرة إنسانا، وحلقت به، فنسي المؤلفين والجمهور، ولم يعبأ إلا بهذا الحلم الوحيد، الذي يستولي عليه كأنه الجنون، فدعني أقرأ صحيفته، وأتخلى لك عن كل البحوث والتواريخ والنقد. كل القيمة التي تعزى إلى فيثاغورس، وباراكلسس، وكورنيليس أجربا، وكاردان، وكبلر، وسودنبرج، وشلنج، وأوكن، أو غيرهم ممن يقحم في نظرياته وقائع تدعو إلى التساؤل، كذكر الملائكة، أو الشياطين، أو السحر، أو التنجيم، أو قراءة الكف، أو التنويم، أو ما إلى ذلك، هذه القيمة هي ما يشهد لنا على ابتعادهم عن المألوف، وعلى أن أمثال هؤلاء شهود جدد. وهذا كذلك هو خير ما يدعو إلى النجاح في الحديث، سحر الحرية، الذي يضع الدنيا في أيدينا كأنها كرة. ما أرخص ما تبدو الحرية نفسها عندئذ، وما أقل شأن الدراسة، حينما تمد عاطفة من العواطف العقل بالقدرة على خلخلة الطبيعة وقلبها. وما أعظم هذا المشهد! إن الأمم، والأزمان، والنظم، تدخل وتختفي، كالخيوط في بساط ذي رسم كبير وألوان عديدة. الحلم يسلمنا إلى حلم آخر، وما دامت حالة الثمل قائمة فإننا نبيع فراشنا، وفلسفتنا، وعقيدتنا، في سبيل هذا الثراء.

ولدينا سبب قوي لتقدير هذا التحرير. إن مصير الراعي الفقير، الذي يعمى ويضل طريقه في العاصفة الثلجية فيهلك في كومة من الثلج على بعد أقدام قليلة من باب كوخه، هذا المصير رمز لحالة الإنسان. إننا نموت موتا يائسا على حافة مياه الحياة والحق. إن استحالة بلوغنا أية فكرة سوى تلك التي تستولي علينا أمر عجيب. وماذا يحدث لو اقتربت منها؟ سوف تظل بعيدا عنها، وأنت أقرب ما تكون إليها بعدك عنها وأنت أقصى ما تكون منها. وكل فكرة هي كذلك سجن، وكل سماء هي كذلك سجن. ولذا فنحن نحب الشاعر، أو المخترع الذي يقدم لنا فكرة جديدة في أية صورة، سواء في أنشودة، أو في عمل، أو في مرآه ومسلكه؛ إنه يفك أغلالنا، ويطلعنا على منظر جديد.

هذا التحرير عزيز على الناس جميعا، والقدرة على منحه مقياس للعقل؛ لأنه يصدر عن عمق للفكر سحيق ومدى بعيد. ومن ثم فإن جميع كتب الخيال تبقى؛ لأنها جميعا تصعد إلى الحقيقة، فيرى الكاتب الطبيعة تحت ناظره، ويتخذها هاديا له ومرشدا. وكل بيت من الشعر، وكل عبارة، تتصف بهذه الميزة، تضمن لنفسها الخلود. إن ديانات العالم ليست إلا ما ينطق به رجال قلائل من أرباب الخيال.

ولكن صفة الخيال التدفق، لا التجمد. والشاعر لا يقف عند اللون أو الشكل، ولكنه يقرأ مغزاهما. ولا يقنع بهذا المغزى، ولكنه يجعل الأشياء ذاتها موضحة لفكره الجديد. وهنا تجد الفارق بين الشاعر والمتصوف، وهو أن المتصوف يعزو رمزا واحدا للمعنى الواحد، وهو معنى صادق في حينه، ولكنه سرعان ما يمسي عتيقا زائفا؛ لأن الرموز جميعا تتصف بالتحول المستمر. وكل اللغات وسائل متعدية، تصلح للنقل كما تصلح الخيل للسفر ولا تصلح للاستقرار كالمزارع والمنازل . ويتميز التصوف بأنه يحسب الرمز العرضي والفردي رمزا عالميا. فقد كانت حمرة الصباح الشهاب المفضل لعيني يعقوب بهمن، وتمثل له الحق والإيمان، ويعتقد أنها يجب أن تمثل هذه الوقائع لكل قارئ. ولكن القارئ الأول يفضل بطبيعته - مثلما يفضل هذه الحمرة - رمز الأم والطفل، أو البستاني وأبصاله، أو الجوهري بصقل جواهره. أي واحد من هؤلاء، أو من آلاف غيرها، يؤدي الغرض عينه للرجل الذي يرى فيه دلالة، وذلك على شريطة أن يتناولها بخفة، ويترجمها راغبا إلى نظائرها من المصطلحات التي يتخذها غيره. ويجب أن يقال للمتصوف في ثبات: إن كل ما تقول صادق بغير استخدام الرموز المحلي كما هو صادق به. ولنستبدل بهذه البلاغة الغثة قليلا من الجبر - لنتخذ الرموز العالمية بدلا من هذه الرموز القروية - وسوف يكون كلانا من الرابحين. ويبدو أن تاريخ السلطات الدينية يبين أن كل الخطأ الديني كان مرجعه إلى أنها جعلت الرمز صلبا لا يلين، حتى لم يعد هذا الرمز آخر الأمر سوى مبالغة في وسيلة اللغة.

نامعلوم صفحہ