مقدمة
حب راهب معبد شيغا
فتى يكتب الشعر
البحر والغروب
ورق جرائد
الخوف على الوطن
التاجر
عمر التاسعة عشرة
إلهة الجمال
قبلة
يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما1
يوكيو ميشيما وأزهار الكرز
مقدمة
حب راهب معبد شيغا
فتى يكتب الشعر
البحر والغروب
ورق جرائد
الخوف على الوطن
التاجر
عمر التاسعة عشرة
إلهة الجمال
قبلة
يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما1
يوكيو ميشيما وأزهار الكرز
البحر والغروب وقصص أخرى
البحر والغروب وقصص أخرى
مختارات قصصية ليوكيو ميشيما
جمع وترجمة
ميسرة عفيفي
مقدمة
لقد ابتعدت بالفعل كثيرا عن كتابة القصص القصيرة، حتى إنني أشعر بالحرج من مجرد تقديم مجموعة قصص قصيرة لي. ولكن ذلك الابتعاد لم يكن بسبب اتباعي لتيار عصر الصحافة الحالي الذي يقال عنه إنه يمثل مرحلة اضمحلال القصة القصيرة؛ فقمت بالإقلال من تأليف القصص القصيرة، وكأن الأمر مثل عملية تقليل الإنتاج في مصنع للغزل. ولكن الذي حدث أن قلبي ابتعد بشكل طبيعي عن تأليف القصص القصيرة. أما عن فترة شبابي وفتوتي فقد خصصتها لتأليف الشعر والقصص القصيرة، والتعبير فيهما عن أفراحي وأحزاني. فأعتقد أنه مع التقدم في العمر، أني تحولت من كتابة الشعر إلى كتابة المسرحيات، ومن القصص القصيرة إلى الروايات. وكلاهما، المسرحيات والروايات، يحتاج إلى جهد كبير لإنتاج أعمال أعمق بنية، تحتوي على عدد أكبر من الكلمات، وهو عمل يحتاج كذلك إلى صبر أطول وقوة تحمل أكبر. وليس أدل على هذا من أنني كنت أرغم نفسي على ذلك. ويوضح ذلك أنني أصبحت أحتاج إلى التحفيز والتوتر اللازمين لإنتاج الأعمال الضخمة والأكثر شمولية.
وأنا أعتقد أن لهذا الأمر علاقة بتحول أفكاري من شكل الأمثال والحكم القصيرة إلى شكل الأفكار البنائية المتكاملة؛ فعند التطرق إلى فكرة ما واحدة أصبحت أكثر ميلا إلى الاستطراد فيها وإعطائها وقتا أطول، ثم السير معها بتأن وروية؛ من أجل إقناع القارئ بها، وأصبحت أتلافى أكثر وأكثر قول الأمثال والإبيجرامات. ربما لو قلت إنه النضوج الفكري لكان لهذا التعبير رونق وجمال، ولكن الأمر عبارة عن توافق تقدم العمر مع اضمحلال تدفق الأفكار السريع المتوالي في خفة وانسيابية، وإن كان المرء متعجلا؛ أي إنه يمكنني القول إنني تحولت من فارس خفيف التسليح في سلاح الفرسان إلى فارس ثقيل التسليح.
حسنا، القصص التي تحتويها هذه المجموعة هي بالتالي أعمال من المرحلة التي كنت فيها فارسا خفيف التسليح، لكن الأمر ليس بهذا الإطلاق ولا بذلك التعميم؛ فهناك أعمال تنتمي فعلا إلى مرحلة الفارس الخفيف بشكل صرف، وهناك كذلك أعمال تنتمي إلى مرحلة التحول إلى فارس ثقيل التسليح، وتتضمن داخلها ذلك بشكل مثقل ومتعب، وقد كتبت خصيصا من أجل التدريب على ذلك.
إذا نظرنا نظرة خاطفة إلى قصص «فتى يكتب الشعر»، و«البحر والغروب»، و«الخوف على الوطن»، فستبدو لنا القصص الثلاث، وكأنها في نطاق الحكايات البسيطة السهلة. ولكن تلك القصص تحتوي ضمنا على أكثر القضايا إلحاحا بالنسبة لي. بالطبع من حق القارئ أن يستمتع بها كحكايات بسيطة وسهلة، بدون أي اعتبار لتلك القضايا، (لقد اعترفت لي بالفعل مالكة بار شهير في حي غينزا أنها قرأت قصة «الخوف على الوطن» كقصة غرامية خليعة، وأنها لم تستطع النوم ليلتها بسببها) ولكن هذه القصص الثلاث كان من المحتم علي ككاتب أن أكتبها بأي شكل كان. فقصة «فتى يكتب الشعر» تحكي عن العلاقة في فترة شبابي، بيني وبين الكلمات (الأفكار)، وتحكي عن نقطة انطلاقي في عالم الأدب، وتكويني النرجسي والقدري في الوقت ذاته. في هذه القصة يظهر فتى ذو مشاعر باردة يملك عينا ناقدة. لكن لهذا الفتى ثقة بالنفس لا يعلم هو ذاته من أين جاءت، بل وهو هنا يختلس النظر إلى جحيم لم يسبق له شخصيا أن فتح بابه من قبل. إنها سعادة «الشعر» التي تجتاح هذا الفتى، ثم تقوده في نهاية الأمر إلى خلاصة أنه لم يكن شاعرا من الأساس. ولكن هذا الفشل المفاجئ يصدم الفتى، ويقوده إلى «مكان لا يتذوق فيه طعم السعادة وإلى الأبد مرة أخرى».
أما قصة «البحر والغروب» فتحكي عن أعجوبة عدم حدوث المعجزة رغم الإيمان الكامل بحدوثها، لا بل أعتقد أنني حاولت تلخيص موضوعها، وتركيزه في أنها أعجوبة تتفوق على أعجوبة حدوث المعجزة نفسها. هذه القضية أعتقد أنها قضيتي المحورية التي واصلت حملها على عاتقي عمري كله. أعتقد أن الناس ستتذكر على الفور اليأس الأكثر رعبا، ذا المذاق الشاعري الذي قيل وقت الحرب العالمية الثانية في شرق آسيا: «لماذا لا تهب رياح الآلهة؟» إن سؤال «لماذا لا يأتي العون من الإله؟» هو السؤال المحوري النهائي والحاسم بالنسبة لمن يؤمن بالإله، ولكن قصة «البحر والغروب» ليست مجرد تجسيد أسطوري لتجربتي مع الحرب كما هي، ولكن على العكس من ذلك؛ فأنا أعتقد أن تجربة الحرب هي أكثر الأشياء التي أوضحت لي مشاكلي وعيوبي الذاتية، تمني المعجزة الذي يتلخص في قول «لماذا لم ينشق البحر وقتها إلى نصفين؟» كان بالنسبة لي أمرا لا يمكن تلافيه، وفي نفس الوقت، من المفروض أنني قد وعيت بوضوح، وفي الواقع منذ كنت في عمر قصة «فتى يكتب الشعر»، أن ذلك مستحيل الحدوث.
أما قصة «الخوف على الوطن»، فهي ببساطة عبارة عن سيرة خيالية لحادثة 26 فبراير،
1
إن ما تم رسمه هنا من مشاهد الحرب والموت، وتأثير التعاون والاندماج الكامل بين الإيروتيكا والولاء للحق، ربما يمكن القول إنها السعادة الوحيدة التي أنتظرها أنا من هذه الحياة. ولكن الأمر المحزن في النهاية أن هذه السعادة لا يمكن وقوعها إلا على الورق فقط. إذن لو كان الأمر كذلك فربما يجب علي، ككاتب، الرضا والاكتفاء بقدرتي على الانتهاء من كتابة قصة «الخوف على الوطن». لقد سبق لي أن كتبت في الماضي: «إذا كان هناك شخص ما ليس لديه متسع من الوقت، ويريد قراءة قصة واحدة فقط من قصص ميشيما ورواياته، تكون بمثابة خلاصة تكثف أدب ميشيما كله بحلوه ومره، فمن الأفضل له قراءة قصة الخوف على الوطن؛ فإنها تكفيه.» وشعوري هذا لم يتغير حتى الآن.
حسنا، هناك كذلك حالات يميل فيها ذوقي إلى الاعتماد تماما على الإبداع الفكري الصرف في شكل موقف فكاهي سريع. هذه الأعمال لا يوجد لها موضوع يمكن أن نصفه بأنه موضوع، بل تكون كالسهم الذي تم سحبه لتوجيهه إلى هدف وتأثير محدد؛ إذ تحتفظ القصة بسمة التوتر في كل ركن من أركانها، ويكون الهدف هو «لا وعي» القارئ. فإذا أصابت الهدف تكون «متعة له»، وتكون القصة بمثابة التوتر الفكري الذي يتذوقه لاعب الشطرنج من المعركة؛ إذ يكفيه تشكيل معركة ليس لها أي معنى محدد. وقد اخترت من بين القصص التي كتبت بهذا القصد قصص «ورق جرائد»، و«في سن التاسعة عشر»، و«التاجر»، و«إلهة الجمال»؛ لأنها الأعمال الأجود نسبيا في ذلك الإطار.
يوكيو ميشيما
سبتمبر 1968م
حب راهب معبد شيغا
1
أعتقد أنه لا مفر من أن أتقبل أي لوم أو عتاب بسبب كتابة هذه الحكاية دون إعداد، ودون بذل أي جهد في البحث التاريخي حولها. الشيء الوحيد الذي اعتمدت عليه حتى الآن، هو الوصف الأسطوري المذكور في المجلد السابع والثلاثين من كتاب «تايهيه كي» الأدبي المكتوب في القرن الرابع عشر، وفيه كما يعلم الجميع، مجرد ذكر سريع مختصر لحب راهب معبد شيغا في بلادنا، مقارنة بحادثة «العجوز إيكاكو سن نين» في الهند.
أنا في الواقع كنت أهتم بهذه الحقيقة النفسية البسيطة أكثر من اهتمامي بأحداث ذلك الحب الذي له طبيعته الخاصة. القصة هنا تتعلق بصراع الحب مع الإيمان. هناك الكثير من أمثلة ذلك الصراع في الغرب، ولكنه موضوع نادر في اليابان؛ إذ تتدخل قضية الحياة الآخرة بوضوح في سبب الحب، ليس فقط بالنسبة للراهب، بل كذلك في داخل قلب المرأة المحبوبة، يوجد صراع على احتلال ذلك القلب بين الحياة الآخرة وهذه الدنيا. وإذا تحدثنا بمبالغة في القول؛ فقد تصل عاقبة ذلك الحب إلى حد انهيار البناء الفكري الذي يحمله كلاهما عن العالم. في تلك اللحظة المحورية، تتأسس معالم قصة هذا الحب. في الواقع كانت عقيدة «الأرض الطاهرة»، التي ازدهرت منذ منتصف عصر هييآن،
1
اكتشافا عملاقا لعالم الفكر أكثر منها عقيدة دينية على وجه التحديد.
إن المتع العشر، كما يراها الراهب الكبير إيشين في كتابه «أساسيات الخلاص»، لا تعدو أن تكون قطرة في محيط، مقارنة بمباهج الأرض الطاهرة. والمتع العشر هي: متعة استقبال بوذا، ومتعة تفتح زهرة اللوتس للمرة الأولى، ومتعة الحصول على قدرات إلهية خارقة، ومتعة الحصول على الحواس الخمس مع الجمال الفائق، ومتعة الحصول على متع لانهائية، ومتعة مصاحبة الأهل والأقرباء في النعيم، ومتعة الوجود الدائم مع بوذا، ومتعة مقابلة بوذا والاستماع إلى وعظه، ومتعة تقديم العطايا إلى أشكال بوذا المختلفة بشكل كامل ومتكامل، وأخيرا متعة التقدم في طريق الاستنارة والإشراق، تلك هي المتع العشر.
أما الأرض الطاهرة ففيها جعلت الأرضية من اللازورد، وطرق الأرض الطاهرة مصنوعة من شبكة أحبالها من الذهب. وسطح الأرضية لانهائي ومستو في كل مكان منه، ويوجد داخل كل حرم مقدس، خمسون مليار برج عال مصنوع من الجواهر السبعة: الذهب والفضة واللازورد والبلور والمرجان والعقيق واللؤلؤ. وتمتد أقمشة مدهشة على جميع المنصات المرصعة بالجواهر. وفوق الأبراج العالية عدد وفير من الملائكة على الدوام يعزفون الموسيقى، ويغنون أناشيد مقدسة تعظم بوذا. كما توجد بحيرات للاغتسال في الحدائق التي تحيط بالقاعات والأديرة والقصور والأبراج، وتنتشر في قاع البحيرة الذهبية رمال فضية، وتتناثر في قاع بحيرة اللازورد رمال بلورية، فضلا عن أن البحيرات تغطيها نباتات اللوتس التي تتألق مشعة في ألوان متنوعة. مع هبوب النسيم على سطح الماء، تتحرك أشعة الأضواء الرائعة منتشرة في جميع الاتجاهات. يمتلأ الهواء ليلا ونهارا بأغاني طيور البط، والإوز، وبط الماندرين، والكركي، والطاووس، والببغاء، والكالافينكاس (طائر له وجه امرأة جميلة ذو صوت رخيم). كل هذا وغيره مئات من الطيور المرصعة بالجواهر، تغني بأصوات رقيقة ملحنة في مدح بوذا. ولكن بالطبع مهما كانت رقة الأصوات؛ فإن تجمع تلك التشكيلة من الطيور بهذا العدد اللانهائي، لا بد أن يجعلها في منتهى الإزعاج.
تصطف بساتين من أشجار للجواهر على حدود البحيرة وضفاف الأنهار. وتنعكس الجذوع الذهبية والفروع الفضية والزهور المرجانية على صفحة الماء اللامعة. وتتأرجح في الجو أحبال من الجواهر، وتلك الأحبال معلق بها كثير من أجراس من الجواهر، ويسمع كتاب بوذا المقدس، وآلات موسيقية عجيبة تعزف بمفردها دون أن يمسها مخلوق، وتسمع بعيدا في الفراغ الهائل.
وإذا شعر المرء برغبة في أكل شيء ما، تظهر أمام عينه تلقائيا طاولة مرصعة بالجواهر السبعة، ومجهزة بأوان مرصعة بالجواهر السبعة وممتلئة عن آخرها بما لذ وطاب من الأطعمة الشهية النادرة. ولكن ليست هناك حاجة لالتقاط هذه الأطعمة وأكلها. فبمجرد النظر إلى ألوانها والاستمتاع برائحتها، تمتلئ المعدة ويتغذى الجسم، في حين يبقى الشخص نقيا؛ روحا وجسدا. وعندما تنتهي الوجبة، بدون تناول أي طعام، تختفي الأواني والطاولة فجأة.
وبالمثل، فإن الجسد يرتدي الملابس تلقائيا، دون أي حاجة لحياكة أو غسيل أو صباغة. المصابيح أيضا، غير ضرورية؛ فالأشعة المضيئة منتشرة في كل مكان. لا حاجة للتدفئة ولا للتبريد؛ فدرجة الحرارة معتدلة على مدار العام. وتعطر الجو روائح جميلة بأنواع جمة، وتتساقط أوراق زهرة اللوتس بلا انقطاع.
بالإضافة إلى ذلك يشرح كتاب «أساسيات الخلاص» في فصل بوابة المراقبة، أن المبتدئين في المشاهدة والتأمل لا يمكن لهم التوغل عميقا؛ ولذا يجب عليهم أن يركزوا كل جهودهم أولا في إيقاظ الخيال الخارجي، وبعد ذلك، في توسيع مداركه إلى ما لا نهاية. إن أقصر الطرق من أجل رؤية بوذا، هو الهروب من نطاق حياتنا الدنيوية بواسطة قوة الخيال، فإذا كنا نتمتع بمخيلة جامحة؛ يمكننا إذن أن نركز اهتمامنا على زهرة لوتس واحدة، ومنها ننتشر إلى آفاق لا نهائية.
فعن طريق الملاحظة المجهرية والتقديرات الفلكية يمكن لزهرة اللوتس أن تصبح أساس نظرية كاملة للكون، وتصبح عاملا من الممكن من خلاله رؤية الحقيقة. أولا إن كل ورقة من أوراق الزهرة لها أربعة وثمانون ألف وريد، وكل وريد يخرج أربعة وثمانين ضوءا. وعلاوة على ذلك، يبلغ قطر الزهرة، حتى الأصغر منها، مائتين وخمسين يوجانا.
2
وبهذا، إذا التزمنا التفسير الذي يقول إن مسافة اليوجانا التي نقرؤها في الكتابات المقدسة تساوي مائة وعشرين كيلومترا لكل منها، نستنتج أن أصغر زهرة لوتس يبلغ قطرها ثلاثين ألف كيلومتر.
مثل تلك الزهرة لها أربع وثمانون ورقة، وبين كل ورقة وأخرى توجد عشرة مليارات جوهرة، كل جوهرة تشع ألف ضوء. وفوق كأس الزهرة المزين بجمال تعلو الزهرة أربعة أعمدة مرصعة بالجواهر، وكل من هذه الأعمدة يبلغ مائة ألف تريليون مرة أكبر من حجم جبل سوميرو وتتدلى من الأعمدة ستائر كبيرة، وتزين كل ستارة بخمسين مليار جوهرة، وكل جوهرة تشع أربعة وثمانين ألف ضوء، وكل ضوء يتكون من أربعة وثمانين ألف لون ذهبي مختلف عن الآخر، وكل لون من تلك الألوان الذهبية بدوره له القدرة على تحوير نفسه بشكل مختلف.
إن التركيز في تلك الأفكار يعرف باسم «التفكير في مقعد اللوتس»، والعالم الفكري الذي يمتد في خلفية قصة الحب التالية هو عالم واسع الآفاق والرحاب إلى هذه الدرجة.
2
كان الراهب العظيم لمعبد شيغا، راهبا رفيع الأخلاق حسن المناقب.
كانت حواجباه أبيضين، وجسده الذي بلغ به الكبر مداه، لا يستطيع أن يحمله إلا بالاعتماد على عصاه.
كانت هذه الدنيا لا تمثل في نظر هذا العالم الزاهد إلا مجرد كومة من القمامة. إن شتلة الصنوبر الصغيرة التي كان قد زرعها بيديه قبل الانتقال للعيش في صومعته الحالية، قد نمت لتصبح شجرة عالية، حتى إن أطرافها الضخمة في السماء تناوش الرياح. ويعتقد أن من نجح في ترك هذه الدنيا لهذا الوقت الطويل ربما يكون قد تولد لديه إحساس بالأمان المطلق منها.
كان الراهب العظيم عندما يرى الأغنياء والنبلاء، يبتسم في شفقة ويتساءل: كيف لهؤلاء الناس ألا يدركوا أن ملذاتهم هي أحلام فارغة؟ وإذا قابل امرأة جميلة كان رد فعله، فقط، الشفقة على من هم في عالم الحيرة المتقلب مكبلين بالهوى.
منذ تلك اللحظة التي أصبح فيها لا يحمل أي مشاعر توحد، ولو قليلة، مع الدوافع التي تحرك هذه الدنيا، أصبحت الدنيا بالنسبة له في حالة توقف تام. في نظر الراهب العظيم لا يظهر العالم إلا مجرد صورة متوقفة على قطعة من الورق، مجرد ورقة تظهر خريطة لدولة ما غريبة. حالة الزهد الكاملة تلك والبعد عن الشهوات تجعلك تنسى حتى حالة الخوف، ولا تفهم لماذا ينبغي لجهنم أن توجد، كانت هذه الدنيا ضعيفة ضعفا واضحا أمامه؛ ولكن لأنه لم يكن أبدا ذلك الشخص المغرور، فلم يكن يخطر له على بال أن ذلك بسبب أخلاقه الرفيعة.
كان الراهب قد فقد جسده على الأغلب، كان يشعر بسعادة عندما يتأمل جسده أثناء الاستحمام مثلا، وقد أصبح عبارة عن عظام بارزة يغطيها جلد بالغ الذبول. إذا وصل الجسد إلى هذه الحالة؛ فيمكن وقتئذ التصالح معه كما لو كان جسد شخص آخر. ويعتقد أن طعام وشراب الأرض الطاهرة أصبح بالفعل أكثر ملائمة لذلك الجسد.
إذا تكلمنا عن أحلامه في كل ليلة، فهو لم يعد يرى في أحلامه إلا الأرض الطاهرة، وعندما يستيقظ ويعلم أنه لا يزال مقيدا ومكبلا في أحلامه البائسة الفانية، وأنه ما زال يعيش في هذه الدنيا، فإنه يأسى ويحزن.
بحلول الربيع، وموسم مشاهدة أزهار الكرز، يأتي عدد كبير من الناس من العاصمة لزيارة قرية شيغا، إلا أن ذلك لم يزعج الراهب مطلقا؛ لأنه أصبح في حالة روحية لا يمكن أن تضطرب أو تهتز بسبب هؤلاء الزوار. خرج الراهب من كوخه متكئا على عصاه، وذهب إلى ضفاف البحيرة. في تلك اللحظة من الوقت بدأت أشعة شمس الغروب تتسلل أخيرا بعد عصر اليوم، وكانت موجات البحيرة هادئة تماما. وقف الراهب بمفرده على حافة البحيرة، وبدأ أداء طقس تأمل المياه.
في تلك اللحظة جاءت عربة بجوار شاطئ البحيرة تنتمي بوضوح لشخص نبيل من ذوي المنزلة العالية، وتوقفت على مقربة من مكان الراهب الواقف. صاحبة العربة كانت محظية جلالة الإمبراطور. كانت المحظية قد أتت لمشاهدة مناظر بلدة شيغا في فصل الربيع، والآن قد أوقفت العربة في طريق عودتها، ورفعت ستائر النافذة من أجل إلقاء نظرة وداع أخيرة على البحيرة.
دون قصد نظر الراهب في اتجاهها، وعلى الفور جذبه ذلك الجمال. تلاقت عيناه بعينيها لفترة، ولم يحاول الراهب إبعاد نظره عنها؛ ولذا أصرت المحظية على ألا تبعد نظرها بعيدا عنه. لم تكن بتلك الروح المتسامحة؛ لكي ترضى بتلك النظرات الوقحة؛ ولكن لأن الطرف الآخر كان راهبا عجوزا قد بلغ منتهى الزهد والتعفف؛ فلقد ظلت لفترة تتشكك في معنى ذلك التحديق.
وفجأة أرخت المحظية ستائر النافذة، وبدأت العربة في التحرك، وأخذت تبتعد في اتجاه الطريق التي تمر عبر سفوح الجبال في شيغا واصلة إلى العاصمة. على الأغلب ستدخل العربة العاصمة في الليل بعد المرور بطريق «المعبد الفضي». ظل الراهب العظيم واقفا مكانه ينظر إلى العربة حتى اختفت ظلالها خلف الأشجار البعيدة.
لقد انتقمت الدنيا في طرفة عين من الراهب العظيم بقوة مرعبة. إن من كان يظن أنه آمن تماما قد انهار وصار أطلالا.
عاد إلى صومعته وواجه تمثال بوذا الرئيس، وحاول التضرع بأسمائه المقدسة. لكن أعاقته أفكار خيالية وهمية تقف بظلالها الغامضة أمامه. كان يحاول إقناع نفسه أن ذلك الجمال هو هيئة مؤقتة، ظاهرة لحظية للجسد الفاني بلا شك، ولكن تلك القوة اللحظية التي خطفت قلب الراهب العظيم بذلك الجمال الذي لا يمكن التعبير عنه، جعلته يعتقد أنها قوة ما رهيبة ونادرة وأبدية. ومن جهة أخرى لم يكن الراهب العظيم شابا بأي معنى من المعاني، لكي يقنع نفسه أن هذا الانبهار هو مجرد خدعة قد لعبها عليه الجسد؛ فالجسد لا يمكن أن يتغير في لحظة واحدة بهذا الشكل. إذن فالأمر المنطقي هو الاعتقاد أنه سقي سما غريبا بسرعة رهيبة، سما غير طبيعة الروح في هذه اللحظة الخاطفة.
لم يقترف الراهب العظيم إثم اقتراب النساء قط، وكان صراعه في شبابه مع ذلك، جعله على العكس لا يرى في المرأة إلا وجودا جسديا فقط. كان الجسد النقي الحقيقي، هو الجسد الموجود في خياله فقط. نتيجة لذلك اعتمد الراهب العظيم على قوته الروحية من أجل أن يخضع الجسد الذي ليس إلا وجودا فكريا مجردا. في هذا الجهد حقق الراهب نجاحا، ولا يوجد شخص واحد ممن يعرفون أفعاله حتى الآن يشك في ذلك النجاح.
ولكن وجه المرأة الذي بدا من نافذة العربة ناظرا تجاه البحيرة كان ذا وجود في غاية التناغم والتألق المشع، ولم يكن الراهب يعرف ماذا يمكن أن يسميه. لم يكن أمامه إلا الاعتقاد أن شيئا ما ظل مختفيا بداخله لفترة طويلة خادعا إياه، قد ظهر له لكي يحقق تلك اللحظة النادرة ويجليها، ولم يكن هذا الشيء إلا هذه الدنيا ولا غير، تلك التي كانت ساكنة متوقفة فوق لوحة الورق قد قامت فجأة وبدأت في التحرك.
الأمر يشبه وكأنه، مثلا، يقف على طريق كبيرة في العاصمة تروح فيها العربات وتجيء، وقد غطى أذنيه الاثنتين بيديه، وفجأة يرفع يديه من على أذنيه؛ ففي التو والحال تختلط الأصوات وتمتزج، محدثة ضوضاء حوله.
لمس متغيرات هذه الدنيا وسماع أصواتها، يعني أنك قد دخلت في دائرة تلك الدنيا. الشخص الذي قطع علاقاته تماما بكل شيء وأي شيء، عاد وقد أصبح له علاقة مرة أخرى بأحد أشياء هذه الدنيا.
حتى عندما يقرأ الراهب العظيم في كتاب السوترا المقدس، كان في مرات عديدة يطلق تنهدات بائسة لا يقدر على كتمانها. كان يعتقد أن الطبيعة ربما تلهي قلبه، فكان يتأمل السحب في الجبال وقت الغروب، ولكن قلبه كان فقط يضطرب في حيرة واندفاع مثله مثل السحاب. وعندما يشاهد الهلال، كانت مشاعره مائلة بنفس اتجاه الهلال، وحتى عندما يتجه أمام تمثال بوذا الرئيس محاولا تنقية قلبه، يجد أن أوهامه قد صورت له وبدا وكأنه وجه المحظية. كان عالمه قد سجن داخل حدود دائرة صغيرة. كان الراهب العظيم يوجد في جانب من الدائرة، وكانت محظية الإمبراطور توجد في الجانب الآخر.
3
سرعان ما نسيت محظية الإمبراطور أمر الراهب العجوز الذي ظل يحدق في وجهها بتركيز على ضفاف البحيرة في شيغا. ولكن بعد مرور وقت قصير، وصلت شائعة إلى أذنيها وعندها تذكرت ذلك الأمر. أحد أبناء القرية الذي رأى منظر وقوف الراهب العظيم يودع بنظره عربة المحظية حتى اختفت عن الأنظار، ذكر ذلك الأمر لأحد رجال البلاط الإمبراطوري الذي جاء إلى شيغا لمشاهدة أزهار الكرز، وأضاف أنه منذ ذلك اليوم والراهب مضطرب، وكأنه قد جن.
بالطبع تظاهرت محظية الإمبراطور بعدم تصديق تلك الشائعة؛ ولكن لأن راهب معبد شيغا العظيم مشهور للغاية بأخلاقه الرفيعة وفضائله الكثيرة. فإذا كانت الشائعة حقيقية؛ فسوف يكون في تلك الحادثة ما يسهم في تغذية غرور المحظية؛ لأنها كانت قد سئمت تماما من المحبة التي تتلقاها من رجال هذا العالم العاديين.
كانت محظية الإمبراطور واعية تماما بشدة جمالها، ومن عادة مثل هؤلاء الناس الميل إلى الانجذاب إلى أية قوة، تتعامل مع جمالها ومنزلتها العالية كأشياء لا قيمة لها، وبالتالي؛ فقد كانت شديدة التدين، وبسبب شعور الملل الشديد كانت تؤمن بعقيدة الأرض الطاهرة. وكانت تعاليم البوذية التي تكره هذه الدنيا الزاهية الجميلة وتبتعد عنها في زهد وتعفف؛ لأنها تعتبرها مدنسة. كانت بلا ريب تهون عليها ملل الحياة الفخمة المرفهة وكللها، تلك الحياة التي توحي بنهاية هذه الدنيا.
كانت محظية الإمبراطور تمجد بين المخصصين في الحب والغرام على أنها تجسيد للنقاء والجمال داخل بلاط جلالة الإمبراطور. ولأن هذه السيدة النبيلة العظيمة لم يسبق لها الوقوع في حب أي من الرجال، فلقد كانت تستحق في الواقع ذلك التمجيد والتوقير، ولم يكن أحد ممن يعرفونها يعتقد ولو للحظة أنها تحب جلالة الإمبراطور من قلبها. كانت محظية الإمبراطور تعيش داخل أحلامها قصص حب، تقع في الأغلب على حدود المستحيل.
كان راهب معبد شيغا يشتهر بأخلاقياته، وأنه قد بلغ من العمر ما بلغ، ويعرف الجميع في العاصمة أنه قد زهد هذه الدنيا تماما، فإذا كانت الشائعة حقيقية، يكون الراهب العظيم قد وقع في الحيرة والضلال بسبب جمال وجه المحظية، ويكون قد ضحى بالحياة الآخرة فداء لها. لا يمكن أن تكون هناك تضحية أكبر من ذلك، ولا هدية أعظم من تلك.
لم تكن محظية الإمبراطور يجذبها أفضل الرجال في القصر الإمبراطوري، ورغم ذلك أيضا، فلم يحرك قلبها النبلاء الوسيمون من الشباب. لم تكن أشكال الرجال تعني لها شيئا؛ كان اهتمامها الوحيد هو: من الذي يستطيع أن يحبها حبا كأقوى وأعمق ما يكون الحب؟
امرأة تمتلك ذلك الطموح تكون كائنا مخيفا حقا. لو كانت عاهرة، فسيكفيها أن تعطى ثروة من هذه الدنيا. ولكن محظية الإمبراطور تمتلك بالفعل كل ما يمكن تملكه من ثروات الدنيا؛ ولذا فقد كانت تنتظر الشخص الذي يقدم لها ثروات الآخرة.
انتشرت شائعة غرام راهب معبد شيغا في كل أركان البلاط الإمبراطوري، وتم إبلاغ القصة بنبرة شبه ساخرة إلى الإمبراطور نفسه. بالطبع لم تسعد المحظية بتلك السخرية، واحتفظت بموقف بارد غير مبال؛ لأنها تدرك جيدا أن هناك سببين لأن يتحدث الجميع بحرية، ساخرين من تلك المسألة؛ أولا: لأنهم يودون مدح جمال المحظية الباهر الذي أوقع في الحيرة والضلال حتى ذلك الراهب المشهور بأخلاقه الرفيعة لهذه الدرجة، وثانيا: بسبب الاطمئنان الذي مبعثه أن الجميع يدرك تماما أنه من المحال أن يتحقق حب على أرض الواقع بين ذلك الرجل العجوز وهذه المرأة النبيلة.
استدعت محظية الإمبراطور إلى ذهنها وجه الراهب العجوز الذي رأته من نافذة عربتها، ولكنها لم تجد أي تشابه ولو من بعيد في وجهه مع أي من الرجال الذين وقعوا في حبها حتى ذلك الوقت. من العجيب أن ينبت الحب أيضا في قلب رجل ليس لديه أي مؤهل ليكون محبوبا، مقارنة بذلك تعتبر عبارة مثل «حب بلا أمل» التي كثيرا ما تستخدم في الواقع في أشعار اللقاءات التي تقام في القصر الإمبراطوري من أجل استثارة شعور التعاطف، لم تكن في الأغلب إلا تمثيلا بائسا لشخص مغرور يدعي لنفسه قدرات أكبر من الحقيقة.
بحديثي حتى الآن، أعتقد أنه أصبح واضحا أن محظية الإمبراطور لم تكن تجسيدا للفخامة العالية، ولكنها إنسانة هوايتها العظمى أن تكون محبوبة؛ إنها في نهاية الأمر امرأة، فمهما كانت وجاهتها أو منزلتها، فإن أي سلطة أو قوة تحصل عليها لا تعوضها شيئا عن أن تحب؛ ففي خضم صراع الرجال حول السلطة السياسية، كانت تحلم بإخضاع العالم من خلال وسائل مختلفة؛ وسائل أنثوية خالصة. كانت تضحك استهزاء من النساء اللائي يقمن بحلاقة شعرهن والدخول في الرهبنة؛ لأنه مهما كانت المرأة تتكلم عن التخلي عن العالم، فمن المستحيل أن تتخلى عما تملكه. الرجال فقط هم القادرون على التخلي عما يملكون في الواقع.
ذلك الراهب العجوز قد تخلى مرة في حياته عن هذه الدنيا وجميع متعها. لقد كان أكثر رجولة من نبلاء القصر، ثم إنه كما تخلى عن هذه الدنيا، فهو على وشك التخلي عن الآخرة أيضا من أجلها.
تذكرت محظية الإمبراطور، ذات الإيمان العميق، أفكار زهرة اللوتس المقدسة. فكرت في زهرة لوتس ضخمة يبلغ حجمها مائتين وخمسين يوجانا. كانت زهرة اللوتس العملاقة غير المحدودة تلك، توافق ذوقها أكثر بكثير من أزهار اللوتس الصغيرة التي تشاهد بالعين. فحتى لو استمعت إلى أصوات النسيم تمر عبر أشجار الحديقة الأمامية مثلا، فإنها تعتقد أنها بلا أي قيمة مقارنة بالموسيقى العجيبة التي يحدثها الريح من خلال أشجار الجواهر في «الأرض الطاهرة». وهي عندما تفكر في الآلات الموسيقية المعلقة في الهواء التي تعزف الموسيقى من تلقاء نفسها؛ فإنها لا ترى في أصوات أنواع الآلات الموسيقية العادية، مثل: القيثارة والقانون، التي يتردد صداها حولها، سوى تقليد تافه مقارنة بتلك.
4
كان راهب معبد شيغا في صراع في معركته ضد الجسد في شبابه، كان هناك أمل فيما سيحصل عليه في الآخرة، لكن هذه المعركة اليائسة بعد وصوله إلى تلك الشيخوخة والكبر، كانت مرتبطة بإحساس بخسارة لا سبيل إلى تعويضها.
وهو وإن كان إكمال حبه لمحظية الإمبراطور مستحيلا استحالة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، فإنه كذلك يستحيل عليه المضي قدما في السير تجاه الأرض الطاهرة، طالما ظل أسيرا لهذا الحب.
إن الراهب العظيم الذي كان يعيش في حالة تحكم كامل في مشاعره لا مثيل لها في هذا العالم، أصبح مصيره يلفه الغموض تماما في طرفة عين، إذا كان الأمر كذلك؛ فلعل الشجاعة التي حارب بها معركة الشباب وانتصر فيها، ربما كانت قد تولدت من كبريائه وفخره أنه يمتنع بمحض إرادته الذاتية عن القيام بأفعال يمكنه فعلها بسهولة إذا رغب في ذلك.
تملك الرعب مرة أخرى من الراهب العظيم؛ فلقد انتبه إلى الظلام العميق لهذه الدنيا التي لا يعرف ماذا ينتظره منها لو تحرك خطوة واحدة إلى الأمام، فحتى لحظة اقتراب تلك العربة الفاخرة من ضفاف بحيرة شيغا، كان يؤمن أن ما ينتظره في القريب العاجل هو الوصول إلى «النيرفانا» ولا غيرها.
ولكن بعد تلك اللحظة الفارقة أصبحت مختلف أشكال التأمل الديني، من تأمل قاعدة اللوتس، والتأمل في مجمل الأشياء، والتأمل في الأجزاء، جميعها بلا فائدة؛ ففي كل مرة يبدأ فيها التأمل، يظهر أمام عينيه دائما وجه المحظية الجميل، وحاول كذلك تأمل مياه البحيرة ولكن كان ذلك أيضا عديم الفائدة؛ لأن وجه المحظية الجميل كان يهتز من تحت موجات البحيرة الخفيفة.
وبالطبع كخلاصة طبيعية، حاول الراهب العظيم بذل جهوده في جعل قلبه مبهما غير مستقر عن طريق تشتيته؛ لإدراكه أن التركيز لا ينفع قدر ما يضر. ولقد أدهشه أن التركيز في الواقع يؤدي على العكس إلى حيرة عميقة؛ ولذا لم يكن أمامه إلا محاولة فعل العكس، أي ليس أمامه إلا الاعتراف بوجود الحيرة. واعتقد أنه عندما ينهزم القلب من ثقل الضغط عليه، يكون على العكس من الأسهل الهروب من محاولة الهروب من خلال تركيز أفكاره عمدا على وجه المحظية.
أحس الراهب العظيم بمتعة جديدة في تزين شبح المحظية بطرق مختلفة كما يزين تمثال بوذا بالتيجان والأكاليل. لم يدر سبب إحساسه بالسعادة، وهو يقوم بتلك الطريقة بجعل محبوبته ذات وجود أكثر عظمة وأكثر بعدا عنه وأكثر استحالة. أليس الطبيعي أن يرسم المحظية في خياله كجسد امرأة عادية قريبة منه؟ أليس بهذه الطريقة يحصل المحب على فائدة من حبه، ولو على الأقل في داخل خياله فقط؟
لقد كان الراهب العظيم كلما فكر بهذه الطريقة يجد أن ما يرسمه خياله للمحظية ليس مجرد جسد، ولا هو مجرد شبح خيالي، بل كان الراهب بكل تأكيد يرسم جوهرا حقيقيا وواقعيا. وكان من العجيب أن يبحث عن ذلك الجوهر في امرأة. إن الراهب ذا الأخلاق الرفيعة حتى مع وقوعه في الحب، لم يفقد خصلة التدريبات الدائمة في محاولة التقرب من الجوهر، حتى ولو من خلال التجريد. صارت محظية الإمبراطور الآن متوحدة مع زهرة لوتس هائلة من مائتين وخمسين يوجانا. لقد أصبحت وهي نائمة مستندة على عدد كبير من أزهار اللوتس، بحجم عملاق أكبر من جبل سوميرو، بل ومن الدولة بأكملها.
في الواقع أنه كلما حول الراهب العظيم حبه إلى شيء مستحيل، كانت خيانته لبوذا أكثر عمقا. والسبب أن استحالة هذا الحب، يرتبط بشكل ما مع استحالة تحقيق النيرفانا. وكلما اعتقد أنه حب ميئوس منه، أصبحت الخيالات أكثر تأكيدا، وأصبحت أفكاره الدنسة راسخة في أعماقه. وإذا اعتقد أن حبه أصبح ممكنا، لربما على العكس يصبح من السهل تولد اليأس منه، ولكن هذا الحب المستحيل أصبح راسخا عتيدا يغطي سطح الأرض مثل البحيرة الهائلة ولا تبدو أي بوادر لتزحزحه عن مكانه.
لقد تمنى رؤية وجه المحظية مرة أخرى بطريقة ما، لكنه كان يخشى عند لقاء ذلك الوجه الذي صار مثل زهرة لوتس عملاقة، أن ينهار دون أن يترك أثرا. إن انهياره بالتأكيد سينقذ الراهب العظيم. أجل، هذه المرة بالتأكيد تتحقق له النيرفانا، وهذا بالضبط ما يخشاه.
لقد وصل هذا الحب المفعم بالوحدة أخيرا إلى خداع الذات بنسج شبكة عجيبة من الحيل، وعندما انتهى أخيرا إلى اتخاذ قرار الذهاب لمقابلة المحظية، أحس الراهب أن المرض العضال الذي كان يحرق جسده قد شفي تقريبا، كانت فرحته هائلة عند اتخاذ القرار، لدرجة أن الراهب نفسه اعتقد خطأ أنها فرحة النجاة من قيود ذلك الحب.
5
لم يجد أحد من الذين شاهدوا راهبا عجوزا بائسا يتكئ على عصا، ويقف بصمت في ركن من أركان حديقة القصر الإمبراطوري للمحظية في ذلك، أي شيء غريب؛ فلم يكن مشهد وقوف المتسولين والرهبان البوذيين أثناء جمعهم للصدقات داخل حدائق منازل النبلاء والكبراء بالأمر النادر.
أبلغت إحدى خادمات القصر ذلك الأمر إلى محظية الإمبراطور. نظرت محظية الإمبراطور بتوجس من خلال ستائر الخيزران. هناك خلف ظلال أوراق الشجر اليافعة كان الراهب العجوز الذي خارت قواه يقف محني الرأس. ظلت المحظية تنظر إليه فترة من الوقت، وعندما أدركت بدون أي شك أنه هو الراهب الذي قابلته على ضفاف البحيرة في شيغا، لم تستطع أن تمنع وجهها من أن يتحول لونه إلى الشحوب.
وقعت المحظية في حالة من الحيرة والتردد، لم تعرف ما القرار المحتم اتخاذه؛ ولذا أمرت بتركه وشأنه كما هو. تلقت الخادمة الأمر واستجابت له.
تولد القلق في قلب المحظية. هذا القلق تولد الآن لأول مرة في قلبها.
كانت قد شهدت حتى الآن العديد من الناس الذين قد تخلوا عن متع هذه الدنيا، ولكنها لأول مرة ترى شخصا يترك الآخرة وراء ظهره ويأتيها، كان أمرا مشئوما ومرعبا بشكل يفوق الوصف. لقد فقدت هذه السيدة النبيلة السعادة التي كان خيالها يرسمها لها مع حب الراهب. وبفرض أن الراهب العظيم قد تنازل لها عن الحياة الآخرة، فإن الحياة الآخرة تلك لن تكون من نصيبها بلا مقابل.
نظرت محظية الإمبراطور إلى ملابسها الفخمة ويديها الجميلة، ثم نظرت إلى الراهب الواقف بلا حراك في الحديقة بعيدا، ملامح وجهه التي قبحها الهرم وملابسه الرثة المبتلة. هذه الرابطة بينهما كان لها سحر جهنمي، ولكن ذلك لم يكن مثل الحلم الرائع الذي حلمت به، ظهر لها الراهب العظيم وكأنه شخص جاء من الجحيم، اختفت تماما هالة الرجل الفاضل رفيع الخلق، التي كانت تصدر من خلفه أشعة الأرض الطاهرة المتألقة، ذهبت عنه كل الأشعة والأنوار التي تدعو إلى الأذهان مجد الأرض الطاهرة. بالتأكيد وبدون أي شك، إنه هو نفس الرجل الذي رأته على ضفاف بحيرة شيغا، ولكنه كان في نفس الوقت يبدو وكأنه شخص مختلف تماما.
كانت محظية الإمبراطور، كعادة شخصيات البلاط الإمبراطوري، تميل إلى الحذر من انفعالاتها العاطفية. كانت تفعل ذلك دائما عندما تأتي أمامها أشياء تضطرها إلى التأثر والانفعال، حتى بعد أن رأت البرهان على حب الراهب لها لهذه الدرجة، شعرت بخيبة أمل أن يأخذ الحب الأسمى الذي رأته في أحلامها طويلا، تلك الهيئة المتواضعة للغاية.
كان راهب معبد شيغا الذي وصل العاصمة أخيرا بعد سفر طويل متكئا على عصاه، قد نسي كل تعبه، بعد أن تحايل لدخول القصر الإمبراطوري حيث توجد محظية الإمبراطور ، عندما أيقن أن وراء ستائر الخيزران تلك، توجد المرأة التي يهواها، أخذ يفيق من كل الأحلام الكاذبة.
عندما أخذ الحب هذا الشكل البريء، مرة أخرى بدأت الحياة الآخرة تسحر لب الراهب العظيم. أحس وكأنه لم يسبق له أن رسم في ذهنه الأرض الطاهرة بهذه الدرجة من النقاء والصفاء، لقد أصبح شوقه للأرض الطاهرة يأخذ شكلا حسيا على الأغلب، لم يبق له من أجل أن يزيل أوهام هذه الدنيا التي تحجب عنه الآخرة، إلا لقاء المحظية وإعلان حبه لها. هذا فقط هو ما تبقى.
كان يعاني كثيرا من الوقوف هناك، يستند بجسده الهرم على عصاه، تنسكب فوق رأسه أشعة شمس مايو الساطعة المتسللة من خلال أوراق الشجر، كلما أحس بدوار في رأسه يتكئ على عصاه؛ ليحمي نفسه من الوقوع. لو أن المحظية تنتبه إليه سريعا وتستدعيه، ستنتهي هذه الخطوة في الحال، ووقتها يفتح له باب الأرض الطاهرة على مصراعيه، الراهب العظيم ينتظر، ينتظر مسندا على عصاه كلله الذي يصل به إلى حد الإغماء. أخيرا احتجبت أشعة الشمس، وصار الوقت مساء، ولا تأتي أخبار من محظية الإمبراطور.
ولكن المحظية بالطبع لم تكن تعلم أن الراهب يعتقد أن الأرض الطاهرة تكمن خلفها، كانت تنظر مرة بعد مرة من خلف ستائر الخيزران ناحية الحديقة. كان الراهب يقف في الحديقة. المساء يزحف، والراهب ما يزال يقف هناك.
أصاب محظية الإمبراطور الرعب؛ فلقد شعرت أن ما رأته هو تجسيد حي لأوهام التعلق العميقة الجذور، لقد احتواها رعب عارم من السقوط في الجحيم. الرعب الإنساني العادي الذي يقول إنها بعد أن تسببت في الحيرة والضلال لراهب على تلك الدرجة من الأخلاق الرفيعة، بالتأكيد لن تستقبلها الأرض الطاهرة، بل مآلها سيكون إلى الجحيم. وقتها قد تحطم بالفعل الحب الأسمى الذي كانت تحلم به. لقد حطمته بالفعل؛ فالجحيم هو أن تحب. كانت المحظية على العكس من الراهب العظيم ترى الجحيم من ورائه.
ولكن تلك المرأة النبيلة المتغطرسة قاتلت خوفها بشدة، ولقد شجعت روحها مستعينة بقسوتها وعنفها الفطري؛ فالراهب سيسقط صريعا حتما عاجلا أو آجلا. فما عليها إلا أن تنتظر سقوطه. ولكنها ما إن تلقي نظرة خلف ستائر الخيزران متوقعة أنه قد سقط، تجده واقفا بصمت هناك بلا حراك، مما يزيد من غضبها.
دخل الليل، وبدت هيئة الراهب الواقف في ضوء القمر كأنها هيكل عظمي.
لم تستطع محظية الإمبراطور النوم من الرعب، ولكنها رغم عدم النظر في اتجاه الستائر، وقد أعطت ظهرها لها، فإنها كانت تشعر بنظرات الراهب.
فهمت الآن أنه ليس حبا عاديا. ولكنها من الخوف من أن تحب، ومن الخوف من الوقوع في الجحيم، أصبحت على العكس تتمنى الأرض الطاهرة بقوة أكثر. فكرت أنها تريد الحفاظ على الأرض الطاهرة الخاصة بها بلا أي جروح. أرضها الطاهرة تلك تختلف تماما عن أرض الراهب الطاهرة، وليس لها أية علاقة بحبه؛ فهي تعتقد أنها لو تحدثت مع الراهب ستنهار أرضها الطاهرة على الفور. إنها تريد أن تعتقد أن حب الراهب ليس له علاقة بها؛ فالراهب يحبها من تلقاء نفسه وبدون تدخلها؛ ولذا فمن المفروض ألا تفقد ولو قليلا استحقاقها في أن تستقبلها الأرض الطاهرة.
ولكن ورغم ذلك، فكلما تقدم الليل تدريجيا، وأصبح الجو أكثر اعتدالا، فقدت ثقتها في إمكانية التحكم في قلبها لو سقط الراهب في مكانه ميتا.
الراهب العظيم واقف بلا حراك، بدا القمر بعد اختفائه خلف الغيوم في هيئة عجيبة ساحرة، وكأنه شجرة ذابلة.
صرخت المحظية في قلبها: أنا ليس لي علاقة بهذا الرجل. لم تكن محظية الإمبراطور تفهم إطلاقا لماذا حدث ذلك.
في تلك اللحظة، ونادرا ما يحدث ذلك، نسيت المحظية جمالها تماما. أو ربما قد يكون من الأنسب أن نقول إنها تعمدت نسيانه.
أخيرا، بدأ لون السماء يميل قليلا إلى اللون الأبيض.
الراهب ما زال واقفا كالطود في غسق الفجر.
هزمت محظية الإمبراطور. استدعت الخادمة، وأخبرتها أن تدعو الراهب الواقف في الحديقة للمجيء أمام ستائر نافذة الخيزران.
كان الراهب على حدود الغيبوبة بعد أن وصل الجسد إلى حافة الانهيار التام. ولم يعد يدري ماذا ينتظر؟ محظية الإمبراطور .. أم الحياة الآخرة. حتى مع إدراكه أن الخادمة قد نزلت إلى الحديقة من جهة ستائر الخيزران وتقترب منه، فإنه لم يكن يشعر أن ما كان ينتظره قد أتاه أخيرا.
أبلغته الخادمة رسالة سيدتها؛ صرخ الراهب في داخله صرخة مهولة، ولكن لم يصدر منه أي صوت تقريبا.
حاولت الخادمة أن تسحب يديه. ولكنه تقهقر رافضا، ثم مشى حتى موضع ستائر الخيزران بخطى ثابتة راسخة بشكل مدهش وعجيب.
المكان خلف الستائر كان مظلما، ولا يمكن رؤية شكل السيدة من الخارج. جثا الراهب على ركبتيه أمام الستائر، ثم غطى وجهه بيديه، وانخرط في البكاء.
طال النواح لفترة ولم يكن قادرا على التفوه بالكلمات، وبدا وكأنه سيظل يبكي إلى الأبد.
عندها ظهرت في غسق الفجر يد بيضاء من أسفل الستائر المدلاة.
أمسك راهب معبد شيغا يد محبوبته بيديه الاثنين، ثم قام بوضعها على جبهته، ثم وضعها على خده.
شعرت محظية الإمبراطور بتلك اليد الباردة العجيبة تلمس يدها، ثم بعد ذلك أحست بيدها قد تبللت بشيء دافئ. أحست محظية الإمبراطور بشعور مقزز؛ لأن يدها قد ابتلت بدموع شخص غريب عنها.
ولكن مع إحساسها بدخول لون السماء الذي يميل إلى البياض من خلال ستائر النافذة، وبسبب قوة إيمانها الحار، لمستها فجأة مشاعر روحية رائعة. لقد جاءها اقتناع أن اليد الغريبة التي لمستها هي يد بوذا نفسه بلا أي شك.
لقد بعثت من جديد الأوهام في قلب المحظية، بعثت مجددا أرضية اللازورد في الأرض الطاهرة، والأبراج السباعية المرصعة بالجواهر، ومناظر الملائكة التي تعزف الموسيقى، وبحيرات الذهب الخالص المفروشة برمال بلورية، وزهور اللوتس ذات الأشعة اللامعة، وأصوات طائر الكالافينكاس الجميلة. إذا كانت تلك الأرض الطاهرة ستكون من نصيبها، والحقيقة أنها لا تزال تؤمن بذلك حتى الآن، فليس لديها مانع في تقبل حب الراهب العظيم. انتظرت المحظية أن يطلب منها ذلك الرجل صاحب يد بوذا أن ترفع الستائر التي تفصله عنها. لا بد وأن الراهب العظيم سيطلب منها ذلك، ثم تقوم برفع الستائر. ثم يظهر له جمالها الذي لا مثيل له، كما حدث في ذلك اليوم على ضفاف بحيرة شيغا. ثم تدعو الراهب العظيم للصعود إلى غرفتها.
انتظرت محظية الإمبراطور العظيم.
لكن كاهن معبد شيغا لم يقل أي شيء، ولم يطلب منها أي شيء، اليد العجوزة التي كانت تمسك يدها بقوة، أخيرا حلت قبضتها، وتركت اليد البيضاء كالثلج وحيدة تحت ضوء الفجر.
غادر الراهب العظيم المكان، وأصبح قلب محظية الإمبراطور باردا.
بعد بضعة أيام وصل نبأ وفاة الراهب العظيم في صومعته، وبهذا الخبر قررت محظية الإمبراطور نسخ كتب السوترا لفة بعد لفة في كتابة جميلة، وإهداءها إلى المعبد. وكلها كتب رائعة تبعث على الامتنان، إنها كتاب «سوترا زهرة اللوتس»، و«كتاب سوترا الحياة الأبدية»، وكتاب «سوترا أكاليل الزهور».
فتى يكتب الشعر
كان الفتى يستطيع بسهولة تامة كتابة الشعر، وينتقل في سلاسة من قصيدة لأخرى. وفي الحال ينتهي من كراس المدرسة الذي يبلغ حجمه ثلاثين صفحة، والمطبوع عليه اسم مدرسة «غاكوشوين». ولقد شك الفتى في ذلك، لماذا يستطيع كتابة الشعر بهذه الطريقة لدرجة الانتهاء من قصيدتين أو ثلاث قصائد في اليوم الواحد؟ بل إنه عندما حجز في المستشفى لمدة أسبوع كامل، ألف ديوانا باسم «ديوان شعر أسبوع»، وقام بعمل شكل بيضاوي مفرغ على غلاف الكراس؛ ليظهر من تحته كلمة
، ثم كتب تحت ذلك باللغة الإنجليزية:
12
th ->18
th
MAY 1940.
عندما طافت شهرة شعره الجيد بين زملائه الأقدم منه في المدرسة، كان يقول في نفسه: «غير معقول! .. من المؤكد أن هذه الجلبة فقط؛ بسبب أن الجميع ينظر إلى أنني في سن الخامسة عشر.»
ولكن الفتى رغم ذلك كان متأكدا تماما من أنه عبقري؛ ولذلك فهو يرد على زملائه الأقدم منه بحديث الند للند. ويرى أنه من الأفضل تجنب قول «أنا أظن أن الأمر هو كذا»، وأنه عليه أن ينتبه لكلامه في كل المواضيع ليأخذ صيغة «إن الأمر هو كذا».
كان الفتى مصابا بفقر الدم بسبب كثرة الاستمناء، ولكنه لم يكن يهتم بعد بقبح وجهه؛ فالشعر شيء مختلف تماما عن تلك المشاعر الفسيولوجية البغيضة. الشعر يختلف تماما عن كل شيء. كان الفتى يكذب كذبا غير ملحوظ يناسب الموقف. من خلال الشعر تعلم الفتى طريقة الكذب غير الملحوظ بما يناسب الموقف. المطلوب فقط أن تكون الكلمات جميلة، وبهذه الطريقة كان يوميا يقرأ المعاجم بجد واجتهاد.
كان الفتى عندما يبلغ النشوة، يظهر أمام عينه دائما عالما مجازيا. «ديدان اليسروع حولت أوراق الكرز إلى سباق.» «الحصى التي رميت تخطت أشجار البلوط، وذهبت لرؤية البحر.» «في يوم ذي سحب، قامت الرافعة العملاقة بنزع صفحة البحر ذات التجاعيد الكثيرة، ولفتها في الهواء؛ لتبحث تحتها عن جثث الغرقى.» «ثمرة الخوخ القريبة من الخنفساء تضع في الواقع مكياجا خفيفا.» «يلتصق الهواء الغاضب المضطرب حول الهارعين جريا بكل طاقتهم، وكأنه مثل النيران فوق ظهور التماثيل.» «الغروب هو نذير شؤم، ولونه مثل لون صبغة اليود المركزة.» «أشجار الشتاء ألقت أرجلها الصناعية تجاه السماء، ثم بعد ذلك بدا جسد الفتاة العاري بجوار المدفأة وكأنه ورد مشتعل، ولكن عندما تقترب من النافذة تكتشف أنه ورد صناعي، وأن البشرة التي بها قشعريرة بسبب البرد، قد تحولت إلى قطعة من زهرة مخملية منفوشة.»
كان الفتى يصل إلى ذروة السعادة عندما يتحول العالم بهذه الكيفية في الواقع. ولم يكن الفتى يندهش من حدوث حالة السعادة القصوى تلك بشكل مؤكد عندما يتولد داخله الشعر. كان يعلم في عقله أن الشعر يتولد من داخل الحزن واللعنة واليأس، يتولد الشعر من وسط الوحدة القاسية، ولكن من أجل ذلك كانت توجد ضرورة أن يحمل هو نفسه اهتماما أكثر تجاه ذاته، وأن يعطيها قضية ما. ورغم إيمانه الذي لا يتزعزع أنه عبقري، فإنه من المدهش أن الفتى لم يكن يحمل اهتماما تجاه ذاته. فلقد جذبه تماما سحر العالم الخارجي. أو الأصح عوضا عن ذلك هو القول إنه لحظة وصوله لذروة السعادة القصوى، كان العالم الخارجي بلا سبب واضح يتخذ بسهولة الشكل المفضل لديه.
لم يكن الفتى يعرف جيدا هل الشعر يظهر من أجل إثبات سعادة الفتى بين حين وآخر، أم أن الفتى يكون في سعادة بسبب ميلاد الشعر، ولكن تلك السعادة كانت تختلف بشكل واضح عن سعادته عندما يحصل على شيء كان يريده وظل يطالب بشرائه لفترة طويلة، أو عندما يخرج مع والديه في رحلة ما، غالبا هي ليست السعادة الموجودة عند أي شخص آخر، ولكن المؤكد أنها سعادة لا يعرفها بحق إلا هو فقط.
في كل الأحوال لم يكن الفتى يحب الاستمرار في تأمل أمر ما فترة طويلة، سواء أكان ذلك نفسه أو العالم الخارجي، يلفت الشيء انتباهه، فيبدأ في التحول السريع إلى شكل ما مغاير ومختلف في الحال. على سبيل المثال: إذا تلألأت أوراق الغابة الخضراء، ولم يتحول الجزء المشع منها في وسط الظهر من أحد أيام شهر مايو، وكأنها زهور كرز ليلية، فهو على الفور يسأم منها ويتوقف عن مشاهدتها، وكان يواجه الصور الحادة، التي من المؤكد أنها لن تتغير ولو قليلا، بابتسامة باردة قائلا: «تلك لا تصلح لأن تكون شعرا.»
في يوم اختبار المدرسة، جاءت الأسئلة كما توقعها تماما، فكتب الإجابات بسرعة، ثم سلم ورق الإجابة إلى المدرس دون أن يراجعها بشكل دقيق، واستطاع أن يخرج من الفصل قبل أي زميل آخر من نفس صفه، وأثناء عبور فناء المدرسة الذي لم يكن يوجد به ظل لإنسان في فترة الصباح، نظر إلى قمة سارية العلم التي تنتهي بكرة ذهبية صغيرة تلمع متألقة. وعندها غمرته سعادة بالغة لا يمكن وصفها. اليوم ليس عيدا قوميا؛ ولذا فالعلم لم يكن مرفوعا، ولكنه كان يعتقد أن اليوم عيد داخل قلبه، وأن أشعة الكرة الذهبية اللون تحتفل به وتهنئه. ينخلع قلب الفتى بسهولة عن جسده ويبدأ التفكير في الشعر. يا لها من نشوة تنتابه في تلك اللحظة! يا لها من وحدة مكتملة! يا لها من خفة لا متناهية! يا لها من سكرة صافية تصل إلى كل الأركان! يا له من تقارب وتوافق كامل بين داخل النفس وخارجها!
كان الفتى عندما لا تأتيه هذه اللحظة بشكل طبيعي، يستخدم شيئا ما من الأشياء حوله، ويحاول عنوة ولو بشكل مصطنع أن يستدعي حالة سكرة مشابهة. يقوم مثلا بالنظر إلى ما داخل الغرفة باستخدام غلاف علبة السجائر الشفاف الذي يأخذ تصميم ظهر سلحفاة مخططة، أو أن يقوم برج زجاجة المسحوق الأبيض السائل الخاصة بأمه بعنف، حتى يقوم المسحوق أخيرا بالرقص متثاقلا معربدا، وفي النهاية يظل يتأمل ذلك المسحوق، وهو يترك السائل الرائق يتكون في أعلى الزجاجة، ثم يترسب هو تدريجيا في قاعها.
كان الفتى كذلك يستخدم كلمات مثل: «الصلاة»، و«اللعنة»، و«الاحتقار» بدون أي تأثر أو عاطفة.
انضم الفتى إلى نادي الأدب في مدرسته، وقد أعاره عضو اللجنة المفتاح، فكان الفتى يذهب إلى غرفة النادي وقتما يشاء، وكان بذلك يستطيع الاستغراق في قراءة الكتب والمعاجم التي يحبها. كان الفتى يحب صفحة الشعراء الرومانسيين في موسوعة الآداب العالمية؛ فجميع الشعراء كانت صورهم في تلك الصفحة بدون لحى شعثاء، وكانوا جميعا شبابا ذوي جمال أخاذ.
وكان الفتى يهتم كثيرا بقصر حياة الشعراء، يجب على الشاعر الحق أن يموت مبكرا، ولكن حتى لو قلنا موتا مبكرا؛ فبالنسبة للفتى ذي الخمسة عشر ربيعا، كان الأمر ما زال بعيدا جدا، وبسبب ذلك الأمان الناتج من الأرقام، ظل الفتى يفكر في الموت المبكر بمشاعر سعيدة.
كان الفتى يحب قصيدة أوسكار وايلد القصيرة التي تسمى «قبر كيتس». «يرقد هنا أصغر الشهداء، الذي أخذ من هذه الحياة عندما كان في ريعان الشباب حيث الحب والحياة.»
يرقد هنا أصغر الشهداء. كانت هناك دهشة كبرى من هجوم الكوارث والتعاسة الواقعية على الشاعر، وكأنهما منحة إلهية. لقد كان الفتى يؤمن بالتوافق القدري، التوافق القدري لسير حياة الشعراء. بالنسبة للفتى كان الإيمان بالتوافق القدري والإيمان بعبقريته نفس الشيء.
وكان ممتعا له أن يفكر في محتوى نعي طويل يكتبه لنفسه، أو في مجده بعد الموت، ولكن عندما يصل تفكير إلى جثته بعد الموت، تجعله تلك الأفكار في النهاية يمتعض قليلا. كان يحدث نفسه بقوة وحماس قائلا لها: «يجب علي أن أحيا كالألعاب النارية؛ أبذل كل جهدي في تلوين سماء الليل في لحظة، ثم أختفي في الحال.»
كان يفكر في أشياء متعددة، ولكنه لم يستطع تخيل طريقة للحياة غير ذلك. ولكن الفتى كان يكره الانتحار؛ لذا فالتوافق القدري سيسدي له معروفا ويقتله في الوقت المناسب بشكل ملائم.
لقد بدأ الشعر يجعل الفتى يميل تجاه الكسل النفسي. لو كان أكثر اجتهادا من الناحية النفسية، لربما كان قد فكر في الانتحار بقلب متحمس.
في طابور الصباح، دعاه مشرف الطلبة للقائه. قال له: «تعال إلى مكتب المشرف.» ومعنى دعوته إلى ذلك المكتب أنه سيلاقي تعنيفا ومساءلة أثقل من الدعوة إلى مكتب المدرسين. زملاؤه قاموا بإخافته قائلين: «أكيد أنت تعلم ماذا فعلت.» شحب وجه الفتى وارتعشت يداه بشدة.
كان مشرف الطلبة ينتظره وهو جالس ممسكا بملقاط الفحم الحديدي يكتب به حروفا ما على رماد المدفأة التي بلا نيران. وعندما دخل الفتى قال له المشرف بصوت حنون: «اجلس!» ولم يعنفه مطلقا. بل قال له إنه قرأ شعره الذي نشر في مجلة لجنة أصدقاء المدرسة، ثم بعد ذلك سأله عدة أسئلة عن الشعر وعن أسرته، وفي النهاية قال له: «يوجد نوعان من الشعراء، شيلر وغوته. هل تعرف شيلر؟» - «هل تعني فريدريش شيلر؟» - «نعم، هو، لا يجب عليك أن تكون مثل شيلر. بل يجب عليك أن تكون مثل غوته.»
كان الفتى متجهم الوجه أثناء عودته إلى فصله بعد أن خرج من مكتب المشرف بسبب عدم رضاه، وكان يجر رجليه جرا، فهو لم يكن قد قرأ من قبل أيا من أعمال شيلر أو غوته، ولكنه يعلم صورتيهما فقط. - «أنا أكره غوته، نعم أكرهه، فهو عجوز طاعن في السن، أنا أحب شيلر أكثر.»
كان «ر» رئيس نادي الأدب، الذي يكبر بالفتى بخمسة أعوام كاملة، يعتني به. وكان الفتى يحب «ر» كذلك، والسبب أن «ر» كان يعتقد في نفسه بوضوح أنه عبقري ليس له مثيل، وهو قد اعترف بعبقرية الفتى بدون النظر إلى فارق السن بينهما؛ ولأنه من الضروري أن يصبح العباقرة أصدقاء لبعضهم البعض.
كان «ر» هو الابن الأكبر لعائلة من النبلاء؛ ولذلك فقد تقمص دور الشاعر الفرنسي أوغست دوليل آدم، ويفخر بنسب عائلته العريق، ويكتب أعمالا يبث بها مشاعر رثاء جمالية تجاه تقاليد النبلاء القدماء وفنونهم وآدابهم، كذلك قام «ر» بتجميع أشعاره وكتاباته القصيرة في كتاب، ونشره على حسابه الخاص، وهو ما جعل الفتى يشعر بالغيرة تجاهه.
كان الاثنان يتبادلان يوميا رسائل طويلة. وكانت عادة كتابة الرسائل اليومية ممتعة بالنسبة للفتى. تقريبا كل صباح كان يصل لعنوان الفتى رسالة من «ر» في مظروف غربي الطراز مشمشي اللون. مهما كان سمك الرسالة فكان يمكن معرفة وزنها، ولكن خفة تلك الرسائل المنتفخة كانت تسعد الفتى وتعطيه شعورا بأنها مملوءة عن آخرها بالرشاقة، وفي نهاية رسالة كل منهما كانت تختم بما ألفه كلاهما من شعر في ذلك اليوم أو آخر وأحدث أشعارهما، وكانا يكتبان أشعارهما القديمة إذا لم تكن هناك أشعار جديدة.
أما محتوى الرسائل فهو بلا هدف محدد؛ يبدأ مرسل الرسالة بالنقد والتعليق على شعر الطرف الثاني في آخر رسالة له، ثم ينتقل من ذلك إلى أحاديث لا نهاية لها، فيكتب عن آخر ما سمعه من موسيقى، والأحاديث العائلية اليومية، وانطباعه عن فتاة جميلة شاهدها، وتعريف بما قرأه من كتب، والتجارب الشعرية في تلقي الوحي لعالم شعري كامل من خلال كلمة واحدة، وحكي مفصل عن الحلم الذي حلم به الليلة السابقة ... إلخ. مثل هذه الرسائل لم يمل كتابتها أبدا لا الشاب الذي بلغ العشرين عاما، ولا الفتى ذو الخمسة عشر ربيعا.
ولكن الفتى قد لاحظ في رسائل «ر» ظلالا ضئيلة من الاكتئاب والقلق، يعرف تماما أنها لا توجد في رسائله هو مطلقا. الخوف تجاه الواقع، والقلق من ضرورة مواجهته في النهاية، أعطيا لرسائل «ر» نوعا من المعاناة والوحدة الموحشة. وكان الفتى السعيد يعتقد أن تلك الظلال ليس بينها وبينه أية علاقة، وأنه لا يمكن أن يسقط فيها. «هل يمكن يا ترى أن أستيقظ على شيء ما قبيح؟» لم يخطر هذا السؤال على بال الفتى قط، ولم يتوقعه مطلقا. على سبيل المثال من المستحيل أن يحدث له مثلما حدث مع غوته، حيث هجمت عليه الشيخوخة وتحملها لوقت طويل. كان الفتى ما زال على مسافة بعيدة من فترة ريعان الشباب التي يقال عنها إنها قبيحة، وفي نفس الوقت جميلة. ونسي الفتى تماما ما كان قد اكتشفه داخل ذاته من قبح.
الأوهام التي تخلط الفن بالفنان، الأوهام التي تجعل فتيات المجتمع المتساهلات يتجهن بأعينهن إلى الفنان، تلك الأوهام قد أمسكت بالفتى ذاته. لم يكن لديه اهتمام بدراسة وجوده الذاتي وتحليله، ولكنه كان دائما ما يحلم بذاته تلك. كان هو ذاته ينتمي إلى عالم الخيال الوهمي، ذلك الذي تتحول فيه الفتاة العارية إلى زهور صناعية. الإنسان الذي يصنع الأشياء الجميلة من المستحيل أن يكون قبيحا، هكذا كان الفتى يفكر بعناد، ولكن للأسف لم يصل عقله حتى النهاية إلى القضية الأكثر أهمية وراء ذلك. ألا وهي قضية: هل هناك ضرورة أن الإنسان الجميل يصنع أشياء أكثر جمالا؟ «ضرورة؟!» لو سمع الفتى هذه الكلمة؛ لضحك بلا أدنى شك. والسبب أن شعره لا يولد تلبية لضرورة؛ فكل أشعاره، تولد بشكل طبيعي، حتى لو رفضها الفتى ذاته. يحرك الشعر يد الفتى، ويجعله يكتب الحروف على الورق. إذا قلنا ضرورة؛ فهذا يعني أنه لا بد من وجود نقص ما، ولكن هذا النقص غير موجود. مهما أطال التفكير؛ فالنقص غير موجود؛ فأولا منبع أشعاره كلها يمكن تعويلها على الكلمة السهلة المفيدة التي تسمى عبقرية، ومن جهة أخرى فهو غير قادر على الإيمان بوجود نقص ما عميق داخله لا يستطيع هو الوعي به، وحتى لو آمن بذلك؛ فهو بدلا من التعبير عنه بكلمة نقص، كان الفتى يحب أن يسميه عبقرية.
ورغم ذلك، فلم تكن قدرة الفتى على النقد الذاتي لشعره منعدمة تماما. مثلا القصيدة ذات الأربعة أسطر التي أغرقها زملاؤه الأقدم منه مدحا، كان يرى هو أنها طائشة ويخجل منها. كانت القصيدة عبارة عن شعر يتكلم في مجمله عن قدرة عينيها الصافيتين على اختزان الكثير من الحب داخلها؛ بسبب تلك الدرجة العالية من الشفافية والزرقة مثل قطعة من الزجاج.
يسعد الفتى بمديح الآخرين له بالطبع، ولكن كان غرور الفتى ينقذه من مصير الغرق في بحر المديح. وفي الحقيقة كان الفتى لا يحمل أي تأثر أو اهتمام حتى بمواهب صديقه «ر». كان «ر» بالتأكيد ذا موهبة بارزة متميزة بين أعضاء نادي الأدب الأقدم منه، ولكنها لم تكن تصنع ثقلا في قلب الفتى بكلمات أو عبارات متفردة. كانت في قلب الفتى مناطق بالغة البرودة، وإذا لم يقم «ر» بالإسهاب في مديح مواهب الفتى الشعرية باستخدام الكثير من الكلمات، لما كان الفتى على الأرجح ليعترف بموهبة «ر».
وبديلا عن تذوق السعادة الهادئة التي تأتيه من وقت لآخر، كان الفتى يعلم جيدا أنه تنقصه العاطفة الخام التي تلائم فتى في مثل سنه. في مباريات كرة المضرب التي تقام بين المدارس التابعة لجامعة «غاكوشوين» مرتين من كل عام في الربيع ثم الخريف، عندما ينهزم فريق مدرسة «غاكوشوين» الإعدادية أمام المدرسة الإعدادية التابعة. بعد نهاية المباراة يلتف المشجعون من الزملاء الأحدث حول اللاعبين الذين ينهارون في البكاء بشدة، ويبكون معهم، ولكن الفتى لم يكن يبكي، ولم يكن يشعر بأي حزن ولو قليلا.
رأي الفتى هو: «ما هو الأمر المحزن في خسارة مباراة لكرة المضرب؟» الوجوه التي تبكي لسبب كهذا كانت بعيدة جدا عن قلبه، بالتأكيد كان الفتى يعلم أنه مخلوق سهل التأثر والتعاطف، ولكن سهولة التأثر تلك كانت تتجه في اتجاه يختلف عن الآخرين جميعا، ومن ناحية أخرى كان ما يبكي الآخرين لا يتردد صداه في قلب الفتى على الإطلاق.
زادت تدريجيا عناصر الحب فيما يكتبه الفتى من أشعار. ورغم أنه لم يسبق له خوض تجربة الحب؛ ولكنه كان قد سئم من تأليف الشعر معتمدا فقط على تحول كائنات الطبيعة، فبدأت نفسه مع الوقت ترغب في كتابة الشعر عن تحولات القلب. ولم يكن الفتى يشعر بأي حرج في كتابة الشعر عن موضوع لم يسبق له خوض تجربته بنفسه. فلقد كان من البداية متأكدا أن الأدب والفن هو كذلك . ولم يتباك على الإطلاق من عدم خبرته؛ فالحقيقة أنه لم يكن هناك أية بوادر للتصادم أو التوتر بين حقائق العالم الذي لم يخض تجربته بعد، وبين عالمه الداخلي الخاص به. ولم يكن في حاجة إلى ضرورة الإيمان بتفوق عالمه الخاص ولو بالقوة. ومن خلال تأكيد ما غير عقلاني، كان يستطيع حتى الاعتقاد أنه لا يوجد في هذا العالم أية عاطفة لم يسبق له تجربتها شخصيا. والسبب أنه كان يعتقد أنه بالنسبة لقلب حاد العاطفة مثل قلبه، يمكنه من خلال تجميع العناصر الأساسية لجوهر كافة المشاعر والعواطف في هذه الدنيا في الشكل المناسب، حتى لو كان ذلك من خلال توقعها في حالة معينة. فكل التجارب الأخرى من الممكن له التقاطها والتدرب عليها ثم إيجادها. ما هي العناصر الأساسية للمشاعر؟ كان الفتى قد وضع لها تعريفا خاصا، «إنها الكلمات».
لم يكن الفتى قد تمكن بعد من الإمساك بالكلمات أو اتخذ لنفسه طريقة استخدام لها خاصة به وحده حقا. ولكن الكثير من الكلمات التي يكتشفها في المعاجم، كلما كانت كلمات شاملة، وكانت لها معان متعددة ومحتوى متنوع، ظن أنه يملك طريقة استخدام خاصة به وتحمل بصماته. ولكنه لم يكن يعتقد بالضرورة أن طريقة الاستخدام الخاصة به تلك، تحمل صفاتها وألوانها وتتكون لأول مرة من خلال الخبرة والتجربة المعيشية.
إن اللقاء الأول لعالمنا الخاص مع الكلمات، هو تلامس الشيء الفردي مع الشيء الشامل. وكذلك الشيء الشامل يتم صقله، بالتالي يحصل على مكانه لأول مرة كشيء فردي. إن تلك التجارب الداخلية التي يصعب التعبير عنها تراكمت بشكل كاف حتى داخل الفتى ذي الخمسة عشر ربيعا. والسبب أن الفتى عندما يصطدم بكلمة ما جديدة ويشعر بغرابة تجاهها، في ذات الوقت كان ذلك يجعله يحس بتجربة عاطفة ما مجهولة داخله. وكان ذلك مفيدا له أيضا في الاحتفاظ بملامح هادئة لا تتناسب أبدا مع عمره. ولأنه كان قد تعود على التعامل عندما تهجم عليه عاطفة ما، من الدهشة التي تحدثها تلك العاطفة داخل قلبه، يتذكر على الفور إحدى العواطف المناسبة التي تم ذكرها سابقا، ويتذكر الكلمة التي سببت تلك العاطفة. ومن خلال تلك الكلمة يعطي بسهولة تلك العاطفة التي أمامه اسما. ولهذا السبب كان الفتى يعرف أشياء متنوعة مثل: «اليأس» و«اللعنة»، و«فرحة بلوغ الحب»، و«حزن فقد الحب»، و«الألم والمعاناة»، و«الذل وجرح الكرامة».
كان من السهل أن يسمي ذلك قوة الخيال. ولكن الفتى كان مترددا إزاء تلك التسمية. فلو قلنا قوة الخيال، فيجب أن يتضمن ذلك تخيل آلام الآخرين. وحدوث انتقال عاطفي يجعله هو نفسه يتألم مثلهم. ولكن برود الفتى الطاغي لم يجعله يشعر مطلقا بآلام الآخرين. كان فقط يهمس: «ذلك الألم رهيب، أنا أعرف ذلك جيدا.»
كان ذلك في وقت ما بعد الظهيرة في يوم صحو من شهر مايو. انتهى الدرس وفكر الفتى أن يذهب إلى غرفة نادي الأدب؛ ليتناقش مع من يجده هناك قبل أن يعود إلى منزله، وخطا خطوات فعلا في اتجاه الغرفة. عندها قابل «ر» في منتصف الطريق.
قال «ر»: «كنت أبحث عنك. دعنا نتبادل الحديث قبل أن نعود لمنازلنا.»
دخل الاثنان مبنى المدرسة القديم الشبيه بالثكنات، وفصوله مقسمة بحوائط من خشب الأبلكاش. توجد غرفة نادي الأدب في أحد أركان الطابق الأرضي المظلم. يسمع من غرفة نادي الرياضة أصوات ضوضاء وضحكات عالية. ونشيد المدرسة يسمع من غرفة نادي الموسيقى صدى لصوت البيانو على فترات متباعدة.
أدخل «ر» المفتاح في ثقب الباب الخشبي المتسخ. ولكي يفتح الباب كان يجب دفعه بقوة بالجسم بعد إدارة المفتاح.
كانت الغرفة خالية لا يوجد بها أحد. فاحت رائحة التراب المألوفة. دخل «ر» أولا، وفتح النافذة ونفض الغبار الذي التصق بيده، ثم بعد ذلك جلس على مقعد قديم على وشك الانكسار.
بعد أن هدأ قليلا بدأ الفتى التحدث على الفور: «لقد رأيت ليلة أمس حلما ملونا. لقد كنت أنوي أن أكتب لك رسالة بعد عودتي للمنزل اليوم. (كان الفتى يؤمن أن رؤية الأحلام الملونة ميزة خاصة ينفرد بها الشعراء فقط، وكانت تلك من مهاراته). كان مكانا يشبه ربوة عالية أرضها حمراء. كانت شمس الغروب تشع بلون فاقع الاحمرار، ولكن رغم ذلك كان لون الأرض الأحمر بارزا. ثم بعد ذلك ظهر من ناحية اليمين، شخص يجر سلسلة طويلة، ومقيد في نهاية السلسلة طاووسا أكبر خمس مرات تقريبا من حجم الإنسان. ويسير الطاووس مسحوبا ببطء شديد طاويا جناحيه أمام عينيه. كان لون الطاووس أخضر زاهيا. كان في غاية الجمال، جسمه كله أخضر، واللون الأخضر يتألق لامعا. ولقد ظللت أتأمل ذلك الطاووس إلى أن تم سحبه والابتعاد به. كان حلما مهولا! أحلامي ذات الألوان دائما ما تكون ألوانها زاهية وواضحة ربما بشكل زائد عن الحد. ماذا يعني يا ترى ظهور الطاووس في الحلم طبقا لتفسير فرويد للأحلام؟» - «آه.»
رد «ر» ردا مبهما بلا مبالاة واضحة.
كان «ر» مختلفا عما هو عليه دائما. شحوب وجهه كان كما هو عليه دائما، ولكنه لم يظهر الحالة التي يرد بها دائما على كلمات الفتى بحماس لا يتغير ويتحدث إليه بصوت تملؤه حرارة هادئة. كان من الواضح أنه يستمع إلى حديث الفتى الفردي بلا وعي ولا انتباه. لا بل هو لم يكن يستمع له أصلا.
كان قشر الرأس ينتشر قليلا حول الياقة الطويلة للزي المدرسي. أشعة الظلام جعلت شارة الياقة الذهبية التي على شكل زهرة الكرز تلمع، وبرزت الأنف عالية لتبدو أطول من أنوف الآخرين. تلك الأنف التي وإن كانت أكبر قليلا عن اللازم؛ إلا أنها ذات شكل جميل وراق، كما أنها تبرز ملامح قلقة محتارة إلى حد كبير. وقد جاء للفتى إحساس أن المعاناة تتبلور في ذلك المكان.
يوجد فوق المكتب العديد من الأشياء التي علاها التراب، مثل مسودات قديمة، ومسطرة، وقلم رصاص قصف سنه، ومجلد تجميع أعداد مجلة لجنة أصدقاء المدرسة، وورق كتابة مربعات به بعض الكلمات. كان الفتى يحب هذا الجو الأدبي الفوضوي. مد «ر» يده متثاقلا، وتناول المسودات القديمة وكأنه يحاول ترتيب الفوضى. وعندها صبغت أنامل يده الرقيقة البيضاء، بتراب ذي لون فيراني، ضحك الفتى بصوت خفيض. ولكن «ر» لم يضحك بل عبر عن استيائه بقرقعة من لسانه. وقال، وهو ينفض يده من التراب: «في الواقع هناك ما أريد قوله لك اليوم.» - «وما هو؟» - «في الواقع ... أنا ...»
بعد أن تباطأ «ر» في القول واصل في عجلة: «أعاني بشدة؛ لقد قابلت موقفا شديد الصعوبة.» - «هل وقعت في الحب؟»
سأله الفتى ذلك السؤال بهدوء تام. - «نعم».
بعد ذلك تحدث «ر» عما يلاقيه في مسيرة حياته حاليا. كان يتبادل الحب مع زوجة شابة، وقد فطن أبوه إلى ذلك الأمر؛ ففرق بينهما.
فتح الفتى عينيه على وسعهما، وظل يتأمل «ر» غير مصدق. - «يوجد أمامي هنا إنسان يعاني من الحب. إنني الآن ولأول مرة أرى ما يسمى «الحب».» ولكن على أي حال لم يكن ذلك المشهد جميلا بالمرة، بل ربما يكون هو أقرب إلى القبح. كان «ر» قد فقد حيوية روحه المعتادة فيه، ومالت ملامحه إلى البؤس، بمعنى أنه كان متعكر المزاج. لقد سبق للفتى أن رأى مثل ذلك الوجه لأناس فقدوا أشياء لهم، أو تأخروا عن موعد القطار فرحل بدونهم.
ومع ذلك، فقد دغدغ غرور الفتى أن يبوح له زميله الأقدم سنا بقصة غرامه. وكان بالطبع سعيدا بذلك. وحاول الفتى بكل جهده أن يظهر مشاعر التعاطف والحزن. ولكنه في الواقع كان يحس بالضيق والتذمر من الصورة المتواضعة للغاية للإنسان الواقع في الحب.
أخيرا لاحت للفتى كلمات يواسي بها «ر». - «إنه أمر مهول. ولكن من المؤكد أن ذلك سيجعلك تكتب شعرا رائعا.»
رد «ر» عليه وهو خائر القوى منهك العزيمة: «الأمر أخطر بكثير، ولا مجال للشعر فيه.» - «ولكن، أليس وظيفة الشعر إنقاذ الإنسان في وقت كهذا؟»
برزت إلى مخيلة الفتى قليلا حالة السعادة التي يكون هو عليها عند كتابة الشعر. إذا استعار تلك السعادة؛ فهو يعتقد أنه يستطيع التغلب على أية حالة من التعاسة أو المعاناة مهما كانت. - «ليس الأمر بهذا الشكل، أنت ما زلت صغيرا على فهم ذلك.»
جرحت هذه الكلمة كبرياء الفتى، وتحول قلبه إلى البرود، وبدأ يخطط للانتقام. - «ولكن إذا كنت شاعرا حقا، إذا كنت عبقريا حقا، ألا يكون الشعر هو المنقذ لك في هذه الحالة؟»
رد «ر»: «لقد كتب غوته رواية «آلام فرتر»؛ فأنقذته من الانتحار. أليس كذلك؟ ولكن حدث ذلك؛ لأن غوته كان يشعر من أعماق قلبه أنه لا الشعر ولا أي شيء آخر يمكن أن ينقذه. وليس أمامه سبيل آخر إلا الانتحار؛ لذا استطاع أن يكتب ذلك الشعر.» - «إذا كان الأمر كذلك، فلماذا إذن لم ينتحر غوته إذا كانت كتابة الشعر والانتحار سيين؟ لماذا لم يختر الانتحار؟ هل عدم انتحاره يعني أن غوته كان جبانا؟ أم أن ذلك يعني أنه كان عبقريا؟» - «لأنه كان عبقريا.» - «إذا كان الأمر كذلك ...»
حاول الفتى أن يضغط على «ر» بسؤال آخر، ولكنه نفسه أصبح غير قادر على الفهم. لقد برزت فكرة ضبابية في ذهن الفتى وإن لم تكن واضحة تمام الوضوح، وهي أن نرجسية غوته هي التي أنقذته في النهاية. ولقد أحس الفتى برغبة قوية في الدفاع عن نفسه بهذه الفكرة. فلقد جرحت قلبه جرحا عميقا كلمة «ر»، عندما قال له: «أنت ما زلت صغيرا على فهم ذلك.» في هذا العمر تكون عقدة النقص تجاه الندية العمرية حادة للغاية، لم يقلها بفمه ولكن تولدت لدى الفتى نظرية رائعة هي الأكثر مناسبة للسخرية من «ر». «هذا الشخص ليس عبقريا. أجل ليس عبقريا؛ فهو يقع في براثن الحب!»
كان حب «ر» حبا حقيقيا بالتأكيد. حب لا يجب على العبقري الوقوع فيه أبدا. أخذ «ر» يحاول الاستدلال على معاناته بإعطاء أمثلة للتأكيد عليها من قصص حب عديدة ومتنوعة، مثل: حب الأميرة فوجيتسوبو والأمير غنجي، وحب بيلياس وميليساند، وحب تريستان وإيزولت، وحب الأميرة كليڤ ودوق نيمورس وغيرهم.
تعجب الفتى وهو يسمع اعتراف «ر» أنه ليس هناك أي عنصر مجهول له؛ فقد كتب كل شيء، وتوقع كل شيء، وتدرب على كل شيء. لقد ذهب «ر» للواقع بقدميه من أجل أن يرى حلما أكبر. وهذا ما لم يفهمه الفتى، ولم يفهم لماذا تتولد الرغبة لدى العبقري؛ لكي يفعل الشيء العادي؟
أثناء حديث «ر » بدا أن قلبه قد انفكت عقدته. فبدأ هذه المرة يتكلم بإسهاب، ويحكي له عن جمال محبوبته. على ما يبدو أنها ذات جمال رائع، ولكن لم يستطع الفتى تخيل شكلها إطلاقا. قال له «ر» إنه سيحضر له في المرة القادمة صورتها ويريه إياها. ثم بعد ذلك أنهى «ر» كلامه نهاية مؤثرة وهو يبدي خجلا قليلا: «كانت تقول لي إن جبهتي جميلة.»
نظر الفتى إلى جبهة «ر» التي ظهرت بعد أن رفع عنها مقدمة شعره. لمع سطح بشرة الجبهة الضخمة قليلا؛ بسبب الأشعة الضئيلة المتسربة من الخارج، ورسمت بشكل واضح قرنين كبيرين غير مرئيين. قال الفتى في نفسه: «يا لها من جبهة ضخمة!» ولكنه لم يشعر بأنها جميلة على الإطلاق «أنا أيضا ذو جبهة كبيرة، ولكن هذا يختلف عن وصفها بالجمال.»
وقتها استيقظت عيون الفتى على شيء مهم. ألا وهو الشوائب المضحكة التي تدخل بالضرورة في الوعي أثناء الحياة أو عند الحب. لقد رأى تلك الشوائب المضحكة التي ما كان يستطيع العيش بدونها وسط الحياة والحب. إنها الظن الخاطئ بجمال الجبهة الضخمة.
ربما كان الفتى كذلك يحمل داخله اعتقادا ما خاطئا شبيها بذلك، وإن كان في شكل أكثر معنويا وفكريا، وربما يواصل حياته مع هذا الاعتقاد «ربما أنا الآن على قيد الحياة.» هذه الفكرة كان بها ما يجعله يرتعد رعبا. - «في ماذا تفكر؟»
سأله «ر» بلطف كما هي عادته دائما.
عض الفتى شفته السفلى، ثم ضحك.
كانت الشمس في خارج الغرفة على وشك الغروب تدريجيا. ولحظيا يسمع أصوات فريق «كرة المضرب» المتحمسين أثناء التدريب. ثم يتردد صدى صوت ممتع وجاف للمضرب الذي ضرب الكرة لتطير عالية في السماء. - «ربما سأتوقف في وقت ما عن كتابة الشعر.» لأول مرة منذ ولادته يفكر الفتى على هذا النحو. ولكنه في نفس الوقت كان لا يزال على مسافة بعيدة من أن ينتبه إلى أنه لم يكن شاعرا من الأصل.
البحر والغروب
هذا ما حدث في أواخر صيف العام التاسع من عصر «بون إيه». ولأنه ستوجد ضرورة فيما بعد، أضيف على ذلك أن العام التاسع من عصر «بون إيه» هذا يوافق عام 1272م.
يصعد خادم معبد عجوز، ومعه فتى صغير، جبل «شوجوغاتاكه» القابع خلف معبد «كينتشوجي» بمدينة كاماكورا. خادم المعبد هذا كان يحب بعد أن ينتهي من التنظيف في حرارة شمس الصيف، الصعود إلى جبل «شوجوغاتاكه» قبل وقت الغروب في الأيام التي يتوقع أن يكون شفق الغروب جميلا.
أما الفتى فهو أحد أطفال القرية الذين يأتون للمعبد من أجل اللعب، ولكن لما كان أصم وأبكم، فقد كان باقي الأطفال لا يشركونه معهم في لعبهم، ممن جعل خادم المعبد يعطف عليه ويصحبه معه إلى قمة جبل «شوجوغاتاكه».
خادم المعبد يسمى «أنري». قامته ليست بذلك الطول، ولكنه يحمل عينين زرقاوين كاملتي الصفاء. وله أنف سامقة، ومحجرا عينين عميقتين. ومن أول نظرة تعرف أن ملامحه تختلف عن الآخرين. ومن هنا كان أطفال القرية يدعونه سرا من وراء ظهره باسم «تنغو»،
1
وليس باسمه «أنري».
لا يوجد بلغته اليابانية التي يتحدث بها ما يدل على أنه أجنبي، وليس له تلك اللكنة التي يعرف منها أنه من دولة أخرى. لقد مر بضع وعشرون عاما على مجيء أنري مع راهب البوذية العظيم «دايكاكو زينجي» مؤسس هذا المعبد.
كانت أشعة شمس الصيف قد مالت قليلا، مما جعل المساحة المحيطة بقاعة المراسم قد أحاط بها الظل بالفعل، بعد أن حجب الجبل عنها الشمس. يرتفع مدخل الجبل سامقا، وكأنه بالفعل الحد الفاصل بين الظل والشمس. إنه الوقت الذي تتزايد فيه تدريجيا ظلال الأشجار الكثيرة الموجودة في حرم المعبد بأكمله.
ولكن على الجانب الغربي من جبل «شوجوغاتاكه» الذي يصعده أنري والفتى، ما زالت أشعة الشمس تسطع فوقه بقوة لا تلين. أصوات حشرات الزيز المنتشرة في جميع أركان الجبل مزعجة للغاية. وعلى جانبي الطريق الجبلية الممتلئة بالحشائش، تفتحت عدة زهرات من زهور الزنبق الحمراء مبكرة عن فصل الخريف.
عندما وصل الاثنان إلى القمة، لم يمسحا العرق، بل تركا نسمات الهواء الجبلية الضئيلة تجفف بشرتيهما.
من مكانهما يمكن رؤية أبراج معبد كينتشوجي المتعددة؛ برج «سايراي إن»، وبرج «دوكيه إن»، وبرج «ميوكو إن»، وبرج «هوشو إن» وبرج «تنغين إن»، وبرج «ريوهو إن». يمكن من قمة الجبل رؤية شجرة العرعر اليانعة، التي أحضر بذورها الراهب العظيم «دايكاكو زينجي» معه من موطنه «سونغ» في الصين، وقد استأثرت أوراقها بأشعة شمس الصيف بجانب مدخل الجبل.
كذلك في بطن جبل «شوجوغاتاكه» يبدو سقف مبنى «أوكونو إن» للمعبد أسفله مباشرة. ثم أسفل المبنى مباشرة يقف برج الناقوس شامخا. وأسفل كهف التأمل وصلاة الزن الذي استخدمه الراهب العظيم، توجد غابة أشجار الكرز التي تكون بحرا من زهور الكرز في موسم الإزهار، تصنع أوراقها ظلالا غنية وفيرة. وفي سفح الجبل توجد بحيرة «دايكاكو» التي تعلن عن وجودها بواسطة انعكاس خافت لسطح مائها من بين الأشجار.
ولكن ليست تلك المناظر هي التي يأتي أنري ليراها،
بل ما يريد رؤيته هو البحر المتألق بعيدا الذي يصنع خطا أفقيا متعرجا مع منحنيات الجبال والوديان في كاماكورا. في فصل الصيف، يمكن من هذا المكان رؤية الشمس وهي تغرب في البحر، حول منطقة رأس «إيناموراغاساكي».
تتشابك السحب المتراصة بانخفاض عند خط الأفق ذي اللون الأزرق الغامق، حيث يلتقي البحر مع السماء. السحب لا تتحرك، ولكنها في الواقع تتفكك في هدوء بالغ يشبه تساقط أوراق زهرة الدباء، فيتغير شكلها ببطء تدريجيا. وفوق ذلك المنظر، توجد السماء زرقاء تماما بلا أية غيوم وقد بهت لونها قليلا. وما زال الوقت مبكرا على أن تتلون السحب، ولكن من خلال الضوء الداخلي، تشوبها ظلال خفيفة بلون المشمش.
إن منظر السماء يعبر بصدق عن تصارع الصيف مع الخريف؛ وذلك لأنه تنتشر بعرض السماء العالية عند الأفق البحري غيوم شبيهة بأسراب سمك السردين. تصطف غيوم السردين فوق الوديان الكثيرة في كاماكورا، باسطة بقعا من السحب اللدنة الدقيقة.
قال «أنري» بصوته الأجش العجوز: «أواه! السحب تبدو وكأنها قطعان من الأغنام!»
ولكن الفتى الأصم الأبكم، جلس فوق صخرة بجواره، وظل ناظرا لأعلى ناحية وجه خادم المعبد، ليبدو الأمر ، وكأن خادم المعبد يحدث نفسه .
فالفتى لا يسمع شيئا على الإطلاق ولا يعي عقله أي شيء. ولكن بدت الحكمة في عينيه الصافيتين، مما جعل أنري يعتقد أنه قادر على نقل ما يريد قوله من خلال عينه إلى تلك العيون الصافية مباشرة، وليس عن طريق الكلمات.
ولهذا السبب تكلم أنري وكأنه يتوجه بحديثه إلى الفتى. الحديث لم يكن باللغة اليابانية التي يجيدها أنري ويتحدث بها في العادة بطلاقة، بل هو حديث باللغة الفرنسية المختلطة بلهجة أهل بلدته في جبال وسط فرنسا. ولو صادف وسمع باقي أطفال القرية تلك اللغة، لكان لها عندهم سمع لا يتناسب مع لغة «تنغو»، تلك اللغة الأم، ذات الحروف المتحركة الكثيرة، التي كأنها تخرج سلسة متدفقة من فمه.
مرة أخرى قال أنري وهو يخلط ذلك بالتنهدات: «يا للعجب، وكأنها قطعان من الأغنام! يا ترى كيف حال أولئك الأغنام الصغيرة الوديعة في سيڤين؟ لا بد أنها ولدت صغارا، ثم صار لها أحفاد وأولاد أحفاد، ثم في النهاية آل مصيرها إلى الموت.»
جلس أنري على إحدى الصخور، وقد جاءت جلسته بحيث لا تحجز أعشاب الصيف عنه منظر البحر البعيد.
حشرات الزيز تصيح بصخب، وكأنها كامنة في كل أرجاء الجبل.
وجه أنري حديثه إلى الفتى؛ إلى عينيه الصافيتين: «أنت لن تفهم ما سأقوله بالتأكيد. ولكن حتما أنت الوحيد من بين سكان هذه القرية الذي سيصدق ما سأقول. حسنا، سأبدأ الحديث. ربما تكون القصة غير قابلة للتصديق، حتى بالنسبة لك أنت، ولكن اسمع مني. فلا يوجد أحد غيرك من الممكن أن يأخذ كلامي هذا على محمل الجد.»
تحدث أنري بلجلجة في الكلام. وعندما تنحسر الكلمات في فمه، يقوم بهز جسده برعشة غير مألوفة عليه، ويبدو وكأنه يحاول إيقاظ الكلمات واستدعاءها بتلك الرعشة. «في غابر الزمان، عندما كنت في مثل عمرك تقريبا، لا بل كنت في عمر أصغر من عمرك بكثير، كنت راعيا للغنم في سيڤين. سيڤين تلك هي منطقة جبلية رائعة الجمال في وسط فرنسا، تحت سفح جبال بيلا، وكانت الأراضي ملكا للدوق تولوز. ربما لا تفهم ما أقول ؛ فلا أحد هنا يعرف اسم موطني الأصلي.
كان الوقت هو عام 1212م عندما سلبت منا الأراضي المقدسة للمرة الثانية، بعد أن كانت الحملة الصليبية الخامسة قد نجحت في استعادتها لمرة. وقتها سقط الفرنسيون صرعى للحزن والأسى، وارتدت النساء ملابس الحداد مرة أخرى.
كان وقت الغروب في أحد الأيام، عندما كنت ألاحق قطعان الأغنام لإعادتها من المرعى، وأنا على وشك الصعود إلى إحدى الهضاب. كانت السماء مصبوغة بلون عجيب. الكلب الذي كنت أصطحبه معي، نبح بصوت خفيض، وقد أخفى ذيله، وهو يحاول الاختباء خلف ظلي.
رأيت المسيح ينزل من فوق الهضبة مقتربا مني، وهو يرتدي ملابس بيضاء تتلألأ. كانت له لحية شبيهة تماما لما شاهدته كثيرا في اللوحات التي تصوره، ويبتسم ابتسامة تملؤها الرحمة الواسعة. سجدت أمامه على الأرض. مد «السيد» يده إلي، ومسح على رأسي بشكل مؤكد وقال: «أنت يا أنري من سيستعيد أورشليم المقدسة. أنتم أيها الفتيان من سيعيد لنا أورشليم من أولئك الأتراك
2
الأغيار. قم بتجميع الكثير من الرفاق واذهبوا إلى مرسيليا. عندها سينفلق البحر المتوسط إلى نصفين، ويقودكم ذلك إلى الأرض المقدسة.»
لقد سمعته يقول ذلك بشكل مؤكد. ثم بعد ذلك فقدت الوعي، لعق الكلب وجهي بلسانه وأيقظني. وعندما انتبهت وجدتني في وقت الغسق، ورأيت الكلب يحملق في وجهي من قريب، وهو يبدو عليه القلق. كان جسدي كله مبللا بالعرق.
عندما عدت لم أخبر أحدا بما حدث؛ لأنني توقعت ألا يصدقني أحد.
بعد أربعة أيام أو خمسة أمطرت السماء. كنت وحيدا في كوخ الحراسة. كان الوقت هو وقت الغسق مثل ما كان من قبل، وعندها سمعت من يطرق على الباب، وعندما خرجت وجدت عابر سبيل غريبا يطرق الباب. طلب مني خبزا. تأملت وجه ذلك العجوز بتمعن، له أنف سامقة، وتقاطيع وجه مهيبة تحيط بها لحية بيضاء، وعيناه بصفة خاصة عميقتان وصافيتان لحد مرعب. طلبت منه الدخول قائلا إن المطر شديد، لكنه لم يجب. وعندما نظرت إليه وجدت أن ملابسه ليس بها أي بلل، رغم أنه قد أتى سيرا على الأقدام تحت المطر.
انتابني الرعب فظللت صامتا. شكرني العجوز على الخبز، ثم هم بالرحيل. ولكنه عند رحيله اقترب مني، وبشكل مؤكد سمعته يقول في أذني ما يلي: «هل نسيت ما أخبرت به منذ فترة؟ لماذا أنت متردد؟ إن الرب قد اصطفاك أيها الفتى.»
حاولت اللحاق بالعجوز.
ولكن كان الظلام يسيطر على المكان، والمطر يهطل بشدة، وقد اختفى العجوز. وقتها سمعت وسط المطر ثغاء الخراف، وهي تلتصق ببعضها من القلق.
في تلك الليلة لم أستطع النوم.
وفي اليوم التالي، عندما خرجت إلى الرعي، أخيرا تحدثت إلى أقرب أصدقائي الرعاة من نفس عمري. ذلك الفتى عميق الإيمان، عندما سمع حكايتي، ارتجف جسده بشدة، وجثا بركبتيه على الأرض فوق زهرات النفل وتضرع لي.
وفي أقل من عشرة أيام تجمع حولي رعاة الغنم من المناطق المحيطة. لم أكن أبدا من الفتيان المتكبرين، ولكن جميعهم أصبحوا أتباعا لي من تلقاء أنفسهم.
وخلال ذلك انتشرت شائعة في مكان ليس ببعيد عن قريتي عن ظهور نبي في الثامنة من عمره. وتقول: إن النبي الصغير يقوم بالوعظ وله معجزات. وشائعة تقول إنه أعاد الرؤية لفتاة صغيرة عمياء بعد أن لمس عينيها بيده.
توجهت أنا وأتباعي إلى ذلك المكان. كان ذلك النبي مختلطا مع باقي الأطفال يلعبون مصدرين أصواتا ضاحكة تعبر عن الدهشة والاستغراب. جثوت على ركبتي أمام ذلك الطفل، وحكيت له بالتفصيل محتوى الوحي.
كان الطفل في بياض الحليب، وشعره المجعد ذهبي اللون يتدلى على جبهته التي تشف عن عروق الدم الزرقاء. عندما جثوت أمامه توقف عن الضحك، ورجفت أطراف شفتيه الصغيرتين مرتين أو ثلاثا. ولكنه لم يكن ينظر إلي أنا، بل كان يرنو بنظره هائما إلى المراعي المتموجة في الأفق البعيد.
وعندها نظرت أنا أيضا في نفس الاتجاه. هناك كانت أشجار الزيتون عالية الارتفاع تقف شامخة، أطرافها تصفي أشعة الشمس؛ فتبدو الأفرع والأوراق وكأنها مضاءة من الداخل. هبت رياح، فلمس الطفل كتفي بهيبة وجلال، وأشار إلى تلك الجهة. وعندها رأيت بوضوح حشدا كبيرا من الملائكة يحركون أجنحتهم ذات اللون الذهبي اللامع في أعالي الأشجار.
قال الطفل بصوت مهيب، وكأنه شخص آخر مختلف تماما عن الطفل السابق: «اذهب إلى الشرق، توجه نحو أقصى الشرق. ولفعل ذلك يفضل الذهاب إلى مارسيليا كما أنبأك الوحي.»
بهذا الشكل انتشرت الشائعة أكثر وأكثر. وتباعا حدث نفس الأمر في كل أنحاء فرنسا. في أحد الأيام حمل أبناء فرسان الجيش الصليبي تركة آبائهم من سيوف ورماح، وغادروا منزلهم. وكذلك في مكان آخر طفل كان يلعب بجوار نافورة المياه في حديقة منزله. فجأة ترك ألعابه، وغادر لا يحمل شيئا إلا قليلا من الخبز أخذه من الخادمة. وعندما لحقت به الأم وعنفته، لم يسمع لها قائلا: سأذهب إلى مارسيليا. وفي ساحة إحدى القرى، قبل انقضاء ظلام الليل، تجمع الأطفال الذين تركوا فراش النوم وخرجوا، وهم ينشدون الأناشيد المقدسة، وغادروا مسافرين لا يعلمون وجهتهم.
وعندما استيقظ الكبار، لم يجدوا في القرية أطفالا يمكن أن يطلق عليهم أطفالا، إلا الرضع الذين لم يتعلموا المشي بعد.
وأخيرا تجمع لدي عدد كبير من الرفاق. وعندما بدأت الاستعداد لاصطحابهم في رحلة إلى مارسيليا، جاء أبواي ليأخذاني، وبكيا وأنباني لتهوري وطيشي. ولكن أتباعي كانوا كثيري العدد؛ فقاموا بطرد ذينك الأبوين ناقصي الإيمان وإبعادهما. كان عدد من رحل معي لا يقل بحال عن المائة. ولقد اشترك في حملتي الصليبية تلك عدة آلاف من الأطفال من أنحاء متفرقة في فرنسا وألمانيا.
لم تكن الرحلة هينة؛ فلم يكن مر أقل من نصف يوم حتى سقط الأطفال الأصغر سنا والأضعف بنية تباعا. قمنا بدفن جثثهم ونحن نبكي، ووضعنا فوقهم صلبانا خشبية صغيرة.
ودخلت فرقة أخرى غيرنا، حوالي مائة طفل. منطقة ينتشر بها وباء الطاعون الأسود دون أن يعرفوا ذلك. وسمعت أنهم أبيدوا عن آخرهم دون أن ينجو منهم أحد. حتى في فرقتنا ماتت فتاة بعد أن ألقت بنفسها من فوق منحدر جبلي؛ بسبب الاضطراب النفسي الذي أصابها من التعب والإرهاق.
ولكن الأمر العجيب أن كل من مات من الأطفال كان يموت، وهو يرى شبح الأرض المقدسة. ولكن على الأرجح ليست الأرض المقدسة القاحلة تلك الأيام، ولكن شبحها وهي مزارع خصبة وغنية يكثر فيها العسل، وتنتشر فيها زهور الزنبق المتفتحة. وكان السبب في أننا عرفنا ذلك، هو أن الموتى كانوا يحكون عند احتضارهم ما يرونه من أوهام. وحتى لو لم يحكوا، فقد بدت أعينهم في نشوة، وكأنها تواجه أنوارا هائلة ساطعة.
حسنا، لقد وصلنا إلى مارسيليا.
وهناك كان ينتظرنا بالفعل عشرات الفتيان والفتيات. وكانوا يؤمنون أنه بوصولنا سينشطر البحر إلى نصفين يمينا ويسارا. كان عددنا، نحن الذين وصلنا إلى مارسيليا، قد تقلص بالفعل إلى الثلث.
ذهبت إلى الميناء يحيط بي هؤلاء الأطفال بخدودهم المتألقة. وفي الميناء كانت تصطف الصواري العالية بعدد كبير، وكان البحارة ينظرون إلينا نظرتهم إلى شيء نادر الوجود. أديت صلاتي متوجها إلى ضفة الميناء. كان سطح البحر وهاجا بسبب سقوط أشعة الغروب عليه. ظللت لفترة طويلة أصلي. ولكن البحر ظل كما هو عليه من حال، تملؤه المياه، وأمواجه المتدفقة ترمي بنفسها إلى الشاطئ بلا أية مبالاة بنا.
ولكننا لم نيأس؛ فمن المؤكد أن «السيد المسيح» كان ينتظر وصول كل الجموع هنا.
الأطفال يصلون تباعا. الجميع في إرهاق بالغ، بل إن البعض منهم أصابه المرض العضال. انتظرنا عدة أيام بلا طائل، وفي النهاية لم ينشطر البحر.
عندها اقترب رجل يبدو عليه الإيمان الشديد، وعرض علينا الصدقات. وعلاوة على ذلك قال بشيء من الحياء إنه يريد أن ينال مجد اصطحابنا على سفينته الخاصة به، والذهاب بنا إلى أورشليم. نصفنا تردد في ركوب السفينة، ولكن النصف الآخر، وأنا منهم، تشجع وركب السفينة.
لم تتجه السفينة إلى الأرض المقدسة، ولكنها اتجهت جنوبا، ثم وصلت إلى الإسكندرية في مصر. وهناك تم بيعنا جميعا في سوق العبيد.»
صمت أنري لفترة. كان وكأنه يستعيد ذكريات ذلك الأسى والخزي.
في السماء كان قد بدأ بالفعل الشفق الرائع في أواخر الصيف، سحب السردين تحولت تماما إلى اللون الأحمر، وكانت هناك سحب كأنها طائرات ورقية حمراء وصفراء طويلة قد امتدت بالعرض. أما البحر ؛ فكان مثل الموقد الذي يزيد السماء اشتعالا. بل وحتى الأشجار والأعشاب المحيطة بالمكان قد عكست لهيب السماء. صار لونها الأخضر أكثر بهرجة وتألقا.
كلمات أنري كانت موجهة بالفعل نحو شفق الغروب مباشرة، وكأنه يخاطب بحديثه الشفق. ويرى في عينيه البحر المتوهج، ومعه مناظر من بلده ووجوه أهاليها. بل ويرى كذلك منظره وهو فتى صغير. ويرى أصدقاؤه من رعاة الغنم. في يوم حار من أيام الصيف، قد خلعوا قمصانهم المتواضعة كاشفين عن أحد الأكتاف؛ فظهرت حلمات أثدائهم الوردية وسط صدورهم البيضاء اللون. وجوه فتيان الجيش الصليبي السري الذين ماتوا أو قتلوا، برزت متجمعة على سطح البحر الذي يعكس شفق الغروب. نعم كانوا بدون خوذات حربية، ولكن شعورهم الذهبية والبنية بدت مع انعكاس الشفق، وكأنها خوذات من لهب ارتدوها فوق رءوسهم.
الفتيان الذين تبقوا على قيد الحياة تفرقوا في أنحاء الأرض الأربعة. وخلال مسيرته الطويلة في الرق، لم يلتق أنري ولو مرة بشخص يعرفه. وحتى أورشليم التي طالما اشتاق إليها، كان من المحال زيارتها.
أصبح أنري عبدا لدى تاجر فارسي، ثم بيع بعد ذلك وأخذ إلى الهند، وهناك سمع عن شائعة غزو باتو خان حفيد جنكيز خان للغرب. وبكى أنري وهو يفكر في الخطر الذي فاجأ وطنه.
وقتها كان الراهب دايكاكو زينجي قد أتى الهند؛ لدراسة البوذية. ومن خلال صدفة حسنة حصل أنري على حريته بواسطة نفوذ الراهب زينجي، وبعدها عقد عزمه على خدمة الراهب زينجي بقية عمره ردا للجميل، وخدمه في موطنه الأصلي. فعندما عبر الراهب البحر إلى اليابان توسل إليه أنري أن يصحبه معه، وهكذا جاء مع الراهب زينجي إلى اليابان.
الآن يسكن قلب أنري السلام والهدوء. فمنذ زمن بعيد كان قد تخلى عن الرغبة العديمة الجدوى بالعودة إلى وطنه، وقد وطن قلبه على أن عظامه ستدفن في تراب اليابان. وهو قد أنصت جيدا إلى وعظ معلمه؛ فأصبح لا يلح في طلب الآخرة بلا طائل، ولا ينجذب إلى بلد لم يرها بعد. ورغم ذلك، فعندما تصطبغ سماء الصيف بشفق الغروب ، ويتألق البحر بالحمرة، تتحرك قدماه تلقائيا، ولا يستطيع منع نفسه من تسلق قمة جبل «شوجوغاتاكه».
ينظر أنري إلى شفق السماء ثم ينظر إلى انعكاسه في البحر. وعندها لا يقدر أنري على كتمان ذكرى إحدى العجائب التي رآها بشكل مؤكد لمرة واحدة فقط في بداية عمره. تلك المعجزة، ذلك الشيء المجهول المؤدي إلى الأمنية الكبيرة، تلك القوة الخارقة التي قادتهم جميعا إلى مارسيليا، غرابة ذلك الأمر، لا يستطيع إلا معاودة التأكد مرة أخرى. ثم في النهاية يفكر في البحر الذي لم ينشطر حتى النهاية، رغم صلاته عند ثغر مارسيليا محاطا بعدد كبير من الأطفال، بل البحر يتلألأ بأشعة شمس الغروب في هدوء، ويرسل أمواجه المتتابعة.
لا يستطيع أنري تذكر متى فقد إيمانه؟ ولكن الأمر الذي يتذكره بغاية الوضوح الآن هو أعجوبة البحر العاكس لأشعة الغروب الذي مهما صلى ودعا لم ينشطر إلى نصفين. تلك الحقيقة التي تفوق وهم المعجزة ذاتها في غرابتها. تلك الدهشة التي اعترت قلب الفتى الذي قابل شبح المسيح بلا اندهاش، عندما واجه وقت الشفق البحر الذي يرفض تماما أن ينشطر.
نظر أنري إلى أفق البحر عند رأس إيناموراغاساكي البعيد، أنري الذي فقد إيمانه، لا يصدق الآن أن هذا البحر يمكن أن ينشطر إلى نصفين أبدا. ولكن تلك الروحانية التي لا يمكن فهمها حتى الآن، والفشل وقتها الذي لم يكن ليتخيله، إنها تخفي سرا داخل البحر المتألق بصبغة شديدة الاحمرار، ذلك البحر الذي لم ينشطر في النهاية.
على الأرجح لو كان للبحر أن ينشطر إلى نصفين مرة واحدة في حياة أنري بأكملها، لكان يجب عليه ألا يفعلها في تلك اللحظة. حتى في مثل تلك اللحظة، حدثت تلك الأعجوبة عندما امتد البحر المتوهج في لهب الغروب صامتا.
ظل راهب المعبد العجوز صامتا بلا حراك. انعكس وهج الغروب على شعره الأبيض الأشعث، وتلألأت في مقلتيه الصافيتين نقطة حمراء.
بدأت شمس أواخر الصيف تغطس في ناحية رأس إيناموراغاساكي، وأصبح البحر وكأنه ينزف تيارا من الدم.
يتذكر أنري الماضي، يتذكر مناظر وطنه وبني وطنه. ولكنه الآن لا توجد لديه رغبة بالعودة. والسبب أن كل تلك الأشياء؛ سيڤين والخرفان، ووطنه كلهم اختفوا داخل البحر المتوهج بلهب الغروب. لقد اختفى كل ذلك في ذات اللحظة التي لم ينشطر فيها البحر إلى نصفين.
ولكن أنري لا يبعد نظره عن منظر البحر في وقت الغروب، وهو يتحول مغيرا لونه مع كل لحظة، ويكتمل احتراقه شيئا فشيئا حتى يصير في النهاية رمادا.
أخيرا اجتاحت الظلال أشجار وحشائش جبل شوجوغاتاكه، مما جعلها على العكس تظهر بجلاء ملامح الأشجار وعروق الأوراق الخارجية. وقد غرق العدد الأكبر من الأبراج في ظلام الغسق.
هجمت الظلال على قدمي أنري، وفي لمح البصر فقدت السماء فوق رأسه لونها، وصارت بلون أزرق غامق يغلب عليه اللون الرمادي. ما زال تألق السماء فوق البحر البعيد باقيا، ولكنه ليس إلا انعكاس خط نحيل منكمش باللونين الذهبي والأحمر على سماء الغسق.
وعندها تردد من بين قدمي أنري القابع في مكانه صدى ناقوس عميق. إنها الدقة الأولى لناقوس البرج في بطن الجبل معلنة قدوم الليل.
أحدث صوت الناقوس موجات رقيقة، كأن تلك الموجات تجعل ظلام الغروب الصاعد من سفح الجبل يهتز وينتشر في الجهات الأربع. اهتزازات ذلك الصوت الفخيمة، لم تكن تبلغ بالوقت فقط، بل كانت كأنها تقوم بإذابة الزمن في التو والحال، ثم تحمله بعيدا في غيابة الأبد.
أغمض أنرى عينيه ليستمع إلى ذلك الصوت. وعندما فتح عينيه، وجد نفسه قد غرق في ظلام ما بعد الغروب، ولم يعد خط الأفق البحري البعيد يرى بوضوح، وصار لونه رماديا باهتا. لقد انتهى شفق الغروب تماما.
وعندما التفت أنري تجاه الفتى ليحثه على التحرك من أجل العودة إلى المعبد، كان الفتى قد شبك ذراعيه حول ركبتيه ووضع رأسه فوقهما، وراح في سبات عميق.
ورق جرائد
زوج توشيكو الشاب مشغول على الدوام. والليلة كذلك رافق زوجته حتى الساعة العاشرة، ثم قاد سيارته بنفسه وتركها ليذهب للقاء التالي. زوجها ممثل أفلام سينمائية ، كان يجب على توشيكو الصبر، وتحمل مثل هذه اللقاءات الليلية التي لا يمكنها مرافقة زوجها فيها.
اعتادت توشيكو استئجار سيارة أجرة والعودة بمفردها إلى منزلهما بحي أوشيغومي هارايكاتا. في المنزل ينتظرها وليدها البالغ من العمر عامين. ولكن رغم ذلك كانت توشيكو تريد البقاء أطول خارج المنزل هذه الليلة.
كانت تكره العودة بمفردها ليلا إلى غرفة المعيشة الغربية الطراز في منزلهما؛ فهي ما زالت تعتقد أن آثار الدماء ما زالت باقية هناك، رغم تنظيفها لها أكثر من مرة جيدا.
كانت قد انتهت في اليوم السابق أخيرا من إعادة ترتيب المنزل بعد الفوضى التي لا يمكن وصفها بالكلمات. ولقد كانت تعتقد أن زوجها سيكون بجوارها في هذه الليلة حتى نهايتها والتي ستستمتع فيها بمزاج مريح بعد غياب، وقد زال عنها الكرب. ولكن للأسف زوجها جاءته دعوة من منتج أفلامه؛ ليلعبا سويا لعبة «الماجونغ». وربما لا يعود إلى المنزل هذه الليلة.
كانت توشيكو في صباها صغيرة الجسم، جميلة وحساسة، وفي المدرسة كان اسم الشهرة بين أقرانها هو «الخجولة». وبسبب معاناتها المستمرة من القلق والتفكير في المستقبل لم يسبق لها أن أصبحت بدينة أبدا. كان أبوها يحتل منصبا مهما في شركة إنتاج أفلام؛ ولذا وقعت في حب ممثل سينمائي وتزوجت منه زواجا سعيدا.
وهي تحب التعاطف مع الآخرين تماما مثل حبها للهو واللعب. هذه الروح البالغة الحساسية، مع ملامح الوجه والجسم الحساس، تبدو كأنها لوحة شفافة.
في تلك الليلة عندما انضمت وزوجها إلى صديق وزوجته في ناد ليلي، أصابها الاستياء عندما تحدث زوجها بصوت مرتفع وحكى تلك القصة بشكل مسل. رغم أن توشيكو يمكن اعتبارها تجسيدا حيا لقوة الخيال، إلا أن زوجها الشاب الوسيم في بدلته الأمريكية الطراز، لم يكن يملك أي قدر من الخيال ولو قليلا. هل لأن وظيفته هي فقط تنشد الخيال في المشاهدين، ولم يكن هو نفسه بحاجة إليه؟
قال: «إنها حكاية مهولة، حكاية في منتهى الغباء.» بصوت عال وحركات من جسده ويديه، وكأنه في محاولة لمنافسة ألحان الفرقة الموسيقية. «منذ حوالي شهرين تغيرت الممرضة الخاصة بطفلنا. الممرضة الجديدة كانت ذات بطن كبيرة لدرجة غبية. وأما عن تناولها الطعام فهي من فرط أكلها تجعل في الحال صندوق خزين الأرز خاويا. وعندما سألناها كانت فقط تجيب بأنها مريضة بمرض انتفاخ المعدة.
ولكن ليلة أول أمس، كنا أنا وتوشيكو جالسين في غرفة المعيشة؛ لنسمع من غرفة الطفل المجاورة صوت أنين وصراخ. هرعنا في التو منزعجين، فوجدنا الممرضة تئن وتصرخ وهي ممسكة ببطنها بيديها الاثنتين. وبجوارها الرضيع يبكي مرعوبا من الدهشة، سألتها «ماذا حدث؟»
أجابت الممرضة بصوت متقطع: «إنه الطلق ... الطفل سيولد.»
لقد اندهشت أنا بشدة من هذا الرد. لا شك أننا أناس طيبون للغاية نحن الذين صدقنا حتى هذه اللحظة أن تلك البطن بسبب انتفاخ المعدة.
قمنا بإيقاظ الخادمة، وأخيرا استطعنا نحن الثلاثة اصطحابها إلى غرفة المعيشة. وعندما رأيت المنظر في مكان إنارته أفضل، اندهشت للمرة الثانية؛ فقد كان طرف رداء الممرضة الأبيض مصبوغا بحمرة الدم النازف.
قمت بإزاحة السجادة، وفرشت فوق الأرضية بطانية رديئة وجعلناها تنام فوقها. كان يسيل من الممرضة عرق دهني، وتبرز عروق الدم في جبهتها للخارج.
استدعينا طبيب التوليد. ولكن وقت أن وصل، كان الطفل قد ولد بالفعل. وأصبحت غرفة المعيشة كارثة بالدماء التي نزفت.»
قال الصديق: «يوجد في هذا العالم أناس فظيعون!» - «كانت من البداية قد خططت لذلك، وكأنها مثل الكلبة. فقد جاءت بعد أن حسبت حساب كل شيء. وجود طفل رضيع في منزلي مما يعني وجود قماط للرضيع، وأنا أعمل في مهنة شهيرة مما يجعل القيود داخل المنزل قليلة. ولقد جاءت كبيرة الممرضات وواجهت الممرضة بالأسئلة، ولكنها أبدت استياءها لذلك، ولم تنطق حتى بكلمة اعتذار. وأخيرا أمس استطعنا إدخالها المستشفى، ولكن على أي حال، يبدو أن الطفل ابن مشاغب عربيد في مكان ما.» - «حسنا، الطفل الذي ولد ماذا حدث له؟» - «إنه ذكر في صحة جيدة؛ لأن أمه كانت تأكل الأخضر واليابس في منزلنا؛ فقد ولد الرضيع بوزن هائل وعظيم. بسبب ذلك قضينا أمس أنا وتوشيكو اليوم كله في شبه انهيار عصبي حاد.» - «على الأقل من حسن الحظ أن الجنين لم يولد ميتا.» - «ربما كان من الأفضل بالنسبة للمرأة أن يولد ميتا.»
لم تكن توشيكو تستطيع منع نفسها من التعجب لطريقة حديث زوجها عن تلك الحادثة التي وقعت ليلة أول أمس في منزلهما، ويفشيها وكأنها حكاية مسلية من حكايات المجتمع. وأغمضت عينيها للحظة. ولكن لم يبرز إلى مخيلتها لحظة الميلاد المرعبة تلك. ولكن الذي برز إلى عينيها كان هو الطفل الوليد الذي تدحرج فوق الأرضية الخشبية ملفوفا فقط في ورق جرائد ملطخة عن آخرها بالدماء. ولكن زوجها لم يشهد ذلك المشهد.
كان الطبيب بلا شك قد تعمد معاملة الطفل بإهمال بالغ، بسبب احتقاره للأم التي ولدته بدون أب في مثل هذه الظروف العصيبة. فقد أشار الطبيب بإشارة خفيفة من ذقنه إلى ورق الجرائد، ليجعل مساعدته تلف الطفل فيه، وتضعه على الأرض. جرح ذلك بعنف توشيكو ذات القلب الرحيم. وقد نسيت التقزز التي أحست به، ثم جاءت بفانيلة قطنية جديدة تماما، ولفت بها الوليد، ووضعته بعناية على المقعد الوثير. •••
كانت توشيكو تكره أن يعتقد زوجها أنها لحوحة؛ لذا احتفظت بتلك المشاهد والتفاصيل في قلبها متحملة إياها، حريصة على ألا تشكو لزوجها بشأنها. الليلة ظهرت ابتسامة خفيفة على محيا توشيكو رغم قلقها من أمر ما.
ذلك الطفل الذي لف بأوراق الجرائد ووضع على الأرض بإهمال، أوراق الجرائد المليئة بالدماء وكأنها ورق لف اللحم عند الجزار، قماط من ورق الجرائد، ذلك البؤس الذي لا يمكن تشبيهه.
توشيكو على الأغلب لم تحس في قلبها بأية مشاعر حقد تجاه الممرضة، ولكن حالة البؤس تلك التي كان عليها الطفل، ربما جعلت توشيكو التي تربت تربية ثرية، تشعر بقوة أنه بؤسها هي. فكرت توشيكو في «ذلك الطفل الملفوف بورق الجرائد». «تقريبا أنا الوحيدة التي رأته على تلك الحالة؛ فالأم لم تكن تراه، وحتى الرضيع نفسه لا يعلم بذلك. أنا الوحيدة التي يجب عليها الاحتفاظ في ذاكرتها بتفاصيل تلك الولادة المأسوية. لو كبر هذا الرضيع، وسمع من شخص ما تفاصيل ولادته تلك؟ ماذا سيكون شعوره يا ترى؟ ... ولكن لا خوف؛ فالأمر يتوقف علي أنا وحدي في عدم البوح بهذا السر. علاوة على ذلك فقد أسديت معروفا له؛ لأنني غيرت له القماط للفانيلة بشكل لائق، ووضعته فوق المقعد.»
ظلت توشيكو صامتة.
قال زوجها لسائق السيارة الأجرة أمام الملهى الليلي: «أوشيغومي.» وركبت توشيكو، فأغلق الباب من الخارج. ولاحظت من خلف زجاج النافذة صف أسنانه البيضاء القوية وهي تضحك. الإحساس الواقعي بأن حياتهما معا ليس بها شيء يدعو للقلق جعل توشيكو تتعب بعنف وهي تتكئ للخلف في المقعد. أدارت رأسها لتشاهد زوجها، ولكن زوجها لم ينظر خلفه، بل أسرع الخطى تجاه سيارته ماركة «ناش». وسرعان ما اختلط ظهر معطفه الخشن ذو الجلد اللميع مع باقي المارة، فهو يكره الوقوف طويلا وسط الزحام.
تحركت سيارة الأجرة بالفعل. المسرح الذي تتزاحم حشود الناس أمام مدخله المظلم قليلا قد أغلق توا، وكانت أنوار الواجهة الأمامية قد أطفئت بالفعل. تأملت توشيكو عددا من أشجار الكرز المتراصة أمام المسرح، والتي زينت بأفرع أزهار صناعية، وبدت بسبب الظلام كما هي في حقيقتها، مجرد قصاصات ورق أبيض. «ورغم ذلك فهذا الرضيع ...»
هكذا واصلت أفكارها السابقة بإلحاح. حتى لو تربى بدون أن يعرف سر ولادته بالمرة، أنا أعتقد أنه بالتأكيد لن يصبح إنسانا سويا. ربما سبب اهتمامي بهذا الرضيع إلى هذه الدرجة يأتي على الأغلب من القلق على مستقبل ابني أنا. بعد مرور عشرين عاما، يتربى ابننا في هناء وسعادة ليصبح إنسانا رائعا. ووقتها، ماذا لو حدثت صدفة مرعبة، ليجرح ذلك الطفل الذي أصبح شخصا تعسا ابني؟! رغم أن اليوم كان دافئا مع وجود غيوم؛ لأنه من أيام بدايات شهر أبريل، فإن هذه الطريقة في التفكير جعلت توشيكو تشعر ببرودة تجتاح منطقة الياقة والرقبة. «وقتها يجب أن أفتدي ولدي. بعد عشرين عاما سأصبح في الثالثة والأربعين من العمر، سأقول لذلك الطفل كل شيء في منتهى الوضوح؛ حكاية قماط ورق الجرائد، والقماط الجديد من الفانيلة الذي لففته أنا به.»
كانت سيارة الأجرة تسير مسرعة في طريق واسعة كبيرة ، ويحيط بها الظلام والحدائق وخندق القصر الإمبراطوري من الجانبين. من خلال النافذة التي على يمينها رأت توشيكو الأضواء المتفرقة الآتية من مباني المكاتب الشاهقة. «بعد مرور عشرين عاما، ستكون حالة ذلك الطفل البائس رهيبة مريعة. لا يملك أي أمل، وليس لديه مال، ويعيش كالفئران بعد أن فقد جسده الشباب والحيوية. أعتقد أن طفلا ولد بهذا الشكل ليس أمامه إلا هذا المصير. بالتأكيد سيكون وحيدا يلعن أباه ويحقد على أمه.»
لا شك أن تلك الأفكار الكئيبة كانت تنال إعجابها بشكل أو بآخر، وإلا فما ضرورة أن ترسم في مخيلتها مستقبل «الرضيع» بهذه الدرجة من التفاصيل؟
تخطت سيارة الأجرة حي «هانزومون»، وهي الآن على وشك المرور من أمام السفارة البريطانية. وعند ذلك برزت أشجار الكرز الشهيرة في تلك المنطقة أمام أعين توشيكو. فتولد لديها فجأة خاطر بشكل عفوي. ماذا لو قررت أن تستمتع منفردة بمشاهدة مناظر أزهار الكرز الليلية هناك؟ فبعد أن تنزل من السيارة وتشاهد أزهار الكرز على مهل، يمكنها بسهولة أن تلتقط سيارة أجرة أخرى من تلك التي تسير بكثرة في الطريق. كان ذلك بالنسبة لتوشيكو التي تتصف بالجبن مغامرة كبيرة، ولكن تفجر الخيالات والأوهام المقلقة، جعلها غير قادرة مهما فعلت على كتمان رغبتها في الامتناع عن العودة الراشدة إلى منزلها.
نزلت السيدة الشابة الحبوبة الضئيلة الحجم من السيارة الأجرة وعبرت بمفردها طريق السيارات. كانت توشيكو عند عبورها للطريق، معتادة دائما على التشبث بمن يرافقها وتعبر في رعب، ولكن رغم ذلك، اندفعت توشيكو التي اعتراها شعور مفاجئ وغامض بالحرية لتعبر الطريق في دفعة واحدة متفادية السيارات المسرعة في الليل، لتصل إلى الجهة الأخرى من الطريق، حيث توجد الحديقة التي تحد خندق القصر.
تلك الحديقة الطويلة مع عرض ضيق تسمى حديقة «تشيدوري غافوتشي».
كانت أشجار الكرز توجد في جميع أرجاء الحديقة، أزهار الكرز الكاملة التفتح كانت متواصلة من فرع إلى فرع في كتل بيضاء، تحت سماء غائمة هادئة منعدمة الرياح في تلك الليلة. وبدت كما لو كانت كتلا صلبة قد تجمدت تتدافع مع بعضها البعض. وقد انطفأت المصابيح الورقية المعلقة بين الأشجار. وبديلا عنها أنيرت بضوء خافت، مصابيح كهربائية عارية باللون الأحمر، والأصفر، والأخضر تحت أشجار الكرز.
ولأن الوقت قد تجاوز الساعة العاشرة مساء بوقت طويل، كان عدد مشاهدي زهور الكرز قليلا. كانت النفايات الورقية ملقاة هنا وهناك في أرضية الحديقة. وعندما يمر أحدهم بجوارها صامتا، تسمع توشيكو فجأة صوت سحق تلك الأوراق، أو صوت تدحرج قناني البيرة الزجاجية. «ورق الجرائد ... ورق الجرائد الملطخة بالدماء ... تلك الولادة البائسة ... لو علم ما حدث له؛ فلا شك أن حياة ذلك الإنسان كلها ستنهار وتصبح هباء منثورا. لماذا يجب علي أنا، الاستمرار في حمل سر كبير ومهم كهذا، يخص إنسانا لا علاقة ولا قرابة لي به؟!»
من خلال تلك الأفكار تناست توشيكو جبنها المعهود دوما، ولأن من يمرون أمامها هم في الأغلب يكونون زوجا من رجل وامرأة صامتين، فلم يكن يوجد من يتعرض لها بشر. كان هناك رجل وامرأة يجلسان على إحدى المقاعد الحجرية المواجهة للخندق، لا ينظران إلى أزهار الكرز، ولكنهما يتأملان خندق الماء في صمت.
كان الخندق قاتما مسودا، وكان الظلام الكثيف يلف سطح الماء. تقف أشجار القصر الإمبراطوري وراء الخندق سوداء مرتفعة، ولا يوجد أي اختلاف أو حدود بينها وبين السماء ذات الغيوم الكئيبة.
مشت توشيكو ببطء تحت الأزهار في الطريق المظلمة، وأحست بثقل الأزهار التي فوق رأسها.
رأت شيئا بلون أبيض على أحد المقاعد على أقصى طرف المقاعد الحجرية العديدة الموجودة. لم يكن ذلك مجرد كومة من أوراق زهور الكرز المتساقطة، وليس أيضا كسرا في المقعد الحجري ظهر منه قلبه الأبيض. توجهت توشيكو نحو ذلك المقعد.
كان ظل أسود ينام على المقعد البعيد.
من خلال رؤية ورق الجرائد التي فرشت حوله؛ عرفت أنه ليس مجرد سكير دفعه السكر للنوم في الطريق. وكان ورق الجرائد هو الشيء الأبيض الذي بدا لها من بعيد.
كان النائم رجلا ذا معطف بني اللون ينام على جنبه متكور الجسد فوق المقعد الحجري بعد أن فرش تحته عدة طبقات من ورق الجرائد القديمة. ربما كان ذلك هو سكنه الدائم بعد دخول فصل الربيع.
بدون وعي توقفت توشيكو عن السير أمامه. فلا عجب أن هذا الرجل النائم الملفوف في ورق الجرائد، قد جعلها تتذكر على الفور منظر الرضيع الملفوف بقماط بائس، وقد ترك على الأرض.
نظرت توشيكو لأسفل تجاه شعر الرجل الأشعث المتسخ الذي بدا، وكأنه مضفر في أماكن منه. كتف المعطف يعلو ويهبط مع التنفس في الظلام.
أحست توشيكو أن خيالاتها وأفكارها التي تفكر فيها منذ قليل، تلك الخيالات الحزينة التي تربت على التعاطف من قلب رحيم. أحست وكأنها فجأة تجسدت أمامها. جبهة الرجل التي برزت في الظلام كانت جبهة شاب. ورغم ذلك فقد كانت التجاعيد العميقة قد نحتت فيها، وقد ظهرت عليه بوضوح آثار الفقر والمعاناة لفترات طويلة. كان الرجل نائما وقد ثنى طرف بنطاله الكاكي اللون، ويرتدي حذاء رياضيا مليئا بالثقوب بلا جوارب.
فجأة انتابت توشيكو رغبة قوية في رؤية ذلك الوجه؛ فاستدارت ناحية الوجه، ونظرت بعمق إلى الوجه النائم المدفون داخل أذرع الرجل. وعلى غير المتوقع كان شابا، يملك حواجب بارزة، وأنفا جميلة. كان فمه المفتوح قليلا به براءة طفولية.
لأن توشيكو كانت قد اقتربت جدا منه، فقد أحدثت أوراق الجرائد المفروشة تحته صوتا عاليا. استيقظ الرجل، وفجأة لمعت عيناه وأطبق بيده الضخمة على معصم توشيكو.
ولكن توشيكو لسبب ما، لم تشعر بأي خوف على الإطلاق. بل تركت معصمها الرقيق له، وفجأة قالت لنفسها: «آه، لقد مرت السنوات العشرون بالفعل!»
كانت أشجار القصر الإمبراطوري غارقة في الظلام الدامس والصمت التام.
الخوف على الوطن
1
في الثامن والعشرين من شهر فبراير للعام الحادي عشر من عصر ميجي
1 (أي في اليوم الثالث من وقوع حادث 26 فبراير)، أمسك الملازم أول شينجي تاكياما، الضابط العامل بقوة كتيبة «كونوئه» للنقل بسيفه العسكري، وانتحر ببقر بطنه طبقا لطقس السيبوكو في الغرفة ذات القطع الثمانية من حصير التاتامي من مسكنه الخاص ، الواقع في أوباتشو بالتجمع السادس بحي يوتسويا، بعد أن عانى طويلا عندما عرف بعد الحادث أن زملاءه المقربين كانوا مع المتمردين منذ البداية، فضلا عن سخطه لاحتمال اقتتال قوات الجيش الإمبراطوري فيما بينها. ولحقت به زوجته ريكو بطعن نفسها بخنجرها الصغير. كانت وصية الملازم أول مكونة فقط من جملة وحيدة هي: «عاش الجيش الإمبراطوري.» أما وصية زوجته، فبعد الاعتذار عن عقوقها لوالديها بسبقهما إلى الموت، كتبت: «لقد جاء اليوم المحتوم مجيئه لي كزوجة رجل عسكري.» وكانت اللحظات الأخيرة لهذين الزوجين المخلصين حرية بجعل الشياطين أنفسهم يبكون. وتجدر الإشارة إلى أن الملازم أول مات في الثلاثين من عمره، وزوجته في الثالثة والعشرين، وأنه لم يمر على حفل زواجهما ستة أشهر.
2
أولئك الذين شاهدوا فقط صورة العروسين، وكذلك بالطبع الذين حضروا حفل العرس، تهامسوا بكلمات الإعجاب لشدة جمال العروس ووسامة العريس. بدا الزوج مهيبا في الزي العسكري حاميا عروسه، يضع يده اليمنى على سيف الجيش، ويحمل بيده اليسرى قبعته العسكرية التي خلعها. وتوضح بحق تعبيرات الشهامة على ملامح وجهه الحاسمة، بدءا من الحواجب القاتمة، والعينين المفتوحتين جيدا، فضلا عن سريرته النقية وصفاء قلبه. وأما جمال العروس في رداء العرس الأبيض؛ فلم يكن له مثيل. فقد عكست العيون المستديرة الجذابة تحت الحواجب الحنونة، والأنف الجميل النحيل، والشفاه المكتنزة، الأصل السامي والحس الراقي. وتبدو أطراف الأصابع التي تظهر خلسة من أكمام الرداء ممسكة بالمهفة، والتي تضعها مضمومة بنعومة، تبدو مثل برعم زهرة مجد الصباح.
بعد انتحارهما، كان الناس كثيرا ما يخرجون هذه الصورة ويتأملونها، ويعربون عن حزنهم من أن ارتباط مثل هذين العروسين اللذين لا يشوب حسنهما شائبة يكون أحيانا نذير شؤم. عند النظر للأمر بعد حدوثه، يبدو بشكل ما كما لو أن العروسين، الواقفين أمام الساتر الذهبي، يحدقان كليهما بتساو بعيون صافية لا ترنو إلى الموت، الذي يبدو مستشرفا وكأنه ماثل بقربهما.
سكن الاثنان بيتا جديدا في منطقة أوباتشو بحي يوتسويا بعد أن توسط عرابهما الفريق أوزيكي لهما. ورغم قولنا «بيت جديد»؛ فلم يزد عن كونه منزلا قديما بالإيجار بحديقة صغيرة، به ثلاث غرف؛ ولأن الغرفتين في الطابق السفلي لا تدخلهما الشمس فقد استخدما غرفة النوم الكبيرة في الطابق العلوي كغرفة استقبال للضيوف، ولم تكن توجد لديهما خادمة؛ لذا كانت ريكو وحدها هي التي تحرس المنزل في غياب زوجها.
وتم الاستغناء عن رحلة شهر العسل بسبب حالة الطوارئ التي يمر بها الوطن. ولذا قضيا أول ليلة بعد الزواج في منزلهما هذا. ليلتها قبل الدخول إلى فراش النوم، وضع شينجي سيفه العسكري أمام ركبتيه. وكعسكري منضبط ألقى تنبيهاته، من تصبح زوجة لرجل عسكري، لا بد لها أن تتوقع وتتقبل موته في أي وقت. يمكن أن يكون ذلك غدا، ويمكن أن يكون بعد غد. ولكن بغض النظر عن موعده، إذا جاء الموت، سألها: هل هي على استعداد لتقبل ذلك دون اضطراب؟ وقفت ريكو على قدميها، وفتحت درج الخزانة، وأخرجت منه أهم ما تعتني به من جهاز العروس، وهو الخنجر الذي أعطته لها أمها، ووضعته وهي صامتة أمام ركبتيها كما فعل زوجها. وبهذه الطريقة تحقق التفاهم الصامت بينهما بشكل كامل، ولم يحاول الزوج بعد ذلك التأكد من استعداد زوجته هذه مرة أخرى.
بعد مرور أشهر قليلة على الزواج، نضج جمال ريكو ليكون أكثر لمعانا وأكثر وضوحا مثل القمر بعد زوال الأمطار.
ولأنهما كانا يمتلكان جسدين يمتلآن حيوية وشبابا، فقد كانت المعاشرة الزوجية بينهما ملتهبة، لا تقع في الليل فقط. بل في كثير من الأحيان كان الزوج لا يصبر حتى على خلع ملابسه العسكرية المتسخة بالأتربة والطين؛ بسبب التدريبات العسكرية، فيدفع زوجته إلى الأرض بمجرد عودته إلى المنزل. وكانت ريكو كذلك تتجاوب معه بحماس. بعد مرور حوالي شهر أو أقل على الليلة الأولى لزواجهما عرفت ريكو معنى اللذة، وسعد زوجها كذلك عندما عرف ذلك.
جسد ريكو أبيض وقور؛ فالثدي النافر مع ما يظهره من رفض طاهر وقوي للغاية، بمجرد أن يستقبلك لمرة، يفيض بحرارة كعش طير هادئ. كانا في الفراش، في منتهى الجدية والصرامة لدرجة مرعبة. جديان وسط الفعل الفاضح الذي يتزايد صخبا وعنفا.
كان الزوج يفكر في زوجته في أوقات الراحة القليلة التي يحصل عليها بين تدريبات النهار، وكذلك كانت ريكو تتبع ظل وجه زوجها طوال اليوم. ولكنها حتى عندما تكون بمفردها، كانت تتأكد من سعادتها عندما تتأمل صورة الزفاف. لم تكن ريكو تشعر بأي غرابة إطلاقا في أن رجلا كان منذ أشهر قليلة مضت لا يزيد عن كونه مجرد عابر سبيل، يصبح شمس كونها كله.
فهذا كله من الأخلاق الحميدة، ويحقق تعاليم «توافق الزوجين» المذكورة في الإرشادات التربوية لجلالة الإمبراطور. فلم يسبق لها أن ردت كلمة لزوجها ولو مرة واحدة، وكذلك لم يجد الزوج أي سبب ولو ضئيلا لتوبيخ زوجته. في الطابق السفلي، يزين المذبح المقدس صورة لجلالة الإمبراطور وجلالة الإمبراطورة مع لوحة لمعبد كوتاي. ويوميا قبل الذهاب إلى العمل يحني الزوج وزوجته معه رأسيهما بعمق أمام المذبح المقدس. ويتم تغيير ماء القربان كل صباح، ودائما ما تكون أغصان شجرة «الساكاكي» خضراء وجديدة؛ فكل هذا العالم محمي بسلطة الإله المهيبة، بل وتفيض في جميع جوانبه سعادة تجعل الجسد يقشعر.
3
على الرغم من وجود قصر الوزير سايتو مجاورا لمنزلهما، فإنهما لم يسمعا أي صوت لإطلاق النار صباح يوم السادس والعشرين من فبراير. ولكن بعد انتهاء المأساة التي استغرقت عشر دقائق، خرق نومة الزوج صوت بوق التجمع الذي انطلق في الفجر المظلم الذي يتساقط فيه الجليد. قفز الزوج من فوق فراشه في قفزة واحدة، ودون أن ينبس بكلمة واحدة، ارتدى زيه العسكري، وتقلد (امتشق) سيفه الذي قدمته له زوجته، وخرج في عجل إلى الشارع وسط الثلوج في صباح لم يكتمل شروقه بعد. ولم يعد لمنزله حتى مساء الثامن والعشرين من فبراير.
ولم يمر الكثير من الوقت حتى علمت ريكو من خلال نشرة أخبار المذياع تفاصيل هذا الحادث المفاجئ كاملة. وعلى مدى يومين كاملين بعد ذلك عاشت ريكو بمفردها في هدوء تام وراء الأبواب المغلقة.
قرأت ريكو في صمت وجه زوجها الذي سارع إلى الخروج في ثلوج الصباح ، إصراره المسبق على الموت. وكانت على أتم الاستعداد للموت لحاقا بزوجها في حالة عدم عودته حيا كما خرج. وبهدوء تام كانت قد استعدت للتصرف في ممتلكاتها الشخصية. اختارت عددا من زميلات الدراسة لإهدائهن عددا من الكيمونو المخصص للزيارات كتذكار منها لهن، وكتبت اسم كل واحدة منهن وعنوانها على ورق التغليف لكل منها. ولأن زوجها كان يقول لها باستمرار في الأيام العادية ألا تفكر في الغد، فلم تكن تسجل يومياتها؛ ولذا فقدت ريكو متعة إعادة قراءة يوميات تلك الأيام السعيدة في الأشهر الماضية بتمعن ثم إلقائها في النيران. كان يوجد بجانب المذياع فخاريات صغيرة الحجم لكلب وأرنب وسنجاب ودب وثعلب. بالإضافة لذلك كانت توجد مزهرية صغيرة من الفخار وجرة ماء. تلك كانت كل ما تملكه ريكو من مقتنيات. ولكن إعطاء مثل هذه الأشياء كتذكار أمر لا جدوى منه. ولا تصل قيمتها إلى حد وضعها معها في التابوت. عند ذلك بدا لها أن تلك الحيوانات الفخارية الصغيرة بدأت تمتلئ بملامح الحزن والوحدة.
أخذت ريكو السنجاب في يدها، وبدا لها في الأفق البعيد لتشبثها الطفولي بهم ما يشبه عدالة كالشمس التي يجسدها زوجها. فرغم أنها قد قررت التضحية بنفسها بمنتهى السعادة مع الشمس المشعة، فإنها انغمست بمفردها لسويعات معدودة في ذلك التشبث الطفولي البريء. فقد أحبت تلك الأشياء بحق في الماضي فقط. أما الآن؛ فهي لا تحب سوى ذكريات حبها هذا لتلك الأشياء؛ فقلبها يمتلأ بأشياء أكثر عنفا وسعادة أكثر جنونا. بل إن ريكو لم تفكر أبدا أن تطلق ولو مرة واحدة على اللذة الجسدية التي تأتي مرتجفة ليلا ونهارا مجرد اسم المتعة. تختزن أصابع اليد الجميلة برودة ملمس السنجاب الفخاري الذي يشبه الثلج، علاوة على برودة شهر فبراير. ولكن حتى أثناء ذلك، عندما تتذكر لحظة امتداد ذراع زوجها القوي إليها عند الأكمام، تحت ذات الكيمونو الحريري الذي ترتديه الآن بإحكام، تحس ريكو بطراوة لحم الجسد الساخن الذي يذيب الجليد.
إنها لم تكن تخاف على الإطلاق من الموت الذي يطفو على وعيها، بل إن ريكو وهي تنتظر وحدها في المنزل، تؤمن بقوة أن ما يحسه زوجها الآن، وما يفكر فيه، رغباته، ومعاناته، وتفكيره كله سيقودها إلى موت ممتع بالضبط كما كان يفعل جسد زوجها تماما. تؤمن أن جسدها يمكن أن يذوب بسهولة في أي قطعة من قطع تلك الأفكار.
هكذا كانت ريكو تسمع بحرص نشرة الإخبار كل ساعة من المذياع، وعرفت أن عددا من أصدقاء زوجها الحميمين كانت أسماؤهم من بين الذين قاموا بالهبة. كان ذلك خبر الموت! عرفت الأحداث بتفاصيلها وأنها يوما بعد يوم تأخذ شكلا لا يمكن التهاون معه، وربما يصدر مرسوم للإمبراطور بين لحظة وأخرى، وأن الهبة التي كان يعتقد أنها قامت في البداية من أجل الإصلاح والثورة، كانت في سبيلها إلى الوصم باسم التمرد سيئ السمعة. لم يكن هناك أي اتصال من الفوج. لا أحد يعلم متى يبدأ القتال في طرقات المدينة التي تغطيها الثلوج.
وفي وقت غروب شمس يوم الثامن والعشرين من فبراير، سمعت ريكو، وهي تشعر برعب هائل، صوت طرق عنيف على الباب. اقتربت مسرعة ثم فتحت القفل بيد ترتعش. وقد عرفت دون كلام، أن الظل الماثل وراء الزجاج المصقول هو زوجها بلا أي شك. ولم تشعر ريكو أن الباب المنزلق عسير في فتحه إلى هذه الدرجة قبل الآن. من أجل ذلك كان المزلاج عنيدا في يدها، واستغرق وقتا طويلا في فتحه.
قبل أن يفتح الباب حتى آخره، كان زوجها يقف على الأرضية الأسمنتية بمدخل البيت، مرتديا المعطف الكاكي، ومنتعلا الحذاء الطويل الذي أثقله طمي وثلج الطريق. وبمجرد أن أغلق الباب وراءه، أعاد المزلاج مرة أخرى إلى ما كان عليه من إغلاق. ولم تفهم ريكو ما مغزى ذلك. «عود حميد إلى بيتك.»
انحنت ريكو عميقا وهي تقول ذلك، ولكن زوجها لم ينبس بأي رد. بل نزع سيفه العسكري، ثم بدأ في خلع المعطف؛ فاستدارت ريكو خلفه لتساعده. انزلق المعطف البارد والرطب والذي فقد الرائحة العفنة لروث الخيل بعد تعرض لأشعة الشمس، بثقله بين ذراعيها. علقته في المشجب الخاص به، ثم احتضنت السيف وتبعت زوجها الذي كان قد خلع حذاءه الطويل، وصعد إلى غرفة المعيشة. إنها الغرفة الصغرى في الطابق السفلي.
كان وجه زوجها الذي رأته في ضوء واضح من المصباح، تغطيه لحية قد نمت قليلا، وقد نحف حتى بدا كأنه شخص آخر. كانت خدوده قد تجوفت وفقدت بريقها ونضارتها. ورغم أنه عندما يكون في حالته المعنوية الطبيعية عندما يعود إلى المنزل (يبدل ملابسه العادية بزيه العسكري على الفور، ثم يطالب بسرعة إعداد طعام العشاء) فإنه يجلس الآن متربعا في زيه العسكري محني الرأس أمام «الطبلية». امتنعت ريكو عن سؤاله إذا كان ينبغي لها إعداد طعام العشاء.
بعد فترة تحدث الزوج: «لم أكن أعرف شيئا. إنهم لم يعرضوا علي الأمر. على الأرجح إنهم جميعهم، هونما وكانو وياماغوتشي، أشفقوا علي لأنني كنت عريسا جديدا.»
لاحت على ذاكرة ريكو وجوه أصدقاء زوجها الحميمين الذين كانوا يأتون مرات ومرات لزيارتهما في منزلهما هذا. هؤلاء الضباط الشبان الممتلئون حيوية ونشاط. «سيصدر في الغد على الأرجح المرسوم الإمبراطوري. على الأرجح سيتم وصفهم باسم المتمردين سيئي السمعة، وسيكون من الواجب علي قيادة جنودي وضربهم بالنار. أنا لا أستطيع فعل ذلك. ليس لدي القدرة على فعل شيء كهذا.»
ثم أضاف: «لقد أمرت بتبديل الحراسة الآن، وسمح لي بالعودة إلى منزلي هذه الليلة لمدة ليلة واحدة. وبدون شك في صباح الغد، سيكون من المحتم علي الخروج لإطلاق النار عليهم. ولكن أنا لا أستطيع فعل ذلك. أتفهمين؟!»
خفضت ريكو الجالسة عينيها. لقد فهمت بوضوح أن زوجها لا يتحدث إلا عن شيء واحد بالفعل، وهو الموت. قرار الزوج محسوم بالفعل، وشبح الموت يؤكد كل كلمة من كلماته. ومن أجل هذا البرهان الأسود الصلد، تبرز في الكلمات قوة متينة غير قابلة للزعزعة. على الرغم من أن الزوج كان يتحدث عن المعاناة، فإنه لا توجد هناك أية حيرة أو تردد.
ولكن أثناء ذلك وفي فترة الصمت تلك، كان يوجد صفاء وبرودة مثل تيار نهر لذوبان الثلوج. أخيرا يشعر الزوج براحة قلبية لأول مرة، وهو جالس في بيته أمام وجه زوجته الجميل، بعد محنة ومعاناة طويلة استمرت ليومين كاملين؛ لأنه قد عرف على الفور أن زوجته فهمت القرار الذي اتخذه، حتى ولو لم يقل ذلك بشكل مباشر. - «اسمعي.»
فتح الزوج عيونه الجسورة الصافية رغم تواصل الأرق، ونظر لأول مرة مباشرة في أعين زوجته، ثم قال: «سأبقر بطني الليلة.»
لم يرتد طرف ريكو، ولو للحظة واحدة.
وأنشدت عيناها النجلاوان الجميلتان مثل رنة جرس قوية، وقالت: «لقد أعددت نفسي، أريد أن أرافقك.»
أحس الزوج أنه تقريبا قد انسحق من قوة تلك العينين. تدفقت كلماته بسرعة وبسهولة، مثل كلمات الهذيان، ولم يدر كيف عبر عن هذا الإذن ذي الأثر الهائل بتلك الكلمات المستهترة. - «حسنا. لنذهب معا. ولكن أريدك أن تشاهدي انتحاري أولا. أتفهمين؟»
بعد أن انتهى من قول ذلك، غمر قلبيهما معا نوع من أنواع السعادة التلقائية التي أطلق سراحها فجأة.
تأثرت ريكو بشدة لعظمة ثقة زوجها بها لتلك الدرجة. بالنسبة للزوج فمهما كان الأمر، فقد كان من المحتم ألا يتخطاه الموت؛ لذا فقد كان لا بد من وجود من يتأكد من ذلك ويشاهده. واختياره لزوجته لكي تقوم بهذا الدور هو أول درجات ثقته بها. وثاني درجات الثقة هو أنه ورغم تعهدهما بالانتحار معا؛ فإنه لم يقتل زوجته أولا، بل ترك موتها ليحدث في المستقبل الذي لن يستطيع هو التأكد منه. لو كان الزوج يشك فيها، لاختار أن يقتل زوجته أولا كما يحدث في الانتحار الثنائي العادي.
أحس الزوج أن قول زوجته كلمة «سأرافقك» هي الثمرة الكبيرة لتربيته وإرشاده لها منذ الليلة الأولى لزواجهما، لتنطقها في وقتها المناسب دون تلجلج. ومما أثلج صدره وأرضى كبرياءه، ولكنه لم يكن زوجا مغترا بنفسه لدرجة أن يعتقد أن مشاعر حبها له هي التي جعلتها تقول تلك الكلمة بعفوية من تلقاء نفسها.
انتعشت السعادة بتلقائية بالغة في قلبيهما معا، فابتسم وجههما بعفوية؛ إذ كان أحدهما ينظر للآخر كذلك. أحست ريكو أن ليلة الزفاف الأولى عادت مرة أخرى.
ولم تعتقد أنها ترى أمام عينيها لا الألم ولا الموت، بل فقط حدائق غناء شاسعة حرة. - «مياه الحمام قد سخنت وأصبحت جاهزة. هل تأخذ حمامك الآن؟» - «آه، نعم!» - «وطعام العشاء؟»
كانت تلك الكلمات في الواقع قد انطلقت في نبرة عائلية عادية تماما؛ مما جعل الزوج على وشك السقوط في مرحلة خداع وهمي. - «ألا تعتقدين أننا لسنا بحاجة للطعام؟ يكفي أن تجهزي أقداح الخمر.» - «فهمت.»
عندما وقفت ريكو لكي تخرج الروب ليرتديه زوجها بعد خروجه من الحمام، انتبه الزوج لما في خزانة الملابس التي فتحتها. وقف الزوج ثم ذهب إلى الخزانة، وألقى نظرة على الدرج المفتوح، ثم قرأ عناوين التذكارات المكتوبة على الأغلفة واحدا تلو الآخر. لم يشعر الزوج الذي وضحت له بهذه الطريقة استعدادات زوجته البسيطة، بأي حزن ولو ضئيلا، بل امتلأ قلبه بمشاعر مسكرة. مثل زوج أرته زوجته الشابة مشترياتها بشكل طفولي. من فرط الحب، احتضن الزوج زوجته من الخلف ثم قبلها في عنقها.
أحست ريكو بخشونة ذقن زوجها غير الحليق على عنقها. كان ذلك الإحساس بالنسبة إلى ريكو إحساسا واقعيا، من حيث كونه إحساسا ينتمي لهذا العالم الدنيوي. ولكن شعور أنها ستفقده للأبد خلال لحظات، جعله طازجا بدرجة كبيرة للغاية. وكان لكل لحظة قوتها الحيوية التي توقظ الحواس من جديد في كل ركن من جسدها. تلقت ريكو مداعبات زوجها الحنونة من الخلف، وهي تكمن قوتها في أطراف أصابع قدميها التي ترتدي فيها الجورب. - «بعد الانتهاء من الاستحمام، وبعد تناول بعض الخمر. أتفهمين؟ جهزي الفراش في الطابق العلوي.»
همس الزوج بهذه الكلمات في أذن زوجته، وأومأت ريكو برأسها بصمت.
خلع الزوج زيه العسكري بعنف وعجلة، ثم دخل الحمام. نظرت ريكو لدى سماعها لصوت الماء بعيدا لدرجة النار في منقل الفحم في غرفة المعيشة، ثم وقفت لتعد الخمر.
ثم ذهبت ريكو إلى الحمام آخذة معها الروب والحزام والملابس الداخلية، وسألت زوجها عن حرارة المياه هل هي مناسبة أم لا. كان الزوج يجلس متربعا على الأرض وسط البخار المنبعث، ويقوم بحلاقة ذقنه ، وبدت لها في ضبابية حركة عضلات ظهره القوية المبتلة وهي تستجيب بحساسية لحركة ذراعيه.
لم يكن ذلك الوقت يشير إلى أي معنى خاص. تعمل ريكو الأعمال المنزلية في عجلة؛ لكي تعد أطباقا سريعة من مقبلات الخمر. يداها لا ترتعشان، بل على العكس تعمل بكفاءة أكبر وسلاسة أكثر من المعتاد. ورغم ذلك، تجري من وقت لآخر نبضات غريبة في أعماق قلبها؛ مثل البرق البعيد، الذي يلمع لحظة بقوة حادة ثم يختفي دون أثر. وبعيدا عن ذلك، لم يكن هناك أي شيء خارج عن المألوف.
شعر الزوج وهو يحلق ذقنه في الحمام، أن تدفئة جسده بهذا الشكل قد أزالت تماما كل آثار الإرهاق التي نتجت عن التردد والحيرة. ورغم إقباله على الموت فقد كان يشعر بفيض من الأمل والمتعة. يسمع بالكاد صوتا خفيضا لتحركات زوجته وهي تقوم بأعمال المنزل؛ مما جعل رغبته الجسدية الطبيعية التي نسيها خلال يومين، تحوم حول رأسه.
كان الزوج واثقا أنه لا توجد أي شائبة تلوث ذلك الفرح الذي شعر به عندما قرر الاثنان الموت معا. وكان كل منهما قد أحس في تلك اللحظة مرة أخرى، بالطبع بدون وعي واضح بذلك، أن متعتهما الشرعية التي لا يعرفها أحد غيرهما محمية بعدالة وسلطة إلهية وأخلاقية كاملة بدون أي فجوات. عندما نظر كلاهما في عين الآخر واكتشفا موتا شرعيا بها، شعرا مرة أخرى أنهما محاطان بجدران فولاذية لا يمكن أن تدمر، وأنهما محميان بدرع منيع من الجمال والحق لا يمكن لأحد أن يمسه بسوء. ولذا فقد كان الزوج لا يحس بأي تناقض أو تضاد بين شهوته الجسدية ومشاعر الخوف على الوطن، لا بل إنه استطاع أن يراهما شيئا واحدا.
قرب الزوج وجهه تجاه مرآة الحائط المظلمة المشروخة، والتي كثرت بها الضبابية بسبب البخار، واعتنى بحلق لحيته على أكمل وجه؛ فهذا الوجه سيكون هو وجهه بعد الموت. لا يجب أن يترك شعيرات تجعل وجهه مقززا. الوجه الحليق عاد له لمعان الشباب مرة أخرى لدرجة أنه جعل المرآة المظلمة تسطع. ربما كان جميلا أن يرتبط الموت بذلك الوجه الصحي المشرق.
هذا سيصير كما هو الآن وجه الموت! لقد صار هذا الوجه بالتأكيد لا يملكه الزوج، وصار وجها فوق نصب تذكاري لجندي راحل. جرب الزوج أن يغمض عينيه. كل شيء يلفه السواد، ولم يعد بعد إنسانا قادرا على الرؤية.
عاد الزوج من الحمام، وخدوده اللامعة تشع بزرقة من آثار الحلاقة، ثم جلس متربعا بجانب منقل الفحم المشتعل جيدا. وانتبه الزوج إلى أن ريكو زينت وجهها سريعا وسط انشغالها بالعمل. تورد الخد وزادت رطوبة الشفتين ولم يعد هناك أي ظل للحزن. وعندما رأى علامات صفات زوجته الشابة المتقدة، أحس بسعادة لأنه اختار حقا الزوجة التي كان يجب أن يختارها.
بمجرد أن شرب الكأس ناوله لزوجته. ريكو التي لم تذق طعم الخمر، ولو لمرة واحدة من قبل، قبلته بتلقائية ووضعته على فمها بشيء من الخوف.
قال الزوج: «تعالي هنا.»
ذهبت ريكو إلى جانب زوجها، الذي احتضنها بميل. كان صدرها في هياج عنيف، كما لو أن مشاعر الحزن والفرح اختلطا بتأثير الخمر القوي. نظر الزوج إلى وجه زوجته. هذا هو آخر وجه إنسان، آخر وجه لامرأة، يراه في هذا العالم. تأمل الزوج تفاصيل وجه زوجته بدقة، بعيون المسافر الذي يتأمل المناظر الرائعة لبلد لن تراه عيناه مرة ثانية إلى الأبد. الوجه الجميل الذي لا يمل أبدا من النظر إليه، مع عظيم اكتماله لا توجد به أية برودة، والشفاه مغلقة في خفة بقوة ناعمة. قبل الزوج تلك الشفاه بدون تفكير. وبعد مرور لحظات عندما انتبه الزوج فوجد قطرات من الدموع تنساب متوالية، وهي تلمع من بين ظلال أهداب العينين الطويلة المغمضة، رغم عدم تشوه الوجه بأي قدر من القبح بسبب البكاء.
أخيرا حث الزوج زوجته على الصعود إلى غرفة النوم في الطابق العلوي، ردت الزوجة أنها ستلحق به بعد أخذ حمامها. وعندها صعد الزوج إلى الطابق الثاني وحده، ودخل غرفة النوم التي تمت تدفئتها بواسطة مدفئة الغاز. ورقد على الفراش مادا ما بين رجليه ورافعا ذراعيه لأعلى بأقصى حد لهما. وعلى هذا الحال حتى وقت انتظاره قدوم زوجته، لم يختلف عن المعتاد في أي شيء.
عقد ذراعيه أسفل رأسه، وحدق بلا اهتمام في ظلام ألواح السقف التي لا تصلها أشعة المصباح. هل هو ينتظر الموت الآن؟ أم المتعة الجسدية المهتاجة؟ لقد ازدوج الأمران الآن معا، وأصبح يشعر وكأن الرغبة الجسدية تقوده إلى الموت. ولكن على أي حال؛ فالزوج لم يشعر في حياته قط بمثل هذه الحرية في جميع أعضاء جسده.
تسمع أصوات السيارات خارج النافذة، صوت دهس إطاراتها للثلوج المتراكمة على أحد جانبي الطريق. ويتردد صدى صوت أبواقها المصطدمة بالسياج القريب. وهكذا عندما يستمع إلى هذه الأصوات، يشعر أن هذا المنزل يقف كالطود الشامخ وكأنه جزيرة منعزلة في خضم بحر المجتمع الهائج الذي لا يكف عن الحركة. الوطن الذي يثير همه وقلقه يمتد محيطا بهذا البيت في فوضى كبرى. إنه يضحي بحياته من أجل هذا الوطن، ولكنه وهو يضحي بروحه في سبيل إيقاظ وتحذير هذا الوطن العملاق، لا يدري هل في النهاية سيعطي الوطن لموته ولو نظرة واحدة أم لا؟ ولكنه لا يهمه ذلك مطلقا؛ فتلك هي ساحة معركة ليس فيها مجد، ساحة معركة لا يقدر أحد على إظهار شجاعته فيها. إنها الخط الأمامي لجبهة الروح.
سمعت خطوات أقدام ريكو وهي تصعد درج السلم. درج السلم في هذا البيت القديم يزقزق بشدة. كان الزوج يحن لتلك الزقزقة ولشدة ما انتظر سماعه في الماضي وهو مستلق في الفراش يستمع لتلك الزقزقة الحلوة المذاق. وعندما فكر أنه لن يسمعها مرة أخرى، جعل أذنه في غاية التركيز، محاولا أن يملأ تلك اللحظات الثمينة لحظة بلحظة بالزقزقة التي ترتفع من باطن قدم زوجته الناعمة بلا تفريط. كانت تلك اللحظات تطلق أشعة لامعة، وكأنها تحولت إلى مجوهرات.
كانت ريكو ترتدى كيمونو خفيف بحزام من نوع ناغويا، كان ذلك الحزام الأحمر يبدو أسود في الظلام الخافت. وعندما لمسه الزوج بيده، ساعدته يد ريكو فانزاح الحزام ساقطا فوق الأرض. حاول الزوج احتضان زوجته كما هي بالرداء واضعا يديه على جانبيها، ولكن عندما لمست أصابعه لحم جنبها الدافئ، شعر الزوج باشتعال جسده كله؛ بسبب هذه اللمسة.
وفي لمح البصر صار الاثنان عاريين بشكل طبيعي أمام نار مدفئة الغاز.
لم يصرحا بذلك، ولكن قلبيهما وجسديهما وصدريهما المتأججين انفجرا بالرغبة؛ لعلمهما أن تلك هي آخر مرة. كان كما لو كانت عبارة «المرة الأخيرة» مكتوبة بحبر سري غير مرئي عبر كل ركن من جسديهما.
احتضن الزوج جسد زوجته اليافع بعنف وقبلها. لسان كل منهما دخل في فم الآخر السلس ليتأكد من كل ركن فيه. وشعرا كما لو أن تلك المشاعر الملتهبة مثل الصلب الأحمر تدربهما وتصقلهما لتحمل آلام الموت التي لم تظهر بوادرها بعد في أي مكان. كانت آلام الموت التي لم يحسا بها بعد، تلك الآلام البعيدة هي التي صقلت مشاعر المتعة لديهما.
قال الزوج لزوجته: «هذه هي المرة الأخيرة التي سأرى فيها جسدك، دعيني أتمتع برؤيته جيدا.»
ثم أمال المصباح ناحيتها، وصب أشعته على امتداد جسد ريكو الممدد.
كانت ريكو راقدة على جنبها مغلقة العينين. وأوضحت أشعة الضوء المنخفض تضاريس لحمها الأبيض المهيب. ابتهج الزوج ببعض مشاعر الأنانية؛ لسعادته بأنه لن يضطر أن يرى منظر انهيار هذا الجسد الرائع الجمال أثناء موتها.
نقش الزوج في قلبه ببطء هذا المشهد الذي يصعب نسيانه، يتلاعب بإحدى يديه بشعرها، وباليد الأخرى يداعب في هدوء وجهها الجميل، وهو يقبل ما تقع عليه عيناه مرة بعد مرة. من الجبهة الباردة الهادئة التي تشبه جبل فوجي في جمالها، للعيون المغمضة المصانة برموشها الطويلة تحت الحواجب الرقيقة، وسكون الأنف جيدة التكوين، والأسنان اللامعة التي تلمح خلسة من بين الشفتين المتناغمة ذات السمك الملائم، والخدود الناعمة مع الفك المحكم. كل تلك الملامح تنبئ في الواقع عن وجهها المشرق المشع عند الموت. وأخيرا امتص عدة مرات بقوة وعنف عنق زوجته التي من المتوقع أن تطعنه بنفسها بعد قليل؛ مما جعل بياضه يتحول إلى حمرة خفيفة. عاد إلى الشفتين وضغط عليهما برقة، وجعل شفتيه تتحرك مهتزة فوق تلك الشفتين، وكأنها قارب صغير يهتز مع أمواج خفيفة . وعندما أغمض عينيه، أصبح العالم كأنه مهد هزاز.
تابعت شفتا الزوج بإخلاص تحركات عينيه، فتابعتا الثديين اللذين ترتفع فيهما حركة التنفس عاليا. أمسك الزوج الحلمتين اللتين تشبهان براعم زهور الكرز البري، فانتصبتا عندما وضعهما بين شفتيه. جمال الذراعين اللذان ينسابان بسلاسة لأسفل على جانبي الصدر، ليصلا كما هما بنفس التفاصيل والاستدارة إلى الرسغين. ثم في نهاية ذلك توجد الأصابع الحساسة التي كانت تقبض على المهفة في يوم حفل الزفاف. انسحبت الأصابع واحدا بعد الآخر لتحاول التخفي وراء بعضها البعض حياء من أمام شفتي الزوج. يظهر التقوس الطبيعي الرباني الذي يصل من الصدر إلى البطن، ويميل بليونته كما هو بواسطة القوة المنطلقة، ومع إيحائه عن المنحنى الغني الذي يمتد حتى الخصر، يظهر انضباطا صحيحا للجسد ليس به إهمال. كان بياض البطن والخصر وثراؤهما اللذان بعدت فجوة بينهما وبين الضوء، يبدوان كأنهما حليب أبيض يملأ وعاء كبيرا عن آخره. والسرة النقية كانت كأنها أثر مستمر لقطرة مطر سقطت هنا لتصنع بقوة ذلك التكور البارز. يتجمع الشعر بلطف وحساسية في الأجزاء الأكثر كثافة من الظل. ونمت الرائحة التي تشبه عطر زهرة عالية تحترق مع اهتزازات الجسد التي لم تهدأ حتى الآن، ولا يبدو لها أنها ستنتهي.
أخيرا قالت ريكو ما يلي بصوت غير مؤكد: «أرني. دعني أنا أيضا أنظر إليك نظرة وداع.»
لم يسبق مطلقا أن خرجت الكلمات من فم زوجته تطلب بهذه القوة طلبا شرعيا. ولأنها كانت تسمع وكأنها انفجار لما ظلت تخفيه حتى النهاية بسبب الحياء؛ فقد استجاب الزوج بتلقائية وتمدد نائما تاركا جسده لزوجته. الجسم الأبيض الذي يرتجف أقام جذعه بمرونة، وقد التهب بأمنية محببة. وهي رد كل ما فعله زوجها بجسدها إلى جسده، وقامت بإغماض عيني زوجها اللتين تتأملانها بسحبة من إصبعيها الأبيضين.
احتضنت ريكو رأس زوجها الذي قصر فيها الشعر حتى مداه، وقد طغت محبته في قلبها فاحتقنت خدودها حتى احمرت. شعر زوجها القصير يؤلم ثدييها الذي يلمسه ، بينما اندفن أنفه البارد النافر داخل ثدييها، فألهبتهما أنفاسه الحارة . ابتعدت الزوجة لتتأمل هذا الوجه الرجولي عن بعد؛ الحواجب المحكمة الشكل، والعيون المغمضة، وأرنبة الأنف النابه، الشفتين الجميلتين المعقودتين في إحكام، الخد المخضر لامعا في سلاسة يعكس ضوء المصباح بسبب نعومة الحلاقة. قبلت ريكو كل ذلك، ومعه العنق المتضخم، والكتف القوي البارز، الصدر الشجاع القوي الذي وكأنه درعان منتصبان يواجهان بعضهما، وكذلك حلمة الثدي ذات اللون الزعفراني. تفوح من تحت الإبطين اللذين يلاقيان جانبي الصدر بعضلاتهما الجيدة بظلهما الغامق عليه رائحة مسكرة وحزينة من الشعيرات النابتة، تنبئ عذوبة تلك الرائحة بشكل ما عن إحساس حقيقي بموت شبابي. تتوهج بشرة الزوج، وكأنها مثل حقول القمح، وتكشف العضلات المضلعة في كل جسده بروزها الواضح علانية، وتتلاقى عضلات البطن أسفل البطن لتضم السرة المتواضعة الصغيرة معها. كانت ريكو وهي تتأمل تلك البطن اليافعة الفتية، تلك البطن المتواضعة المغطاة بالشعر النامي، تتذكر أنه سيتم بعد قليل قطعها ثم شقها بقسوة، ومن فرط الحب انهارت باكية تغرقها بقبلاتها.
أحس الزوج النائم بانسكاب دموع زوجته فوق بطنه، فعقد عزمه على تحمل آلام قطع البطن الرهيبة بشجاعة، مهما كانت مؤلمة وقاسية.
بعد هذه التفاصيل، لا داعي للحديث عن درجة المتعة الفائقة التي تذوقها الزوجان. عدل الزوج جسده بفحولة، واحتضن بشدة جسد زوجته الذي أنهكه الحزن والدموع بين ذراعيه القويتين. لامس كل منهما خدود بعضهما بعنف وجنون. وارتجف جسد ريكو، وانضم بإحكام الصدر المبتل بالعرق مع الصدر المبتل بالعرق، وتوحد الجسدان الشابان الجميلان في كل ركن منهما، لدرجة الاعتقاد أنه من المحال فصلهما عن بعض مرة أخرى.
صرخت ريكو صرخة قوية. سقطت من الأعالي إلى الهاوية، ثم أخذت من الهاوية أجنحة حلقت بها إلى مستويات مذهلة من الأعالي مرة أخرى. لهث الزوج وكأنه فارس الجيش المغوار الذي قطع مسافات هائلة عدوا. وهكذا بعد انتهاء الدورة الأولى، انبعثت على الفور شهوة الرغبة مرة أخرى، وسريعا صعدا معا ثانية إلى ذات القمة السامقة بلا أي أثر للإجهاد أو التعب.
4
مر الوقت ولم يكن إبعاد الزوج لجسده بسبب بلوغه الملل، ولكن السبب الأول هو خوفه من إبادة القوة اللازمة لبقر بطنه. والسبب الآخر هو خوفه من ضياع الذكرى الأخيرة الجميلة المذاق؛ بسبب الشره والإفراط في الجشع.
عندما أبعد الزوج جسده بوضوح، وكما هي عادتها دائما، استجابت ريكو لذلك بلا مقاومة. ظل الاثنان كما هما عاريين نائمين على ظهريهما، ينظران بصمت إلى سقف الغرفة وقد شبكا أصابع يديهما. وجف العرق سريعا، ولكن بسبب حرارة المدفأة لم يحسا بأي برودة. هذا الوقت من الليل هادئ تماما، حتى صوت السيارات انقطع تماما، صوت مترو البلدية، والمترو الحكومي بجوار محطة يوتسويا يتردد صداه فقط في المنطقة الداخلية من خندق القصر الإمبراطوري، ولكن تحجبه غابة أشجار الحديقة المواجهة للطريق الواسعة أمام قصر ولي العهد في أكاساكا، فلا يصل إلى هنا. في تلك الرقعة من طوكيو يبدو شعور التأزم بسبب المواجهة بين شطري الجيش الإمبراطوري الذي انقسم على نفسه، وكأنه كذب.
يتذكر الاثنان وهما يحسان بالحرارة الداخلية المتوهجة لجسديهما، المتعة اللانهائية التي تذوقاها معا منذ لحظات. يفكران في حلاوة كل لقطة من اللقطات المذهلة، طعم تلك القبلات التي لا تنتهي لحظة بلحظة، شعور تلامس البشرة.
ولكن كان وجه الموت القابع في ألواح السقف المظلم يختلس النظر إليهما بالفعل؛ فتلك السعادة هي الأخيرة، ولن تعود لهذا الجسد مرة أخرى. ولكن عند التفكير وإمعان النظر، فحتى لو طال العمر أبعد من ذلك، فتقريبا من المؤكد أنهما لن يصلا إلى تحقيق السعادة بهذه الدرجة مرة ثانية، وذلك ما يؤمن به كلاهما.
أخيرا فقدا هذه المرة إحساس لمسة أصابعهما المتشابكة. حتى أشكال عروق ألواح السقف الخشبية التي ينظران إليها الآن، فقداها في النهاية. لقد شعرا أن الموت قد بدأ يحتك رويدا رويدا بجسديهما. لا يجب إضاعة الوقت. يجب إيقاظ الشجاعة والعزيمة، والتوجه من تلقاء نفسيهما تجاه ذلك الموت والإمساك به.
قال الزوج: «حسنا، لنبدأ الاستعدادات.»
من المؤكد أن نبرة صوته كانت حاسمة وقوية، ولكن ريكو لم يسبق لها أن سمعت صوت زوجها بهذه الدرجة من الحرارة والوداعة والحنان.
بعد أن قاما من الفراش كان ينتظرهما الكثير من العمل والاستعدادات.
كان الزوج لم يقم من قبل حتى هذه اللحظة بالمساعدة في رفع الفراش أو تجهيزه ولو مرة واحدة؛ إلا أنه فتح الخزانة بحيوية ونشاط، وحمل الفراش بيده ووضعه فيها.
ثم أطفأت ريكو مدفئة الغاز، وأبعدت المصباح. كانت ريكو أثناء غياب زوجها عن المنزل قد أنهت بالفعل ترتيب هذه الغرفة، وجعلتها نظيفة وجميلة، وفيما عدا إزاحة الطاولة المصنوعة من خشب الورد إلى أحد أركان الغرفة، كان الغرفة الكبيرة ذات ثمانية القطع من حصير التاتامي، لا تختلف كثيرا عن منظرها المعتاد كغرفة ضيوف مخصصة لاستقبال الضيوف المهمين. - «لقد شربنا معا كثيرا في هذه الغرفة، مع كانو وهوما وياماغوتشي.» - «بالفعل، شربتم كثيرا.» - «سنقابلهم في القريب العاجل في العالم السفلي. عندما يرون أنني قد جئت بك معي بالتأكيد سيسخرون مني.»
عندما هم الزوج بالنزول إلى الطابق السفلي، وجه الزوج نظره للخلف تجاه الغرفة الهادئة النظيفة المضاءة الآن بضوء أحمر، وخطر على ذهنه وجوه الضباط الشبان الذين كانوا في هذه الغرفة، يشربون ويتمازحون ويتفاخرون فيما بينهم في براءة. وقتها لم يكن يعتقد ولا في الأحلام أنه سيقوم ببقر بطنه هنا في نفس الغرفة.
انشغل الزوجان كل على حدة في غرفتي الطابق السفلي، بالاستعداد في انسيابية وسلاسة. عرج الزوج على دورة المياه، ثم دخل في طريق عودته إلى الحمام ليغتسل. وأثناء ذلك، طوت ريكو روب زوجها، ثم وضعت أمام باب الحمام قطعة جديدة من القماش الأبيض طولها حوالي ستة أذرع مع زيه العسكري الكامل، ثم رصت على الطبلية ورقتين مخصصتين لكتابة الوصية. وأخيرا نزعت غطاء محبرة الفحم ثم أذابت الفحم في الحبر. كانت قد فكرت وقررت بالفعل كلمات وصيتها.
ضغطت أصابع ريكو على قطعة الحبر المذهبة الباردة، انتشر سائل الحبر في فجوة المحبرة سريعا مثل انتشار السحاب في السماء، توقفت عن التفكير. إن تكرار كل هذه الحركات، ضغط الأصابع، وذلك الصوت الخافت الذي يذهب ويأتي، فقط من أجل الموت. حتى يظهر الموت أمامها أخيرا لم يكن ذلك إلا مجرد عمل من الأعمال المنزلية اليومية المعتادة التي تستقطع الوقت في هدوء وسكينة. ولكن مع إذابة سائل الفحم، إحساس لمسة الحبر الذي يزداد سلاسة، ورائحة الفحم المتصاعدة بقوة، يوجد ظلام لا يمكن التعبير عنه بالكلام.
خرج الزوج من الحمام، وقد ارتدى زيه العسكري كاملا بدون ملابس داخلية. ثم جلس صامتا أمام الطبلية على الأرض، وأمسك بالفرشاة، وأمام الورق أصابه التردد.
حملت ريكو رداءها الحريري الأبيض وتوجهت إلى الحمام. بعد أن اغتسلت، وضعت زينة الوجه، وعندما ظهرت في رداء الكيمونو الأبيض إلى غرفة المعيشة، رأت الورقة التي تحت المصباح كتب عليها الوصية التالية فقط بخط أسود فاحم: «عاش الجيش الإمبراطوري،
الملازم أول شينجي تاكياما،
مشاة القوات البرية.»
وعندما جلست ريكو في مواجهة زوجها لتكتب وصيتها. ظل الزوج صامتا، بوجه جاد وصارم، يتأمل حركات الكتابة الصحيحة لأصابع زوجته البيضاء، وهي تمسك بالفرشاة.
حمل الزوج سيفه العسكري، وغرزت ريكو الخنجر الصغير في حزام ردائها الأبيض، وحملا الوصيتين واصطفا أمام مذبح الآلهة وقاما بالصلاة في صمت، ثم أطفأ الزوج كل مصابيح الطابق السفلي. تأمل الزوج الذي نظر للخلف في منتصف الدرج الصاعد للطابق العلوي، بعينيه جمال هيئة زوجته برداء العرس الأبيض، وهي تتبعه صاعدة في وسط الظلام وعيناها تنظران لأسفل قليلا على استحياء.
وضعا الوصيتين متراصتين جنبا إلى جنب في موضع الزينة في الطابق العلوي، كان يجب إزالة الزينة المعلقة. ولكن لما كانت اللوحة بخط اللواء أوزيكي عراب زواجهما، ولأنها مكتوب عليها فقط كلمتان اثنان هما «الإخلاص للنهاية»؛ فلذا تركاها كما هي. فحتى لو اتسخت قليلا بقطرات من الدماء المندفعة، فمن المؤكد أن اللواء سيغفر لهما ذلك.
جلس الزوج جلسة معتدلة معطيا ظهره لعمود ركن الزينة، ووضع سيفه العسكري بالعرض أمام ركبتيه.
ثم جلست ريكو معتدلة كذلك على بعد قطعة واحدة من حصير التاتامي. ولأن كل ما فيها أبيض، فقد بدا أحمر الشفاه الخفيف الذي وضعته على شفتيها لامعا للغاية.
ظل الاثنان يتأملان بعضهما ، تفصلهما عن بعض قطعة حصير تاتامي واحدة. يوجد السيف العسكري أمام ركبة الزوج. عندما رأته ريكو تذكرت أحداث أول ليلة بينهما، فلم تقدر على احتمال الحزن. فقال لها الزوج بصوت خافت لا يكاد يسمع: «لأنه لا يوجد من يقوم بال «كاي شاكو».
2
فسأقطع بطني بعمق. ربما يكون هذا مشهدا مؤلما، ولكن يجب ألا تجزعي؛ فعلى أي الأحوال النظر إلى الموت عن قرب أمر مريع. لا يجب تحبطي أبدا إذا شاهدت ذلك. هل فهمت؟»
قالت ريكو: «فهمت.» ثم نكست رأسها عميقا.
عندما رأى الزوج ذلك الجسد الأبيض البض، أحس أمام مواجهة الموت بأنه تذوق نشوة عجيبة المذاق. ما سيقوم به الآن هو فعله كرجل عسكري، وهو ما لم تره زوجته من قبل قط. إنه الموت المعادل تماما في صفاته للموت في ساحة الحرب، والذي يحتاج إلى عزيمة مساوية تماما لعزيمة المعارك الفاصلة في ساحة الوغى. إنه سيري زوجته الآن شكل ساحة القتال.
للحظة قاد ذلك الزوج إلى أوهام عجيبة، أوهام تجعله يموت وحيدا في ساحة القتال، ولكن زوجته الجميلة توجد أمام عينيه، فهو يضع كل قدم من قدميه على أحد هذين المشهدين المتباعدين، فيجسد وجودا مشتركا لأمرين يستحيل وجودهما معا، مما يوجد مذاقا حلوا لا يمكن التعبير عنه لشعوره أنه الآن على وشك الانتحار، حتى اعتقد أن تلك ولا ريب هي السعادة الحقيقية. إن تتبع عيني زوجته الجميلة لموته لحظة بلحظة، يجعله يحصل على الموت في جو تفوح فيه نسائم خفيفة ذات عطر رائع. وعند ذلك يوجد شيء ما رضي له به؛ شيء ما مجهول، في عالم لا يعلمه الآخرون، عالم غير مسموح لأحد آخر أبدا، أصبح مباحا له. منظر زوجته الجميلة التي أمامه، في زي الكيمونو الأبيض كالعروس، يجعل الزوج يحس أنه يرى فيها صورة الإمبراطور والوطن وراية الجيش وكل شيء أحبه، ثم هو الآن يضحي بحياته من أجله؛ فكل هؤلاء مساوون لزوجته التي أمامه، من أي مكان، مهما كان بعيدا، لهم وجود يغمره الآن بالنظر والتأمل بعيون لا ينقطع منها إشعاع الطهر والبراءة.
وكذلك كانت ريكو، وهي تتأمل هيئة زوجها الذي على وشك الموت، تفكر في أنه لا يوجد في هذا العالم ما هو أجمل منه. ذلك الزوج الذي يناسبه تماما الزي العسكري، وتلك الحواجب الصارمة مع تلك الشفاه المضمومة بإحكام، على الأرجح أنهما تعبران عن أقصى ما يصل إليها الجمال الرجولي وهو يواجه الموت الآن.
فجأة قال الزوج: «حسنا، حان وقت العمل.»
قامت ريكو بالانبطاح بجسدها بعمق فوق حصير التاتامي مؤدية التحية لزوجها. ولم تستطع أبدا رفع وجهها مهما حاولت. لم تكن تريد إفساد زينة وجهها، ولكنها لم تستطع إيقاف دموعها.
وعندما استطاعت أخيرا رفع وجهها، كان الذي رأته من بين دموعها منظر زوجها وقد نزع السيف العسكري بالفعل، ويلفه بالقماش الأبيض تاركا مقدار شبر من نصله.
بعد أن انتهى من لفه وضع زوجها السيف أمام ركبتيه، أراح الزوج ركبتيه فجلس متربعا، وفك الهوك من ياقة زيه العسكري. تلك العيون لم تعد ترى الزوجة. فك الأزرار النحاسية المستوية واحدا بعد الآخر ببطء. وظهر صدره ذو اللون الأسمر الباهت، وأخيرا ظهرت بطنه. أزاح القفل الحديدي للحزام، وفك أزرار السروال. وظهر خلسة القماش الأبيض الناصع ذو الستة أذرع، استرخت بطن الزوج أكثر، ثم خفض بيديه الاثنتين السروال الداخلي، وأمسك بيده اليمنى قبضة سيفه العسكري ذات القماش الأبيض. ثم وهو بهذا الحال نظر لأسفل إلى بطنه، ودلك أسفل بطنه بيده اليسرى لتسترخي.
كان الزوج قلقا من درجة حدة السيف، فقام بثني سرواله الأيسر مظهرا جزءا من فخذه، ثم أجرى نصل السيف عليه بخفة. على الفور تدفقت الدماء من الجرح، وانسابت عدة خطوط من الدماء لأسفل، وهي تتألق لامعة؛ بسبب أشعة الضوء القوية.
خفق قلب ريكو، التي ترى لأول مرة في حياتها دماء زوجها، خفقانا مرعبا. نظرت إلى وجه زوجها. الزوج رابط الجأش يتأمل الدماء في هدوء. شعرت ريكو بالأمان لحظيا رغم إيمانها أن ذلك أمان مؤقت.
عندها نظر الزوج إلى زوجته بعنف بعيون مثل عيون الصقر، وأدار السيف إلى الأمام، ورفع خصره، وجعل نصف جسده العلوي يغطي على نصل السيف. ومن خلال غضبة كتف زيه العسكري، يعرف درجة استنهاضه كل قوة في جسده. كان تفكير الزوج هو محاولة غرز السيف بكل قوته في ضربة واحدة تصل لأعماق جنبه الأيسر. صوت صيحة العزم الحاد اخترق سكون الغرفة.
ورغم أن الزوج هو الذي ضرب بكل قوته، ولكنه شعر وكأن شخصا ما ضربه ضربة مؤلمة بعصا حديدية في جنبه. للحظة دارت رأسه ولم يعرف ما الذي حدث. نصل السيف الذي أظهر منه حوالي خمسة أو ستة بوصات كان مدفونا تماما في اللحم، والقماش الذي يقبض عليه الكف كان يلامس البطن مباشرة.
عاد إليه الوعي. وظن الزوج أن السيف قد اخترق غشاء البطن بالتأكيد. خفق القلب بشدة مع صعوبة في التنفس، وفي الأجزاء العميقة من أحشائه البعيدة وكأنها ليست أحشائه، يحس أن آلاما رهيبة مرعبة بدأت تفور مثل فورة الحمم البركانية الملتهبة بعد حدوث صدع في الأرض. تلك الآلام الرهيبة تقترب فجأة بسرعة مرعبة. كانت التأوهات على وشك الصدور عفوا من الزوج، لكنه عض على شفته السفلى ومنعها.
عندها فكر الزوج: هذا إذن هو بقر البطن. إنه شعور مريع فظيع، وكأن السماء تسقط فوق الرأس، والعالم يتزعزع بنيانه، عزيمته وشجاعته اللتان كانتا قبل القطع بتلك القوة والثبات، الآن صارا وكأنهما عبارة عن سلك رفيع. واجتاحه القلق؛ لأنه يجب عليه من الآن التعلق به بكل جد. بدأ الكف يصبح زلقا. وعند النظر وجد أن القماش الأبيض والكف معا غارقان في الدماء. والسروال الداخلي قد صبغ تماما باللون الأحمر. إنه لمن العجيب في وسط هذه الآلام الرهيبة، أنه ما زال ما يرى يرى، وما يوجد يوجد.
ريكو في اللحظة التي دفع فيها الزوج بالسيف داخل جنبه الأيسر، وعندما رأت انسحاب الدم من وجهه، وكأن ستارة قد تدلت على الفور. كانت تصارع نفسها لتمنعها من الاقتراب منه. في كل الأحوال يجب رؤية ذلك. يجب مشاهدة رحيله. تلك هي المهمة التي أوكلها الزوج إلى ريكو. بدا لها في الناحية الأخرى التي تبعد قطعة حصير واحدة فقط منها. بدا وجه زوجها الذي يعض على شفته السفلى، ويتحامل على الآلام واضحا. تلك الآلام تظهر في الواجهة (في وجهه) دقيقة تماما بدون أي فواصل، ولو حتى دقيقة زمن واحدة. ولم يكن لدى ريكو أي حيلة لإنقاذه من ذلك.
يلمع العرق الذي ظهر نضحا على جبين زوجها. أغمض الزوج عينيه، ثم فتحهما وكأنه يختبرهما. فقدت عيونه بريقها المعتاد، وتبدو بريئة جوفاء مثل عيون حيوانات صغيرة.
تلمع الآلام مثل شمس الصيف المتوهجة أمام أعين ريكو، دون اعتبار لحزنها المؤلم الذي يكاد يقسم جسدها إلى نصفين. تزيد الآلام من قامتها أكثر وأكثر، ترتفع وتمتد. شعرت ريكو أن زوجها قد أصبح بالفعل شخصا من عالم مختلف، وأعيد وجوده كله إلى الآلام، وأصبح سجينا في قفص من الآلام لو مدت يديها لا تستطيع لمسه. بل المؤسف أن ريكو لا تتألم. الحزن والأسى لا يؤلم. عندما تفكر في ذلك، تشعر ريكو وكأن شخصا ما أقام بينها وزوجها حائطا زجاجيا عاليا يحجز المشاعر.
منذ زواجهما ووجود زوجها يعني وجودها، وتنفس زوجها هو أيضا تنفسها، ولكن الآن، ورغم وجود زوجها الواضح في الآلام، فإن ريكو في وسط الحزن والأسى لا تستطيع أن تمسك ولو بدليل واحد مؤكد على وجودها.
حاول الزوج جذب يده اليمنى ولفها، ولكن التفت الأمعاء حول نصل السيف وبسبب قوة المقاومة اللينة لها. ارتد نصل السيف؛ ولذا علم أنه لا بد من دفع السيف بكلتا يديه إلى أعمق أعماق البطن ثم يجذبه ليديره. أداره، ولكن السيف لا يقطع كما كان يتوقع. وضع الزوج كل قوته في يده اليمنى وجذب السيف. قطع حوالي ثلاثة أو أربع بوصات.
انتشرت الآلام تدريجيا من داخل أعماق البطن، وصارت البطن بأكملها وكأنها تئن برنين مدو. وكان كأنه ناقوس ضرب بهمجية، مع كل نفس يتنفسه، ومع كل دقة نبض تنبض، تضرب الآلام آلاف النواقيس في وقت واحد، وتهز كيانه وجوده كله. صار الزوج لا يقدر على السيطرة على تأوهاته أكثر من ذلك. لكن عندما نظر فجأة ووجد أن السيف قد قطع حتى وصل إلى أسفل السرة بالفعل، شعر بالرضا والشجاعة.
بدأت الدماء تدريجيا تندفع من الجرح بغزارة مع النبض. تبلل الحصير الذي أمامه محمرا بالدماء المندفعة، وسقط الدم من ثنية السروال ذي اللون الكاكي، بعد أن تجمع فيها. وفي النهاية وصلت نقطة دم طائرة مثل العصفور الصغير، لتصل إلى ركبة رداء ريكو الأبيض البعيد.
عندما أدار الزوج السيف حتى جنب البطن الأيمن، كان نصله قد أصبح أقل عمقا، وظهر جسم السيف المنزلق بين الدماء والدهون. هجمت على الزوج نوبة قيء؛ فصرخ صرخة مبحوحة. مزج القيء الآلام أكثر، والبطن التي كانت حتى الآن صلدة متماسكة، ضربتها الموجات فجأة، وتوسع الجرح، وكأن فتحة الجرح تتقيء بكل عزمها، فقفزت الأمعاء خارجة منها، وكأنها لا تحس ولا تعرف بآلام صاحبها؛ إذ كانت في صحة جيدة وحيوية عالية لدرجة مثيرة، فانزلقت خارجة في فرح وسعادة مغرقة ما بين فخذيه. نظر الزوج لأسفل، وهو يتنفس بكتفه، فاتحا عينيه قليلا، ويتدلى من فمه خيط من اللعاب. وفي الكتف يلمع اللون الذهبي لنيشان الكتف.
تبعثرت الدماء هنا وهناك، وغرق الزوج في وسط بركة دمائه التي وصلت حتى ركبتيه، وهناك وضع إحدى يديه وسقط منهارا. الرائحة العطنة النفاذة تملأ أركان الغرفة، وتظهر بوضوح على الكتف حركة تكراره للقيء وهو منحن للأمام، وكأن الأمعاء قد طردته للخارج. كان السيف قد ظهر كله بما في ذلك النصل، والزوج ما زال قابضا عليه بيده اليمنى.
هيئة الزوج وقتها وقد تقوس ظهره للخلف كانت في غاية البطولة لدرجة لا مثيل لها. ولأنه انحنى للخلف بشكل مفاجئ وعنيف للغاية، فقد سمع بوضوح صوت ارتطام مؤخرة رأسه بعمود الغرفة. ولأن ريكو حتى ذلك الوقت كانت خافضة وجهها، تتأمل بتركيز سيل الدماء المقترب من ركبتيها، فقد تفاجأت لذلك الصوت ورفعت وجهها.
لم يعد وجه الزوج وجه إنسان حي؛ فالعين تقعرت، والبشرة جفت، وتلك الخدود والشفاه التي كانت في منتهى الجمال، تحولت إلى لون الطين المتيبس. ولكن اليد اليمنى التي تقبض على السيف وكأنه أثقل ما يمكن، هي فقط، تتحرك طائشة في الهواء مثل العرائس المتحركة، وتحاول أن تضع نصل السيف أسفل العنق. وهكذا كانت ريكو تتأمل وهي ترى بوضوح، آخر جهود زوجها العقيمة، وأكثرها معاناة. نصل السيف الذي يلمع من الدماء، والشحم يحاول أكثر من مرة الوصول إلى العنق، ثم يخفق. لم تعد توجد بالفعل القوة الكافية؛ النصل الذي أخفق يرتطم بالياقة، أو يصيب النيشان. ورغم أن الهوك مفكوك فإن الزي العسكري الصلد، يضيق؛ ليحمي العنق من نصل السيف.
أخيرا لم تعد ريكو تستطيع النظر فحاولت الاقتراب من زوجها، ولكنها لم تقدر على الوقوف. ولأنها زحفت بركبتيها وسط الدماء مقتربة منه، فقد صار طرف ردائها الأبيض مصبوغا باللون الأحمر. دارت وذهبت خلف زوجها، وقدمت له العون ليستطيع فقط توسيع فتحة الياقة. أخيرا لمس نصل السيف المرتعش الحنجرة العارية. وقتها أحست ريكو أنها هي التي دفعت زوجها للأمام، ولكن لم يكن هذا ما حدث، بل كانت تلك آخر قوة يمتلكها الزوج بنفسه وبإرادته. قام فجأة بإلقاء جسده تجاه نصل السيف، فاخترق السيف رقبته، ومع نافورة الدم اللانهائية، سكن تماما تحت المصباح الكهربائي بجانب نصل السيف الأزرق الهادئ.
5
نزلت ريكو الدرج ببطء بجوربها الذي ينزلق بسبب الدماء. كان الطابق العلوي قد أصبح بالفعل في هدوء موحش.
قامت ريكو بإضاءة أنوار الطابق السفلي، وتأكدت من مواضع النار، ثم فحصت محبس الغاز الرئيسي، ورشت بعض الماء على منقل الفحم لإطفاء النيران المتبقية تحت الرماد. ثم ذهبت إلى المرآة في الغرفة الصغرى، ورفعت ثيابها المتدلية. وظهرت الدماء التي على الرداء الداخلي الأبيض، وكأنها تصميم قوي جريء رائع الجمال. وبعد أن جلست أمام المرآة، شعرت ببرودة قليلة عند منطقة الفخذ التي كانت قد تبللت بدماء زوجها، مما جعل جسدها يرتعش. ثم بعد ذلك استغرقت وقتا طويلا في إصلاح زينتها. وضعت على خدها مسحوقا بلون أحمر غامق، وكذلك صبغت شفتيها بلون غامق. لم تكن تلك الزينة من أجل زوجها الراحل، بل هي زينة من أجل العالم الذي ستتركه؛ ولذا فقد كانت لمسة الفرشاة تحتوي على شيء هائل. عندما وقفت كان حصير التاتامي أمام المرآة قد تبقع كذلك بالدماء، ولكن ريكو لم تأبه لذلك.
ثم بعد ذلك ذهبت إلى المرحاض، وفي النهاية وقفت أمام الباب في مدخل البيت. لقد كان إغلاق زوجها لقفل المنزل ليلة أمس علامة الاستعداد للموت. فكرت ريكو لفترة بعمق في أفكار ساذجة. هل يجب أن تفتح قفل الباب أم لا؟ إذا أغلقت باب المنزل، فمن المحتمل ألا ينتبه الجيران لعدة أيام إلى موتهما. كانت ريكو لا تفضل أن يتم اكتشاف جثتيهما بعد تعفنهما؛ لذا من الأفضل عدم غلق قفل الباب. فتحت ريكو قفل الباب، ودفعت مزلاج الباب الزجاجي المصقول ففتحته قليلا. وعلى الفور هبت عليها نسمات من الهواء البارد. الطرقات في هذا الوقت المتأخر من الليل خالية تماما من أي أثر لإنسان، وظهرت لها النجوم المتجمدة تتلألأ في حديقة الأشجار بين منزلهما والمنزل المقابل.
تركت ريكو الباب بهذا الشكل كما هو وصعدت درجات السلم. لم يعد الجورب ينزلق، لأنها سارت به داخل المنزل. كانت الرائحة النفاذة العطنة قد اجتاحت بالفعل المكان لتصل أنفها عند منتصف الدرج.
كان زوجها منبطحا على وجهه في بحر من الدماء. وأحست ريكو أن حد السيف الواقف من عنقه قد صار أكثر بروزا عن ذي قبل.
مشت ريكو فوق بحر الدماء غير عابئة. ثم جلست بجوار جثة زوجها. وظلت تتأمل جانب وجهه المنبطح فوق حصير التاتامي. كان الزوج فاتحا عينيه على وسعهما، وكأنه قد انجذب لشيء ما. رفعت رأسه تلك بطرف ردائها، ومسحت الدماء التي على شفتيه بذلك الطرف، ثم قبلته قبلة الوداع.
بعد ذلك قامت واقفة، وأخرجت من الخزانة لحافا أبيض جديدا وحزاما للخصر. لفت اللحاف حول خصرها حتى لا ينكشف طرف ردائها، ثم ربطته بقوة بواسطة حزام الخصر.
ثم جلست بعيدة عن جثة زوجها بمقدار ذراع. وأخرجت الخنجر من غمده، وظلت ترنو إلى حده اللامع الرائق ثم وضعته على لسانها. كان مذاق الصلب المصقول له قليل من طعم السكر.
لم يصب ريكو أي تردد أو حيرة، فعندما تفكر أن المعاناة الأليمة التي باعدت بينها وبين زوجها لهذه الدرجة وهو يموت منذ قليل، ها هي هذه المرة تصير ملكها، لم يبق لها إلا فرحة انضمامها إلى العالم الذي يضم زوجها بالفعل الآن. كانت قد وجدت في وجه زوجها وهو يصارع الآلام، شيئا غير مفهوم تراه لأول مرة. حان عليها الدور هذه المرة لكي تحل هذا اللغز. شعرت ريكو أنها الآن فقط ستستطيع تذوق الحلاوة والمرارة الحقيقيتين للعدالة التي آمن به زوجها. ذلك الطعم الذي كانت فيما مضى تتذوقه بصعوبة من خلال زوجها، هذه المرة ستذوقه بلسانها هي بدون أي شك أو خطأ.
وضعت ريكو حد الخنجر أسفل حنجرتها، ثم غرزته غرزة واحدة. كانت الغرزة ضحلة. سخنت الرأس بشدة، وتحركت اليد بصدمة قوية. شدت ريكو الخنجر بالعرض في قوة، اندفع شيء ما ساخن داخل الفم، وأصبح مرمى البصر أمام عينيها بالغ الحمرة؛ بسبب شبح نافورة الدماء المندفعة بقوة. جمعت ريكو ما تبقى لديها من قوة ودفعت الخنجر بقوة غارزة إياه في عمق الحنجرة.
16 / 10 /1960م
يوكيو ميشيما
التاجر
يوجد دير «تنشيئن»
1
فوق قمة هضبة عالية في ضاحية من ضواحي مدينة «ه». ومنذ أن تم بناء الدير في عام 31 من عصر ميجي لا يسمح بتاتا لعين أحد من الغرباء، وخاصة الرجال، أن تنظر إلى داخل بوابة الدير المحكمة الغلق. ويقال: إن من يستطيع الدخول إلى الدير من الرجال هما شخصان فقط؛ الطبيب الذي يحصل على تصريح من الدير بالدخول، والموظف الذي يقوم بفحص الزبد الذي يصنع داخل الدير.
إن من يزور الدير منطلقا بالسيارة من مدينة «ه»، ويصعد إلى قمة الهضبة التي تحيط بها أزهار الليلك في الربيع وأزهار الزنبق في الصيف، لا شك أنه سيجد متعة عندما يشاهد فجأة هذا المبنى المهيب الذي لا يمت لليابان بصلة إلى هذه الدرجة. ولأن أي شخص لديه علم مسبق، فهو على الأقل يعرف أن تلك الجنة المحرمة، المعزولة عن هذا العالم. ولأنه يأتي وهو يعي عدم قدرته على رؤية الدير من الداخل، ولكن عدم القدرة على الرؤية تلك تجعل خياله متنوعا ويتزين بسحر غامض.
ورغم السير بالسيارة لمدة ثلاثين دقيقة لزيارة الدير، ومع عدم القدرة على الدخول إلا إلى جزء ضئيل من البوابة الخارجية، فإن هذا المنع على العكس يزيد من شعبية المكان، ولا ينقطع طابور الزائرين؛ ولذا فالدير لا تنقطع عنه التبرعات والنذور.
توجد مقالة لكاتبة شهيرة استطاعت في الماضي الوصول لداخل الدير بعد حصولها على وساطة خاصة. ومؤخرا صدر كتاب يجمع صورا التقطها مصور محترف سمح له بالتصوير بدعوة خاصة. من يريد مشاهدة ما بداخل الدير فعليه بتلك الكتب.
ما لدينا من معلومات عما بداخل الدير يمكن إيجازها كما يلي: عدد الراهبات حاليا يزيد قليلا على مائة راهبة، ثلثهن يرتدين المسوح البيضاء، وهن راهبات فرقة الإنشاد اللائي يتمثل دورهن الرئيس في الصلوات. وأما الثلثان الآخران، فيرتدين مسوحا بنية اللون، وهن بمثابة مساعدات للراهبات اللائي دورهن الرئيس هو العمل. فالأبيض يرمز للفكر والبني يرمز للعمل. راهبات فرقة الإنشاد، يبدون بالفعل وكأنهن ملائكة حقيقية.
2
بعد أن يشعلن النار في شموع الشمعدانات باستخدام عصا طويلة في نهايتها شعلة، يقمن بطقس الدوران وهن ينشدن التراتيل الغريغورية بلغة لاتينية مبسطة. الراهبات يلتحفن الوشاح الأسود، وينتعلن قبقابا خشبيا، ويسرن في الممرات التي تم تلميعها جيدا، يغضضن أبصارهن. وعندما تتكلم إحداهن مع أخرى، لا تستخدم الكلمات، بل تتحدث بحركات هادئة من اليد ... إلخ.
ولكن لا يعتقد أن مثل هذه الكتب والصور التي تبدو واقعية بدرجة كبيرة، ترضي الزوار الذين يأتون إلى البوابة الخارجية للدير، وهم يعلمون تمام العلم عدم جدوى ذلك؛ ولذا فهم «مستمرون في المجيء» على أي حال.
كان شهر يونيو في تلك الأرض التي لا يوجد بها موسم أمطار، هو موسم تفتح زهور الزنبق، تحت سماء زرقاء مثيرة للقلق.
قرب الظهيرة، صعدت سيارة «ليموزين» فاخرة من ناحية مدينة «ه» إلى هضبة الدير، يستقل السيارة رجل وجيه متوسط العمر يغرق في الملابس السوداء رغم الصيف، وشاب يضع على عينيه نظارة طبية، هو على ما يبدو دليله للمكان.
الرجل الوجيه لا تشوب منظره شائبة. فهو ذو بشرة سوداء، شحيم الجسد، وتبدو عليه الثقافة والعلم، ويظهر بوضوح أنه من الأغيار. يملك وجها معرفيا مختارا، يخفي في أعماقه همجية شرقية. جاء هذا الأستاذ الجامعي إلى هذه المنطقة من أجل إلقاء محاضرات سريعة، وقد اتخذ تلميذه القديم الذي يعمل حاليا محاضرا في جامعة تلك المدينة، كدليل له في الزيارة، وهما الآن على وشك زيارة الدير.
زهور الزنبق الكثيفة التي تنعكس على نوافذ السيارة تميل مع الرياح، وتملأ السيارة من الداخل برائحة لا يمكن وصفها. - «كح كح كح.»
أصدر الأستاذ الجامعي نحنحة من أنفه الشامخ: «كح كح كح.»
تبع التلميذ أستاذه بتأدب حقيقي.
قال الأستاذ: «بدأت رائحة الجنة تهل تدريجيا.»
رد التلميذ الذي هو من الأغيار: «بهذه الرائحة، يتم في البداية شل العقل عن التفكير.»
شرح الأستاذ قائلا: «استثارة الحواس التي تذكرنا نحن البشر العاديين بالرغبة المكبوتة، لا بد وأنها توقظ الآمال العظيمة لدى المؤمنين. انظر إلى هذا السور البالغ العلو.»
أشار الأستاذ إلى السور العالي المبني من الطوب، الذي له لون يقترب من الأبيض، والذي يحيط بكامل الهضبة. وكأن الأستاذ قد أصبح هو الذي يؤدي دور الدليل، فمن الأصل هذا الرجل لا يحتاج إلى دليل. - «سور هائل. إنه سور ضخم للغاية لا يمكن رؤية مثله إلا في السجون، هل يعتقدون أنهم يقدرون على حجب هذه الدنيا عن الدير في عصر الطائرات والقنابل الذرية؟! إذا كان القصد أن يكون سياجا فكريا أو رمزيا؛ فلا توجد حاجة لمثل هذا السور الحجري الحقيقي. ورغم ذلك هل فعلا ما يوجد داخل هذا السور هو دير «تنشيئن» حقا؟ أم هي الجنة؟ أم على العكس هو مجرد عالم إنساني مختلف قليلا؟»
تجمد تلميذه الشاب تماما أمام هذا السؤال البالغ العمق الرفيع الذوق في الوقت نفسه. - «نعم؛ ففي أوروبا في العصور الوسطى، كانوا جميعا يعيشون داخل مثل هذا السور، وإن كانت توجد اختلافات في الدرجة فقط.» - «ولكن كانت هناك مذابح كذلك.» - «وكانت هناك أمراض. وحتى في هذا الدير، فلا يوجد أي اهتمام بالتغذية الصحية؛ لذا يقال إن هناك عددا كبير يموت بالسل.»
قطب الأستاذ حاجبيه بشكل ملفت. - «أنت، هذا أمر لا يغتفر، أمر لا يمكن السكوت عليه. من المفترض أن الكاثوليكية تحرم الانتحار، ورفض نعمة الطب الحديث، هو انتحار بالمعنى الكامل. يجب على العلم أن يفعل المستحيل ويقتحم هذا السور بلا تردد ويقتحم هذا الدير. وهنا بالنسبة للعلم يتطابق تماما موقف الإنسان صاحب غزيرة الفضول الذي يريد أن يدخل الدير ليعرف، والإنسان الذي يريد إشفاء المرضى بدافع إنساني.»
أثناء ذلك الحديث، كانت السيارة قد توقفت بالفعل على جانب الطريق ذي الأشجار الكثيفة بجوار السور وقال السائق: «السيارة لا يمكنها الدخول لأبعد من ذلك؛ لذا سأنتظر هنا.»
مسح الاثنان عرقهما أكثر من مرة، وهما يصعدان الدرج الحجري، وهما ينكسران مع ظلال الأشجار. - «زيارة المعابد والأديرة شيء جيد، ولكني أعاني دائما من استمرار هذه الدرجات بلا نهاية.» - «هذا الأمر لا يوجد فيه فارق كبير بين الشرق والغرب.» - «هل يوجد مصلحة لهم بإجبارنا، نحن غير المؤمنين، على هذه المعاناة؟»
أخيرا وصلا إلى البوابة التي عليها لوح برونزي منقوش فيه بالعرض كلمة «تنشيئن». دخلا من البوابة وقدم المحاضر الشاب طلبا بالزيارة إلى غرفة الحراسة الواقعة بجوار البوابة مباشرة.
ظهرت مساعدة راهبة شابة ممتلئة الجسد، وهي تبتسم. لا تدل هذه الابتسامة على السرور بقدر ما هي علامة تقول: أنا لا أحمل تجاهك أية عواطف أو مشاعر.
تقدمت مساعدة الراهبة أمامهما لإرشادهما، فدخل الاثنان الحديقة الأمامية لدير «تنشيئن».
يوجد هناك درجات حجرية بيضاء في غاية الجمال، تلتف حول نجيل أخضر وشجيرات جانبية تم تقصيفها بعناية ونظافة، صاعدة ناحية قاعة الصلاة. لا توجد زهور، ولكن فقط يتردد طنين أجنحة النحل الثقيل هنا وهناك. بالإضافة إلى ذلك يرتفع سور الحديقة الداخلية عاليا، وكذلك أسطح المباني المهيبة لصالة القداس وأماكن مبيت الراهبات التي تعلوها الصلبان، ترتفع شامخة خلف السور حاجبة السماء الزرقاء البعيدة.
كان الهدوء شاملا. ثنت مساعدة الراهبة ركبتيها قليلا، أمام تمثال العذراء المقام في أحد أركان السور، ورسمت الصليب على صدرها.
أثناء ذلك وقف الغريبان من الأغيار يتأملان طريق مجيئهما. استطاعا رؤية البحر بعيدا خلف منحنيات هضبة سوزوران،
3
ورؤية إحدى السفن البخارية تجر خلفها الدخان.
بدأت درجة الحرارة في أيام الصيف تلك ترتفع بعض الشيء. تدخل أشعة الشمس حتى داخل الأشجار الطبيعية التي تزين جانبي الدرج الحجري؛ لتجعل الظلال المتشابكة بحس مرهف مع الأوراق والفروع، تتراكم فوق بعضها في طبقات تحت انعكاس السطح المقصوص بأشكال مربعة.
توجد نسمات خفيفة لم تلحظ من قبل، في وسط الهواء الرائق الصافي بشكل لا مثيل له، تضرب تلك النسمات الخفيفة أحيانا الجبهة، وكأنها رفرفة جناح طائر. ومع كل ضربة باردة من تلك النسمات، كانت الروح كأنها تستقبل ضربة سوط رائعة منعشة.
لم تتكلم مساعدة الراهبة كثيرا. فتحت بوابة ثقيلة منحوتة من الخشب، وقادتهما إلى غرفة واسعة موحشة مزينة بلوحات ملونة. كانت تلك هي الحدود التي تربط ما خارج دير «تنشيئن» بما داخله. - «يمكن مشاهدة صالة القداس من هذا المكان.»
قالت ذلك، وهي تفتح مصراعي باب ناحية الحائط، فظهرت نافذة مثبت بها أسياخ حديدية طولا وعرضا. ومن خلالها شوهد ظلام يوجد فيه شيء ما يتلألأ.
ألقى البروفيسور نظرة بلا اهتمام ناحية المذبح المزين بتمثال للعذراء داخل صالة القداس. عند النظر من النافذة ذات الأسياخ، وفي عمق الناحية اليمنى منها، يمكن رؤية ذلك المذبح ذي اللون الذهبي المتوهج الذي يعطي ظهره لكوة مزينة بالورد.
جذبت عيون البروفيسور الواسعة التي تبرز للخارج قليلا، الجفون الضيقة بالقوة، وبدت وكأنها ترغب في الهروب خارج محجريهما.
دار البروفيسور ببصره، ناحية الجهة اليمنى من عمق النافذة ذات الأسياخ، ثم حملق ناحيتها طويلا.
كان يتكون على سطح الحائط هناك ظل مهيب صارم لأسياخ النافذة ومتعامد عليها. كان الظلام عميقا، ولا يرى خلف الأسياخ إلا أن المقاعد الخشبية موزعة بانتظام في صفوف بشكل ضبابي فقط. وما هو أبعد من ذلك كان غارقا في الظلام، ولا يرى منه شيء .
ولأن البروفيسور ظل وقتا طويلا ينتظر رؤية شيء ما، فقد ظن أنه رأى شخصا بملابس بيضاء يمر بالعرض بخطى متسارعة، وقد أمال رأسه إلى أسفل. ولكنه لم يسمع صوت القبقاب، بلا شك هو من وهم خيال عينيه.
لم يبق بعد ذلك سوى حجرة فيها ما يشبه الهدايا والأشياء العادية من الأعمال اليدوية التي تصنعها راهبات الدير من قش الشعير؛ مثل: العرائس وحامل كروت البريد. وبهذا كانت الزيارة تقريبا قد انتهت.
كل ذلك لم يستغرق إلا نحو عشر دقائق. كان ذلك فقط هو ما يمكن للزوار رؤيته.
خرج الاثنان من بوابة دير «تنشيئن» بعد انحناءة في غاية الأدب، ثم هبطا الدرج الحجري. وفورا بدأ التهامس بالشتائم. المحاضر الشاب كان قد اعتاد ذلك بسبب كثرة مجيئه دليلا لمعارفه وأصدقائه، ولكن البروفيسور كان قد أحس أنه قد خدع بعد أن تم استدراجه بطعم جيد الشكل.
فقام بضرب السور العالي المصنوع من الطوب المحاذي للدرج الحجري بقبضة يده معبرا عن غضب عارم: «هل هذه هي الجنة الأرضية؟»
التلميذ الذي أحسن تأديبه، أظهر أقصى ما يستطيع من ملامح الموافقة والتأييد: «الخلاصة هي: أن الأديان جميعها عبارة عن نوع من أنواع الخيال.»
عندما هما بركوب السيارة الفاخرة التي كانت قد غيرت اتجاهها، شاهد البروفيسور شيئا غريبا، فقام بطرق كتف تلميذه. نظر التلميذ في ذلك الاتجاه، فاستدارت عيونه من الدهشة.
دراجة عادية تصعد هضبة سوزوران، قادمة في اتجاههما. يقودها رجل قصير، ممتلئ الجسد قليلا، يرتدي معطفا. وقد أمسك تحت إبطه سلما طويلا بشكل أفقي. يجري السلم فوق حقول الزنبق، وهو يسقط أحيانا بعنف كئوس زهور الزنبق. ولأن ذلك السلم ظهر كأنه فقد التناسق مع الرجل القصير، فقد بدا المشهد وكأن السلم هو الذي يقود الدراجة بكل قواه ويصعد بها الهضبة.
ولما بدا أن الدراجة قادمة في اتجاههما، فقد توقف الرجلان عن ركوب السيارة، وظلا يتأملانها في فضول كبير.
أخيرا وصل السلم والدراجة والرجل القصير أمام الرجلين. لم يكن من الممكن معرفة عمر الرجل القصير بدقة. رأسه أصلع قليلا من الأمام، وتدلت جوانب العيون، ولحم الخد مرتخ قليلا، ولكن داخل الفم الذي يلهث، تصطف أسنانه الكبيرة القوية في تشوه، وبشرته تلمع في صحة بدرجة كبيرة. قام الرجل القصير بمسح وجهه بمنديل، وبدا وكأنه يمسح مزهرية كبيرة دائرية بشكل مهمل وسريع.
نادى الرجل القصير: «أيها السيد!» - «ماذا تريد؟»
هكذا أجاب البروفيسور بجدية، وقد جعل مقدمة عينيه تبرز من الجفون. - «أنت شخص محظوظ يا سيدي؛ فأنت أول زبون لي بعد أن فكرت وقررت أن أمارس هذا العمل وأفتتحه اليوم.» - «هل تنوي أن تبيع لي ذلك السلم؟» - «كلا فأنا لا أبيع «عدة الشغل»، ألا تريد يا سيدي أن ترى ما بداخل الدير؟ لقد درست وبحثت كثيرا حتى وجدت أفضل مكان لوضع هذا السلم. أجرة الصعود على السلم مائة «ين» للفرد، ولكن مقابل ذلك واحتفالا بافتتاح العمل؛ فإن المدة التي تقتصر على خمس دقائق سأمدها لعشر دقائق. وبعد ذلك ...»
قال الرجل القصير ذلك، وهو يخرج منظارا مكبرا، شكله قديم للغاية من جيب المعطف المنتفخ، وقام بمسحه مسحة سريعة بالمنديل السابق الذكر الممتلئ بالعرق. - «أجرة تأجير المنظار المكبر هذا مائة «ين» للفرد الواحد. ماذا ترى؟ بهذا الثمن البخس ستستطيع النظر إلى دير تنشيئن بأكمله.» - «غال!»
قال البروفيسور ذلك ساخطا. - «غال!»
قال التلميذ ذلك بهدوء من وجهة نظر اقتصادية بحتة. - «بل إنه رخيص. يا سيدي.»
أصر الرجل القصير على ذلك بوجه منعش. - «ضع يدك على صدرك وفكر قليلا. ستجده ثمنا رخيصا؛ فستستطيع رؤية ما لا يستطيع جلالة الإمبراطور نفسه رؤيته.»
حاول الرجلان بأشكال متعددة تخفيض السعر، ولكن الرجل القصير تصلب في موقفه. أخيرا أخرج البروفيسور أربع أوراق نقدية من فئة المائة «ين» من حافظة النقود، ودفعها إلى يد الرجل القصير، ثم حول نظره إلى تلميذه قائلا له بزهو ونشوة: «مقابل ذلك ستأتي أنت أيضا. يجب أن تكون أنت كذلك شريكا في الجريمة. في الأغلب الفضيحة إذا وجد لها شريك، يكون من الصعب إفشاؤها.»
حسنا، سار الاثنان وراء الرجل القصير الذي حمل السلم، ونزل المنحدر دافعا الدراجة. كانت الطريق تدور منحدرة بهبوط بمحاذاة السور وسط أشعة الشمس المتسللة من بين الأشجار، وتؤدي في النهاية إلى ركن موحش ومنعزل عن الناس. كان المكان مظلما قليلا ومحاطا بمنحدر مائل، وتتراكم فيه أوراق ساقطة من الأشجار في العام الماضي مملوءة بالرطوبة. ويبدو أن جزءا من السور منهار، والأرض بها ارتفاع ضئيل، فكان السور مدفونا حتى منتصفه في الأرض في ذلك المكان فقط.
أسند الرجل القصير السلم على السور، فوصل بالضبط إلى قمة السور، ثم أعطى البروفيسور المنظار المكبر، وفجأة انحنى ليحتضن أرجل السلم من أسفل. الجسم الصغير المكتنز بالشحوم أعطى السلم اتزانا عجيبا.
كذلك أمسك التلميذ السلم بيديه، وقام البروفيسور بثني طرف بنطلونه الأسود، وبدأ يتسلق السلم في بطريقة لا غبار عليها. •••
أصبحت تجارة الرجل القصير بهذا الحال مبشرة بالنجاح؛ فالزبائن الذين يهبطون السلم وفي إحدى يديهم المنظار المكبر، يبدو عليهم جميعا الرضا الكامل، عادة ما تتألق أعينهم، وكذلك كان البروفيسور. حتى على فرض أنهم لم يستطيعوا رؤية شيء ذي قيمة؛ فمجرد التلصص على مكان يخاف من فيه من التعرض للرؤية إلى تلك الدرجة، به من متعة الانتقام ما يجعل سعر خمس دقائق بمائة ين، ثمنا رخيصا.
في الأيام التالية كان الرجل القصير قد اتفق مع المرشد السياحي للمجموعات السياحية، ووعد المرشد أن يجعل له نسبة.
وبهذا الشكل، في أيام الصيف المشمسة، من الصباح وحتى وقت الغروب، يتسلق السلم في الجانب الخلفي من سور دير «تنشيئن»، عشرات الرجال في بعض الأحيان، ممسكين في إحدى يديهم بالمنظار المكبر، ويهبطون السلم وملامح وجوههم تمتلئ برضا لا يمكن التعبير عنه.
لا يمكنك مطلقا أن ترى على وجوه من يزور الدير من الأمام فقط تلك الملامح أثناء عودته.
واتفاق الرجل القصير مع المرشد السياحي، قد أبعد عنه التعرض لزبائن خطرين مثل: موظفي البلدية أو رجال الشرطة. خلال أسبوع كامل كان كل شيء في تجارة الرجل القصير يسير على ما يرام.
حتى جاء اليوم السابع.
رجل الشرطة الشاب الذي يقيم في بلدة «ي » القريبة. مر في طريق عودته من تحريات عن السجل المدني، على الجانب الخلفي من الدير، واكتشف سلما عجيبا مستندا على السور العالي وسط أشعة الشمس المتسللة من بين الأشجار.
بدا له السلم طبيعيا بين الأشجار المتناثرة، وكأنه الشيء الذي يجب أن يكون في المكان الذي يجب أن يكون فيه. استمر الشرطي في سيره دون أن يعيره باله، ولكنه عاد كرة أخرى لرؤيته بمجرد دافع من الفضول فقط. نظر شاردا من خلال الفراغات في غابة الأشجار إلى هناك.
أسفل السلم كان الرجل القصير يجثو ليسند السلم بكل قواه. وفي أقصى الطرف العلوي للسلم رجل يرتدي بذلة، يقلص كتفيه ويحرك المنظار هنا وهناك. ثم على جانبي السلم من اليمين رجل تتدلى كاميرا من كتفه، وعلى الجانب الآخر رجل يحمل حقيبة يدوية ينظران بحماس إلى الرجل أعلى السلم. وأحدهما يضع يده على جبهته؛ ليحمي عينه من أشعة شمس الغروب.
اعتقد الشرطي الشاب أن ما يراه لوحة عجيبة. وبعدها انتبه فجأة. - «تلك بالتأكيد جريمة.»
ولكن الشرطي كانت لديه فطنة وفراسة لا تتناسب مع صغر سنه؛ ولذا ظل بعد ذلك يفكر في الأمر على مهل. ثم هبط الرجل من على السلم، وفي اللحظة ذاتها التي هم الرجل التالي على صعود السلم، أظهر الشرطي فجأة نفسه بملابسه الرسمية تلك.
الرجل الذي انتبه إلى ذلك جذب بقوة الرجل الذي على وشك الصعود على السلم من معطفه، وهرب الزبائن الثلاثة مسرعين.
قال الشرطي الشاب: «ماذا تفعل؟! يا له من عقل شرير جعلك تفكر في هذا العمل الخسيس! تعال معي لقسم الشرطة!»
سار الرجلان ببطء، وهما يدفعان دراجتيهما فوق هضبة سوزوران التي تغمرها أشعة شمس الغروب. الرجل القصير كان قد ألصق السلم في الدراجة؛ ولذا عندما يأتي منحنى كان على دراجة الشرطي أن تفسح له الطريق بدرجة كبيرة.
لم يكن وجه الرجل القصير مألوفا لذاكرة الشرطي الشاب. لم يحدث الرجل القصير ضجة بدرجة قوية، ولكنه فقط ظل يردد مقولة واحدة مرة بعد أخرى هي: «أنا لا ذنب لي.»
ازدادت رائحة زهور الزنبق قوة، فأحس الشرطي بدوار خفيف. وعلاوة على ذلك تطير حشرات الخنفساء والنحل بكميات كبيرة، ويستقبل دير تنشيئن شمس المغيب من الخلف، مما يجعل مبانيه تتألق في كل ركن من أركانها. - «أنا لا ذنب لي.»
أصر الرجل القصير على قوله مرة ثانية برباطة جأش، وهنا فقد الشرطي أعصابه، وأصبح صارما في توجيه الأسئلة. - «ما تقصد بقولك لا ذنب لك؟! وأنت تقوم بهذا العمل المخالف للقانون؟» - «أجل، أنا الوحيد الذي بلا ذنب؛ فأنا لا أنظر».
ضحك الرجل الصغير قليلا، وقد أبرز أسنانه الكبيرة القوية المشوهة. - «لا تنظر إلى ماذا؟» - «إلى ما داخل دير تنشيئن.» - «لا تكذب. أليس أنت من أحضر السلم، وأتى ليبحث عن مكان مناسب يضع عليه السلم؟» - «نعم هو كذلك، ولكن أنا لم يسبق لي الصعود فوق سلمي قط.» - «أحقا ما تقول؟! هل حقا لا تنظر للداخل؟»
كان الشرطي صادقا في نبرة صوته المخذولة. - «لا، لا أنظر مطلقا.» - «لماذا لم تنظر؟ هل لاعتقادك أن ذلك جريمة؟» - «لا.» - «إذن، لماذا؟»
نظر الرجل الصغير إلى الشرطي بعين شاردة قليلا. ولكن تلك الإجابة الممتلئة بالثقة أدهشت الشرطي. - «إنني لم أشعر أبدا بأية رغبة في النظر.»
عمر التاسعة عشرة
محطة قطارات «أوميا» هي منطقة آليات.
1
تتشابك خطوط القطارات الكثيرة مثل قنوات مائية معقدة، تتلاقى ثم تفترق. تلمع تلك الخطوط العديدة المعوجة في صباح الشتاء متألقة مثل بلورات الثلج على الأرض.
دائما ما يتوقف «سيئتشي» لمدة قصيرة، أثناء ذهابه في الطريق لتوصيل الفحم للزبائن، بدراجته التي تجر عربة «كارو» أمام ذلك السياج. من محل فحم والده وحتى ذلك المكان، تلاحق أذنيه أصوات قطع الفحم التي تحتك مع بعضها البعض مع كل هزة لعربة «كارو»، وكأنها تتهامس بأسرار بسيطة.
توجد قاطرة لونها أسود شديد السواد متوقفة، تخرج أبخرة دخان شفاف قليلا، يجعل السماء الزرقاء خلفه منبعجة.
النظر إلى ذلك المشهد، جعل سيئتشي يتذكر حاله منذ عامين مضيا، وهو يهرب مقيد اليدين، متخطيا تلك الخطوط المعقدة في يأس تام.
أدار سيئتشي بصره حول المكان . أشعة شمس الصباح في هذا الشتاء، تملأ بأريحية الساحة الأمامية للمحطة التي يتوجه إليها الموظفون المتجهون إلى أعمالهم زمرا. هذا المكان هو موقع تجمع صغار رجال العصابات. في صيف العام الماضي شهد هذا المكان واقعة القبض على أكثر من ستين فردا منهم.
يشاهد سيئتشي آثار ماضيه في أماكن عديدة. رغم أنه في سن التاسعة عشرة من العمر، فإنه بسبب ما رأى وجرب من تقلبات الحياة حتى الآن، يشعر وكأنه عجوز في سن صغير. يوجد على صدره شارة المواطن الصالح. إنها علامة انتمائه إلى إدارة الإطفاء التطوعية في شرطة البلدية.
في بعض الأحيان، يحس بمشاعر سعيدة محتواها: «أنا إنسان تائب.» ولكن اعتقاده هذا يجرح كبرياءه قليلا.
يقول له الجميع إن حياته الحقيقية ستبدأ حقا من الآن فصاعدا. حياة البشر العاديين، ولكن هناك أوقاتا يعتقد فيها سيئتشي أن حياته قد انتهت بالفعل. وعند ذهابه كل ليلة إلى الحمام العمومي، ويشاهد وجهه الناضر المشرق ذا التسعة عشر ربيعا، بعد أن يسقط مسحوق الفحم عنه، المنعكس في المرآة. يفكر ابن بائع الفحم هذا، فيما هي يا ترى تلك الحياة التي بددها بنفسه. يفكر ما هو الشيء الذي مر عليه كالرياح دون أن يترك أي جرح، أو أية آثار لخدش؟!
يمارس سيئتشي رياضة «البيسبول»، في أيام الآحاد من كل أسبوع، وأحيانا يذهب إلى السينما. وكان يحب مشاهدة أفلام الغرب الأمريكي، وإذا لم يجدها، فهو يعشق الأفلام التي تدور حول الأمومة. بعد أن ترك الدراسة في المدرسة الثانوية، ذات النظام الجديد، قبل أن يتخرج منها، أصبح غير مضطر إلى الذهاب إلى مدارس بعد ذلك. فقد كان والده على الأغلب مرتاحا لرؤية ولده يجتهد في توصيل طلبات الفحم.
ولكن في الليل عندما ينام في سريره وحيدا، يكون متوقد الذهن مثل الكلب، أحيانا ما تشع عيناه، وتكون آذانه صاغية. يشعر كأن أصدقاء الليل ينادون عليه من قلب ظلام الليل. أصدقاؤه الأحياء والأموات.
من خلف سلك النافذة، ينادي عليه أحدهم، وهو يجري بشكل زائد عن الحد. - «هيا نذهب يا صاح.»
بالتأكيد سينتفض قائما. - «حسنا. لنذهب!»
يذهب، ثم تكون هذه المرة التي لا يعود بعدها أبدا.
حتى ذلك الحين، كان الفراش دافئا وآمنا. ولكن إذا جاء نداء عبر سلك النافذة في ليلة ما، سينتفض قائما، ويقوم بالجري لكي يصبح مرة أخرى إنسانا لا يرغب فيه أحد. •••
يوجد بجوار منزل سيئتشي منطقة عشوائية للفقراء في مواجهة نهير صغير قذر. في أحد المرات عندما كان يمر بالحي، أعطى طفلة صغيرة، كانت دائما تبدو جائعة، خبزا بطعم البطاطا. وعندما مر في اليوم التالي كانت الرغبة في الطعام تبدو على وجهها؛ فأصبحت عادته اليومية هي إعطاء تلك الطفلة بعض الخبز.
وفي يوم من الأيام، قالت الطفلة بعد أن أخذت خبز البطاطا: «المرة القادمة أريد خبزا بطعم الشكولاتة.» - «لا تتحدثي بهذا الترف.»
في نفس اللحظة، مر بالمكان رسام يرسم بالفحم، كان سيئتشي يقوم بتوصيل الفحم إليه كثيرا. أراد ذلك الرسام أن يرسم حوار سيئتشي مع تلك الطفلة الصغيرة في لوحة. - «أهلا. أنت الذي تقوم بتوصيل الفحم لمنزلي، أليس كذلك؟ هل تقبل أن تظل ثابتا على هذا الوضع قليلا؟ سأقوم الآن برسم مخطط رسم لك على وجه السرعة.»
تتمايل الأعشاب الذابلة على ضفتي النهر، وتتراكم النفايات مكونة تلالا، ولكن الجو مشمس ورائع حقا، وتلمع عبوات المعلبات الفارغة بأشعة الشمس الصافية، كأنها ترصع النفايات المتراكمة بالجواهر. كانت تلال النفايات تلك تنعكس في عيون الرسام في شكل جمالي. غطاء الصندوق المعدني الكبير المشوه يعكس السماء الزرقاء، وكان كأنه نافذة مفتوحة لكتل القمامة المتراكمة. وفي الجانب الآخر يوجد النهير. نهر صغير ضحل قذر قبيح المنظر، تعيق انسيابه كميات كبيرة من القاذورات. ورغم ذلك؛ فالنهر يعكس أشعة شمس الشتاء، والماء الذي ينحجز في أماكن متفرقة بواسطة النفايات، يلمع وكأنه أوتار آلة قانون أو شيء من هذا القبيل. سماء زرقاء تماما لا تشوبها شائبة. أشجار ذابلة تفرد فروعها الدقيقة المرنة بجوار تلال النفايات.
ثم أمام ذلك تقف عربة «الكارو» ممتلئة بالفحم. وذلك السواد ذو الحس الجسدي للفحم الذي يختلس النظر من حواف الأكياس.
وهناك شاب قوي البنية يرتدي كاب البيسبول بميل، وطفلة صغيرة نحيفة الجسم ذات شعر أشعث. الوجهان متسخان بشكل مرض تماما. فم الطفلة، قد قضم بالفعل خبز البطاطا الساخن ذا اللون المحترق.
وجه الرسام لسيئتشي سؤالا أثناء رسمه بالقلم الرصاص بيد سريعة: «هل تأتي إلى هنا كثيرا؟» - «أجل.» - «إذا كان كذلك؛ هل تسمح لي أن أعاود رسم سكتش لك هنا مرة أخرى؟» - «ولكن أنا ليس لدي الوقت لذلك.»
سيئتشي أثناء رسم المخطط له، لم يكن قادرا على الثبات في وضع واحد وكانت حركاته لا تهدأ، فأحيانا يأخذ وضع رامي الكرة في لعبة البيسبول، وعلى العكس كانت الطفلة الصغيرة تحملق مباشرة في الرسام بدون أن يطرف لها عين، تصدر بشكل منتظم، صوتا وهي تسحب المخاط من أنفها، كما لو كانت تسحب شيئا ثقيلا.
في وقت الغروب من ذلك اليوم قام سيئتشي بتنفيذ إحدى مهامه اليومية بإخلاص. ألا وهي أنه بعد انتهائه من توصيل الطلبات، وفي الوقت القصير المتاح لديه فارغا، يقوم بالتنزه في الاتجاه المعاكس للحي الفقير، حيث المنطقة السكنية التي يحيط بكل بيت فيها سور من الأشجار. وعندها يقابل حتما فوجيكو التي تخرج للتنزه مع كلب هجين غريب الأطوار، دميم الوجه.
تعلم فوجيكو أن سيئتشي قضى وقتا في مؤسسة الأحداث، وتعلم أيضا كل شيء عن ماضيه. ولكنها لا تهتم أبدا بكل ذلك. عدم اهتمامها بذلك يمكن معرفته من ابتسامتها المبهجة التي تقابل بها سيئتشي كل يوم عند هذا التقاطع.
تختلف فوجيكو عن كل الفتيات اللاتي عرفهن سيئتشي حتى الآن. شعرها مستقيم ينسدل على كتفيها. وفي ظله تبدو خدودها الحمراء التي بها شق بسيط كما لو كانت فاكهة. عيونها واسعة، ومقلتها السوداء تحتل أكثر من نصف مساحة العين. وعندما تضحك تظهر سريعا على خديها غمازتان، وكأنها لا تستطيع التحكم بهما.
لا يتحدث الاثنان بشيء ما على وجه الخصوص، يتبادلان كلمتين أو ثلاث كلمات مثل: «الجو اليوم جميل» أو «هل تحسنت حالة بطن الكلب؟» أو «هل أنت مشغول بتوصيل الفحم؟» فقط أسئلة وإجابات من هذا القبيل.
يتحدثان بهذا فقط ثم يبتسمان ثانية في بهجة، فتذهب فوجيكو في خط سير نزهة الكلب، ويتجه سيئتشي إلى محل الفحم وبذلك يفترقان. ذلك فقط، ما يجعل سيئتشي يحس أنه سيستطيع النوم تلك الليلة مستريح البال. •••
أصبح سيئتشي يزور مرسم ذلك الرسام كلما وجد متسعا من الوقت لديه، حتى ينتهي الرسام من تلك اللوحة. ولا يزوره فارغ اليدين مطلقا، يملأ جيوب سترته بحبات الفول السوداني ذات القشر، ويعطي منها الرسام في صمت ثم يأكل هو أيضا. - «ما رأيك؟»
أحيانا ما يسأل الرسام سيئتشي عن انطباعه، وهو يريه اللوحة غير المكتملة. يضحك سيئتشي ولا يجيب. - «مثلي لا يفهمون في هذا.»
ثم يذهب راحلا دون أن يقول كلمة أخرى أكثر من ذلك.
في أحد الأيام، عندما ذهب سيئتشي لزيارته، كانت اللوحة على غير المتوقع قد تسارع تقدمها وتقريبا اكتملت. وكانت زوجته في ذلك الوقت غير موجودة بالمنزل، فدخل سيئتشي عندما دعاه الرسام لذلك. ثم أخرج من جيبه قبضة بيده من فول السوادني ذي القشر ووضعه في يد الرسام. - «ما رأيك؟! لقد اكتملت تقريبا.» - «حقا؟!»
كان سيئتشي يقف قريبا من حامل اللوحة ثم يقف بعيدا، ويده لا تتوقف عن إصدار أصوات حيوية، من خلال تقشير الفول السوداني ثم وضعه في فمه. شعر الرسام أنه غير راض عن اللوحة. - «هذا ليس أنا.»
أخيرا قال سيئتشي ذلك القول القاطع. سيئتشي الذي في اللوحة يحمل وجها مشرقا بدون ظلال. كان ذلك الوجه لا يزيد عن كونه مجرد وجه لأحد الذكور في طور التحول من طفل إلى شاب يمكن أن يشاهد في كل مكان. وبديلا عن الظلال، كان الوجه به مسحوق الفحم هنا وهناك.
لو كانت مفردات سيئتشي اللغوية أكثر غنى مما هي عليه، فلربما أعرب عن عدم رضاه بالقول: إن الوجه لا يبرز تفرد شخصيتي؛ فهو وجه ذائع للغاية لشاب يمكن وجوده في أي مكان، وجه ناضر الشباب بلا عيوب، يفيض صحة وحيوية. لا يوجد إلا الاعتقاد أن الرسام نفسه، الذي مضى أكثر من عشرين عاما على مروره بتلك المرحلة العمرية، يحاول تجميلها .
قال الرسام: «ألا تحدثني عن السبب الذي يجعلك تعتقد أن هذه اللوحة لا تشبهك بأي حال؟» - «الحديث سيطول، فأنا أيضا رغم ذلك لي ماض.» - «أنت ليس لك أي ماض.»
قال الرسام ذلك على الفور وهو يقشر الفول السوداني. - «هذا لأنك لا تعلم يا أستاذ.» - «أعلم أو لا أعلم، أنت ليس لديك ماض. أنا أعرف ذلك بمجرد النظر إليك.»
برزت على ملامح سيئتشي ما يدل على أن كبرياءه قد جرح بعمق، ولكن الغضب على العكس جعل وجهه يبدو على وشك البكاء. عقد حاجبيه ثم وضع قدمه على حافة مدفئة الفحم. وتحت قدمه تلك، الفحم الذي قام هو بحمله وتوصيله إلى هنا، على وشك الاحتراق. وسط أشعة الظهيرة، الفحم الذي تحول إلى رماد أبيض يبدو واضحا، أما لون اللهب الأحمر فلا يرى. - «إنني ...»
بدأ سيئتشي في الحكي: «إنني قد بدأت في الانحراف بعد محاولة انتحار ثنائي وأنا في الصف الثاني الثانوي.» - «أوه!» - «ثنائي ذكر وأنثى؛ الأنثى هي توميئه، ابنة صاحب النزل، كانت علاقتنا جيدة بلا سبب محدد. كانت تهاديني، ودائما ما تكون الهدايا كراسات جامعية فاخرة، وتقول لي قم بالجد والاجتهاد في الدراسة، وقد استخدمت هذه الكراسات في رسم لوحات الكارتون حتى أنهيتها.
لقد كنت في فريق رياضة البيسبول في المدرسة. تمثلت العلاقة بيننا في انتظارها لي حتى نهاية تمريناتي، ثم نعود معا، كل إلى منزله، ورغم ذلك وجد من يشي بأشياء مكذوبة عنا. وفي أحد الأيام بعد انتهاء اليوم الدراسي، تم استدعاؤنا نحن الاثنين إلى غرفة المدرسين كل على حدة. كان استدعائي تاليا لها. بعد أن تم توبيخي بشدة خرجت إلى فناء المدرسة الذي لم يكن به أحد، وعندما وصلت إلى البوابة، كانت هي التي قد سبق توبيخها قبلي، تنتظر هناك كما هو المعتاد.
بشكل ما لم أستطع النظر إلى وجهها مباشرة؛ نظرت إلى اتجاه ملعب البيسبول الذي يحجبه سقف مبنى المدرسة عن النظر. طارت كرة بيضاء بشكل جمالي ورائع ، في سماء الغروب. وتردد صدى صوت المضرب. ولكني لم أشعر بالرغبة في حضور تدريبات ذلك اليوم.
قلت لها وقد بدأت السير: «شيء مقزز.»
قالت توميئه: «شيء مقزز فعلا.»
ثم بعد ذلك واصلنا السير صامتين لفترة، وفجأة تم الاتفاق بيننا. لقد اتفقنا أن يأخذ كل منا أموالا من منزله ونهرب سويا.
وفي تلك الليلة أحضرت أنا أربعة آلاف «ين»، وأحضرت هي ثلاثة آلاف، وركبنا قطار البخار. وعزمنا على السفر إلى مدينة سينداي التي كنا قد ذهبنا إليها مرة من قبل في رحلة مدرسية.
بعد وصولنا إلى سينداي أخذنا نمشي ونمشي حتى وجدنا بحيرة، وكانت توجد مركب للإيجار راسية على ضفة البحيرة. وفكرنا وقتها أن نأخذ تلك المركب ونجدف بها حتى منتصف البحيرة ثم ننتحر سويا. ولكن كانت المركب مربوطة بسلاسل وعليها قفل، وفي نهاية المطاف نعسنا في المركب الراسية على الشط وقضينا فيها الليلة حتى الصباح.» - «حقا؟» - «تريد أن تسأل ماذا حدث بعد ذلك، أليس كذلك؟ بعد أن عدنا، وجدنا المدرسين وناظر المدرسة ووالد توميئه الذين كانوا في انتظارنا سألونا جميعا بصوت واحد وأفواه متعددة: «هل فعلتها؟» أنا لم أفعل شيئا. لقد قبلتها مرة واحدة فقط. كان الصقيع عميقا، وأحسست بطعم سخام غريب.» - «وبعد ذلك؟» - «في الصباح التالي ذهبنا إلى معبد كامائيشي الشنتوي، تذكرت أننا كنا قد زرناه في أثناء الرحلة المدرسية، وأعطينا الحمام البري هناك بعض حبات البقول. وداخل المعبد أمسك بنا شرطي الدورية الذي شك في سلوكنا، ثم أعادنا إلى منازلنا بعد استجوابنا.
في اليوم التالي غابت الفتاة عن المدرسة. أنا كنت في غاية الخجل، ولكني ذهبت إلى المدرسة. ولم أقل شيئا لأي شخص.
تلك الحادثة جعلتني أفقد تماما ثقة أهلي بي. بعدها اقترضت مبلغ أربعين ألف «ين» باسم أبي من أحد الجيران، وأنفقتها كلها في فترة عشرين يوما في محلات الباتشينكو للقمار. بالطبع غضب أبي غضبا شديدة لدرجة أن دماغه بدت على وشك الانفجار. ولأني كنت قد تعودت بالفعل على الهروب من البيت، ذهبت للمبيت عند صديق لي في مدينة أساكا بمحافظة سايتاما، وهناك قمت بالعمل قوادا.
أنا بالطبع لا أستطيع التحدث باللغة الإنجليزية بتاتا؛ ولذا كتب لي صديقي هذا على ورقة باللغة الإنجليزية ما يلي:
Don’t you want a girl to-night?
كنت أذهب إلى بار يتجمع فيه الجنود الأمريكان، أطلب زجاجة بيرة وأنتظر، وفي الوقت المناسب كان يكفي أن أخرج تلك الورقة وأحركها يمينا ويسارا.
ولكن في إحدى الليالي دخل جندي أسود وهو ثمل جدا، خطف مني تلك الورقة فجأة ورماها بعيدا بعد أن عجنها بقبضة يده. أنا وكأني أقول «أنا مستعد» قفزت سريعا، وتهيأت شاهرا سكينا. الجندي الأسود وقف هو الآخر. فطعنته طعنة واحدة مستقيمة من أذنه مرورا برقبته.
الرجل الأسود، أليس هو أسود يا أستاذ؟ ولكن اللحم كان أبيض بلون وردي. كان الجرح واضحا، ظهر لي في التو والحال. ظهر فم أبيض فوق بشرة ناعمة لامعة شديدة السواد، وكأنه على وشك الغناء بأغنية. أغنية الدماء. ... أما زلت ترى أنني ما زلت «بلا ماض يا أستاذ؟»» - «أجل أنت بلا ماض.»
هكذا أجاب الرسام ببطء. - «وذلك لأنه لا خلاف على أنك كنت رغم ذلك نقيا.» - «نقيا؟»
قال سيئتشي ذلك وهو يصر على أسنانه بشكل غاضب. - «ثم بعد ذلك ذهبت مرة أخرى هاربا إلى سينداي، وهناك تم إلقاء القبض علي، وعدت إلى أوميا مكبلا بالقيد في يدي. عندما نزلت من القطار البخاري، جريت هاربا، وتخطيت خطوط القطارات الكثيرة تلك، وجريت بكل طاقتي. وعندما اعتقدت أن الأمر أصبح على ما يرام، وجدت أمام عيني شرطيا متحفزا لي.
تم وضعي بعد ذلك في مؤسسة مراقبة الأحداث في مدينة أوراوا، وبعد أسبوع نقلت إلى مؤسسة أحداث مدينة هارونا. وقضيت هناك ستة أشهر. عند دخولي تم ضربي من الجميع بالأغطية، وكنت على وشك الموت. وبعد فترة كان عدد من الفتيان الأقدم يعدون خطة للهروب. ولقد ذهبت معهم حتى خارج السور، لكن كان الظلام دامسا أمام عيني تماما مما جعلني أتجمد، وأصبح جسمي مثل لوح من حديد، وأحسست بمن يدفعني للعودة. ساعتها عدت أنا وثلاثة من الرفاق. وبعدها أصبحت نموذجا لنزيل إصلاحية مثالي.
ولكن بعد خروجي أيضا، لم يأت أبي لاستقبالي، ولم يسمح لي بدخول المنزل. ما باليد حيلة اضطررت إلى الاعتماد على صديق لي في منطقة إيكيجامي، وهناك سكنت في «هنجر» واشتغلت كعامل بناء. ولكن حتى النهاية لم أتناول أية مخدرات أو منشطات، فعندما كنت أرى رفاقي من مدمني الحقن وقد انقطع عنهم المخدر، وهم يحقنون ذلك بشكل يشبه الجنون ثم يغرزونها في أذرعتهم، قررت أن أبتعد تماما عن المخدرات بالذات.
عندما اشتدت الأمطار كنا ثلاثة أصدقاء، ذهبنا إلى حانة للشراب. وفقدت الوعي من السكر. وعندما أفقت كان الأصدقاء قد عادوا إلى منازلهم، فقامت السيدة مالكة تلك الحانة بالاعتناء بي. كانت السيدة في الخامسة أو السادسة والثلاثين من العمر، وكان زوجها يعمل بحارا على سفينة ولا يعود إلى المنزل إلا مرة أو مرتين في الشهر. ولقد فقدت عذريتي على يد تلك السيدة. وعندما عدت إلى المطعم سألني الشباب وهم يضحكون «لقد فعل بك أليس كذلك؟» الشباب السائل كان قد فعل بهم جميعهم على يد تلك السيدة مرة على الأقل.
عملت هناك لمدة حوالي ستة أشهر، ادخرت فيها أربعين ألف «ين»، ثم رجعت إلى أوميا. وعدت إلى المنزل بعد أن قام مدرسي في المدرسة بالتوسط لي والاعتذار لأبي، ووضعت ذلك المبلغ في المنزل. ومنذ ذلك الحين بدأت حياتي في الانتقال من امرأة إلى أخرى.»
استخدم سيئتشي كلمة «من امرأة إلى أخرى» بنبرة صوت متغيرة وكأنه قد حفظ ذلك من مكان ما. - «كنت أتنزه ليلا مع صديق في حدائق أوميا، في ليلة من ليالي أوائل الصيف، لمحنا فتى وفتاة يقومان بحركات مريبة. وكان من السهل علينا أنا وصديقي أن نتقمص دور الشرطة؛ لأننا ورغم أننا كنا في الثامنة عشرة من العمر فإن مظهرنا بدا أكبر سنا من ذلك. سألناهما عن الاسم وعنوان الإقامة، وسحب صديقي الفتى وأخذ منه خمسة آلاف «ين». ولأن الفتاة التي كانت من نصيبي، لم تكن تحمل معها نقودا بالفعل، فقد قررت أن أزورها في منزلها في اليوم التالي.
قمت في اليوم التالي بارتداء الزي الرسمي للمدرسة وحملت كتابا جادا، وزرت منزل الفتاة. جاءت الفتاة إلى مدخل المنزل وقد ازرق وشحب وجهها. صنعت بأصابع إحدى يدي علامة تنبيه لها، ثم دفعتها إلى الداخل وأنا أقول: «لقد جئت إلى هنا، لكي تعلميني شيئا في هذا الكتاب.»
بعد أن أخذت الفتاة الكثير من الوقت، عادت أخيرا ومعها ورقة بألف ين، وقد وضعتها فوق ركبتها داخل الكيمونو، وقد طبقتها كثيرا مثل فن طي الورق وأعطتها لي قائلة: «أنت بالتأكيد لا تعلم، ولكن أبي يعمل رجل شرطة.»
لقد اعتقدت أنها تكذب، ولكنها أرتني صورتها معه وهو بملابس الشرطة، وقد أصابني الدوار بسبب ذلك، وأسرعت بمغادرة المنزل. أن تكون بنت رجل الشرطة يا أستاذ، فذلك شيء له فائدة.»
ضحك الرسام بشدة لهذا القول ثم قال: «حسنا، هل ما زال هناك بقية أخرى (لماضيك)؟» - «أرأيت، ها قد بدأت تعترف بما لي من ماض. هذه اللوحة كاذبة. هل أريك صورة أكثر واقعية من ذلك. عندما كنت أعمل قوادا، قمت بطباعة كتاب جنسي خليع من خلال آلة نسخ الرسائل مع أحد معتادي الإجرام. الشباب لا يرغب في قراءته، ولكن يرغب في القراءة من هم في سن الثلاثين فما فوق. أنا في الواقع لا أريد أموالا ولكني أقوم بتأجيره بمئة ين في الليلة الواحدة؛ لأنه إذا لم أفعل ذلك فلن أصبح مثالا يحتذى به.»
رفض الرسام ذلك بقوله: «لا أريد قراءته لأنني ما زلت شابا.» وقام خصيصا بخلع «البيريه» الذي يضعه على رأسه حتى داخل المنزل، وأظهر شعراته القليلة التي ما زالت باقية في رأسه. ضحك سيئتشي كثيرا لذلك، ودفع الكتيب الذي كان على وشك إخراجه من جيبه الداخلي، وأعاده مرة أخرى مكانه. - «حدثت أيضا الحكاية التالية، فقد أظهرت موقفا نبيلا ورجوليا أمام المحطة، أنقذت فتاة حاوطها صغار المافيا، وأرجعتها إلى منزلها بعد أن أعطيتها مئتي ين أجرة التاكسي. بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام قابلت الفتاة نفسها، وصحبتها إلى فندق بجوار المحطة. ولكن عندما قيل لي بنبرة شاكية إنه لا توجد غرف خالية، كنت خجلا من ذلك وأنا أقف عند المدخل بجوار الفتاة التي اصطحبتها.
بل وحتى الأمراض لي معها خبرة يا أستاذ. ولكني حتى لو تعرقلت؛ فلن أقوم أبدا بلا مقابل. عندما نقل لي المرض في بيت للدعارة ذهبت إلى صاحبة البيت شاكيا، ولكن على العكس ضربت بشدة من فتواتها. قلت: لو على القتل اقتلوني، ولكن قبل ذلك نادوا على المرأة ودعوها تواجهني، فجعلتهم يحضرون المرأة. واعترفت المرأة بكل شيء. وقبلت بالتراضي مقابل خمسة آلاف ين. ولكن لأنني كنت غاضبا غضبا شديدا، ذهبت أثناء عودتي إلى بيت دعارة مجاور، ونقلت المرض لامرأة أخرى لا تعلم أي شيء. ولم أذق قط مثل ذلك الألم الشديد الذي ذقته وقتها.»
كان الرسام يستمع في صمت. ويبدو أن عدم وجود رد فعل جعل سيئتشي يتردد قليلا. فلقد كان يتوقع أن كبار السن يغضبون أو يبدءون في الوعظ.
ولكن الرسام وقف أمام حامل اللوحة، وبدأ يضع ريشته في جزء الخلفية منها.
انتهى سيئتشي من تناول آخر حبات الفول السوداني الذي جاء به، وهو يبدو غير راض. - «سأرحل.»
قال ذلك ثم قام، ولكنه وكأنه قد انتبه إلى أمر ما، نظر للخلف قائلا: «آه، أجل ما زالت هناك حكاية.»
لقد تحدث بشكل يجعل السامع يندهش، ولكن لأنه لم يحصل على الثمار التي توقعها؛ ولذا فقد حدثت له بلبلة فكرية بسبب هذا التقييم لنفسه، فقد قام ببدء الحديث الأخير له عن أكثر الأمور بعدا عن الفضيلة من الدرجة الأولى. ولكن أثناء حديثه أصبح فمه الذي كان حتى وقتها طلقا بالكلام أصبح يتلجلج، ووجنته تتضرج بالحمرة.
قال فقط إنه إذا لم يلتق فوجيكو ويتحدث إليها كل ليلة فلا يستطيع النوم ليلا.
كان الرسام يوليه ظهره. تغير الريشة لون أطراف الأشجار الذابلة التي تحيط بتلال النفايات إلى لون أزرق خفيف. وقال وهو بنفس وقفته: «حسنا، هل أخبرت فوجيكو أنك تحبها؟» - «وهل هذا أمر يقال؟»
أجاب سيئتشي بلهجة المنتصر. - «لماذا؟» - «لأني لو قلت لها أحبك ورفضتني؛ فلن تقبل أن تلقاني ثانية. إذا كان الأمر كذلك؛ فالأفضل عدم قول ذلك، وتستمر علاقتي معها كما هي.»
عندما انتهى الرسام من سماع ذلك، أدار جسده ونظر إلى سيئتشي، ثم ابتسم. كان سيئتشي على وشك الخروج من باب المرسم بظهره. ابتسامة الرسام أصابت سيئتشي مباشرة، فجعلته يبدو متلألئا.
كان وجهه هو وجه من اكتشف أحد أسراره، وبان على ملامحه تعبير «اللعنة لقد كشفت». وجه مشرق يدل على الصحة والحيوية، واليوم يلتصق به مسحوق الفحم تحت العينين. اختفى سيئتشي على الفور مثل حيوان صغير، وكان يسمع صوت دراجته التي تجعل الجرس ذا الرنين حسن الصدى يتردد، ويجر العربة الفارغة بشكل مزعج في الشوارع الضيقة.
مرة أخرى ذهب الرسام للوقوف أمام لوحته التي انتهى الرسم فيها تقريبا. وقد قرر الرسام أن يجعل عنوان اللوحة هو «عمر التاسعة عشر».
إلهة الجمال
الدكتور «ر» ألماني، من مدينة دوسلدورف الواقعة على حوض نهر الراين. وهو يقيم في إيطاليا منذ وقت طويل، وله عدد وفير من المؤلفات التي جعلته لا يخون شهرته كأحد أعلام فن النحت القديم.
الدكتور ذو الثالثة والثمانين من العمر، يرقد الآن على فراش الموت. ولكن شخصا واحدا فقط هو الذي يسمح له بالاقتراب من فراش المرض، إنه طبيبه الدكتور «ن»، ذلك الشاب المخلص المحب للفنون.
مسكن الدكتور «ر» يقع في شارع لودوفيشي في مدينة روما، في حي هادئ قريب من حديقة بورجزيه التي يتبقى بها جزء من أسوار مدينة روما القديمة، شقة الدكتور في الطابق الرابع وتتكون من ثلاث غرف.
من الأنسب القول عن جو روما في شهر مايو: إنه جو حار، من أن نقول عنه جو دافئ، تنتشر الإضاءة الساطعة الحادة لتعم الأرجاء، ويختار المارة للسير الأماكن التي تظلها الأشجار الوارفة التي على جابني الطريق. وقد خرج بائعو عصير اليوسفي بسياراتهم إلى الطرقات، والسماء لا تظهر ظلا للسحب لنهاية اليوم. تطير فوق الأطلال أعداد غفيرة من العصافير، وترش النافورات القديمة الماء النقي على أجساد تماثيل الزينة. تقع بالقرب من مسكن الدكتور نافورة تريتوني التي يقال إنها أصل نافورات روما كلها، كذلك يوجد قول مأثور عن نافورة تريفي الشهيرة يقول إن من يلقي فيها بعملة معدنية في الليلة التي تسبق مغادرته العاصمة روما، سيعود حتما في حياته لزيارة المدينة مرة أخرى.
لم يسبق قط للدكتور أن ألقى عملة معدنية في تلك النافورة؛ لأنه لم يكن يرى لذلك ضرورة؛ فهو قد اختار قدره بنفسه ألا يغادر روما طول حياته.
تتسلط أشعة شمس العصر على غرفة المستشفى مباشرة مستقيمة من النافذة؛ ولذا تم إغلاق الستائر، مما جعل الغرفة غارقة في الظلام. ولكن رغم ذلك فقد الماء المثلج الموضوع بجوار الوسادة برودته، وانتشر عرق ضئيل فوق جبهة الدكتور بعد مسحه مباشرة.
الوجه المهيب الذي يوشك على الموت، مدفون داخل لحية كثيفة مخيفة. التجاعيد العميقة والأنف المتكبرة العالية والمآقي التي تشع ضوءا هافتا والغارقة في قاع محجري العين، هادئة كما لو كانت تقلصت تحت ضغط تضاريس الكرة الأرضية. أوضح جزء قد نقشت فيه بوادر الموت المقترب، هو اليد الموضوعة فوق الصدر. الأوردة التي فقدت قدرتها على المرونة، تجري في ظهر اليد في كل اتجاه. البشرة البيضاء ذات البقع الكثيرة، تتبع أثر تلك الأوردة، بلا أمل ولكن بمنتهى الدقة. تجعلك الأجزاء الداخلية لتلك اليد التي أصبحت هيكلا عظميا فقط، تعتقد أنها قد فقدت الحياة بالفعل. «أرني إياها مرة أخرى، دعني ألقي عليها كلمة الوداع مرة أخرى.»
قال الدكتور ذلك بصوت يخنقه البلغم ويصعب سماعه. ولكن الطبيب «ن» قد فهم ما يحاول الدكتور قوله حتى لو لم يقدر على سماع الكلمات.
وقف «ن» من على المقعد المجاور لفراش المرض. وذهب إلى القاعدة التي نقلت إلى جوار النافذة. أسفل القاعدة توجد عربة صغيرة بها أربع عجلات. وعند دفع التمثال تلف العجلات فوق السجادة وتتحرك العربة دون إصدار أي صوت. أزاح «ن» المقعد الذي كان يجلس عليه، وأوقف العربة مكانه. أدار الدكتور «ر» مقلتيه ونظر ناحية التمثال.
كان الذي يقف فوق القاعدة تمثالا لأفروديت من المرمر. اكتشف الدكتور هذا التمثال منذ عشر سنوات مضت عندما كان يقوم بأعمال استكشاف في إحدى ضواحي روما. كان ذلك الاكتشاف معجزة العصر الحديث. تم إيداع التمثال في متحف روما الوطني للفنون. خلال السنوات العشر تلك داوم الدكتور العجوز على التردد مرة كل أسبوع على متحف الفنون؛ لرؤية ذلك التمثال المرمري. وعندما علمت إدارة المتحف بخطورة حالته المرضية، قررت بصفة خاصة جدا حمل التمثال إلى غرفة الدكتور في المستشفى لجعله يودعه الوداع الأخير.
في وسط الأنوار الخافتة داخل الغرفة كان تمثال أفروديت يطفو في هيئة ضبابية بيضاء. باستثناء الذراع الأيمن المفقود، كان التمثال يمثل نموذجا مكتملا تماما. العيون كانت نصف مغمضة بدافع الحياء والخجل، ولكنها كانت تبدو كما لو أنها تنظر لأسفل بجفاء إلى الدكتور الراقد على فراش المرض.
مد الدكتور يده وقام بحركات متعجلة كأنه يقلب صفحة جسمه، ولأن الموت كان يسارع الخطى، فقد افتقد إلى سلوكياته الهادئة المعتاد عليها. وقال بصعوبة: «إلي بكتابي ... إلي بكتابي!»
التقط الدكتور «ن» كتابا مزينة أجزاء كبيرة منه بزخارف ذهبية من فن فلورانسا على جلد مغربي. «اقرأ من فضلك ... صفحة 170 ... بسرعة.»
بدأ الدكتور «ن» في القراءة بصوت يمتلئ حيوية وشبابا، بعد أن دفع بالصفحة المفتوحة من الكتاب إلى أسفل أشعة الشمس المتسربة من جوانب الشيش. - «... وهكذا الوصول إلى مرحلة الحديث عن أفروديتي يمثل لكاتب هذه السطور فرحة لا تعلوها فرحة. فهو بحق أحد أعظم الاكتشافات في القرن العشرين، والوحيد من أعمال العصر اليوناني القديم. ومن حيث منزلته الرائعة وسمو فنه، فإنه يشبه بأفروديت نيدوس.
1
فمن حيث احتواء الجمال الرشيق الذي ليس له شبيه، على سحر خفيف للغاية مع أسى وحزن، ومن حيث تطابق القداسة مع الشهوانية بشكل لا مثيل له، لا يمكن الشك في أنه عمل أصلي من أعمال الفنان براكستليس.
2
إنه أحد أعظم الأعمال الفنية في العصر الروماني، وكذلك هو العمل المتميز الوحيد المتبقي حتى تاريخه. من رأى هذا التمثال رأي العين، هو فقط من يعرف أنه لا يوجد تمثال أجمل منه. ومهما استخدمنا من كلمات فسيكون محالا إبلاغ ذلك التأثير وتلك العواطف التي يبثها إلى شخص آخر، بل لا يمكن تخيل القشعريرة التي أحس بها أول إنسان من العصر الحديث وقعت عيناه على ذلك الجمال الباهر، عندما اكتشف هذا التمثال مدفونا في تربة روما القديمة.
حسنا ... طول التمثال يبلغ 2,17 مترا.» - «يكفي هذا ... يكفي هذا!»
صرخ الدكتور «ر» بصوت غليظ، وأوقف القراءة بهز يده، ثم قال: «بعد ذلك كتاب الدكتور «س».»
بحث «ن» في أرفف الكتب وأخرج منها كتابا، ثم أزال في أحد الأركان الأتربة. وجعل الشعاع المتسرب من حافة الشيش ذلك التراب يتراقص في الهواء. - «اقرأ لي الفصل الخاص بأفروديتي ... بسرعة.» - «حسنا، ننتقل إلى تمثال أفروديت الذي اكتشفه الدكتور «ر».» - «لا، ليس هنا. اقرأ فقرة ارتفاع التمثال.»
نظر «ن» إليه بوجه يميل إلى الريبة. - «هل تقصد الطول؟» - «أجل ... بسرعة.» - «طول التمثال يبلغ 2,17 مترا.» - «يكفي هذا. الكتاب التالي كتاب الدكتور «ر» من جامعة أوكسفورد.» - «أيضا الطول فقط؟» - «نعم ... أسرع من فضلك.»
قلب «ن» صفحات الكتاب التالي بجوار النافذة. وعندما بدأ يقرأ أصابته قشعريرة؛ لأنه أحس أن تلك الأرقام، كأنها طلاسم سحرية مريبة. - «طول التمثال يبلغ 2,17 مترا.»
كان الدكتور «ر» يستمع مغمض العينين. وفجأة صدرت عاصفة من الضحك، من قاع صدر يحتضر. أطلق الدكتور من حنجرته المغلقة ضحكات مرعبة. رج الضحك الهواء المتعفن المصفر داخل الغرفة، التي تبدو وكأنها تمتلئ مبكرا برائحة الموت.
اقترب الدكتور «ن» وأمسك بتلك اليد، ثم قال وهو يحاول أن يجعله يهدأ: «ما حدث لك يا دكتور؟ عد إلى رشدك أرجوك.» - «وهل يمكن ألا أضحك على ذلك يا دكتور «ن»؟»
كانت ملامحه عبارة عن سخرية ونشوة مخدرة لا يمكن وصفهما بالكلمات. - «هؤلاء أفضل العلماء المتخصصين في أوروبا. لم يفعلوا إلا مجرد الاقتباس من كتابي. لا يوجد واحد منهم حاول التأكد، وقام بالقياس بنفسه. اسمع مني يا دكتور «ن» اعترافي الأخير. لقد قضيت فترة عمرها نصف قرن في البحث والدراسة. كل أبحاثي عن آخرها في غاية الدقة. لقد كنت أكره الدوجماتية الضبابية. وأكره علم الفنون على طريقة باتر
3
الذاتية المتساهلة. لو بحثت في أي مكان من مؤلفاتي لن تجد خطأ ولو في حرف واحد. ولكن في حياتي كلها قمت بارتكاب خطأ واحد فقط عامدا متعمدا. انظر إلى تمثال أفروديت هذا.»
نظر «ن» من قرب إلى الوجه الجانبي لإلهة الجمال التي يصعب وصفها، والتي أحاط بها الضوء الخافت. - «تفهم بالطبع دهشتي عندما اكتشفت هذا التمثال. لقد كنت أعرف أنه يجب لهذا الجمال أن يتاح للجميع، وكذلك كنت أعرف أنه يجب علي أنا بذل الجهود من أجل ذلك. ولكن أتعرف يا «ن»؟ لقد أصبحت منذ النظرة الأولى أسيرا لسحر أفروديت هذه. لقد كنت أرغب في تقاسم سر شخصي معها. كنت أرغب في تقاسم سر، مهما كان سرا صغيرا، لا يعرفه أي شخص غيري وأفروديت.
أدرت بسرعة الفكرة في رأسي، وقمت بقياس طول التمثال. كان طول التمثال يبلغ 2,14 مترا. ولكنني أعلنت بشكل واسع على الجمعيات العلمية في العالم أجمع رقما يزيد بثلاثة سنتيمترات عن الأصل. أجل، يمكن لك أن تقيس بنفسك؛ فملامح وجهك تعبر عن الشك والريبة. يمكن لك أن تقيس بنفسك.»
امتلأ وجه الدكتور «ر» بالعرق، وانتفخت أوداجه بجنون. - «فوق المكتب يوجد مقياس، وبه لوحة مفصلة لأقل قليلا من ثلاثة أمتار. ويوجد كذلك مسطرة. ضع المقياس بزاوية قائمة على الأرض عند أرجل التمثال، ثم ضع علامة عند التقاء المقياس مع الخط الممتد بشكل أفقي من أعلى رأس التمثال موازيا للأرض. وهذا فقط يكفي. هيا، يمكن لك أن تقيس بنفسك. بسرعة!»
فعل الدكتور «ن» كما قيل له تماما.
رفع الدكتور الذي يقترب الموت منه اقترابا حثيثا رأسه من على الوسادة، وراقب وهو يلهث تلك الحركات.
قال الدكتور «ر»: «استطعت القياس، أليس كذلك؟» - «بلى.» - «كم مترا؟»
نظر الدكتور «ن» إلى المقياس بعناية شديدة ثم قال: «2,17 مترا بالتمام.» - «ماذا؟»
شحب وجه الدكتور «ر»، وهو يصرخ بذلك. - «لا يمكن ذلك أبدا. لا بد أن هناك خطأ ما. ماذا تفعل؟ قم بالقياس مرة أخرى.»
قام «ن» مرة أخرى، وأمسك المقياس في يده، وصعد السلم. - «ألم تنته بعد؟»
كان الموت يمسك بالفعل بمؤخرة رأس دكتور «ر». - «ألم تنته بعد؟» - «باق قليل».
نزل «ن» من السلم وتوجه نحو الفراش.
شحب وجه الدكتور «ر»، واختلجت جبهته سريعا. - «هل انتهيت؟» - «انتهيت.» - «كم مترا؟» - «بالضبط 2,17 مترا.»
أصاب الطبيب «ن» خوف لا يعرف له سببا. لو كان الدكتور صادقا فيما يقول، فلا بد أن يكون التمثال قد كبر ثلاثة سنتيمترات من تلقاء نفسه.
ولكن الشاب صغير السن، تأمل بهدوء وجه الدكتور «ر». يوجد هناك جنون بالفعل، هذا الجنون الواضح هو الذي كان من السهل تصديقه.
الدكتور «ر» كان يرنو إلى أفروديت، جميلة لا تنتمي لهذا العالم، بعيون حاقدة رهيبة نصف مفتوحة المآقي. وأخيرا بشكل متقطع، ولكن به ما يكفي من السموم قال ما يلي: «أيتها الخائنة!»
وأصبحت تلك آخر كلماته.
انقطعت كلمات الدكتور «ر». جثا الدكتور «ن» على ركبتيه، وصلى من أجل هذا الزنديق؛ لأن الدكتور «ر» لم يكن يرضى أن يتقبل الدهان الأخير.
4
أخيرا وقف الدكتور «ن»، وأظهر وجهه الذي انسكبت عليه الدموع، من النافذة إلى الناس المنتظرة في الخارج. اندفع الناس كانهيار الثلوج على غرفة الموت.
أول سيدة دخلت الغرفة تسمرت واقفة رافعة صوتها بالصراخ عاليا؛ لأن وجه الدكتور «ر» الميت كان في غاية البشاعة.
قبلة
لدى الشاعر
A
عادة، هي كتابة الشعر بقلم مصنوع من ريشة إوزة. وكان عادة ما يكتب الشعر ليلا قبل خلوده إلى النوم. إذا كان الشعر الغنائي هو الشعر الذي يتغنى بمشاعر الحب من قديم الأزل، فليس من الخطإ اعتبار أن ما يكتبه شاعرنا حاليا، هو من هذا النوع.
يغيب الهلال - الذي يشبه شفتيك المبتسمة قليلا -
في التلة البعيدة.
شفتاك التي تبتسم لك يا غابة،
لك أنت أيتها الغابة الواقعة فوق التلة.
تتباعد أشجار الغابة،
لتشبه ثنايا المروحة.
تشف من خلفها ابتسامة شفتيك،
تلك المروحة!
ما الذي يفكر فيه هذا الشاعر على وجه التحديد؟
فالأمر لا يقتصر على أن قمر الليلة ليس هلالا فقط، بل إنه بدر جميل متلألئ بشكل يندر وجوده. ثم أليست المروحة غريبة هنا؟ فنحن الآن في فصل الخريف وبالتأكيد تحس يده التي يكتب بها ببعض البرودة في الليل.
لو كان الشعر قد اكتمل سريعا، لكان يمكن غض الطرف عن عدم التوافق الزمني هذا. ولكن وصوله إلى طريق مسدودة بعد كتابته «المروحة»، يجعلنا نعتقد أن الشعر بأكمله مثل مروحة الخريف رديء تماما، ويأتي في موسم ليس موسمه. بالإضافة إلى أن هذا الشاعر ليس من ضمن من يطلق عليهم «شعراء موهوبين». إذا جاء الخريف عاش ليكتب فقط أشعار الخريف. لقد أنهك الشاعر تماما في التفكير دون نتيجة، فوضع ريشة القلم فوق شفتيه.
كانت حركة مفاجأة، وكان يعتقد أن مثل هذه الحركة يمكنها أن تقوده إلى إلهام ما. ولكن الذي نتج عن ذلك لم يكن إلهاما. انزلقت ريشة الإوزة اللامعة برطوبة فوق شفتيه. وعندها تولد في شفتيه شعور غريب حلو، يشبه الترنح.
وقف فجأة من على المقعد، وأدار البصر حوله في ملل. ثم بمشاعر مشمئزة التقط قلم الريشة، الذي كان مرميا فوق المكتب ووضعه في جيبه. ذهب إلى جوار النافذة وهو يتعثر في زجاجة الويسكي الفارغة الملقاة على الأرض. ثم فتح تلك النافذة الصغيرة، وأخذ يتأمل الأنوار الحمراء التي تنير وتنطفئ؛ لتدل على موضع «مزلقان» قطار الضواحي. وكأنه قد حسم أمره، سحب الشاعر معطف الخريف المعلق في مسمار على الحائط، وأدخل فيه يديه بعنف، ثم دون أن يصلح من شعر رأسه المشعث، نظر لنصف ثانية فقط في المرآة، وانطلق خارجا من غرفته.
رغم أنها ليلة ينيرها البدر، فإن هذه الناحية من المدينة كانت هادئة تماما. لقد كان البدر ينير السحاب البارز في السماء، فيجعله يبدو وكأنه عمل منحوت. وكان الشاعر يفكر وهو يمشي في أن أشعة ذلك البدر الباهرة لا بد وأن لها تأثيرا مثل تأثير أشعة إكس. أي إنها تظهر بوضوح فقط ما يوجد في قلب الإنسان، ولكنها لا تفيد مطلقا في علاجه بأي حال.
ثم بدأ يصعد تلك التلة التي يوجد ذلك البيت على قمتها.
تسكن فتاة غريبة الأطوار قليلا في البيت الذي يوجد فوق تلك التلة. الفتاة تقول عن نفسها إنها رسامة. ثم إن لديها عادة غريبة، هي أنها لا ترسم إلا في الليل تحت أضواء المصباح. حقا إن الفاكهة تكون أجمل في الليل. مثلها مثل المرأة تماما.
كانت تلك الفتاة لديها عدد كبير من الأصدقاء الذكور، وكان هؤلاء الذكور كذلك يطيعونها كأنهم ألعوبة في يدها. كانت الفتاة لا تغلق مطلقا مفتاح الباب الذي يؤدي من الحديقة إلى مرسمها مباشرة، وتتركه بلا قفل من أجل من يرغب من أصدقائها الذكور في المجيء لزيارتها ليلا. ولكن هؤلاء الأصدقاء الذكور إذا قالت الفتاة لأحد منهم عد لمنزلك، فهو يعود، وإذا قالت له نم حتى الصباح، فهو يبيت في المرسم على سرير متهالك تصنعه له بصف مقاعد المرسم بجوار بعضها البعض. ربما يعتقد أن هذه الجلافة (هذا ليس سباب فأرجو المعذرة) شيئا لا يطاق، ولكنها كانت فتاة نقية وبريئة قلبا وقالبا.
عندما دفع البوابة المنخفضة الملونة بصبغة بيضاء، انساب صوت الجرس كقطرات الندى. كانت الحديقة تمتلئ بزهور الأضاليا وكرز الخريف. تبدو ألوان كرز الخريف الحمراء والبنفسجية في الليل وكأنها شديدة السواد.
فتحت ستائر المرسم ونظرت الفتاة إلى الحديقة، وجهها مظلم وحواف شعرها فقط هي التي انعكست بشدة في عيون
A . وعندما عرفت أنه
A
فتحت الفتاة الباب من ناحيتها وقالت: «أنا الآن أرسم أشياء ساكنة، إنه عمل ممتع للغاية. ماذا تفعل عندك؟ أسرع بالدخول!»
ألقى الشاعر تحية بلهاء قائلا: «مساء الخير.»
كان المرسم ذا إضاءة شديدة مبهرة، وفوق المنضدة كانت عدة القهوة التي اعتاد رؤيتها، تلمع متلألئة بفتور، وفوق المنضدة الأخرى التي وضع عليها مفرش مخطط بخطوط فظة، بحيث تتكون عمدا تجاعيد. توجد فواكه، مثل: تفاح، وكمثرى، وبرتقال ما زال أخضر، وثمرة كاكا، وعنب، مكدسة بلا نظام ولا ترتيب. - «ماذا لو جعلتها تفاحا وكمثرى فقط؟ بهذا الشكل ستصبح اللوحة وكأنها دعاية لمحل فاكهة.»
عندما قال تلك الدعابة دون أي تفكير، أحس الشاعر أن الشيء الثمين الذي أحضره معه من غرفته بحرص بالغ ، وقع منه وتفتت إلى شظايا متفرقة. ولكنه لم يكن يعرف ما هو ذلك «الشيء الثمين». ولكن الأمر المؤكد أنه فجأة أصبح في حالة من الضعف النفسي، خالية من أي أمل. - «اخرس وانظر في صمت أيها الشاعر البليد؛ فشعرك الرديء لا يمكن يصبح ولا حتى كدعاية لحانوتي.»
ردت الفتاة بهذا الرد القاسي والعنيف وهي تخفي ضحكاتها بإمالة فكها اللين - الذي على وشك أن يصير مزدوجا من السمنة - لأسفل. جلست على المقعد المنخفض ذي الثلاث أرجل، وعلقت لوح الألوان في إصبع يديها اليسرى. كان رأي الشاعر أن اللوحة التي استمرت الفتاة في رسمها غنية بالبراءة مثل اللوحات التي يرسمها تلاميذ المدارس الابتدائية. ولكن من ناحية الجمال مهما نظرنا إليها فيبدو لوح الألوان المعلق في يديها، والذي يشبه رسما لقوس قزح على خزف زجاجي أبيض، أكثر جمالا بمراحل عديدة. بل ويضاف إلى الرسمة عنصر لوني جمالي آخر هو إصبع بلون وردي في غاية الحيوية يطل من فتحة لوح الألوان.
اعتبر الشاعر شدة انشغال الفتاة في رسم لوحتها أمرا جيدا، وانتهز تلك الفرصة في التلصص على شفتيها وهي تميل لأسفل. تلك الشفاه التي يبدو أن لها طعم فاكهة، أكثر بكثير من أية فاكهة. هل يا ترى توافق لي الفتاة؟ فأنا أرضى ولو حتى بقبلة لمدة ثانية واحدة فقط. بعد القبلة سأهرب على الفور.
يبدو أن الفتاة أصبحت في حيرة من أمرها تجاه ذلك الضيف الثقيل. فلقد أصبحت طريقة إذابة الألوان أكثر حدة. ولا يوجد أي تقدم في رسم اللوحة. ويبدو أنها شخص به قليل من النزعة الهستيرية، فقد وضعت فجأة الريشة التي لم تبلل بعد على فمها، وأخذت تعض عليها، ويبدو أن تلك علامة على التوقف عن الرسم. وفجأة أبعدت الفتاة رأس الريشة عن أسنانها وبدون وعي بدأت تمسح بها على شفتيها.
وظهرت على وجه الشاعر بشكل عفوي ملامح سكر.
قالت الفتاة بصوت ينقصه الرطوبة، وهي تنظر إلى الأمام كما هي دون أن تلتفت إليه: - «لماذا جئت في هذا الوقت المتأخر؟»
وفي غفلة من الزمن، كانت الريشة قد نقعت بلون قرمزي، ثم صبغت بشرة التفاحة . - «الشعر، لأنني لم أستطع كتابة الشعر بإتقان.» - «مثلي تماما. ولكن كما المتوقع أن وجودنا كل على حدة يجعلنا نعمل بشكل أفضل. هل يمكن أن تعود لبيتك؟»
نظرت الفتاة إلى الشاعر وعلى وجهها ابتسامة متميزة ليس بها أية نوايا سيئة. ولكن توقفت عينها على ريشة الإوزة الطويلة التي تطل من جيب جاكته فقالت: «ما هذا؟! هل كنت تنوي كتابة الشعر هنا؟» - «لماذا؟»
للحظة لم ينتبه، ولكنه عندما تتبع مسار نظراتها ورأى قلم الريشة، توردت خدوده بطريقة غير طبيعية وزائدة عن المعتاد، طريقة لا تحدث إلا للشباب الصغير السن. - «آه! قصدك هذا، لقد أحضرته هدية لك.» - «حقا! شكرا لك.»
ضحكت الفتاة بطريقة ماكرة. - «مقابلها سأعطيك كل هذه الفاكهة عندما أنتهي من رسمها.» - «لا. في الواقع أنا أريد هذه، هذه الريشة.»
قالها الشاعر بحزم بعد تخليه عن الحذر. وعندها تحول لون وجهه للشحوب قليلا. - «أتعني هذه؟»
ونظرت الفتاة من جديد إلى الريشة التي تمسكها بين أصابعها الرفيعة، وقالت: «هذا أمر مزعج قليلا. ولكن، حسنا، لو تريدها خذها.»
وهكذا ترك الشاعر قلم الريشة المحبب إليه، وأخذ ريشة الرسم الوردية التي لثمتها بشفتيها، وعاد بخطو وئيد وتمهل إلى منزله عبر طريق ينيرها البدر الذي كان على وشك الغياب، ولم يحدث غير ذلك من أحداث. وإذا سألنا لماذا عنون المؤلف هذه القصة بعنوان «قبلة»؟ فربما يوجد من يفهم ذلك، ويوجد من لا يفهم. وكلا الأمرين لا غبار عليهما، ولكن يريد المؤلف أن يذيل القصة بما يشبه الدرس المعهود في حكايات أيسوب التعليمية للأطفال. وهو كما يلي: «يا أيتها الفتيات، صاحبن الشعراء. لماذا؟ لأنه لا يوجد بين الجنس البشري من هو آمن من الشاعر!»
يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما1
بطلب ملح من إدارة التحرير تقرر أن أتكلم عن الروائي الذي يسمى يوكيو ميشيما، وأنا لا أعرف الكثير عنه. أمامي بعض المعلومات والبيانات عنه جمعتها لي إدارة التحرير، ولكن ما أعرفه عنه فيما مضى أنه كتب رواية «خيانة الفضيلة» (
bitoku no yorumeki ) وتسبب في انتشار كلمة
yorumeki (الخيانة)
2
الغريبة في البلاد وقتها. وأما حديثا فقد صدر ضده حكم ابتدائي في قضية انتهاك الخصوصية التي أقيمت ضده؛ فأصبح أضحوكة الناس في اليابان، هذا هو مبلغ علمي به. إنه يؤكد أن «ما يميز الرجل هو الثقافة والعضلات»، ولأنه نفسه يملك الثقافة والعضلات (رغم أنها عضلات بديلة تم إضافتها فيما بعد عن طريق رياضة كمال الأجسام)، فهو يتفاخر بأنه شخصيا: النموذج المثالي للرجولة. ولكن رغم امتلاكه تلك الثقافة الأدبية وتلك العضلات المزروعة بواسطة رياضة كمال الأجسام، فهو لم يستطع الانتصار في ذلك العراك الكبير أمام محاكم الدولة؛ ولذا فهو بالفعل يستحق أن يصبح أضحوكة.
وكذلك يحمل هذا الشخص أفكارا ينفرد بها، فها هو بعد أن وصل لسن التاسعة والثلاثين، يتردد على صالة الألعاب الرياضية (الجيم) راكبا القطار، مرتديا بنطلونا من الجينز وجاكتا من الجلد. وبالطبع فإن انجذاب النساء له بشكله هذا، أمر مشكوك فيه تماما. فالمرأة سواء أكانت عجوزا أو شابة، في الغالب تكون من المعجبين بالرجل المتأنق الذي يرتدي بذلة غامقة ورابطة عنق رفيعة الذوق، فارتداء زي مثل جاكت جلد قذر وكأنه شجاعة، ستكون النهاية هي المضايقات. ورغم ذلك فلو فعل ذلك شاب في سن التاسعة عشرة أو العشرين من عمره، فلربما تشعر بظرفه، ولكن أن يفعل ذلك الأمر رجل شيخ قد بلغ من العمر مقدارا معتبرا، فإن من يراه يشعر بضيق التنفس.
بل ولأن هذا الذوق في الواقع أتي له كنوع من أنواع ذوق النبلاء متقمصا شخصية الروائي الياباني «كافو ناغاي»،
3
فهو ما يدل أكثر وأكثر على تكلفه الزائد. إذا جعلناه هو يتكلم فسيقول: إذا كان فعلا «نبيل الروح» (تلك الكلمة التي كان الأديب الذي يكرهها كاتبنا بشدة، أوسامو دازاي
4
يحب استخدامها كثيرا)، فيجب أن يكون البنطلون الجينز «لائقا» عليه تماما. فإن من يحاول أن يظهر نفسه حسن الذوق، بارتداء البذلات الغامقة، فمعنى هذا أنه في الواقع سيبدو مبتذلا. وإذا كان ارتداء بنطلون من الجينز مع جاكت من الجلد تفوح منه رائحة نبل، فسيكون ذلك نبلا حقيقيا. وليس ذلك فقط بل من أجل أن يكون نبلا جسديا وليس نبلا روحيا فقط، فلا بد من ممارسة رياضة كمال الأجسام. تلك هي نظريته. فهو يرى دائما أن الرجولة المثالية كما يقول: «هي امتلاك وجه شاعر وجسد مصارع ثيران». ولكن انطباعي عنه من خلال رؤية صوره، أنه على الأكثر يمتلك «وجه كاتب في محكمة، وجسد عامل باليومية». وهو ما يجعله يبتعد كثيرا جدا عن الرجولة المثالية.
فأولا، من الصعب علينا أن نفهم بالتحديد، من هو الذي يريد ميشيما إقناعه بأن ما يفعله أناقة؟ فقطعا من المستحيل أن تفهم النساء تلك الأناقة الصعبة. إذن لا يوجد في نهاية الأمر إلا الاعتقاد أنه يفعل ذلك من أجل إرضاء غروره الذاتي فقط. ولكنني سمعت أنه يرد على المعترضين عليه بذلك القول، مستشهدا بعبارة بودلير التالية: «جاذبية الذوق الرديء التي يصعب نسيانها، هي في تذوق متعة النبلاء من خلال امتعاض الآخرين منك.»
إذا كان الأمر كذلك؛ فيجب علينا أن نقول إنه حقق نجاحا بالفعل في هذه النقطة إلى حد ما.
إذن هو في الحقيقة رجل من طراز قديم، لدرجة الاقتباس من بودلير شاعر القرن التاسع عشر. فلا يزال اتجاهه قديما جدا، بخلاف الشباب من الكتاب الذين يهيمون حبا في هنري ميلر ونورمان مايلر. ورغم ذلك فهو يحب كل جديد أضعاف حب البشر العاديين للجديد، فعندما نظمت اليابان دورة الألعاب الأوليمبية، تجده قد أهمل أعمالا في غاية الأهمية، وأخذ يدور من ملعب إلى ملعب كل يوم ممسكا بمنظار مكبر في يده لمشاهدة المباريات. وعندما يسمع أن هناك فندقا جديدا سيفتتح، تراه قد لحقه سريعا ليبيت فيه أول لياليه. وإذا سمع أن إحدى الطرق السريعة الجديدة سوف يبدأ المرور بها من الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل، تجده ينتظر داخل سيارته أمام مدخل الطريق في هانيدا قبل خمس دقائق من الموعد. وهكذا تراه يعيش أيامه مشتت الذهن، منهك الأنفاس. ولكن أحد البراهين على أنه إنسان عتيق الطراز، هو كرهه للطائرات النفاثة كراهيته للموت، وإذا اضطر مرغما أن يستقلها، تجده وقت إقلاع الطائرة وقد امتلأ كفا يديه بالعرق، وهو يرتجف ويرتعش من الخوف.
إنه يشتهر بضحكاته العالية، فاتحا فمه بدرجة كبيرة مثل البلهاء، والتي بسببها انهارت كل لحظات الرومانسية الرقيقة التي حدثت له في حياته.
وهو كذلك يزين منزله بروبابيكا من التحف الغربية القديمة التي جمعها من خلال الشراء بمبالغ ضئيلة، مما يجعل المنزل ضيقا بها، ويأتي ذلك فوق أرضية من بلاط أرضي من طراز رقعة الشطرنج باللونين الأخضر والأبيض، على نحو ما يظهر في مجلة «سانبون» للتصاميم المعمارية، وهو ما يجعلك تعتقد أن صالونا للحلاقة تحول كما هو فجأة إلى محل لبيع الخردوات القديمة.
في الواقع كلما بحثت في تفاصيل المعلومات التي جمعتها لي إدارة التحرير، كان من الصعب علي معرفة هل هو يحمل إحساسا مرهفا بالجمال؟ أم هو إنسان خام غليظ الحس تماما تجاه ما يسمى بالتوافق؟ هذه النقطة غير معروفة إطلاقا. إذا كان يحب التوافق، فهو يحب أيضا التباين القوي، ورغم أنه من الأفضل الانحياز إلى أحدهما، فإنه وبسبب طمعه، يحاول الجمع بين حب الأمرين معا. ألا يدل هذا على أنه هو نفسه أصبح لا يعلم من أمر نفسه شيئا؟!
ويبدو أن كرهه للبشر قد ازداد سوءا تدريجيا مع مرور السنين، وفي نفس الوقت قويت مشاعر الوحدة عنده، وسمعته مؤخرا أنه أصبح في الواقع إنسانا يصعب التعامل معه. يا للمسكين! هذا الروائي الذي تربى تربية أرستقراطية مدللة، بدأت عينه تتفتح تدريجيا على قاع هذا العالم البائس، وبعد أن تفتحت عيناه، أصبح له ميل لنبذ كل شيء، يرفض هذا ولا يرضى بذاك. ولذا فشخص بهذه المواصفات لا ضرورة إطلاقا لسماع فلسفته التشاؤمية بشكل جدي، يكفي فقط أن تستمع له وأنت تقول له موافقا: أجل ... أجل.
الشخص الذي يريد أن يرى وجهه سعيدا سعادة حقيقية (طبعا هذا الحديث بافتراض وجود شخص رديء الذوق لهذه الدرجة)، فليذهب ليشاهده بعد أن ينتهي من ممارسة تمارين كمال الأجسام أو رياضة الكندو، وقد أخذ دشا ، ثم بدأ يستمتع بشرب الكوب الأول من البيرة. في حالته النفسية تلك ، لو أتيت أنت لتتطفل عليه وتحاول أن توجه له حديثا في الأدب مثلا، فلا أدري كيف سيقوم بتعنيفك، بأسلوب في غاية التعجرف والبرود.
أما من يقول: «إذا كان يحب الرياضة لهذه الدرجة ويكره الأدب، فلماذا لا يهجر الأدب سريعا ويتحول إلى لاعب رياضي؟» فهو شخص معدوم الإحساس. فأولا إنه لا يمتلك تلك الموهبة التي تجعله قادرا على أن يصبح لاعبا رياضيا، وفي الأصل الوقت متأخر جدا لفعل ذلك؛ ولهذا فهو كل ليلة يلوك الأدب الذي يفترض أنه يكرهه، ويقضي الليالي ساهرا حتى الصباح مستمرا في كتابة الروايات على مدى ما يقرب من عشرين عاما. ومهما لاقى في ذلك من محن ومتاعب لمرات عديدة؛ فهو مستمر في كتابة الروايات دون أن يتعظ. وكلما استمر في الكتابة أصبحت رواياته أكثر صعوبة، مما يجعله يستشيط غضبا، ثم يفرغ غضبه في تناول البوفتيك.
عند التمعن في صفات هذا الرجل، ومن خلال كتاباتي عن شخصيات الرجال التي داومت عليها حتى الآن، ربما يبدو لي أنه إنسان عبثي من الدرجة الأولى، ولكنه كذلك رجل من الرجال. وربما في المستقبل القريب يستطيع القيام بعمل هائل للغاية. فلنراقبه مع القراء بصبر وأناة.
يوكيو ميشيما وأزهار الكرز
بقلم المترجم: ميسرة عفيفي
زهرة الكرز (الساكورا باللغة اليابانية) هي الزهرة المفضلة لدى اليابانيين؛ ولذا يعتبرها الكثيرون معلما من معالم اليابان، رغم أن وجودها لا يقتصر على اليابان فقط.
وتعتبر أشجار الكرز التي تتميز بزهرتها تلك نوعا عجيبا من الأشجار، فهي من الأشجار المعمرة التي تعيش لعدد كبير من السنين، ولكن العجيب فيها هو أن زهورها تظهر قبل أوراقها. ففي بداية الربيع تكون الزهرة هي أول ما ينبت فوق الأغصان الجافة التي قضت شتاء طويلا عارية من الأوراق. ولكن لا تلبث تلك الزهور أن تتساقط سريعا بعد أن تصل إلى أوج تفتحها وجمالها وقبل أن تظهر أوراق الشجرة. ولا تتعدى الفترة من ظهور زهرة الكرز إلى سقوطها مدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع هي ذروة فصل الربيع في اليابان. وبعد سقوط الأزهار أو تقريبا في ذات الوقت تنبت الأوراق، ثم في الصيف تبدأ الثمار (في النوع المثمر منها؛ إذ أن أشجار الكرز يزيد عدد أنواعها على الأربعمائة نوع، وأغلبها غير مثمر فهو للزينة فقط)، وهي فاكهة الكريز في النضوج، حتى يأتي الخريف فتسقط الأوراق لتصبح أجمل الأشجار عجفاء يابسة، لا تحتوي إلا على أغصان جافة طوال فصل الشتاء، ومع بداية الربيع تعيد الحياة دورتها مع أشجار الساكورا.
جمال زهرة الساكورا وتفردها ليس هو فقط ما يعشقه اليابانيون فيها، بل أحد الأشياء التي تسحر ألبابهم هو عمرها القصير، ففي خلال عدد بسيط من الأيام يصل إلى عشرة أيام، تنبت زهرة الساكورا وتصل لقمة جمالها، فتسعد البشر وتعطيهم أقصى ما يمكن من متعة ثم في غمضة عين تختفي.
وهذا أيضا ما يميز شيئا آخر يعشقه اليابانيون أكثر من أي شعب من شعوب العالم، ألا وهي الألعاب النارية (هانابي باللغة اليابانية). ففي دول العالم المختلفة تطلق الألعاب النارية احتفالا بشيء ما. أما في اليابان وخاصة في فصل الصيف؛ فتقام مهرجانات الألعاب النارية في طول البلاد وعرضها من أجل الألعاب النارية فقط ولمجرد التمتع برؤيتها. تلك القذيفة التي تنطلق إلي عنان السماء مستغرقة الكثير من الوقت والجهد والمال، لتنيرها لمدة ثوان بأشكال وألوان رائعة الجمال، ثم فجأة تختفي في لمح البصر بعد أن تحدث أثرها في قلوب عشاقها اليابانيين، الذين يجتمعون من كل صوب وحدب في أزياء تقليدية وزينة تراثية جميلة ليتمتعوا بهذه اللحظة الشديدة الجمال، الكثيفة المعنى، السريعة الزوال.
هناك شيء آخر يتشابه مع الساكورا والهانابي، وإن لم يكن مثلهما في الجمال، وربما كذلك لا يحوز على حب اليابانيين وسحرهم به، ألا وهو حشرات الزيز (سيمي باللغة اليابانية) التي تظهر في فصل الصيف في جميع أنحاء اليابان، معلنة عن انتهاء موسم الأمطار وبداية صيف حار رطب كريه عند اليابانيين. حشرات الزيز كذلك تمتاز بقصر حياتها لدرجة مذهلة. فرغم أن دورة حياتها الكاملة من بيضة لدودة أو يرقة ثم شرنقة أو عذراء حتى تصل إلى حشرة كاملة ، طويلة للغاية يقال إنها تتراوح بين ثلاثة أعوام إلى عشرة أعوام. وقد تصل أحيانا إلى عشرين عاما في بعض الحالات النادرة؛ إلا أن حياتها بعد أن تصبح حشرة كاملة قصيرة للغاية تتراوح بين الثلاثة أيام والأسبوع، تقضيها كلها في الصراخ والزعيق بصوتها الحاد المزعج الذي يكرهه أغلب اليابانيين. فتلك الحشرة في النهاية تريد أن تعلن عن وجودها للعالم، وتود أن تخبره بما عانته من فترة مخاض طويلة للغاية حتى تظهر فوق ظهر البسيطة، ولكن للأسف لا تستمر على قيد الحياة إلا أياما معدودة؛ ولذا فهي تصرخ قائلة: انتبه لي أيها العالم وانظر لي أيها الإنسان.
يعتبر يوكيو ميشيما (1925-1970م) أكثر كاتب ياباني نال شهرة عالمية رغم عدم حصوله على جائزة نوبل للآداب التي تعتبر بوابة الانتشار العالمي، خاصة لأدباء اللغات التي لا تتمتع بانتشار عالمي؛ فاللغة اليابانية لا تتحدث بها إلا دولة واحدة فقط. ورغم ذلك، يقال إن كتب ميشيما قد بيع منها أكثر من خمسة وعشرين مليون نسخة في دول العالم المختلفة وبمختلف اللغات الحية، وكذلك يعتبر يوكيو ميشيما أكثر كاتب ياباني ترجمت أعماله إلى اللغة العربية.
في حديث مرئي لإحدى القنوات التلفزيونية يتكلم ميشيما عن تسونتومو ياماموتو (1659-1719م) أحد أبطاله العظام، وهو محارب أو ساموراي من عصر ايدو (1603-1878م) مؤلف كتاب «هاغاكوريه» الذي يشرح فيه أخلاق الساموراي، والذي تم إعادة استنساخه مرات عديدة أشهرها كتاب طريق المحارب «بوشيدو». ويبدي ذلك الساموراي استياءه من العصر الذي ولد فيه، وهو نفس ما يعنيه ميشيما؛ فالساموراي وكما هو معروف يتم تدريبه وتربيته تربية صارمة على قواعد القتال والنزال، ولكن بشرف وفروسية وأخلاق يتميز بها عن غيره من عامة الشعب. وإذا وضع في موقف صعب وكان عليه الاختيار بين الموت والحياة فإنه يختار الموت على الفور دون تردد أو رهبة. ولكن ياماموتو ولد في عصر قد استقر فيه الوضع السياسي لأسرة توكوغاوا الحاكمة، وانتهت معارك الحرب الأهلية بل وقد أعلنت حكومة توكوغاوا سياسة الانغلاق التام عن العالم، مما قضى على أي احتمال لخوض اليابان حروبا مع الدول الأخرى سواء دفاعية أو هجومية، لتعيش اليابان في فترة سلام تام واسترخاء عسكري لفترة تقترب من ثلاثة قرون. يحكي ياماموتو في مؤلفاته معاناته تلك في عدم وجود الهدف الذي يعتبر نفسه خلق له وهو القتال والنزال مع العدو بكل شرف وفروسية وأخلاق عالية؛ ليكون قذيفة نور تضيء ظلام السماء. ثم يختفي في التو والحال تاركا المجال لمن يأتي بعده من أبطال عظام. هكذا كان يتمنى أن يعيش وهكذا تمت تنشئته. لكنه يفاجأ بعد بلوغه مرتبة الساموراي، أن عمله هو عمل إداري كموظف حكومي يسير شئون الدولة من خلال الأعمال الروتينية اليومية. فيقرر في النهاية ترك مهنة الساموراي، ويعتزل العالم ويتحول إلى راهب بوذي زاهد يعيش في الجبال.
ولد ميشيما في أسرة شبه أرستقراطية، وتربى على يد جدته لوالده «ناتسو ناجاي» التي تعود أصولها إلى عائلة محاربين ساموراي تنتمي مباشرة إلى سلالة إيياسو توكوغاوا الحاكم العسكري القوي الذي وحد اليابان بعد حروب أهلية طويلة ومريرة، وحكمها هو وعائلته من بعده لمدة تزيد على القرنين ونصف القرن. حيث عاشت اليابان تلك الفترة في حالة سلام داخلي (في فترة الحكم العسكري كان الإمبراطور موجودا في كيوتو والحاكم العسكري يخضع له روحيا، ويتولى سلطاته بمباركة الإمبراطور وموافقته بشكل ظاهري فقط).
قامت «ناتسو» جدة ميشيما بتربيته وتنشئته على أخلاق المحاربين الساموراي، ولكنه يفاجأ مثل ياماموتو باختلاف الواقع المعاش عن المتخيل المأمول، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان واحتلالها من قبل قوات الحلفاء ممثلة بجيش الولايات المتحدة التي أنشأت مقرا لها في مواجهة قصر الإمبراطور، أطلقت عليه مركز القيادة العامة، حكمت من خلاله اليابان بشكل مباشر لمدة سبع سنوات كاملة من عام 1945 إلى عام 1952م. وحتى بعد انتهاء مهمة مركز القيادة العامة وتقلص الجيش الأمريكي في قواعد عسكرية في أوكيناوا وغيرها من المدن البعيدة عن أعين غالبية اليابانيين، إلا أن ميشيما كان يعتقد أن وضع الاحتلال والتبعية لم يتغير، وأنه يجب على اليابانيين استلهام روح الساموراي بداخلهم، والقيام بما ينبغي عليهم فعله من هبة قتال وفناء كقذيفة الهانابي؛ لتنير سماء اليابان ولو لثوان ليأتي من بعدهم من يواصل المسيرة. ولكن لا يجد ميشيما من يستمع له أو يحقق مراده.
في قصته القصيرة «فتى يكتب الشعر» التي كتبها ميشيما في عام 1954م، وهو على مشارف الثلاثين من عمره، يحكى فيها تجربته مع الشعر عندما كان في عمر الخمسة عشر ربيعا. وتعتبر تلك القصة قصة محورية في أدب ميشيما توضح بعضا من أفكاره وجزءا من سيرته الذاتية، وسبب تحوله من شاعر إلى روائي وقاص، يتحدث ميشيما عن أبطاله العظام من الشعراء. أبطال ميشيما هم بالضرورة الشعراء الذين ماتوا في ريعان الشباب. يقول ميشيما في تلك القصة: «كان الفتى يهتم كثيرا بحياة الشعراء القصيرة. يجب على الشاعر الحق أن يموت مبكرا. ولكن حتى لو قلنا الموت مبكرا، فبالنسبة للفتى ذي الخمسة عشر ربيعا، كان الأمر لا يزال بعيدا جدا. وبسبب ذلك الأمان الرقمي، ظل الفتى يفكر في الموت المبكر بمشاعر سعيدة ... لقد كان الفتى يؤمن بالتوافق القدري؛ التوافق القدري لسير حياة الشعراء. إيمانه بذلك وإيمانه بعبقريته كانا شيئا واحدا بالنسبة للفتى.
وكان ممتعا له أن يفكر في محتوى نعي طويل يكتبه لنفسه، أو يفكر في مجده بعد الموت، ولكن عندما يفكر في جثته، تكون نهاية الأفكار سيئة نوعا ما. كان يحدث نفسه بقوة وحماس قائلا لها: «يجب علي أن أحيا كالألعاب النارية. أبذل كل جهدي في تلوين سماء الليل في لحظة، ثم اختفى في الحال.»
كان يفكر في أشياء متعددة، ولكنه لم يستطع تخيل طريقة للحياة غير ذلك. ولكنه كان يكره الانتحار؛ لذا فالتوافق القدري سيسدي له معروفا، ويقتله في الوقت المناسب بالشكل المرغوب.» (انتهى الاقتباس من قصة «فتى يكتب الشعر»).
هذه هي أفكار ميشيما في فترة المراهقة عن البطولة، حتى في مجال الشعر. وظلت تلك الفكرة مسيطرة على ميشيما طوال حياته (45 عاما) التي تعتبر قصيرة نوعا ما، مقارنة باليابانيين الذين يشتهرون بطول العمر، خاصة وأنه قد أنهاها بنفسه على طريقة الهاراكيري أو السيبوكو متمثلا فيها روح الساموراي العظماء الذي يطبقون المثل العربي الأصيل في الفروسية «بيدي لا بيد عمرو».
في حديث مع الأديب الياباني الصديق كيئتشيرو، هيرانو وهو من أبرز الأدباء المعاصرين الذين تأثروا بشدة بأدب ميشيما، ويعتبر أحد أهم أدباء اليابان حاليا، قال لي: «إن حصول الأديب ياسوناري كاواباتا على جائزة نوبل للآداب في عام 1968م كان أحد الأسباب التي عجلت بإقدام ميشيما على الانتحار.»
فميشيما ظل مرشحا لنيل الجائزة لعدة أعوام، وكل عام كان ينتظر بفارغ الصبر إعلان الفائز بالجائزة، ويعد نفسه لعقد مؤتمر صحافي يتحدث فيه عن مشاعره بعد فوزه بتلك الجائزة العظيمة، ولكن بعد فوز كاواباتا بها، يئس ميشيما من الحصول على تلك الجائزة التي تعتبر قمة المجد في الأدب العالمي، لمعرفته باستحالة حصول أديب ياباني آخر على ذات الجائزة إلا بعد مرور سنوات وربما عقود طويلة. وهو ما حدث بالفعل، فلم يحصل أديب ياباني على جائزة نوبل إلا بعد مرور حوالي ثلاثة عقود، وهو كينزابورو أويه في عام 1994م. ربما يظن البعض أن ربط انتحار ميشيما بعدم حصوله على جائزة نوبل يعني أن الانتحار كان بسبب الإحباط أو اليأس من التحول إلى أديب عالمي شهير. ولكن الأمر في رأيي على العكس، فكما ذكرت قول هيرانو منذ قليل. إن حصول كاواباتا بجائزة نوبل «عجل» فقط بانتحار ميشيما، ولم يكن سببا من أسباب الانتحار نفسه، ففكرة الانتحار كانت هي الفكرة الأساسية والمحورية التي دار في فلكها ميشيما طوال حياته كلها، وفي حديث ميشيما المتلفز الذي سبقت الإشارة له، يتحدث ميشيما عن عدم تخيل حياته، وقد بلغ من الكبر عتيا، وقد أصبح عبئا على نفسه وعلى الآخرين. ربما كان ميشيما يرسم سيناريو مخالفا لنهايته يتمثل في الحصول على جائزة نوبل للآداب والتألق في سماء الأدب العالمي؛ ليصبح اسمه على كل لسان في العالم أجمع، كقيمة فكرية وأدبية عظيمة ملأت الآفاق متعة. ثم في ذات لحظة التألق وفي ذروة الشهرة ولفت الأنظار يقوم بإنهاء حياته بنفسه، كزهرة ساكورا أنهت مهمتها في إمتاع الأبصار، وكقذيفة هانابي أضاءت سماء الكون لثوان لتنطفئ بعدها على الفور.
حادث انتحار ميشيما
في 25 نوفمبر من عام 1970م توجه ميشيما مع أربعة من أعضاء جماعته «جماعة الدرع» بزيهم العسكري إلى مقر قوات الدفاع الذاتي اليابانية في إيتشيغايا بوسط طوكيو بعد أن أخذوا موعدا مع القائد العام للقوات. وأثناء لقائهم مع القائد العام قام ميشيما ورفاقه بأخذه كرهينة، وطالبوا بجمع كل أفراد قوات الدفاع الذاتي الموجودين في المقر؛ ليلقي عليهم ميشيما خطابه الذي أعده لهم؛ لكي يحثهم على الثورة والانقلاب ضد الوضع السائد وتغيير الدستور؛ لكي يتم إعادة كل السلطات للإمبراطور؛ ولكي تعود قوات الدفاع إلى ما كانت عليه من جيش قوي يحمي البلاد. ولكن لم يستطع ميشيما خلال عشرين دقيقة تقريبا من حديثه لهم من فوق شرفة غرفة القائد العام إقناع الجنود بأي شيء وسط تذمرهم وشوشرتهم على حديثه وعدم سماعهم لما يقوله؛ بسبب عدم استخدامه مكبرا للصوت، ووجود طائرات هيلوكوبتر تابعة لوسائل الإعلام تحوم فوق المكان. يئس ميشيما من الجنود فعاد إلى غرفة القائد العام، لينهي حياته بنفسه بطريقة الهاراكيري المقدسة ببقر بطنه بخنجر صغير، ثم أطاح مساعده المخلص رأس ميشيما من على جسده في ذات اللحظة.
نامعلوم صفحہ