مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
اصناف
وأنا لا جبان، ولا ضعيف القلب. وقد تعرضت للمخاطر والمهالك أكثر من مرة في حياتي، ولم أفقد عقلي لحظة واحدة، ولكني لما أيقنت أن سقف السرير يتحرك وأنه يهبط علي، نظرت إليه وأنا أرعد، وقد فاجأني الروع فلا حيلة لي تحت هذه الأداة القاتلة الشنيعة التي تقترب مني لتخنقني وأنا أرقد.
خذلني الرشد، وخانني اللسان، وتعلقت أنفاسي وأنا أنظر، وكانت الشمعة قد نفدت فانطفأت، ولكن القمر كان يضيء الغرفة. وكان السقف يهبط بلا توقف، ولا صوت، وأنا من الفزع كأنما شددت إلى المرتبة، وبلغ من دنو السقف مني أن شممت رائحة التراب الذي في السجف المحيط به.
وفي هذه اللحظة الأخيرة تنبهت غريزة المحافظة على الذات، وأنقذتني من الذهول الذي استولى علي فتحركت، ولما أكد، فما كان هناك من المسافة بين المرتبة والسقف أكثر مما يسمح بالانقلاب على جنبي والتدحرج عن السرير. وبينما كنت أهوي إلى الأرض بلا ضجة أو ضوضاء لمست بكتفي سجف هذا السقف القاتل.
ولم أنتظر حتى تنتظم أنفاسي، ويثوب إلي جسمي، ولم أعن بأن أمسح العرق البارد الذي تصبب من وجهي، بل أسرعت فنهضت على ركبتي لأرى سقف السرير من سطحه. وأعترف أني سحرت فسمرت في مكاني، فلو أني سمعت حينئذ وقع أقدام خلفي لما استطعت أن أدور أو أتلفت، ولو أن وسيلة للنجاة أتيحت لي بمعجزة لما وسعني أن أتحرك لأنتفع بها، فقد صار كل ما في من قوة وحياة مركزا في عيني.
ظل السقف كله يهبط، ومعه السجف الذي يدور به، حتى لم يبق بينه وبين المرتبة ما يكفي لدس إصبع، فمددت يدي وتحسست جوانب السقف، فإذا الذي كنت أحسبه، وأنا راقد، سقفا عاديا لسرير ذي قوائم أربعة، مرتبة سميكة عريضة يحجبها السجف ويسترها من تحتها الكلة، فصعدت طرفي فأبصرت القوائم الأربعة عارية. وفي وسط السقف الهابط بزال
9
عظيم خارج من سقف الغرفة، وهو ولا شك الذي نزل بالسرير، على نحو ما تفعل المكابس. وكانت هذه الأدوات الضاغطة الرهيبة تتحرك من غير أن تحدث أخفت صوت. فما سمعت شيئا وأنا راقد، ولا كان هناك أدنى جرس من الغرفة التي فوقي. وفي هذا السكوت المروع، وفي القرن التاسع عشر، وفي عاصمة فرنسا المتحضرة، رأيت أداة للقتل خنقا، مثلها لعله كان موجودا في أحلك أيام محكمة التفتيش، أو في الفنادق النائية المنقطعة في جبال الهارتز أو في محاكم وستفاليا السرية. وكنت، وأنا أتأملها، لا أزال عاجزا عن الحركة، ولا أكاد أستطيع أن أتنفس، ولكني استعدت قدرتي على التفكير فتجسدت لي المؤامرة التي دبرت لهلاكي في أفظع صورها.
لقد كانت القهوة التي قدمت لي، فيها مخدر ، ولكنه كان أقوى مما يجب فأنجاني من الموت اختناقا أني تناولت فوق الكفاية من المخدر، ولشد ما كنت أتبرم وأسخط على الأرق الذي أنقذني! ولشد ما وثقت بالوغدين اللذين قاداني إلى هذه الحجرة، وقد اعتزما أن يقضيا على حياتي ليظفرا بمكاسبي! وما أكثر الذين ربحوا مثلي، وناموا مطمئنين، كما كنت أحب أن أنام، على هذا السرير ثم لم يرهم، ولا سمع بهم أحد بعد ذلك! وسرت في بدني الرعدة وأنا أتصور هذا المصير الذي كنت صائرا إليه.
وتعطل كل تفكير، مرة أخرى، حينما رأيت أداة الهلاك تتحرك مرة أخرى فبعد أن لبثت جاثمة على المرتبة حوالي عشر دقائق - على قدر ما استطعت التخمين - بدأت ترتفع، ولا شك أن الأوغاد الذين كانوا يحركونها من فوق اعتقدوا أنهم بلغوا غايتهم وحققوا مأربهم. وكما كانت تهبط في بطء وسكون كذلك أخذت تصعد إلى مكانها الأول، فلما بلغت أطراف القوائم الأربع للسرير كانت قد بلغت السقف أيضا، واختفى الثقب والبزال جميعا، وعاد السرير - كما كان يبدو للعين - سريرا عاديا، وسقفه السقف المألوف الذي لا يبعث على أي استرابة.
ووسعني الآن - لأول مرة - أن أتحرك، وأن أنهض عن ركبتي وأرتدي ثيابي وأفكر في النجاة والتماس الطريق إليها. وكنت أدرك أن علي أن أتقي أن أحدث صوتا يدل على أن الذين حاولوا خنقي أخفقوا، وإلا قتلوني على التحقيق. فهل تراني أحدثت صوتا؟ أرهفت أذني، وجعلت عيني على الباب لأتبين ... كلا. لم أسمع وقع قدم في الدهليز، ولا صوتا، لا خفيضا ولا عاليا من الغرفة التي فوقي. وكان السكون تاما في كل مكان، وكنت قد حرصت قبل الرقاد على السرير، على إيصاد الباب وتضبيبه، ولم يكفني ذلك فوضعت خلفه صندوقا قديما من الخشب وجدته تحت السرير، فاتخذت منه مترسا. وكان من المستحيل نقل هذا الصندوق الآن من موضعه وراء الباب بلا ضجة (وقد اقشعر بدني وأنا أفكر فيما عسى أن يكون مخبأ فيه!) كذلك كان من الجنون أن أفكر في الخروج من البيت من بابه الموصد. فلم يبق لي إلا النافذة، فمشيت إليها على أطراف أصابعي.
نامعلوم صفحہ