مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
اصناف
1
وصعدنا بعد أن تركنا القبعتين والعصوين مع البواب، فمضوا بنا إلى قاعة القمار الكبرى، فلم نجد فيها كثيرين ، ولكن القليلين الذين كانوا فيها والذين رفعوا رءوسهم لينظروا إلينا ونحن ندخل، كانوا جميعا نماذج - صادقة دقيقة لسوء الحظ - من طبقاتهم.
لقد جئنا وفي مرجونا أن نرى جماعة من الطغام والهمج، فوقعنا على شر من ذلك، وإن لكل ضرب من الضعة لجانبها الفكاهي المضحك، أما هنا فما تحس النفس سوى المأساة ... مأساة خرساء لا فكاك منها ولاحيلة فيها، وكان السكون في الغرفة فظيعا؛ هنا فتى نحيل متهضم الوجه، طويل الشعر، يرشق بعينيه الغائرتين أوراق اللعب، ولا ينطق بحرف. وهنا آخر مترهل خرج البثر بوجهه الغليظ، وهو يخرق ورقة أمامه ليحصي كم مرة كسب الأسود، وكم مرة كسب الأحمر، ولا ينطق بحرف. وها هنا شيخ قذر مغضن الوجه، له عين الصقر، وعليه ثوب طال ترداده إلى الرفو، وقد خسر آخر فلس، ومع ذلك يأبى إلا أن يراقب اللعب الذي لا يستطيع أن يشترك فيه، ولكنه لا ينطق بحرف! حتى صوت الضريب
2
كان مكتوما مخنوقا وغليظ الجرس في جو هذه الغرفة. وقد كان رجائي وأنا أدخل هذا البيت أن أجد فيه ما يضحك، فإذا أمامي منظر يبعث الأسى ويغري بالبكاء. فلم يسعني إلا أن ألتمس معاذا من هذه الكآبة التي تستولي علي بسرعة، وشاء سوء الحظ أن أقبل على أول ما وجدت، فذهبت إلى المائدة وشرعت ألعب. وأبى لي الحظ السيئ، كما سترى، إلا أن أربح ... أربح مقادير جسيمة ... مقادير يخطئها الحساب، ولا تدخل في عقل عاقل ... حتى أحاط بي اللاعبون، وراحوا يحدجون مكاسبي على المائدة بعيون ناطقة بالنهم والروعة، ويتهامسون فيما بينهم بأن الإنجليزي سيخرب «البنك.»
وكان القمار على «الأحمر والأسود» وقد جربت حظي في هذه اللعبة في كل مدينة بأوروبا، ولكن من غير أن أعنى «بنظرية الحظ» التي تعد «حجر الفلاسفة» عند المقامرين. وما كنت قط مقامرا بالمعنى الصحيح، فقد سلمت من هذه الشهوة الجائحة فلعبي للتسلية وتزجية الفراغ، وما أعرفني قامرت بدافع من الحاجة أو الضرورة، لأني لم أعان قلة المال أو النقص فيه. وكنت إذا قامرت لا أعكف حتى أمنى بخسارة لا قبل لي باحتمالها، أو أفوز بمكسب يدير رأسي ويخرج بي عن طوري من الاتزان. وأقول بإيجاز إني كنت أختلف إلى أندية القمار كما أختلف إلى المراقص والمسارح لأني أجد فيها تلهية، ولا أدري بأي شيء آخر أشغل نفسي وأزجي الفراغ.
ولكن الحال في هذه المرة كان مختلفا جدا، الآن - وللمرة الأولى في حياتي - جربت شهوة القمار الحقيقية وعرفت كيف يكون عصفها بالنفس، واستحواذها على اللب. وكانت مكاسبي قد أذهلتني في أول الأمر، ثم أسكرتني، بأدق المعاني الحرفية لهذا اللفظ. ومن الحقائق الغريبة التي يتعذر تصديقها أني كنت لا أخسر إلا حين أحاول أن أقدر فرص الربح والخسارة، وأقامر على مقتضى ما تبين لي من الحساب السابق. أما حين أدع الأمر كله للحظ، وألعب بلا حساب أو تدبر، فالربح لا شك فيه ولا مفر منه على الرغم من كل عامل من عوامل الترجيح لكفة «البنك.» وكان اللاعبون يخاطرون في أول الأمر بمالهم، وهم مطمئنون، على اللون الذي أختاره، ولكني زدت المبالغ التي أقامر بها إلى حد لا يستطيعون أن يجاروني فيه، فكفوا - واحدا بعد واحد - عن اللعب، واكتفوا بالمشاهدة وأنفاسهم معلقة.
وطفقت أزيد المبالغ التي أخاطر بها، وأكسب مع ذلك، فجاشت النفوس وسرت الحمى في الدماء. وصار السكون لا يقطعه إلا التمتمة كلما دفع الذهب على المائدة إلى ناحيتي. حتى الضريب الرزين رمى بمجرافه على الأرض وقد ثارت نفسه ثورة «فرنسية» من فرط دهشته لنجاحي. ولكن رجلا واحدا في الغرفة كان يضبط أعصابه ويحتفظ باتزانها. وأعني به صديقي. وقد جاء إلي، وهمس في أذني بالإنجليزية بالرجاء أن أرحل عن هذا المكان وأن أقنع بما ربحت. وأنصفه فأقول إنه أعاد تحذيره ورجاءه مرات عديدة، ولم يتركني ويخرج إلا بعد أن رفضت نصحه (وكانت سورة القمار قد اشتدت بي) بألفاظ جعلت من المستحيل عليه أن يخاطبني مرة أخرى في تلك الليلة.
وبعد أن خرج صديقي ببرهة، سمعت صوتا أجش يقول من ورائي: «اسمح لي يا سيدي العزيز، اسمح لي أن أعيد إليك جنيهين سقطا. يا له من حظ يا سيدي! إني أقسم بشرفي، أنا الجندي القديم، أني في تجربتي الطويلة للعب لم أر قط مثل حظك أبدا. استمر يا سيدي، استمر بجرأة واخرب البنك.»
فأدرت وجهي فرأيت رجلا مديد القامة في معطف خفيف عليه شارات عسكرية، يهز لي رأسه ويبتسم في أدب جم، ولو أن عقلي لم يعزب، لكان الأرجح أن أشتبه فيه وأستريب به، فقد كانت عيناه جاحظتين وحمراوين كالدم وكان شارباه منفوشين متهدلين وبأنفه أثر من كسر، وكان لصوته نبرات عسكرية، ولكن من أحط طبقة. أما كفاه فأقذر ما رأيت في حياتي، حتى في فرنسا. ولكن هذه المميزات الشخصية لم يكن لها عندي أي تأثير منفر فقد تركني الجنون الذي أورثتنيه مكاسبي الهائلة مستعدا أن أؤاخي كل من يشجعني على اللعب. فتقبلت من هذا الجندي القديم مقدار شمة من السعوط، وربت له على كتفه وحلفت أنه خير من دب على الأرض، وأنه أمجد أثر تخلف من «الجيش الكبير»
نامعلوم صفحہ